معلومٌ لدى كل مسلم أن «صحيح البخاري» هو أصحُّ كتاب بعد كتاب الله تعالى.
وهو كما قال الحافظ المِزِّيُّ رحمه الله: ( من أحسنها تصنيفاً ، وأجودها تأليفاً ، وأكثرها صواباً ، وأقلها خطأً ، وأعمِّها نفعاً ، وأعودها فائدةً ، وأعظمها بركةً ، وأيسرها مؤونةً ، وأحسنها قَبولاً عند الموافِق والمخالفِ ، وأجلِّها موقعاً عند الخاصَّة والعامَّة )، فهو أحد كتب الإسلام المعتمدة، وقد اعتنى الأئمة على مرِّ العصور بخدمته ؛ شرحاً واختصاراً وغير ذلك، فهو أصح ما دوِّن بعد كتاب الله عزَّ وجلَّ ؛ فهو مبارك عظيم النفع حساً ومعنىً ؛ كما نقل الإمام الزبيدي في مقدمته : ( قال لي من لقيته من القضاة الذين كان لهم المعرفة والرحلة ، عمَّن لقي من السادة المقرِّ لهم بالفضل : إنَّ كتاب البخاريِّ ما قرىء في وقت شدةٍ إلا فرجت ، ولا ركب في مركب فغرقت قطٌّ).
وقد كان الإمام الحافظ العلاَّمة الزبيدي الشَّرَجي -رحمه الله- ممن عني بكتاب "الصحيح" للإمام البخاري؛ فجرَّد أحاديث « الجامع الصحيح » من غير تكرارٍ ، وجعلها محذوفة الأسانيد ؛ ليسهل حفظ الأحاديث من غير تعبٍ، وقد أسماه: « التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح »، وشتهر بعد ذلك بـ « مختصر الزبيدي »،وقد أوضح سبب تأليفه لهذا المختصر بقوله : ( إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب ، وإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أيِّ باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهد وطول فتشٍ ، ومقصود البخاريِّ رحمه الله بذلك كثرة طرق الحديث وشهرته ، ومقصودنا هنا أخذ أصل الحديث ؛ لكونه قد علم أن جميع ما فيه صحيح )،كل ذلك وفق منهجٍ علميٍّ بديعٍ ، غزيرِ الدِّلالات ، كثيرِ الفوائد والصِّلات؛ فرحمه الله رحمة واسعة .
أَحْمد بن أَحْمد بن عبد اللَّطِيف بن أبي بكر الْمُحدث الْأَصِيل الزين حفيد السراج الشرجي الزبيدِيّ الْيَمَانِيّ الْحَنَفِيّ أحد أَعْيَان الْحَنَفِيَّة. ولد فِي سنة إِحْدَى عشرَة وَثَمَانمِائَة، وَقَالَ حَمْزَة النَّاشِرِيّ: سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا سمع من لَفظه، وَأَنه فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَانِي عشري رَمَضَان بزبيد، وَمَات أَبوهُ وَهُوَ حمل فَلِذَا سمى باسمه، والمسمى لَهُ هُوَ الشَّيْخ أَحْمد بن أبي بكر الرداد، وَأَبوهُ وجده مِمَّن أَخذ عَن شَيخنَا ، وَهُوَ الَّذِي جمع مَا وقف عَلَيْهِ من نظم ابْن الْمُقْرِئ فِي مجلدين بل لَهُ أَيْضا طَبَقَات الْخَواص الصلحاء من أهل الْيمن خَاصَّة، وَسمع اتِّفَاقًا مَعَ أَخِيه على النفيس الْعلوِي والتقي الفاسي، وبنفسه على ابْن الْجَزرِي سمع عَلَيْهِ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه ومسند الشَّافِعِي وَالْعدة والحصن كِلَاهُمَا لَهُ، واليسير على أبي الْفَتْح المراغي وَكَذَا سمع على الزين البرشكي عَام وُصُوله صُحْبَة ابْن الْجَزرِي الْيمن فِي سنة تسع وَعشْرين الشفا والموطأ والعمدة وتصنيفه طرد المكافحة عَن سَنَد المصافحة،و أَخذ عَنهُ بعض الطّلبَة بزببيد فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة وَقَالَ الْعَفِيف النَّاشِرِيّ أَنه صحب الْفَقِيه الصَّالح الشّرف أَبَا الْقَاسِم بن أبي بكر العسلقي بِضَم أَوله وثالثه بَينهمَا مُهْملَة سَاكِنة نِسْبَة إِلَى قَبيلَة يُقَال لَهَا العسالق من الْيمن وحجا وزارا في سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة وبصحبته انْتفع، وَقَالَ حَمْزَة النَّاشِرِيّ أَنه سمع من سُلَيْمَان الْعلوِي، وَابْن الْخياط، وَابْن الْجَزرِي، ووغيرهم، وتفقه فِي مذْهبه وَكَانَ أديبا شَاعِرًا لَهُ مؤلفات مِنْهَا: طَبَقَات الْخَواص، ومختصر صَحِيح البُخَارِيّ، ونزهة الأحباب فِي مُجَلد كَبِير يتَضَمَّن أَشْيَاء كَثِيرَة من أشعار ونوادر وملح وحكايات وفوائد، توفي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثمانمائة وَنزل النَّاس فِي زبيد بِمَوْتِهِ رَحمَه الله تعالى.
-------------------------------------------------
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي، (1/ 214).