شرح متن الورقات في أصول الفقه (04)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ضاع كثير من الوقت عن الكتاب. سم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد قال إمام الحرمين -رحمه الله-:
وأصول الفقه: طرقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها، وأبواب أصول الفقه: أقسام الكلام، والأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والنص والظاهر والمؤول، والأفعال والناسخ والمنسوخ، والإجماع والأخبار، والقياس والحظر والإباحة وترتيب الأدلة، وصفة المفتى والمستفتى وأحكام المجتهدين، فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان، أو اسم وفعل، أو فعل وحرف، أو اسم وحرف، والكلام ينقسم إلى أمر ونهي، وخبر واستخبار، وينقسم أيضاً إلى تمنٍّ وعرض وقسم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، يقول رحمه الله تعالى:
وأصول الفقه: طرقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها: سبق تعريف أصول الفقه باعتبار جزئي المركب، وأنه مركب من كلمتين: أصول وفقه، وعرفنا معنى كلمة الأصول ومعنى كلمة الفقه، والآن هذا هو التعريف الثاني باعتباره علم على هذا الفن المعروف.
عرفه المؤلف بأن المراد بأصول الفقه: طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها: فالمراد بأصول الفقه -كما ذكر- طرق الفقه إجمالاً، كمطلق الأمر والنهي، وفعل النبي -عليه الصلاة والسلام- والإجماع والقياس، هذه طرق الفقه إجمالاً لا تفصيلاً، من حيث البحث فيها بأن الأول: وهو الأمر للوجوب، والثاني: وهو النهي للتحريم، والفعل: فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- والإجماع والقياس وغيرها حجج، يحتج بها على خلافٍ فيها، سيأتي إن شاء الله تعالى.
وكيفية الاستدلال بها: أي كيفية الاستدلال بهذه الأصول من حيث تطبيقها على فروع المسائل، وكيفية العمل عند تعارضها بما يسمى بمباحث تعارض الأدلة من تقديم للخاص على العام والمقيد على المطلق والناسخ على المنسوخ وهكذا.
والكلام هذا يجر -كيفية الاستدلال بها، والاستفادة منها- يجر إلى معرفة المستفيد منها والمجتهد، المجتهد له أوصاف وله شروط، وليس لكل أحدٍ أن يجتهد، نعم، إذا تأهل الإنسان بالشروط التي ذكرها أهل العلم المستمدة من الشرع، فإن له -بل عليه- أن يجتهد، أما إذا لم يتأهل صار فرضه تقليد من تبرأ ذمته بتقليده؛ {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(43) سورة النحل].
ونحن نشاهد كثرة من يدعي الاجتهاد في هذه الأوقات، لا شك أن مثل هذا غرور وتلبيس من الشيطان، وفيه ما هو ردة فعل لقرونٍ مضت من قفل باب الاجتهاد، والآن فتح الاجتهاد على مصراعيه؛ تجد من يحفظ شيئاً ولو يسيراً من العلم تجده يتكلم في عضل المسائل، تجد المبتدئ -بل بعض العامة- يجرؤ على إفتاء الناس وتوجيههم، والمبتدئ في حكم العامي، وكثير من المبتدئين -ومن يظن أنه تعلم وهو ما عرف إلا الشيء اليسير- تجده يتصدى لإفتاء الناس وتوجيههم لما يعرف وما لا يعرف، وهذا الأمر خطير جداً؛ لأنه ينصب نفسه موقعاً عن الله -عز وجل- وحكماً بين عباده بالدعوى، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [60) سورة الزمر] أيش معنى كذبوا على الله؟
الذي يفتي بلا علم يكذب على الله؛ يدخل دخولاً أولياً في هذه الآية {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ}، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [(116) سورة النحل] نص في الموضوع، فإذا ربطنا بين الآيتين عرفنا خطورة الإفتاء بغير علم، وعندنا من تقوم بهم الحاجة -ولله الحمد-من أهل العلم الراسخين المحققين.
وبالمقابل تقاعس المتأهل وتأخره عن نفع الناس في هذا المجال لا يجوز؛ وهو كتم للعلم، بل يتعيّن على من تأهل لإفتاء الناس أن يفتيهم، ولا يجوز له أن يتأخر والحاجة قائمة.
وبعض الناس لا يتحرى إذا أراد أن يسأل، لا يبحث عمن تبرأ ذمته بتقليده، والله -سبحانه وتعالى- يقول: {اسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}، بل يتجه كثير من الناس لسؤال بعض المفتونين؛ بحثاً عن الرخص، والإنسان إذا بحث عن الرخصة في هذه المسألة، والرخصة في تلك المسألة، والرخصة في المسألة الثالثة والرابعة والعاشرة خرج من دينه؛ لأن الدين تكاليف، فإذا كان الدين كله رخص ما صار هناك دين، ما صار هناك تكليف، والله المستعان.
هذه الأمور الثلاثة -طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستفيد منها- هذه هي أصول الفقه، هذا ما قاله كثير من الشراح، وكأن الأوضح مما ذكر أن يراد بأصول الفقه: أدلة الفقه الإجمالية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل في هذه الأدلة؛ نأخذ الكتاب مجملاً وكيف نستفيد منه، حجة بالإجماع، لكن كيف نستفيد من هذا الكتاب، السنة حجة إجماعاً، الإجماع القياس وهكذا -على الخلاف فيه- المقصود أن كيف نستفيد من هذه الأدلة الإجمالية، وبيان حال من يستفيد منها.
يقول الناظم رحمه الله تعالى:
أما أصول الفقه معنىً بالنظر
|
|
للفن في تعريفه فالمعتبر
|
ثم ذكر أبواب الفقه على سبيل الإجمال، أبواب أصول الفقه ذكرها إجمالاً، ثم تحدث عنها بالتفصيل واحداً تلو الآخر على نفس الترتيب الإجمالي، وهذا أشرنا سابقاً إلى أنه يعرف بأيش؟
باللف والنشر المرتب، فسرد هذه الأبواب سرداً أشبه ما يكون بالفهرس من الأبواب التي يريد أن يتحدث عنها، وعدتها عشرون باباً على سبيل الإجمال ثم تكلم عنها بالتفصيل الملائم لهذا المختصر، وليس المراد به التفصيل المبسوط الذي يوجد في المطولات، لا، هو تفصيل نسبي ملائم لهذا المختصر ومناسب لإدراك المبتدئين، وإن كانت الأوراق فيها كثير ممن يقول: إنهم لا يفهمون بعض هذا الكلام الذي يذكر في الكتاب، هو لا شك أن الأفهام متفاوتة، ولولا ضيق الوقت لزدنا في التوضيح، لكن مع الإجمال في التوضيح يمكن ما نأخذ ولا نصف الكتاب، والله المستعان.
ثم شرع -رحمه الله تعالى- يفصل ما أجمله، وينشر ما لفّه، فقال: فأما أقسام الكلام فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان، أو اسم وفعل، أو فعل وحرف، أو اسم وحرف: والكلام مصدر، أو قل: اسم مصدر من تكلم يتكلم تكلماً وكلاماً، ويختلف المراد به من فنٍ إلى آخر -المراد بالكلام- فالمراد به عن اللغويين: كل ما يلفظ به، سواء كان مفيداً أو غير مفيد، يسمى كلاماً، سواء كان مركباً أو غير مركب، فإذا قلت: زيد، كلام،، زيد قائم كلام، ديز عكس زيد -مقلوب زيد- كلام، كل ما يلفظ به كلام، سواء كان مقصوداً أو غير مقصود، فكلام النائم كلام، كلام بعض الطيور كلام، هذا من حيث الأصل في اللغة.
وعند النحويين: هو اللفظ المركب المفيد فائدة يحسن السكوت عليها، فالكلام المفرد، الكلمة المفردة ليست بكلام، والكلام غير المفيد (إن قام زيد) هذا ليس بكلام وإن كان مركباً من ثلاث كلمات، والكلام غير المقصود ليس بكلام عند النحويين.
وعند الفقهاء: ما اشتمل على حرفين فصاعداً، وهو الذي يبطلون به الصلاة، ولذا يقولون: إن بان حرفان من الكلمة بطلت الصلاة، والمقصود به الكلام الذي لا يحتاج إليه.
والكلام جمع كلمة، والكلمة إما اسم أو فعل أو حرف، وفي الألفية -في ألفية ابن مالك-:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
|
|
واسم وفعل ثم حرف الكلم
|
أي: قد يقصد.
وأقل ما يترتب الكلام منه اسمان: نحو: زيد قائم. أو اسم وفعل: مثل: قام زيد، أو ضُرب زيد، أو فعل وحرف: نحو: ما قام، ومثل هذا أثبته بعضهم كالمصنف، ولم يعدّ الضمير الراجع في (قام) -الراجع إلى المتحدث عنه مثلاً- لعدم ظهوره؛ هو يعد الكلمات الموجودة أمامه، أما المستتر فهو لا يعده، وعليه جرى المصنف، والجمهور على عده كلمة، فالضمير المستتر في حكم الضمير المتصل.
أو اسم وحرف: وذلك في النداء نحو: يا زيد، وإن كان المعنى: أدعو زيداً، لكن في الصورة حرف -حرف نداء- وإن كان معنى هذا الحرف، معنى الفعل: أدعو.
يقول العبادي في شرحه: وقضية تعبيره بأقل أن الكلام قد يتركب من أكثر مما ذكر؛ لأنه أقل ما يتركب منه الكلام ما ذكر، وقضية ما ذكر -مفهوم الأقل- أن هناك أكثر، فهل نستطيع أن نسمي الجمل كلاماً؟ جمل نسميها كلاماً؟ يقول: قد يتركب من أكثر ما ذكر، كجملتين وكفعلٍ واسمين أو ثلاثة أو أربعة، وعليه جمع كابن هشام، لكنه خلاف ما دلت عليه عبارة ابن الحاجب، أيش معنى هذا الكلام؟
قالوا: فهموا من كلام المصنف أن أقل ما يتركب منه الكلام ما ذكر، أن الكلام قد يتركب من أكثر مما ذكر، وهذا مفهوم العبارة، وهذا عليه جمع، يعني إذا ركب كلام من جمل متعددة -جملتين فأكثر- يسمى كلاماً، نعم؟
قد يقول قائل: كيف ينازعون في مثل هذا وعليه جمع كابن هشام، لكنه خلاف ما دلت عليه عبارة ابن الحاجب، قد يقول قائل: كيف ينازعون في مثل هذا؟ يعني إذا كان: (زيد قائم) كلام فإذا قلت: زيد قائم وقاعد أو قارئ، زيد قائم..، أو زيد قاعد وقارئ، هاتان جملتان عطفت إحداهما على الأخرى، والعطف على نية تكرار العامل -كما يقول أهل العلم- كيف يختلفون؟ يقول: وخلاف ما دلت عليه عبارة ابن الحاجب، أنه لا يسمى كلاماً أصلاً؟
طالب:.......
أيش يقول؟
طالب:.......
أيش؟
طالب:.......
الآن عرفنا أنه إذا اشتمل على جملة اسم وفعل، أو اسم وحرف، أو فعل وحرف هذا كلام، وهذا أقل الكلام، هذا أقل الكلام، مفهومه أنه إذا تركب من جملتين أو من ثلاث كلمات -اسم وفعل وحرف، أو فعل واسمين أو ثلاثة أسماء أو أربعة- لا يسمى كلاماً عند بعضهم، والمفهوم من كلام المصنف أنه يسمى كلاماً.
على كل حال ما الفائدة المرتبة على هذا الخلاف؟
طالب:.......
في فائدة تترتب على هذا الخلاف؟ نعم؟
طالب:.......
يعني إذا حلف أن لا يتكلم، أو أن لا يصدر منه كلام، فجاء بكلامٍ طويل يصير تكلم وإلا ما تكلم؟
على ما عليه الجمع -كابن هشام وما يفهم من كلام المؤلف- كلاماً، لكن إذا حلف لا يتكلم بكلامٍ طويل، كلام مركب من جمل؟ على مقتضى عبارة ابن الحاجب أنه ما تكلم.
إذا قال لزوجته: إن تكلمت بكلام فأنت طالق، أو قال لعبده: إن تكلمت بكلام فأنت حر، فتكلم بكلامٍ كبير ما جاب جملة واحدة، أو نقول: هي تطلق بالجملة الأولى، وهو يعتق بالجملة الأولى، ويحنث في الجملة الأولى وما عدا ذلك قدر زائد على الكلام؟ نعم؟
يقول الناظم:
أقل ما منه الكلام ركبوا
|
|
اسمان أو اسم وفعل كـ_(اركبوا)
|
ثم قال -رحمه الله تعالى- في بيان أقسام الكلام: والكلام ينقسم إلى أمرٍ ونهيٍ وخبرٍ واستخبار وينقسم أيضاً إلى تمنّ وعرض وقسم: يريد المصنف أن الكلام من حيث دلالته ينقسم إلى أمر: وهو ما يدل على طلب الفعل نحو: صلِّ، {أَقِمِ الصَّلاَةَ} [(78) سورة الإسراء]، ونهي: وهو ما يدل على طلب الترك، نحو: لا تغتب، وخبر: وهو ما يحتمل الصدق أو الكذب لذاته نحو: جاء زيد، وما جاء عمرو، ويقابل الخبر الإنشاء، ولم يذكره المؤلف بلفظه ذكر أقسامه، الإنشاء: وهو ما لا يحتمل الصدق ولا الكذب، ويدخل فيه الأمر والنهي والتمني والاستفهام والعرض، وذكرها المؤلف، واستخبار: وهو الاستفهام نحو: هل قام زيد؟ فيجاب بـ(نعم) أو (لا). وينقسم أيضاً إلى تمنٍّ: وهو طلب ما لا طمع فيه:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
|
|
................................... |
ليت أمس يرجع، أو يعود: ما لا طمع فيه، أو فيه طمع، لكنه مع عسرٍ شديد، كقول منقطع الرجاء الذي لا يثبت على الراحلة ولا يستطيع أن يسافر مثلاً: ليتني أحج.
وعرض: وهو الطلب برفق وهدوء، وهو المصدَّر بـ(ألَا): ألا تنزل عندنا، والعرض يناسب بعض الناس الذين يهابون، فإذا كنت تهاب شخصاً ولا تستطيع أن تأمره أو تصر على أمره بشيءٍ -ولو على جهة الإكرام- ومثله -بل من باب الأدب- إذا أراد الطالب تنبيه شيخٍ على خطأٍ وقع فيه، يأتي بصيغة العرض: ألا يكون المعنى كذا؟ أو يقول: ما رأيكم بكذا، أو: ألا يكون مراد فلان بكذا كذا، وهكذا.
ومثله: المحتضر حينما يعرض عليه تعرض عليه كلمة التوحيد؛ لأنه يخشى منه أن ينطق بكلمةٍ يخرج بها من دينه وهو في وضعٍ لا يناسب الشدة في الكلام، فيعرض عليه الكلام عرضاً برفق: يا فلان ألا تقول: لا إله إلا الله -برفق ولين- قل: لا إله إلا الله.
وبالمناسبة أبو زرعة الرازي -الذي أشرنا إليه قريباً- لما حضرته الوفاة هابوا أن يلقّنوه وهو في حال النزع -رحمة الله عليه- هابوا أن يلقّنوه، فاجتهد بعضهم فجاء بحديث التلقين وقلب إسناده، قلب الإسناد والشيخ في النزع- رحمة الله عليه- فصحح الإسناد وقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله..)) ففاضت روحه -رحمة الله عليه- فمثل هؤلاء وفي مثل هذا الظرف يهاب الإنسان ولا يتكلم بكلامٍ قوي يخشى منه الضرر. وقَسَم: وهو الحلف نحو: والله لأفعلن كذا.
يقول الناظم:
وقسم الكلام للإخبار
|
|
والأمر والنهي والاستخبار
|
هنا قال: والكلام ينقسم إلى أمرٍ ونهي وخبر واستخبار وينقسم أيضاً: لماذا لم يسق الكلام مساقاً واحداً فقال: والكلام ينقسم إلى أمرٍ ونهي وخبر واستخبار وتمنٍّ وعرض وقسم؟ ثم قال: وينقسم أيضاً؟
يقول شارح النظم، من شارح النظم؟
عبد الحميد قُدس يقول: إنما أعاد الفعل بقوله:
ثم الكلام ثانياً قد انقسم
|
|
إلـى تمنٍّ.....................الخ.
|
مع أن ما قبله وما بعده تقسيم واحد، فكان ينبغي أن يقتصر على قوله: وإلى تمنّ.. الخ؛ إشارةً إلى أن منهم من اقتصر على تقسيمه إلى ما تقدم، وأنه يزاد عليه انقسامه أيضاً إلى هذه المذكورات، يعني بعضهم حصر القسمة في الأربعة الأولى، فيؤتى بالمحصور، ثم يزاد عليه ما ينبغي زيادته.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: نعم اقرأ.
ومن وجهٍ آخر ينقسم إلى حقيقة ومجاز، فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه، وقيل: ما استعمل في ما اصطلح عليه من المخاطبة، والمجاز ما تجوز عن موضوعه، والحقيقة إما لغوية وإما شرعية وإما عرفية، والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة، فالمجاز بالزيادة مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [(11) سورة الشورى]، والمجاز بالنقصان مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [(82) سورة يوسف]، والمجاز بالنقل كالغائط فيما يخرج من الإنسان، والمجاز بالاستعارة كقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [(77) سورة الكهف].
يقول -رحمه الله تعالى-:
ومن وجهٍ آخر ينقسم الكلام إلى حقيقةٍ ومجاز: ثم عرف الحقيقة بتعريفين، فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه، وقيل: ما استعمل في ما اصطلح عليه من المخاطِبة أو المخاطَبة: يجوز هذا وذاك، على ما سيأتي.
والمجاز ما تجوّز به عن موضوعه: فلما ذكر أقسام الكلام باعتبار دلالته قسم الكلام باعتبار استعماله، وذكر أن الكلام من هذه الحيثية ينقسم إلى قسمين: حقيقة ومجاز.
واختلف العلماء في تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، فأثبته بعض العلماء واشتهر وانتشر عند كثير من المتأخرين ولم يفرقوا في ذلك بين النصوص الشرعية وغيرها من الكلام العادي، ونفاه عن القرآن قوم وأثبتوه فيما عدا القرآن كابن خويز منداد من المالكية وابن القاص من الشافعية، وهو قول أهل الظاهر، يقولون بالمجاز في غير القرآن، وأما القرآن فلا مجاز فيه.
ونفاه مطلقاً في القرآن والسنة وفي الكلام العادي آخرون كأبي إسحاق الاسفراييني وأبي علي الفارسي، ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وسمى المجاز طاغوت.
ورد الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه- على من يقول بالمجاز بكلام طويل في مذكرته الأصولية وفي رسالةٍ خاصة في ذلك.
وبيّن شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- أن هذا التقسيم مخترع حادث بعد القرون المفضلة؛ لم يتكلم به أحد من الصحابة والتابعين، ولا أحد من الأئمة ولا علماء اللغة، ما تكلم به أحد.
هل نقول هذا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح؛ كغيره من التقسيمات الموجودة في العلوم الأخرى؟
الظاهر أن القول بالمجاز إنما هو..، إنما أحدثه المبتدعة؛ ليتوصلوا به إلى نفي صفات الله -عز وجل- بادعاء أنها مجاز.
من أقوى ما يستدل به على إنكار المجاز أنه يجوز نفيه، وليس في النصوص ما يجوز نفيه، أيش معنى هذا الكلام؟ المجاز يجوز نفيه، وليس في النصوص الشرعية ما يجوز نفيه؟
إذا جاء رجل شجاع فقال واحد من الناس: جاء أسد، لقائلٍ أن يقول: كذبت، ما جاء أسد، أليس له ذلك؟
نعم، ما جاء أسد؛ لأن حقيقة الأسد حيوان مفترس، فإذا كان يجوز نفيه فليس في النصوص ما يجوز نفيه، لكنهم أطلقوا الأسد على الشجاع، فهل نقول: إنه مجاز؟ وهذا في غير النصوص ونلتزم بلازمه أنه وإن جاز نفيه نقول به كما يقول بعضهم، أو نقول: إنه استعمال حقيقي، الأسد كما يطلق على الحيوان المفترس يطلق على الرجل الشجاع؟
على كل حال الكلام في المجاز فصله ابن القيم -رحمه الله تعالى- في (الصواعق) وشدد في النكير على من أثبته، ولا شك أنه باب ولج منه المبتدعة فأنكروا صفات الله -عز وجل- بسببه، ولا شك أن الأثر المترتب عليه شديد.
بعد ذلك عرف الحقيقة بأنها ما بقي في الاستعمال على موضوعه: ما بقي: أي اللفظ الباقي في الاستعمال على موضوعه، أي الذي وضع له، وضعه له المتخاطبون -أهل اللغة- على موضوعه اللغوي كما هو المتبادر من اللفظ -من ذكر الوضع-.
وقيل في تعريف الحقيقة: ما استعمل في ما اصطلح عليه من المخاطبة: وإن لم يبق على موضوعه كالصلاة بالهيئة المخصوصة المعروفة لدى المسلمين، فإنه لم يبقَ على موضوعه اللغوي وهو الدعاء، والدابة لذات الأربع كالجمل والحمار وغيرهما فإنه لم يبق على موضوعه -وهو كل ما يدب على الأرض- عندنا الحقائق كم؟
ثلاث، الحقائق ثلاث: لغوية وشرعية وعرفية، على التعريف الأول الحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه: الحقيقة واحدة ولا تتعدد، وما عداها كله من قبيل المجاز، وعلى التعريف الثاني: ما استعمل في ما اصطلح عليه من المخاطبة: تتسع دائرة الحقائق فتكون ثلاثاً، فإذا قيل: جاء أسد، فبدلاً من أن يقال: هذا مجاز، يقال: اصطلح المخاطبة عليه، فيكون حقيقة عرفية.
الصلاة المعروفة لدى المسلمين، المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم ذات الركوع والسجود: هذه حقيقة، لكنها حقيقة شرعية، وإن كانت الحقيقة اللغوية للصلاة الدعاء، والفرق بين الحقائق اللغوية مع الشرعية يختلف أهل العلم في ذلك، هل هي من باب النقل التام للكلمة من حقيقتها اللغوية إلى حقيقتها الشرعية، أو نقول: إنها هي الحقيقة اللغوية وزيد عليها؟ هل نقول: إن حقيقة الصلاة لغةً غير حقيقة الصلاة شرعاً، أو نقول: إن الحقيقة الشرعية هي الحقيقة اللغوية وزاد عليها الشرع أشياء؟ وقل مثلها: الزكاة والصيام والحج والإيمان وغير ذلك من الحقائق الشرعية؟ نعم؟
طالب:.......
يعني زيد على الحقيقة اللغوية، وكأن هذا ما يفهِمه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
على التعريف الأول لا يدخل في الحقيقة سوى اللغوية، وعلى التعريف الثاني تدخل جميع الحقائق الثلاث، اللغوية والشرعية والعرفية.
قوله: من المخاطبة: وهو بكسر الطاء، أي الجماعة المتخاطبة بذلك اللفظ، ويجوز فتح الطاء –المخاطَبة- وهو التخاطب؛ لا مانع أن يقول: بين المخاطَبة، أيش؟
ما استعمل عليه..، أو ما استعمل في ما اصطلح عليه من المخاطبة: يعني من التخاطب ولا مانع من ذلك. ثم عرف المجاز بأنه: ما تجوّز: أي تعدي به عن موضوعه، وهذا التعريف للمجاز يقابل التعريف الأول للحقيقة، وعلى الثاني يكون معنى المجاز: ما استعمل في غير ما اصطلح عليه من المخاطِبة.
ثم ذكر أقسام الحقيقة الثلاث: والحقيقة إما لغوية وإما شرعية وإما عرفية: هذا يمشي على تعريفه للحقيقة؟ يمشي وإلا ما يمشي؟
هذا التعريف الثاني الذي صدره بصيغة التمريض؛ لأنه قال: والحقيقة إما لغوية وإما شرعية وإما عرفية: فهذا جارٍ على التعريف الثاني، ومعلوم أن أهل العلم إذا جزموا بشيء ثم أتبعوه بقولٍ آخر ممرَّض -يعني مصدر بصيغة التمريض- أن اختيارهم ما جزموا به، اختيارهم ما جزموا به، وعلى هذا الذي يختاره إمام الحرمين في تعريف الحقيقة هو الأول؛ لأنه صدر الثاني بصيغة التمريض قيل، فكيف يقول: والحقيقة إما لغوية وإما شرعية وإما عرفية وهو مناسب للثاني المُصدَّر بصيغة التمريض؟
لأنه على التعريف الأول تنحصر الحقيقة باللغوية فقط، وعلى التعريف الثاني يتسع أمر الحقائق وتتنوع إلى ثلاثة أنواع.
الحقيقة إما لغوية وإما شرعية وإما عرفية: والحقيقة اللغوية: ما وضعه أهل اللغة كالأسد للحيوان المفترس، والشرعية: التي وضعها الشارع كالصلاة -العبادة المخصوصة- والعرفية: ما وضعها أهل العرف سواء كان العرف عاماً أو خاصاً، والعرف العام: ما تعارف عيه الناس على جميع مستوياتهم وطبقاتهم كالدابة لذات الأربع، وهي في أصل اللغة -حقيقة الدابة اللغوية-: كل ما يدب على وجه الأرض، حقيقتها العرفية في عرف عامة الناس ذوات الأربع، ومثله ما تعارف عليه أهل العرف الخاص -ما اصطلح عليه أهل العرف الخاص- هذه حقائق، كالفاعل عند النحاة، الفاعل عند النحاة حقيقة عرفية، الباب عند أهل العلم -في الكتب - يقولون باب؛ الحقيقة الأصلية للباب اللغوية: ما يدخل ويخرج منه، مثل هذا الباب وذلك الباب وغيرها من الأبواب، هذه حقيقة الباب، ما يدخل وما يخرج منه، لكن الباب في كتب أهل العلم حقيقة عرفية، نعم، لو تقول لشخص عامي: اقرأ الباب، يعرف يقرأ الباب؟ أيش يبى يسوي؟ ماذا يصنع؟ يظنك تقول: اقرع الباب؛ ما يعرف أن هناك باب غير الباب المعروف، لكن هذا عرف عند أهل العلم، وهذا كما تقدم جارٍ على التعريف الثاني للحقيقة، وأما على التعريف الأول فالحقيقة خاصة باللغوية.
وثالثاً إلى مجازٍ وإلى
|
|
حقيقة وحدها ما استعملا
|
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- أنواع المجاز فقال: والمجاز إما أن يكون بزيادةٍ أو نقصان أو نقل أو استعارة: ثم مثّل للزيادة بقوله -جل وعلا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [(11) سورة الشورى]، والنقصان مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [(82) سورة يوسف]، والمجاز بالنقل: كالغائط فيما يخرج من الإنسان، والمجاز بالاستعارة قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [(77) سورة الكهف].
لما عرف الحقيقة والمجاز وذكر أقسام الحقيقة، أردف ذلك بأنواع المجاز، وذكر أربعةً من أنواعه وهي: المجاز بالزيادة، ومثل له بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}: وزعموا أن الكاف هنا زائدة، ومنهم من يتأدب مع القرآن المصون عن الزيادة والنقصان فيقول: صلة، أيش معنى صلة؟
هي زائدة، يعني من حيث الإعراب لا محل لها كصلة الموصول، يشبهون هذه الأمور الزائدة بصلة الموصول الذي لا محل له من الإعراب، زعموا أن الكاف زائدة؛ إذ لو لم تكن زائدة لكانت بمعنى مثل، فيكون التقدير ليس مثل مثله شيئاً، يقولون: وهذا باطل؛ لأنه يلزم منه إثبات المثل لله -عز وجل-؛ إذا قيل: ليس مثل مثله: أثبتنا مثل المثل -على كلامهم- والصحيح أنها ليست بزائدة وإنما ذكرت للتأكيد، فإذا انتفى مثل المثل فانتفاء المثل من باب أولى.
إذا قلت: زيد ما لمثله مثيل، من باب أولى..، مثله الذي يشبهه من بعض الوجوه ليس له مثيل، إذن مثله المطابق له من كل وجه من باب أولى.
وشخص رأى مع آخر ثوباً فقال له: اشتر لي مثل هذا الثوب، فاشترى له الثوب نفسه، فرده، قال: أنا قلت لك: اشتر لي مثل هذا الثوب، ما قلت لك اشتر لي هذا الثوب، فتخاصما عند شريح، فألزمه بأخذ الثوب، وقال: ليس شيء أشبه بالشيء من الشيء نفسه.
وهنا نقول: الصحيح أنها ليست بزائدة، وإنما ذكرت للتأكيد، فإذا انتفى مثل المثل فانتفاء المثل من باب أولى؛ مبالغة في نفي المثل.
ثم مثَّل للزيادة بالنقصان بقوله -جل وعلا-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، قالوا: المراد أهل القرية؛ إذ القرية لا يمكن سؤالها، والصحيح أنه لا حذف؛ فالمراد بالقرية الأبنية بأهلها، القرية: الأبنية -العمران- بأهله، ولا يطلق على العمران مفرداً قرية، فالأهل جزء من القرية، وعلى افتراض أن المراد بالقرية الأبنية سؤالها ممكن، سؤال القرية ذاتها ممكن، كيف؟
فيكون جوابها بلسان الحال؛ يعني ألا يمكن أن تخاطب داراً خربة فتقول: أين أهلك؟ أين أربابك؟ أين من بناك؟ أين من عمرك؟ نعم، ألا يمكن؟ ألم يسأل علي -رضي الله عنه- القبور؟! والله المستعان.
على كل حال الجواب في مثل هذا يكون بلسان الحال وإن لم يكن بلسان المقال.
ثم مثّل للمجاز بالنقل بكلمة: الغائط، إذ الأصل في الكلمة أنها وضعت للمكان المطمئن فيقصده من أراد قضاء الحاجة؛ ليستتر فيه، فأطلقت على الخارج نفسه من الإنسان، والصحيح أن الغائط حقيقة عرفية، وحينئذٍ لا مجاز.
والمجاز بالاستعارة مثّل له بقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ}، حيث أضاف الإرادة إلى الجدار فشبّه ميله إلى السقوط، شبه ميله إلى السقوط بإرادة السقوط، التي هي من صفات الحي دون الجماد، والمجاز المبني على التشبيه يسمى استعارة، والصحيح أنه ليس من المجاز؛ فإرادة كل شيءٍ بحسبه، إرادة كل شيء بحسبه، إرادة المخلوق تختلف عن إرادة الجماد، كما أن إرادة الخالق تختلف عن إرادة المخلوق، إرادة كل شيءٍ بحسبه.
ومعلوم أن بحث مثل هذه الأشياء في الحقيقة والمجاز مجالها ومحلها كتب البلاغة في علم البيان، وتذكر في كتب الأصول؛ لأنها تبحث في دلالات الألفاظ، وهي من أهم المباحث في الأصول.
على كل حال المسألة في الحقيقة والمجاز مسألة طويلة الذيول، والخلاف فيها كبير بين أهل العلم، والذي عليه جمع من أهل التحقيق نفي المجاز، وممن ينفي المجاز شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
من أراد الاطلاع على المسألة بخصها فليرجع إلى (الصواعق) لابن القيم، ورسالة للشيخ الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في منع جواز المجاز، وله أيضاً إجابة عن هذه المسائل أو هذه الأمثلة بخصوصها، له إجابة عنها في مذكرته الأصولية، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فمثل هذا السؤال: أنا بالنسبة لي شخصياً لا أرى المشاركة، ولو لم يكن فيها إلا التصوير؛ فالتصوير بجميع أنواعه وأشكاله داخل في نصوص الوعيد التي جاءت في التصوير، ومثل هذا السؤال ينبغي أن يطرح على الشيخ حفظه الله.
وهنا الذي ذكرناه وهو في أكثر المصادر: لو أنصف الدهر، ومعروف أن الشعراء ينسبون إلى الدهر الشيء الكثير من هذا، ودواوينهم مشحونة بمثل هذه المخالفة، لكن كأن هذا تعديل للبيت من قبل بعض أهل التحري الذي لا يريد أن ينطق ولو ناقل ولو آثر من غيره بالمخالفة، كأن هذا تعديل وإلا فالأصل: لو أنصف الدهر، وهذه المخالفة نبهنا عليها سابقاً، ولا يقول قائل إن هذه مقالة حمار وهو غير مكلف، كما نبهنا سابقا.
أيش أبو السعود هذه؟ مراقي السعود، هذا نظم في أصول الفقه مشهور عند المالكية وانتشر عندنا أخيراً، تبنّاه بعض الإخوان الآخذين عن بعض الشناقطة، وهو نظم جيد وشامل يعتني به الشيخ الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه- في مصنفاته، وهو الذي شهره بيننا، وإلا ما كان معروفاً على صعوبةٍ في أبياته، أبياته ليست سهلة ميسرة، لكنه نظم طيب، الذي تسعفه الحافظ بحفظه لا بأس جيد.
الرازي نسبة إلى الري، نسبة إلى الري –بلد- كل من انتسب إلى هذا البلد قال الرازي، فالإمام أبو حاتم الرازي، وأبو زرعة الرازي، وابن أبي حاتم الرازي، هؤلاء أئمة من كبار أهل الحديث ومن كبار أهل السنة والجماعة، أبو عبد الله بن الخطيب الرازي هو الأشعري المعروف المتوفى سنة ست وستمائة، أبو بكر الراوي المتطبب المعروف الفيلسوف، نسأل الله العافية، نعوذ بالله من البدع وأهلها.
الأصل أن الخلاف شرٌّ؛ {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [(118-119) سورة هود]، هذا الأصل، وهذا المقصود به الخلاف والاختلاف فيما لا يسوغ فيه الاختلاف، أما إذا عمل كل شخص بما يدين الله به ويعتقده حقاً على حسب اجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد، أو تقليد من تبرأ ذمته بتقليده إن لم يكن من أهل الاجتهاد فلا شك أن الحجر على العقول وإلزامهم بقولٍ واحد فيه تضييق، وفتح باب الاجتهاد والمجال لمجتهدي الأمة هذا فيه خير كثير -إن شاء الله تعالى-؛ لأن المجتهد مأجور سواء أصاب أو لم يصب، إن أصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، فهو من هذه الحيثية رحمة للأمة، بحيث لم يضيق الله عليها في فهومها ويلزمها بقولٍ واحد.
الاعتماد على الأسباب قدح في التوحيد، كون الإنسان يعتمد على السبب ولا ينظر إلى المسبِّب لا شك أنه قدح ونقص في التوحيد، كما أن إلغاء الأسباب وإهمال الأسباب نقص في العقل.
أنت تقول: اتقيت البرد بهذه الملابس، أليس هذا من إضافة النعمة للسبب، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [(83) سورة النحل]؟
ألا تقول: أنبت الربيع، نعم، أنبت الربيع، {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [(61) سورة الأنعام]، فقد ينسب الفعل إلى السبب، لكن مع الاعتراف بالمسبب، مات فلان، هو مات أو الله -سبحانه وتعالى- هو الذي توفاه؟ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ} [(42) سورة الزمر]، ومع ذلكم قال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}، فقد ينسب الفعل إلى السبب، لكن مع الاعتراف بالمسبب.
مسألة إفادة خبر الواحد الظن وتقريره وبسطه، تقرير هذه المسألة وبسطها وما يرد عليها وتنظيرها، والاحتجاج لها ومن قال بها ومن خالف، مبسوط هذا كله في شرح النخبة، في آخر شرح من شروح النخبة ويصدر قريباً، وسوف تقوم الراية بتوزيعه إن شاء الله تعالى.
أما بذل السلام تقدم الكلام فيه، فإذا غلب على الظن أن الشخص الذي يسلم عليه مسلم، فلا يحرم الإنسان نفسه، وفي بلاد المسلمين الغالب أن الشخص الذي تمر به -في الغالب- أنه مسلم، لكن لو حصل عندك شك في كونه مسلم أو غير مسلم حينئذٍ توقف؛ لأنه لا يجوز إلقاء السلام على الكافر، أما رد السلام فلا يجوز بحال تركه؛ لأن رده واجب، إذا شككت في إسلامه وعدم إسلامه، إن غلب على ظنك أنه مسلم قلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وإن شككت في إسلامه فقل: وعليكم، والله المستعان.
هذا يحتاج إلى سؤال؟! مثل هذا يحتاج إلى سؤال؟! الشيخ ابن عثيمين -رحمة الله عليه- هو الذي ذلل العلم لطلابه، وهو الذي يسره لمريديه، من يجرؤ من طلاب العلم بمفرده -أعني المبتدئين- على قراءة زاد المستنقع بمفرده لولا شرح الشيخ -رحمة الله عليه- وتسهيله وتيسيره وتبسيطه، فالشيخ -رحمة الله عليه- ذلل العلم وسهله لطلابه ومريديه، فعلى طالب العلم أن يعتني بكتب الشيخ وكتب غيره من المحققين من هذه البلاد وغيرها من المتقدمين والمتأخرين.
على كل حال جماعة الإخوان جماعة برزت في مصر وصار لها فروع في كثيرٍ من بلدان المسلمين وصار لها انتشار، وعليهم ملاحظات؛ لأنهم لا يعتنون بالتفريق بين المحقق وغيره، يهمهم الانطواء تحت لواءٍ واحد، وعلى أن تجمعهم كلمة (الإسلام)، وما عدا ذلك مما يتعلق بالعلم والعمل في الفروع والأصول هذا لا يعنون به كثيراً، فتجد السني ينتسب إليها، تجد الأشعري ينتسب إليها، تجد المعتزلي والشيعي وغيرهم ينتسبون إليها؛ فهم يجمعون أكبر قدر ممكن يمكن أن يعينهم على ما يريدون تحقيقه، والله المستعان، وأما أهل السنة والجماعة فهم ينضوون تحت معتقدٍ واحد، لا يختلفون فيه ومن خالفهم عن معتقدهم فهو مبتدع لا يدخل تحت مسمى أهل السنة والجماعة.
المقصود أن مسألة ترك السلام على المسلم بحججٍ واهية هذا لا شك أنه من تلبيس الشيطان، وهو حرمان عظيم؛ لبس الشيطان على كثيرٍ من الناس بحيث لا يبدؤون غيرهم بالسلام فيحرمون الأجر، ولا يدخل المسلمون الجنة حتى يتحابوا، ومن أعظم ما ينشر المودة والمحبة بذل السلام، فالمسلم يسلم عليه مهما تلبس به من المخالفات التي لا تخرجه عن دائرة الإسلام، نعم إذا ترتب على هجره وترك السلام عليه مصلحة –الزجر مثلاً- وردعه عما هو متلبس به لا بأس، لكن لنعلم أن الهجر علاج، إن كان ينفع وإلا فالخلطة والنصيحة وبذلها ومحضها لأخيك المسلم هو المتعين، وإذا قلت: السلام عليكم أدركت عشر حسنات.
وبعض الإخوان من الشباب عنده في نفسه أنه قد حفظ جميع الثغور -ثغور الإسلام- وأن من عداه لا يفهم شيئاً أو يدرك شيئاً، أو..، لا، أنت عندك أخطاء كثيرة، وغيرك عنده أخطاء، وكل الناس خطاء، فبعض الناس بتركه السلام على أخيه يُشم منه أنه يدعي الكمال لنفسه، فعلى المسلم أن يتواضع لأخيه، وأن يبدأه بالسلام؛ ((وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)).
تقرأ مختصراً في كل فن ثم ترتقي إلى ما بعده من المختصرات اللائفة بالمتوسطين وهكذا على الجادة المعروفة عند أهل العلم.
أولاً الرازي أشعري وليس بمعتزلي، ومن أشد الناس على المعتزلة -وإن كان يوافقهم في كثير من أمور العقيدة- هو أشعري من جهة، وجبري في باب القضاء والقدر، وعليه ملاحظات وطوام، وتفسيره لا ينبغي لطالب العلم المتوسط -فضلاً عن المبتدئ- أن يقرأ فيه؛ لأنه مشحون بالشبه، مع ضعف الرد على هذه الشبه، وهو من أشد الناس في بدعته، وتكلم في أهل السنة بكلامٍ قبيح، ومع ذلكم لما سئل شيخ الإسلام عنه وعن غيره من رؤوس المبتدعة قال: وأما أبو عبد الله الرازي فكثير من الناس يطعن في قصده، والذي أراه أنه ينثر ما يراه حقاً.
وليس معنى هذا أننا نقلل من الشر الذي تضمنته كتب الرازي، لا، لكن لا بد من الاعتدال والإنصاف، لا بد من الاعتدال والإنصاف، ولذا لا ينصح طالب العلم أن يقرأ في تفسيره، ويقول عن كتاب التوحيد لابن خزيمة: (كتاب الشرك)، ورمى إمام الأئمة ابن خزيمة بعظائم الأمور، تهجّم على غيره من أئمة السنة، لكن يبقى أن الميزان له كفتان، والله المستعان، وكلام شيخ الإسلام مثل ما سمعتم، لكن على طالب العلم أن يجتنب مثل هذه الكتب المشتملة على البدعة التي تقرر البدع وتذب عنها وتورث الشبه التي قد لا يستطيع الإنسان اجتثاثها.
أما تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد فهو كغيره من الاصطلاحات، الصحيح والضعيف والحسن، بالنسبة لعلوم الحديث، والعام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم بالنسبة لأصول الفقه، وكذلكم ما يتعلق بقواعد التفسير وعلوم القرآن، المصطلحات بهذه التسميات كلها حادثة، لا توجد في عصر السلف من الصحابة والتابعين، أما كونه منسوب إلى المعتزلة فشيخ الإسلام يقول به، ويقسم الأخبار إلى متواتر وآحاد، ويقسم المتواتر إلى لفظي ومعنوي، ويمثل للمتواتر اللفظي بحديث: ((من كذب..)) كما يمثل به غيره من أهل العلم، ويمثل للتواتر المعنوي في كل كتابٍ من كتبه بما يناسب المقام، مثّل للتواتر المعنوي في منهاج السنة بفضائل أبي بكرٍ وعمر، وفي كل كتابٍ من كتبه يمثل بما يليق بالمقام -رحمة الله عليه- لا شك أن هذا اصطلاح لا يوجد عند الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، لكنه مجرد اصطلاح يوضح ويقرب للطالب المشهور والعزيز و..، كلها لست موجودة عند سلف الأمة.
المقصود أن هذه الاصطلاحات وإن وجدت أسماؤها فحقائقها موجودة؛ إذ لا يختلف اثنان أن الأخبار متفاوتة في دلالاتها، والرواة متفاوتون في الثقة والضبط والإتقان والحفظ والعدالة، وتبعاً لتفاوتهم في ذلك تتفاوت أخبارهم، فلا نقول: إن خبر زيد يساوي مائة بالمائة لخبر عمرو؛ الأخبار متفاوتة، وهذا التفاوت يتطلب أسماء لهذه الأخبار المتفاوتة، واصطلح أهل العلم على هذه التسمية ولا مشاحة في الاصطلاح.
اللوازم التي يلتزمها المبتدعة لهذا التقسيم لا نلتزم بها، ولذا الشيخ أحمد شاكر لما قسم هذا التقسيم وأقره قال بعد ذلك: لا يغرنك ما يقوله المبتدعة من لوازم لهذا التقسيم، هم يقصدون بخبر الواحد وأنه لا يفيد إلا الظن أنه لا يحتج به في العقائد، ونحن نقول: لا فرق بين العقائد والأحكام، ما تثبت به الأحكام تثبت به العقائد والكل شرع، وهذا مبسوط في شرح النخبة كما ذكرنا آنفاً.
نحن نشكو من ضيق الوقت على الكتاب، وإلا في النفس أشياء تتعلق بالطلب وطالب العلم وأدب طالب العلم وما ينبغي أن يتحلى به من أخلاق، لكن الوقت لا يسعف، والله المستعان.
عرفنا أن جماعة الإخوان لا يفرقون بين أفراد هذه الجماعة، وليس لهم شرط في المعتقد، يعني لم يعتمدوا على أهل السنة والجماعة اعتماداً كلياً، بل فيهم من ينتسب إلى أهل السنة والجماعة، وفيهم من ينتسب إلى الأشاعرة، وفيهم من ينتسب إلى المعتزلة، وفيهم من طوائف البدع من فيهم، فجماعة الإخوان أعم من أن يكونوا مبتدعة أو أهل سنة، وكل شخص يحكم عليه بمفرده، فهي جماعة تنظيمية،وإن كنا لا نؤيد مثل هذه التنظيمات، لكنه تنظيم وجد وانضوى تحت هذا التنظيم من ينتسب إلى مذهب أهل السنة، ولا يخرج عن كونه من أهل السنة لانتمائه إلى هذه الجماعة؛ لأنه ليس لها اسم معين، أو ضابط يضبطهم، هم لا يلزمون أحد بمعتقد معين، لا يقولون: أنت سني لا بد أن تعتنق مذهب الأشاعرة وتدخل معنا، أو تدخل مذهب المعتزلة وتدخل معنا، هي مجرد جماعة تنظيمية تجمع السني والمبتدع كما ذكرنا، لكن على الإنسان لا سيما في مثل هذه الأوقات التي توالت فيها الفتن والمحن أن يعتصم بالكتاب والسنة، وأن يلتف حول أهل العلم المحققين المعروفين بالعلم والعمل والورع والتقوى، ويترك عنه هذه الجماعات، لا جماعة إخوان، لا جماعة تبليغ، لا جماعة يمين ولا شمال، يعتصم بالكتاب والسنة؛ ففيهما المخرج من هذه الفتن الباطنة والظاهرة، وبعض الناس قد لا يشهد في واقعه فتن؛ قد يكون مفتون في قلبه، المفتون في الرجل، المفتون في أهله وماله، فتنة الرجل في جاره، الفتن كثيرة منها ما ظهر ومنها ما بطن، فنعوذ بالله من الفتن كلها صغيرها وكبيرها خفيها وظاهرها، والله المستعان.