كيف يستفيد طالب العلم من كتب السنة؟ (1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فما أدري ما أقول في هذه الساعة لبيان فهم كتب السنة، وكل كتاب يحتاج إلى ساعات، لكن لا بد من الكلام في ضوء ما حدد من موضوع، وما أتيح من فرصة ووقت.
السنة النبوية: وهي ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من قول أو فعل أو تقرير، حجة ملزمة بإجماع من يعتد بقوله من المسلمين.
وهي ثاني مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، وهي المبينة للقرآن، والموضحة له، وحفظ السنة من حفظ القرآن؛ لأنها بيانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر].
فالسنة محفوظة بحفظ القرآن؛ لأنه لا يتم فهم القرآن إلا ببيان النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله أو فعله أو تقريره، فحفظ السنة من حفظ القرآن.
وللاهتمام -اهتمام النبي -عليه الصلاة والسلام- بشأن القرآن، والخوف من اختلاطه بغيره، حتى يتم حفظه الموعود به، نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن كتابة الحديث في أول الأمر.
جاء في الصحيح في حديث أبي سعيد: ((لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب شيئاً غير القرآن فليمحه)) [مخرج في الصحيح، في صحيح مسلم].
وأهل العلم حملوا ذلك على وجوه، مدارها على خشية اختلاط القرآن بغيره، فالنهي عن كتابة السنة مع القرآن، في صفحة واحدة، وحينئذٍ يلتبس الأمر، فيختلط القرآن بغيره، ولا مانع على هذا القول من كتابة السنة مستقلة عن القرآن.
ومنهم من يقول: في أول الأمر، والحافظة -ملكة الحفظ- عند الجيل الأوَّل تسعف على حفظ جميع السنة، ثم بعد ذلكم لما خشي من ضياع السنة أذن بالكتابة، فالشخص الذي لا يحفظ يكتب، وإذا تصورنا الآثار المترتبة على الكتابة -وكل إنسان يدرك ذلك- عرفنا أن النهي عن الكتابة في أول الأمر له مقصد ومغزىً عظيم.
فلا شك أن الكتابة على حساب الحفظ، وكل واحد منا يدرك ذلك في أموره العادية، الذي يكتبه لا يعتني به، ولا يودعه سويداء قلبه ليحفظه، ولذا تجد الإنسان إذا لم يكن معه قلم أو ورقة يكتب بها، واحتاج إلى أمر من الأمور، وأظهر ما يوجد الآن الأرقام -أرقام الهواتف- التي صارت هي شغل الناس الشاغل، إذا لم يكن معه قلم حفظه، هذا شيء مجرب، إذا سجله وكتبه هذا آخر عهده به، فجاء النهي عن الكتابة؛ خشية أن يعتمد الناس على الكتابة ويهملوا الحفظ، لكن لا مفر ولا مناص ولا محيص عن الكتابة ولا محيد، لماذا؟
لأن الناس لمّا دخلوا في دين الله، وتعلموا ما تعلموا من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وكثرت أعدادهم، واختلطوا بغيرهم احتيج إلى التدوين، لما كثر الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً احتيج إلى التدوين، فجاء الأمر بالكتابة لبعض الناس: ((اكتبوا لأبي شاه)) وقال أبو هريرة:"ما كان أحد أكثر مني حديثاً غير عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب".
فتتابع الناس على الكتابة، وأجمع أهل العلم على جوازها، وارتفع الخلاف السابق، بل وجد من يمنع الكتابة استدلالاً بحديث أبي سعيد من المتقدمين، تتابع الناس على الكتابة، ودونت الأحاديث في الصحف والكتب، وحصل بذلك خير عظيم، ولذا أو تبعاً لذلك تنوع الحفظ عند أهل العلم، فمنه ما هو حفظ صدر، ومنه ما هو حفظ كتاب، وإن نازع بعض أهل العلم في الاعتماد على حفظ الكتاب وجعلوا الأصل حفظ الصدر، لكن حصل الاتفاق على أن حفظ الكتاب لا يقل أهمية عن حفظ الصدر إن لم يكن أقوى منه وأثبت؛ لأن الحفظ خوَّان.
استمر الأمر على ذلك في القرن الأول والثاني والثالث والرابع، وجمعت السنة، ولم يفت الأمة منها شيء؛ لأن الأمة معصومة من أن تفرط في شيء من دينها، لكن قد يقول قائل: ماذا عما يحفظه الأئمة من مئات الألوف من الأحاديث، الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث، الإمام أبو داود يحفظ ستمائة ألف حديث وهكذا، أين ذهبت هذه الأحاديث؟ البخاري بالمكرر لا يزيد على سبعة آلاف ومائتين وخمسين حديث، بالمكررات، مسلم قريب منه، أو يزيد عليه قليلاً، أوصله بعضهم إلى الثمانية، أعظم دواوين الإسلام المسند، أوصلوه إلى أربعين ألف حديث وبالعدد الدقيق والتحري يبلغ الثلاثين، أين ذهبت مئات الألوف من الأحاديث؟
ما ذهب منها شيء مما يحتاج إليه، لم يذهب من هذه الأحاديث شيء مما يحتاج إليه، فالعدد في عرف السلف للطرق، رب حديث واحد يروى من مائة طريق فيعد مائة حديث.
وإذا تصورنا أن أبا إسماعيل الهروي يقول: إن حديث الأعمال بالنيات يروى عن يحيى بن سعيد الأنصاري من سبعمائة طريق، إذن هذه سبعمائة حديث في عرف المتقدمين، وإذا نظرنا إلى ما دون في كتب السنة وحفظ، ونظرنا إلى الطرق سواءً كان المدون منها أو ما لم يدون مما لم يحتج إليه؛ لأنه لا يدون إلا المحتاج إليه، فتبلغ هذه العدة بل تزيد، إضافة إلى أن الحديث في عرف المتقدمين يشمل الآثار، يشمل أقوال الصحابة وفتاويهم، فلم يضِع من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- شيء؛ لأن الدين محفوظ، والأمة معصومة من أن تفرط بشيء من دينها.
بعد الكتابة وضعف الحفظ ظهر ذلك جلياً حينما اعتمد الناس على الكتابة، وكل قرن يظهر فيه ضعف الحفظ أكثر؛ لاعتماد الناس على الكتابة إلى أن ظهرت الطباعة، ولا شك أن الطباعة يسرت وسهلت تحصيل العلم واقتناء الكتب، لكنها على حساب التحصيل، لماذا؟
لأن الشخص -مريد العلم- إذا احتاج إلى شيء من الكتب إما أن ينسخه بنفسه، أو يدفع أجرة لمن ينسخه له، وتكون أو يكون ورود الكتب إليه بالتدريج، وحينئذ يتسنى له قراءة هذا الكتاب ومراجعته، فإذا نسخ الكتاب بيده، نسخ الكتاب –بالتجربة- أفضل من قراءته عشر مرات، هذا بالتجربة، وكذا لو دفع أجرة لمن ينسخه له فإنه لم يفرط في هذا الكتاب الذي حرص عليه واستعاره ودفع أجرة لمن ينسخه، والنسخ كما تعلمون بالتدريج، ما هو مثل المطابع الآن، وجدت المطابع، والخلاف الحاصل في الكتابة في أول الأمر حصل في الطباعة في آخر الأمر، ووجد من أهل العلم من يمنع طباعة كتب العلم الشرعي في المطابع، لماذا؟ لأن الناس يعتمدون على هذه المطبوعات، ويقتنون الكتب المطولة بكميات، وبإمكان الشخص أن يقتني في يوم واحد عشرات بل مئات المجلدات، وما عليه إلا أن يرص هذه المجلدات في الدواليب، ثم لا يتسنى له مراجعة الجميع، فصارت الطباعة مع تيسيرها وتسهيلها صارت على حساب التحصيل، وهذا مشاهد، كان أهل العلم وطلاب العلم يعانون أشد المعاناة من نسخ الكتب، يسهرون الليالي المقمرة على الأنوار الخافتة ينسخون الكتب، وبهذا حصَّلوا، لكن الآن من اليسير جداً أن تخرج إلى المكتبات وتشتري جميع ما تريد في ساعة، لكن إذا رجعت ماذا تصنع؟ ترص هذه الكتب في الدواليب، ويبقى بقية يومك للاستجمام، الآن أنت ضمنت الكتب عندك، ولا عليها فوات، بدل اليوم غداً -وهذا شيء مجرب يا إخوان، ما هو من فراغ- ولذا منع بعض العلماء طباعة كتب العلم الشرعي.
قد يقول قائل: هذا من جهلهم، والناس أعداء لما يجهلون، وبعض الناس عنده ردة فعل من الأمور المحدثة، سواءً كانت تؤثر في أمور الدين أو لا تؤثر، نعم بعض الناس عنده وقفة لا يستعجل في الأمور، وهذه محمدة، مع أن أثر الطباعة لوحظ في تخلف العلم والتحصيل، وهذا شيء ظاهر، ولذا بعض شيوخ الأزهر قال: تمنع طباعة كتب العلم الشرعي، اطبعوا كتب الأدب والتاريخ وإن شئتم..، واللغة أيضاً، لكن كتب الحديث والتفسير والعقائد لا تطبعوها، من أجل إيش؟ من أجل أن يعتني الناس بالكتابة ويتداولون الكتب بحرص وعناية، وهذا أمر مشاهد، لما كانت الكتب قليلة والناس يحرصون على قراءتها واستعارتها ونسخها ويتداولونها، لكن لما كثرت،.........ثم بعد ذلكم استسلم أهل العلم للأمر الواقع، فأجمعوا على جواز طباعة الكتب، استمر الأمر على ذلك عقود -بل قرون- ثم جاءت هذه الحواسيب، وهذه الآلات التي تيسر لك ما تريد وأنت جالس، بضغطة زر تحصل على جميع ما تريد، تبحث عن حديث تضغط زراً ويظهر لك جميع طرق الحديث، مائة طريق، خمسين طريق، سبعين طريق إلى آخره، لكن النتيجة؟ النتيجة هل يحفظ العلم بهذه الطريقة؟
لا يتخرج طالب علم بهذه الطريقة أبداً، العلم لا بد له من معاناة، تضغط زراً يخرج لك رواة هذا الخبر بجميع ما قيل فيه من جرح وتعديل، ثم ماذا؟ خلاص، يطفأ الكهرب ثم بعد ذلك ترجع عامي لا تحسن شيئاً.
وعمد كثير من أهل العلم إلى تعسير العلم، سواءً كان في وسيلة الحصول إلى المعلومة، فغير الترتيب عن الترتيب المألوف، ابن حبان في الأنواع والتقاسيم في صحيحه رتبه على طريقة غريبة مبتكرة لم يصنعها غيره، خشية أن يأتي الطالب الذي يبحث عن الحديث فيجده بسهولة، الحديث في الطهارة في أول الكتاب، في الصلاة، افتح لك زيادة خمسين ستين صفحة وتجده، في الزكاة، وهكذا، وهذا مقصود، ومنهم من عمد إلى تعسير العلم بطريقة أخرى، وهي صعوبة الأسلوب، بعضهم يعقد الأسلوب من أجل أن يعاني الطالب فهم هذا الكتاب، فإذا فهمه بعد معاناة ثبت عنده ورسخ، وهذه طريقة مألوفة عند أهل العلم سواءً كانت في الفقه أوفي أصول الفقه أو في العربية أو في غيرها من العلوم، وجاء في عصرنا من ذلل العلم لطلابه وسهله ويسره بنية صالحة، وهو مأجور على ذلك، لكن من يستفيد من مثل هذه الكتب؟
المبتدئون من الطلبة، وغير المتخصصين في العلم الشرعي، أما من يريد أن يتخرج على طريقة أهل العلم وعلى جادتهم لا بد أن يسلك المسالك التي سلكوها.
متى نحتاج إلى مثل هذه الآلات؟ قد يقول قائل: جامع السنة، وفيه أكثر من نصف مليون حديث، تحصل على جميع ما تريد وأنت جالس، وأي شيء أيسر من هذا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- ما اختار..، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، لكن ما النتيجة؟
هل نقول لطالب العلم: وأنت في عصر الحواسيب انسخ الكتب؟ نقول: لا تنسخ الكتب، اقرأ الكتب، أقل الأحوال، كان المتقدمون لا يفهرسون الكتب، ولا يعنون بترقيمها وحسابها، همتهم أعلى من ذلك؛ لأن طالب العلم إذا أراد الفائدة، طالب العلم إذا أراد الفائدة وبحث عنها بنفسه من غير فهارس، فإنه وهو في طريقه لتحصيل هذه الفائدة يستفيد عشرات الفوائد، كثير منها أهم من هذه الفائدة التي يبحث عنها، الآن اضغط الحاسب للمسألة التي تريد، فتخرج لك نفس المسألة دون غيرها، نعم نستفيد من هذه الآلات، لكن لا نعتمد عليها، نستفيد منها إذا ضاق الوقت، خطيب جمعة، شخص عنده درس أو محاضرة، وعنده حديث يريد أن يتأكد منه، ولم يبق من الوقت ما يسعف، نقول: اضرب الحاسب الآن، اضرب على الكمبيوتر وشوف هل هو صحيح وإلا، الآن ما عندك وقت، أنت مضطر الآن، وآخر يريد أن يختبر عمله، فخرج الحديث حسب قدرته واستطاعته، وجمع ما استطاع بعد أن بذل وسعه واجتهد، جمع الطرق التي في وسعه وفي مقدوره، جمع عشرين طريقاً للحديث، وأراد أن يختبر عمله، هل هناك زيادة؟ لا مانع من أن يضرب الحاسب ويطلع على ما فيه من زيادات، وإذا وجد من الزيادات في هذا الحاسب زيادة على ما تعب عليه، لا شك أنه سوف يعتني بهذه الزيادة ويحفظها، بخلاف ما لو جاء ابتداءً إلى هذا الحاسب.
وأنا أضرب مثال لمن يستعمل هذه الآلات، ومن يعاني العلم من أبوابه: شخص مر بطريق -شارع تجاري- فيه تنبيهات ولوحات ومحلات، وأشياء مكتوبة كثيرة، كثيرة يعني ألوف مؤلفة، تصور لو مر هذا مع هذا الشارع على سيارة تمشي مائة كيلو في الساعة، ماذا سيحفظ من هذه اللوحات؟
هو مثال تقريبي، الظاهر ما يحفظ ولا واحد بالمائة، لكن لو كان يمشي على رجليه، ويتلفت ويناظر يحفظ الكثير، وهذا مثل من يقرأ ومثل من يطلع على هذه الآلات، هذا مثال محسوس، ولا أستبعد أن يقول قائل: الناس وصلوا وما وصلوا، وأنتم تقولون: انسخوا واقرؤوا، إلى متى؟
لكن ثقوا ثقة تامة أن العلم في الكتب، العلم متين ويحتاج إلى معاناة، ويحتاج أيضاً إلى تردد على الشيوخ، أهل الخبرة، أهل الدراية، أهل العلم والعمل، مع المراجعة بالانفراد والمذاكرة مع الغير، أما شخص يحضر الدروس، وإذا خرج من الدرس هذا آخر عهده بالكتاب، فمثل هذا لا يفلح غالباً، كما قرر ذلك أهل العلم.
فعلينا أن نعتني بالعلم وأجره عظيم، لا تظن أن تعبك على العلم سدى أو هدر، لا، ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة))، الأمر ليس باليسير.
قد يقول قائل: أنا الحافظة لا تسعف، الفهم ضعيف، أنا مجرد تردد على..، أتردد على أهل العلم ولا أحفظ ولا أفهم، نقول: تردد يا أخي، الأجر والثواب مرتب على مجرد سلوك الطريق، ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)).
فعليك أن تسلك الطريق، وتحضِّر الدرس قبل الحضور -قبل حضورك إلى الدرس- تقرأ قبل أن تحضر، وتحفظ ما يحتاج إلى حفظه، وتراجع الشروح، شرح ما تريد، شرح الدرس الذي تريد أن تحضره عند ذلك الشيخ، ثم بعد ذلك تحضر وتتأدب وتحتسب أجرك عند الله -عز وجل- مخلصاً لله -عز وجل- في جميع ذلك، فالمدار على الإخلاص، فتنصت للشيخ، وتناقش الشيخ بأدب، ثم بعد ذلك إذا رجعت تراجع ما سمعت وتدون الفوائد.
وبعض أهل العلم يمنع من تدوين الفوائد أثناء الدرس، يقول: انتبه الدرس عليك أن تصغي، أن تصغي للشيخ، ثم بعد ذلك إذا انصرفت بعد هذا الإصغاء والانتباه دوِّن ما تشاء، ومن جرب عرف صدق هذه المقالة؛ لأن بعض الناس ينشغل بالتدوين ويفوت عليه أمور كثيرة، وبعض الناس ينصت ويهتم، ويلح على الله -سبحانه وتعالى- بأن يثبت هذا العلم في ذهنه، وأن ينفعه به، ثم بعد ذلك إذا انصرف دون ما فهمه وما علق بذهنه، وذاكر إخوانه، لا بد من مذاكرة الإخوان للدروس.
وهذا الكلام ليس خاصاً بالسنة، هذا لجميع العلوم، إذا أردت أن تحضر درساً في التفسير، وتعرف طريقة الشيخ أنه في اليوم يشرح آيتين ثلاث، عليك أن تحفظ هاتين الآيتين أو الثلاث، ثم تقرأ في كلام أهل العلم الموثوقين ما يعينك على فهم هاتين الآيتين -الآيتين أو الثلاث- ثم بعد ذلك تذهب إلى الشيخ، وتستفيد ما يزيده الشيخ على ما قرأت، ثم بعد ذلك تذاكر مع إخوانك وزملائك في الدرس، وكل واحد يزيد مما أعطاه الله من العلم على صاحبه، وبهذا يتمكن الطالب من التحصيل.
والشيخ عبد القادر بن بدران في كتاب المدخل قال: إنهم يحضرون عند شيخ درساً في الفقه ويقول: إننا نجتمع خمسة ستة من الأقران قبل الدرس، فنقرأ الدرس جميعاً، ثم نحفظ القدر الذي قراناه، والذي نتوقع أن الشيخ لا يزيد عليه، ثم بعد ذلكم قبل الاطلاع على الشروح كل واحد منا يأخذ ورقة وقلم ويشرح هذا المقروء، المحفوظ، بفهمه، يشرح من تلقاء نفسه، قبل الاطلاع على الشروح، على شان أيش؟
على شان إذا أخطأ في شرحه، ثم قرأ الشرح وتداوله الزملاء فإنه حينئذ يثبت العلم بهذه الطريقة، يقول: نشرح القدر المراد، ثم بعد ذلك نراجع الشروح، فما كان من خطأ نصوبه ونسدده، ثم بعد الشروح نطالع ما كتب عليها من حواشي، ثم بعد ذلكم نذهب إلى الشيخ؛ لنستفيد من علمه ما لا يوجد في الكتب.
وعند الشيوخ ما لا يوجد في الكتب مما أعطاه الله من علوم قدحها بزنده، أو استفادها من كتب ليست مظنة لها، لاطلاعه، ولذا لا يتصور أن يستغني الطالب عن معلم أبداً.
في البلدان التي لا يوجد فيها أحد من أهل العلم يقال: استفد بقدر الإمكان، استفد من الأشرطة، استفد من الإنترنت، استفد من الإذاعات التي تبث العلوم، لا بأس؛ لأن هذه حالة ضرورة، لكن البلدان التي فيها علماء، مثل هذه البلاد المباركة وفيها من أهل العلم والعمل من فيها، نقول: هذه الآلات وهذه الأشرطة مهما بلغت من الصحة والضبط والإتقان لا تغني عن مزاحمة الشيوخ، وهذا الكلام يصلح لجميع العلوم.
ثم بعد ذلكم نأتي إلى ما نحن بصدده، وهو كتب السنة، وتدوين السنة، وترتيب كتب السنة، وفهم كتب السنة، وما يعين على فهم كتب السنة.
كتب السنة، نعم.
طالب:.......
أقول: كتب السنة متنوعة، قصد أهل العلم من تنوعها وتنويعها إفادة جميع المستويات لطلاب العلم، فمنها الكتب المجردة عن الأسانيد التي قصد أهل العلم من تأليفها أن يحفظها مبتدئُو الطلبة، وهذه الكتب عادة هي التي يبدأ بها بالنسبة للسنة، ومن أهم هذه الكتب، بل أول درجة في السلم:
الأربعون النووية: وهي أحاديث جوامع من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام-، فعلى طالب العلم أن يبدأ بحفظها ويعتني بفهمها؛ لأن كل حديث منها قاعدة من قواعد الشرع من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام- ويقرأ ما كتب عليها من شروح، ويستفيد من أهل العلم في دروسهم التي تُشْرحُ في هذه الأحاديث، فالأربعون النووية للإمام الزاهد الحافظ أبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة ست وسبعين وستمائة، وهذا الرجل على قِصر عمره رجل مبارك، رجل مبارك، ألف هذا الكتاب الذي جمع فيه هذه القواعد الكلية من قواعد الشريعة، وله رياض الصالحين: الذي هو منذ أن فرغ منه مؤلفه إلى يومنا هذا والمسلمون في مساجدهم يقولون: قال -رحمه الله تعالى- وأي فضل أعظم من هذا، على ما عنده من خلل في العقيدة ناتج عن تقليد وليس من أهل الاجتهاد والتنظير في هذا الباب.
له أيضاً من الكتب النافعة الأذكار: وهو فريد فذ في بابه، له أيضاً: المجموع في شرح المهذب الذي لو كمل لاستغنى به طالب العلم عن جميع كتب الفقه، نعم إذا قلنا: المغني كتاب عظيم، المحلّى كتاب مفيد، التمهيد والاستذكار لابن عبد البر كتب عظيمة، لكن المجموع ذكر فيه من الفروع والتنابيه المدللة على طريقة أهل الحديث بالأدلة المعللة المخرجة مما لو اجتمع عليه فئام من الناس ما استطاعوا أن يؤلفوا مثله في هذه العمر القصير خمسة وأربعين سنة عمره، وله أيضاً: شرح مسلم، وله كتب كثيرة مباركة، فيها فوائد عظيمة.
على كل حال النووي معروف أمره، والحديث عنه يطول، لكن الذي يهمنا كتابه الأربعين النووية، فيقرأ عليه شرح المؤلف، شرح الأربعين للنووي نفسه، شرح مختصر ومتقن، ولا مانع أن يقرأه المنتهي مقروناً بشرح الحافظ ابن رجب، المسمى جامع العلوم والحكم، وهذا الكتاب كغيره من مؤلفات هذا الإمام فيها من العلم العجب العجاب، فيها علم السلف، وشرحه للأربعين شاهد لذلك، شرحه للبخاري لو كمل لكان من العجائب، وشرحه للترمذي أيضاً شيء أشيد به، لكن مع الأسف أنه لا يوجد منه إلا القسم الأخير وهو شرح العلل.
إذا حفظ طالب العلم المبتدئ الأربعين، انتقل بعدها إلى عمدة الأحكام، والمقصود بها الصغرى، وهي التي يذكرها أهل العلم في كتب التراجم، فإذا قالوا في ترجمة أحد من أهل العلم: حفظ كذا وكذا وعمدة الأحكام فالمراد بها الصغرى، وتأتي أهميتها من إمامة مؤلفها وانتقاء أحاديثها، فأحاديثها من الصحيحين وهو شرط المؤلف.
ثم بعد ذلكم يقرأ على هذه العمدة إذا حفظها، وهي عمدة تسعف في وقت الحاجة، يقرأ ما كتب عليها، وما كتب عليها مما يناسب الطلبة متوسطي التحصيل، كتاب في غاية الاختصار وهو خلاصة الكلام للشيخ فيصل بن مبارك، وأطول منه وأيسر وأقرب للطلاب وليكونوا غير المتخصصين في العلم الشرعي تيسير العلام للشيخ ابن بسام، هذا كتاب في غاية الوضوح والسهولة، لكن إذا قرناه بشرح ابن دقيق العيد أحكام الأحكام، هذا ينبغي أن يتخرج عليه طالب العلم، إذا فهمه طالب العلم فهو لما سواه أفهم، أحكام الأحكام لابن دقيق العيد وعليه حواشي الصنعاني، الكتاب مطبوع مع حواشيه في أربعة مجلدات.
طالب:.......
صعب صعب، صعب الكتاب صعب، لكن ليس معنى هذا التنفير، لا، الصعب إذا فهمه الطالب تلذذ بقراءته، نعم؛ لأنه يصير كشف، كل جملة تفهمها فتح، تتلذذ بها.
فنقول: إذا قرأت على العمدة تعليقات الشيخ فيصل بن مبارك، وشرح ابن بسام نعم ،وتأهلت لقراءة شرح ابن دقيق العيد لا مانع من ذلك.
فهناك شرح مطول على العمدة وهو الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن وهو كتاب مبسوط، لو ترجأ قراءته إلى مرحلة تالية؛ لطوله وتشعب معلوماته لكان أولى، لكن يذكر بمناسبة ذكر العمدة.
هناك أيضاً من الكتب التي اختصرها أهل العلم وحذفوا أسانيدها لتحفظ: المحرر في الحديث للإمام الحافظ ابن عبد الهادي، وهو كتاب متقن، على اسمه محرر مضبوط، فيه إشارات ودقائق إلى علل الأحاديث قد لا توجد عند غيره، ولكنه لم يُعتَنَ به، لا يوجد له شرح مطبوع، وإن التفت الناس إليه في الأخير، ووضعوا فيه الدروس والدورات وشرحوه بأشرطة، وهو حري وجدير وخليق بالعناية، فعلى طالب العلم أن يعتني به.
ثم بعد ذلكم بلوغ المرام للحافظ ابن حجر العسقلاني، الذي هو أشهر من نار على علم عند طلاب العلم، والعناية به فائقة، وشرح ودرس في جميع الأقطار، منذ تأليفه إلى يومنا هذا وهو عمدة في هذا الباب، عني به أهل العلم عناية فائقة، فلتراجع عليه الشروح ومنها: البدر التمام للقاضي الحسين بن محمد المغربي يماني لكنه -أعني هذا الشرح- فيه حشو كثير، فيه حشو كثير واعتماده على فتح الباري، وشرح النووي على مسلم، والتلخيص الحبير، هذه عمدته، ثم بعد ذلكم ينقل نقول من كتب الزيدية، ويستطرد في ذكر آرائهم ومذاهبهم.
اختصره الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني في كتابه الشهير سبل السلام، وهذا ينبغي أن يعتني به طالب العلم لتجرد مؤلفه، ودورانه مع السنة، فيرجح ما يرجحه، أو ما يترجح له من خلال الدليل، وهو مختصر من البدر التمام، ولكونه أفضل من المختصر صارت العناية به أكثر.
هناك أيضاً شرح معاصر للشيخ ابن بسام اسمه توضيح الأحكام، فائدته تكمل في سهولته وترتيبه، وأيضاً نُقول فتاوى المعاصرين كاللجنة الدائمة، وهيئة كبار العلماء، ومجمع الفقه وغيرها، هذه مهمة.
بعد ذلكم كتاب المنتقى، للمجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام، وهو كتاب عظيم حوى جل أحاديث الأحكام، لا يستغني عنه طالب علم، فجمع جل ما يحتاجه طالب العلم من أحاديث الأحكام، وهو مشروح، شرحه الشوكاني، في كتابه المشهور: نيل الأوطار، والكتاب أصله عظيم، وشرحه نفيس؛ لأنه كما قلنا عن سبل السلام، الشوكاني -رحمه الله تعالى- يدور مع الدليل، يدور مع الدليل، ولا يعني أن الشوكاني أو الصنعاني معصومان لا يقعان في الخطأ، لا، هما كغيرهما من أهل العلم معرضون للخطأ والصواب.
وأيضاً: كتبهما حشرت وملئت بأقوال بعض الطوائف المبتدعة، اضطروا إلى ذكرها من أجل روجان هذه الكتب في تلك البلاد؛ لأنهم جل سكان أو غالب سكان اليمن في وقتهم فيحتاجون إلى ذكر مذاهبهم لتروج هذه الكتب.
على كل حال هذه الكتب كتب ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها، وهي خاصة بالأحكام.
هناك كتب في الآداب والأخلاق، مثل رياض الصالحين -الذي سبقت الإشارة إليه- فعلى طالب العلم أن يعتني به؛ لأن هذا الباب والجانب من أبواب الدين في غاية الأهمية للمسلم عموماً وطالب العلم على وجه الخصوص.
ونحن نشاهد عزوف من كثير من طلاب العلم عن كثير من أبواب الدين التي هم بأمس الحاجة إليها، كأبواب الأدب -الأدب الشرعي- مَن مِن طلاب العلم يعتني بقراءة أبواب الفتن -أعاذنا الله من شرها ما ظهر منها وما بطن-؟ مَن مِن طلاب العلم يعتني بأبواب الرقاق والزهد؟ يندر؛ لأن همهم في المسائل العملية، لكن ما الذي يحدوا طالب العلم إذا عرف الأحكام العملية إلى العمل، ما الذي يسوقه إلى العمل؟
هذه النصوص التي هي كالسياط لطالب العلم أن يعمل بهذا العلم، وإلا مجرد معرفة هذا حلال وهذا حرام من غير ملامسة للقلوب، قد يغفل طالب العلم، وقد يجفو، مع معرفته بالحلال والحرام -مع الأسف الشديد- يلاحظ على بعض من ينتسب إلى العلم شيء من الجفا، والتخلف في باب العمل وإن وجد العلم، على أن من أهل العلم من يرى أن العلم الذي لا يبعث على العمل ولا يحدوا إليه لا يستحق أن يسمى علماً والله المستعان.
ولذا جاء في الحديث: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله))، وهذا أمر للعدول بأن يحملوا العلم، ولا يتركوا المجال للفساق لحمل العلم، فهذا الجانب أو هذا الباب من أبواب الدين على طالب العلم أن يعنى به.
وكان الشيخ فيصل بن مبارك -بل دون ذلك في وصيته- يوصي بحفظ كتاب رياض الصالحين، يوصي بحفظ كتاب رياض الصالحين، إن لم يتمكن أو لم تسعف الحافظة يحفظ..، حدد الشيخ من باب كذا إلى باب كذا -نسيت الآن، لكن هذا لبيان أهمية الكتاب- والكتاب مشروح، شرحه ابن علان في دليل الفالحين، كتاب مختصر وجيد، ومتقن ومحرر، والمؤلف أشعري، يعني نكون على حذر في مسائل الاعتقاد.
شرحه أيضاً: الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في شرح مملوء بالفوائد، وهو من أنسب ما يقرأ على العوام؛ لأن الشيخ -رحمه الله- له طريقة في تسهيل العلم بحيث يناسب جميع المستويات، يستفيد منه المنتهي، ويفهمه المبتدئ.
أيضًا كتب الأذكار ألفت فيها الكتب الكثيرة، عمل اليوم والليلة للنسائي، عمل اليوم والليلة لابن السني، الدعاء للطبراني، الأذكار للنووي -الذي سبقت الإشارة إليه- هذه الكتب لا بد لطالب العلم أن يعتني بها؛ لأن الذكر له شأن عظيم في حياة المسلم فضلاً عن من ينتسب إلى العلم، فلا يزال لسانك رطب بذكر الله -عز وجل-، وكيف تعرف ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من الأذكار، إلا بمعرفة هذه الكتب، وما دون في المطولات التي سوف نذكرها إن شاء الله تعالى.
كتاب الأذكار للنووي مشروح، شرحه ابن علان أيضاً في كتاب أسماه الفتوحات الربانية، والأبواب التي أفردت فيها الكتب كثيرة، لا نريد أن تعوقنا أو تصدنا عما نحن بصدده من الكتب الأصلية.
كتب السنة الأصلية قدمت الكتب التي ذكرناها المجردة؛ لأنها تناسب المبتدئين، المبتدئ حفظ هذه الكتب التي ذكرت، وفهمها وعناها، عليه أن يرتقيَ بعد ذلك إلى الكتب المسندة، وكان الناس إلى وقت قريب على يأس تام وقنوط من حفظ هذه الكتب، أعني الكتب المطولة، لكن وجد -ولله الحمد- وجدت الجهود المباركة الموفقة المسددة المرتبة لحفظ السنة، وأثمرت ثماراً كبيرة.
لا تصدقون أيها الإخوان أننا إلى وقت قريب، إلى وقت قريب لا نشاهد في البلد كله من يحفظ القرآن إلا أشخاص معدودين على الأصابع من كبار السن!!
والآن ولله الحمد والمنة من النساء والرجال من الكبار والصغار يحفظون القرآن، بل إن امرأة في الحجاز عمرها سبعون سنة أتمت حفظ القرآن، وكان الناس على يأس تام؛ لأنهم يرون هذه الأوراق كثيرة، ولا لهم سلف، ولا لهم طريقة، ولا..، نعم، وقد يكون انشغال المتقدمين الأوائل بالمعيشة له دور، كانت المعيشة شاقة في هذه البلاد، ثم تيسرت الأمور، ووجد المخلصون فرتبوا ونظموا فتبين أن الأمر يسير.
أيضاً بالنسبة للسنة حفظ الناس السنة -ولله الحمد- يوجد شباب يحفظون الكتب الستة على طريقتهم، يعني على اصطلاحهم، وإن كان قولهم الكتب الستة فيه تجوز؛ لأنهم لا يحفظون التكرار، ولا يحفظون الأسانيد، ولا يحفظون..، لكن خيراً عظيم هذا، خير عظيم هذا.
المقصود أن الكتب في البداية أو السنة في البداية دونت على قدر الحاجة والحفظ موجود، ثم لما اشتدت الحاجة إلى الحفظ اضطر المسلمون لتدوين السنة التدوين الرسمي، بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فقام الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري بالتدوين، بأمر من الخليفة الراشد في رأس المائة الثانية، ووجدت المصنفات، وهي مجرد جمع بالأسانيد، وبعد ذلكم وجدت موطآت ومصنفات، ومسانيد، وجوامع، وسنن، ومعاجم، ومشيخات، وفوائد، وأجزاء، وغير ذلك من فنون السنة، فالموطآت وهي إلى حد ما شبيهة بالسنن، فعندنا الموطآت والمصنفات والسنن، هذه متقاربة، هذه متقاربة جداً؛ لأنها يجمع فيها، أو الغالب عليها أحاديث الأحكام، لكن تفترق المصنفات عن السنن أن السنن عنايتها بالمرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- والمصنفات تجمع إلى ذلك الآثار الموقوفة والمقاطيع وغيرها، بل آراء المصنفين كالموطأ.
موطأ الإمام مالك هو من أشهر الموطآت، والموطأ كتاب عظيم، صنفه نجم السنن الإمام مالك بن أنس، ووطأه ومهده ويسره للمتعلمين، وعني به فروي بروايات كثيرة، له أكثر من ست عشر رواية، قد تبلغ العشرين رواية، أيش معنى روايات؟
الآخذون عن الإمام مالك كل له طريقته في التدوين، وفي الزيادة والنقص حسب ما يتيسر له مما يقرؤه على الإمام؛ لأن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- ليس من عادته أن يقرأ على الطالب كبقية أهل العلم، بل يعرض عليه العلم عرضاً، وينكر أشد النكير على من يطلب من الإمام مالك أن يحدثه، ويقول: يكفيك العرض في القرآن، ولا يكفيك في السنة؟
على كل حال موطأ الإمام مالك كتاب نفيس وموجود، ومختصر، وله روايات كثيرة من أهمها وأشهرها رواية يحيى بن يحيى الليثي، هذه أشهر الروايات، وعليها أكثر الشروح، عليها شروح ابن عبد البر التمهيد والاستذكار، وعليها أيضاً: شرح الباجي، المسمى أيش؟ المنتقى، وهو كتاب نفيس، إضافة إلى كتب ابن عبد البر، يعتنى بها لفهم الموطأ.
هناك رواية أبي مصعب الزهري، وهي من أوفى الروايات وأتمها، وهناك رواية محمد بن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة للموطأ، وتأتي أهميتها من إمامة راويها وإدخاله بعض ما ينصر مذهب أبي حنيفة في أحاديث الموطأ.
الراوي له دور في الكتاب، والذي لا يعرف طرائق المتقدمين في التصنيف يشكك في ثبوت هذه الكتب، موطأ الإمام مالك: تأتي إلى موطأ الإمام مالك مستفيض استفاضة أشهر من كل شهير، تأتي إليه فتجده يقول: حدثنا يحيى بن يحيى كيف؟ يحيى بن يحيى هو الراوي عن مالك، حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، والموطأ لمن؟ لمن الموطأ؟ للإمام مالك، فكيف يقال في الكتاب: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك؟
وقل مثل ذلك في كتب المتقدمين كلهم، كتب الشافعي، أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي، المسند، مسند الإمام أحمد، حدثنا عبد الله، قال حدثني أبي، كيف يكون للإمام أحمد، والراوي داخل في الكتاب؟
إذن المؤلف من دون عبد الله، هذا إذا عاملنا هذه الكتب بمثل ما نعامل به كتب المتأخرين الذين يتولون التأليف بأيديهم، ولجهل بعض الكتاب المعاصرين بطريقة المتقدمين في التصنيف ألف كتاب حول الأم للإمام الشافعي إصلاح أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلامي الأم ليست للإمام الشافعي!
إجماع، إجماع أن الأم للإمام الشافعي، ما الذي أوقعه في هذا؟ جهله، ومع الأسف أن من يكتب مثل هذه الكتابة هو شخص لا يمت إلى العلم بصلة، بل لا يمت إلى الاستقامة فضلاً عن العلم الشرعي والله المستعان.
فعلينا أن نفهم هذه الدقيقة، يأتي من يقول لك: كيف الإمام أحمد..، المسند لمن يا أخي؟ للإمام أحمد إجماعاً، ما أحد يخالف في هذا، كيف يقول: حدثنا عبدالله، الإمام أحمد يقول: حدثنا عبد الله ممكن؟ هذا مستحيل!! حدثنا عبد الله قال: حدثني أبي، إذن لا بد من أن نعرف مثل هذه الأمور.
الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- تصرف وهو شيخ من أهل الفن ومن أهل العلم ومن أهل العمل فيما نحسب تصرف في المسند تصرفاً غير مرضي، فحذف عبد الله وحذف الأب، مباشرة حدثنا فلان من شيوخ الإمام أحمد!!
هذا يا أخي تصرف في كتب الآخرين، مثل هذه التصرفات تجعل الإنسان لا يثق بالكتب، بل على من أراد نشر الكتب وخدمة الكتب أن يبقيها كما هي من غير تصرف، نعم؟
طالب: يا شيخ يعني الرواية عن من دون ابن الإمام أحمد، عن من دون الشيباني؟
كيف؟
طالب: الرواية عن طلاب الإمام مالك، حل الإشكال؟
الآن عندنا أيش؟ الكتاب ما هو للإمام مالك؟
طالب: بلى.
اتفاقاً يعني هو من حديث الإمام مالك؟
طالب: بلى.
جمعه الإمام مالك في البداية، الإمام مالك لما جمع الكتاب قرأه عليه يحيى بن يحيى فأثبت اسمه لبيان أن هذه رواية يحيى، نعم، فجاء من بعده وأبقاه كما هو، فصار برواية يحيى بن يحيى عن مالك، وهكذا بقية الكتب لهم طريقة في التصنيف قد تقول: هي من حيث النظر المعاصر للتصنيف، نعم، قد تقول: إنها غير مستساغة، نعم، تكون غير مستساغة، وأنتم تعرفون الأمور أول ما تبدأ يكون فيها ما فيها، ثم بعد ذلكم تتطور، نعم، هؤلاء لم يسبقهم أحد إلى التأليف، لبنات أولى في بناء التأليف، فهذا عذرهم في هذا الباب، وهي أيضاً أمانة تحملها الراوي عن من روى عنه، وهكذا إلى آخره، أمانة تحملها.
الموطآت -ومثالها موطأ الإمام مالك- والمصنفات -ويمثل لها بمصنف ابن أبي شيبة، ومصنف عبد الرزاق ابن همام الصنعاني- هذه المصنفات فيها ألوف مؤلفة من الأحاديث، وهي شبيهة بالموطآت؛ لكثرة الآثار، وهي شبيهة في التصنيف بالسنن؛ لأن جلها أحاديث أحكام، ولذا لا يرى بعضهم فرق بين الموطآت والمصنفات والسنن.
هناك الجوامع، وإذا أردنا الترتيب الزمني قلنا: المسانيد قبل الجوامع، المسانيد: ومن أعظمها وأجلها مسند الإمام أحمد بن حنبل، والمترجمون يتفقون على أنه أربعين ألف، لكنه لما طبع بالترقيم وجد ثلاثين، وهذه المسألة لا إشكال فيها.
صحيح مسلم اختلف في عدده من ثمانية آلاف إلى اثنا عشر ألف، يعني هل نقول: ضاع من صحيح مسلم شيء، أو من مسند الإمام أحمد شيء؟
ما ضاع شيء، يعني إن حصل خلل في بعض النسخ، وسقطت أحاديث يسيرة كالمسند مثلاً، ما نقول: ضاع شيء، استدركت، لكن تبقى أنها أحاديث يسيرة، إذن كيف؟ الفرق الربع الآن؟
نقول: المتقدمون ليست لهم عناية بعدّ الأحاديث، هذه الأمور مفضولة عندهم، لا يولونها عناية..
"