ميراث الأنبياء

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،

أما بعد:

فالواضح من عنوان الدرس أن المراد والمقصود به الحديث عن العلم، وأهل العلم وطلب العلم وكتب العلم بدءاً من الوحيين وما يخدمهما، لكن قبل ذلك نبدأ بمقدمة تتعلق بالميراث، وما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو أن الأنبياء لا يورثون ((لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) هذا المقصود من الدرس هو ما أشير إليه في هذا الحديث، ويرد عليه سؤال نبي الله زكريا -عليه السلام- من قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي.... فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي} [(5 - 6) سورة مريم] ما المراد بالإرث هنا؟ هل هو الإرث المشار إليه بقوله -عليه الصلاة والسلام- ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة)) فنحتاج إلى التوفيق بين الآية والحديث؟ أو أن المراد به إرث النبوة والعلم على ما قاله جماهير أهل العلم؟ فنذكر ما ذكره البخاري، وما قاله بعض الشراح، وبعض الحديث مما نقلته عن البخاري في صميم الموضوع، وبعضه مما يضطر إليه، ويحتاج إليه طالب العلم، وننقل من كلام أهل العلم ما يبين مراد البخاري -رحمه الله تعالى- ثم ننقل من التفاسير ما قاله أهل العلم في مراد زكريا في قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [(6) سورة مريم] ثم نختم بكلام حاسم للإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في (مفتاح دار السعادة) ثم بعد ذلك الكلام الذي تكرر كثيراً عن العلم وأهل العلم، وطلاب العلم، وكتب العلم، وهذا فيه -ولله الحمد- عنا وعن غيرنا أشرطة كثيرة في هذا الموضوع، في كيفية التحصيل، وفي ما يعين عليه، وفي عوائقه.

على كل حال نبدأ بما أشرنا إليه سابقاً.

فبدءاً بكلام الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لنفاسته ويكون مدخلاً لما نريد.

يقول الإمام البخاري في صحيحه: "باب: العلم قبل القول والعمل"؛ لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] فبدأ بالعلم، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، هذا الذي نحتاجه من هذه الترجمة، لكن لأهمية ما ذكره في هذه الترجمة وحرصاً على إفادة الطلاب مما ذكره الإمام البخاري -رحمه الله-؛ لأن كثير من طلاب العلم يغفلون عن مثل هذه الفوائد التي في الصحيح في كتاب العلم من صحيح البخاري ما لا يوجد في غيره.

يقول: "باب: العلم قبل القول والعمل"؛ لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] فبدأ بالعلم، والذي يحفظ الأصول الثلاثة يعرف هذا الكلام {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [(19) سورة محمد] قال الإمام: فبدأ بالعلم، وبعض نسخ الأصول الثلاثة يقول: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، قبل القول والعمل هذا في الترجمة ليس في ثنايا الكلام، وإنما الذي في ثناياه قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وقال جل ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر]، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [(43) سورة العنكبوت]، وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(9) سورة الزمر].

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلم)) وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} [(79) سورة آل عمران] "حلماء فقهاء" ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

هذه الترجمة، وهذه الأخبار، وهذه الآيات والأحاديث التي أوردها الإمام البخاري بمجموعها هي من صميم درسنا اليوم، لكن العنوان -عنوان الدرس- يخصه قوله: ((وأن العلماء هم ورثة الأنبياء)) يقول ابن حجر: قوله: "باب: العلم قبل القول والعمل" قال ابن المنير -وهذا له كتاب في تراجم البخاري، شرح تراجم البخاري ناصر الدين ابن المنير، له كتاب اسمه: (المتواري في شرح تراجم البخاري) وهو كتاب مختصر يستفيد منه طالب العلم.

يقول ابن المنير..، وزين الدين ابن المنير له حاشية على البخاري، ناصر الدين بن المنير له تراجم البخاري، يقول ابن المنير -رحمه الله-: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، لا يعتبران إلا بالعلم، فهو متقدم عليهما، مصحح للنية المصححة للعمل، يرى أن النية المشترطة لصحة العمل لا تكون إلا بالعلم؛ لأن من شرط صحة العمل العلم به، فإذا كنت جاهلاً به غير متصور له فإنك لا تستطيع أن تؤديه على الوجه الشرعي، وحصر القصد بتصحيح النية لا يكفي؛ لأنه مصحح للنية مسدد للاقتداء؛ لأن من شرط صحة العمل الشرعي أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، صواباً على سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فالذي يجهل هذا العلم لا يستطيع أن يقصده بالتحديد؛ لأنه جاهل به، فكيف يقصد ما يجهل؟ والذي لا يعلم ما يريد أن يفعل لا يستطيع أن يفعله على مراد الله -جل وعلا-، ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام-، الذي لا يعرف أحكام الصلاة لا يستطيع أن يصلي، كما رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- يصلي، أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يصلي المسلم كصلاته، ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) هذا بالنسبة للذي رآه من الصحابة، وأما من بعدهم فكما شرح لهم من بيان صلاته -عليه الصلاة والسلام-، فيما نقل عنه، وصح من سنته -عليه الصلاة والسلام-، فالذي لا يعلم لا يحدد القصد والنية بدقة مما يريد فعله، كما أنه أيضاً لا يستطيع أن يؤدي ما أمر به على الوجه الشرعي المطلوب، فيتخلف حينئذٍ الشرطان، إما تخلفاً كلياً مع الجهل المطبق، أو جزئياً فيما يجهله دون ما يعلمه، عوام المسلمين عندهم جهل بأحكام الصلاة، لكن يعرفون صورتها الظاهرة؛ لأن صورة الصلاة متلقاة بالعمل والتوارث من لدن النبوة إلى يومنا هذا، والناس يصلون على مدى أربعة عشر قرناً، يرى بعضهم أباه ويرى أخاه، ويرى الناس في المسجد يصلون، ولذا شرعت النوافل في البيوت من أجل أن يراها النساء والصبيان فيصلون كما يصلي هذا الأب الذي صلى في المسجد واقتدى بإمام المسجد فيعلمون الصورة الظاهرة، ويبقى دقائق الأحكام لا يعرفها إلا أهل العلم، والذي لا يعرف هذه الدقائق لا يمكن أن يأتي بالصلاة على الوجه المطابق لصلاته -عليه الصلاة والسلام-، المأمور به في قوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).

يقول ابن المنير: فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل"، "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل"؛ لأن هذا مستفيض على ألسنة أهل العلم، أن الثمرة من العلم هي العمل، كالثمرة من الشجرة هي المقصودة منه، حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: "إن العلم لا ينفع إلا بالعمل" تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه.

يعني كثير من الناس إذا سمع أن العلم لا قيمة له بدون عمل يقول: إذاً لا داعي لئن أتعلم، وأنا أرى كثيراً ممن تعلم لا يعمل بعلمه، نقول: العلم مطلوب ومرغب فيه، ويجب وجوباً عينياً على بعض الناس، وكفائياً على عموم الناس، ويستحب بالنسبة لسائر الناس، هذا بالنسبة للعلم، والعمل مطلوب أيضاً، والعمل مطلوب أيضاً، لكن العلم متقدم على العمل، كما ترجم الإمام البخاري -رحمه الله-: "باب: العلم قبل القول والعمل".

يقول ابن حجر -رحمه الله-: قوله: فبدأ بالعلم، أي حيث قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [(19) سورة محمد] ثم قال:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [(19) سورة محمد] والخطاب وإن كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- فهو متناول لأمته؛ لأن الأصل أنه هو القدوة وهو الأسوة.

واستدل سفيان بن عيينة بهذه الآية على فضل العلم حيث قال: ألم تسمع أنه بدأ به فقال: "اعلم" ثم أمره بالعمل؟

((وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر)) هذا طرف من حديث مخرج عند أبي داود والترمذي والحاكم، مصححاً من حديث أبي الدرداء وحسنه حمزة الكناني، وضعف بالاضطراب، لكن له شواهد يتقوى بها، له شواهد يتقوى بها، وشاهده من كتاب الله قول الله -جل وعلا-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [(32) سورة فاطر] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} [(32) سورة فاطر] الإنسان قد يرث من أبيه القرآن لكن قد يرثه حساً، وقد يرثه معنىً، قد يرثه حساً بأن يترك له مصحف، وقد يرثه معنىً بأن يكون الأب حافظاً لكتاب الله محفظاً لابنه كتاب الله -جل وعلا-، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [(32) سورة فاطر] والمراد بذلك الميراث المعنوي الحسي الأهم؛ لأن الإنسان قد يرث مصحف لكن لا يقرأ فيه ولا ينتفع به، وجاء من الأمور التي يجري عملها بعد موت ابن آدم ((أو مصحفاً ورثه))، ((أو مصحفاً ورثه)).

ورثوا: بتشديد الراء المفتوحة أي: الأنبياء، بحظ وافر: أي بنصيب كامل، بنصيب كامل، يعني من أخذه، لكن كل يأخذ من هذا الإرث بقدر ما كتب له، بقدر ما كتب له، والله -جل وعلا- هو المقدر، والعبد هو المأمور بالسعي في الأسباب، والنتائج بيد الله -جل وعلا-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قاسم كما يقول، والله -جل وعلا- هو المعطي، لا يقول الإنسان: أنا حرصت على أخذ العلم، ومكثت سنين عدداً أتردد بين أهل العلم، وأقرأ في الكتب وفي النهاية لا شيء، أنت تدخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة)) ولو لم تدرك علم، أنت سلكت الطريق يكفي، هذا السبب، أنت تبذل ما عليك والنتيجة بيد الله -جل وعلا-.

((ومن سلك طريقاً)) هو من جملة الحديث المذكور، هو من جملة الحديث ((العلماء ورثة الأنبياء)) وأخرج هذه الجملة بمفردها مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة.

طريقاً: نكرها، ((سلك طريقاً)) نكرة، لماذا؟ ونكر أيضاً علماً ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)) لو قال: العلم لكان المراد العلم الشرعي المتكامل، علم الوحيين، وما يخدم الوحيين، لكن ((من سلك طريقاً)) هذا نكرة، وعلماً: نكرة أيضاً ليندرج فيه القليل والكثير، ولو جزء من أجزاء العلم، ولو تخصص في فرع من العلوم الشرعية، يعني سواءً سلك طريقاً علماً في التفسير في الحديث في العقيدة فيما يخدم ذلك كله علم، نكر طريقاً ليتناول أنواع الطرق إلى تحصيل العلوم الدينية؛ ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية؛ وليندرج فيه القليل والكثير، فيدخل فيه دخولاً أولياً سلوك الطريق الحسي بأن يمشي أو يركب إلى مواطن العلم ومدارسه ومعاهده، ويجثو بركبتيه بين يدي أهل العلم ليأخذ من علمهم، هذا يدخل بدخول أولي، هذا سلك الطريق الحسي الذي لا يختلف فيه، وتنكير الطريق يتناول عمومه من تعلم عن طريق الوسائل، من سلك طريقاً هذا طريق من طرق التحصيل، يتناول عمومه من تعلم عن طريق الوسائل الحديثة والكتب المؤلفة، والكتب المؤلفة، ما دام هذا سلك طريق يلتمس فيه العلم النافع الشرعي وما يخدمه يلتمس علم الوحيين الكتاب والسنة وما يعين على فهم الوحيين هذا سلك طريقاً.

فإن سلك الطريق الحسي دخل فيه دخولاً أولياً قطعياً، يعني سلك طريقاً غير الطريق الحسي، يعني حيل بينه وبين الوصول إلى معاقل العلم، وسلك الطرق المؤدية إلى هذا العلم من غير الطريق الحسي من الطرق المعنوية بالوسائل التي وجدت -ولله الحمد- ويسرت العلم الشرعي وأوصلته إلى قعر البيوت، وسمعه الخاص والعام هذا سلك طريقاً، فيتناوله عموم التنكير ((سهل الله له طريقاً)) أي: في الآخرة؛ لأنه قال: ((إلى الجنة)) أو ما يشمل الآخرة والدنيا بأن يوفقه للأعمال الموصلة إلى الجنة، يعني يوفقه إلى الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة.

وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه؛ لأن طلبه من الطرق الموصلة إليه، ((سهل الله له طريقاً إلى الجنة)) ومن الطرق الموصلة إلى الجنة تعلم العلم الشرعي والعمل به، وأعظم من ذلك ما جاء في قول الله -جل وعلا-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [(17) سورة القمر] لكن هل من متمني يتمنى أن يحفظ القرآن؟ يتمنى أن يكون القرآن على لسانه، وعلى أسلة بنانه، يتمنى أن يكون مردداً للقرآن صبحاً وممساً ومهجعاً،..... بالأماني لا؛ لأنه قال: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(17) سورة القمر] أما الذي يتمنى ما يحصل له شيء.

وقال الإمام البخاري: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] من الذي يخاف من الله -جل وعلا-؟ من علم قدرة الله -جل وعلا- وسلطانه وهم العلماء، قاله ابن عباس: الذين يخشون الله -جل وعلا- هم الذين عرفوا قدرة الله -جل وعلا- وسلطانه، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عن نفسه بأنه أعلم الخلق بربه: ((إنما أنا أخشاكم وأتقاكم لله -جل وعلا-)) -عليه الصلاة والسلام-، ثم قال الإمام البخاري: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [(43) سورة العنكبوت] يعني: الأمثال، الأمثال المضروبة ما يعقلها إلا العالمون، وهو نوع عظيم، وباب مهم من أهم أبواب العلم معرفة الأمثال التي ضربها الله -جل وعلا- في كتابه، و ضربها نبيه -عليه الصلاة والسلام- في سنته، وإذا كان الإنسان لا يعقل ولا يفقه ولا يفهم هذه الأمثال فليراجع نفسه، وإن ادعى أنه من أهل العلم، وإن قيل عنه: إنه من أهل العلم؛ لأن الأسلوب حصر، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [(43) سورة العنكبوت]  لأن الذي لا يعقلها ليس من أهل العلم.

((وإنما العلم بالتعلم))، ((وإنما العلم بالتعلم)) والتفعل المادة هذه وهذا التضعيف يدل على التدريج، التعلم شيئاً فشيئاً، فلا يؤخذ العلم جملة، العلم لا يؤخذ جملة، وإنما يؤخذ بالتدريج، وهو حديث مرفوع.... المتعلم، بالتعلم حديث مرفوع أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية بلفظ: ((يا أيها الناس تعلموا إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، ((ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، والحديث بمجموع جمله إسناده حسن، والجملة الأخيرة: ((ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) مخرج في البخاري وغيره من حديث معاوية، والمراد بالفقه في الدين: الفهم للدين بجميع أبوابه، لا يراد به في هذا الحديث الفقه العرفي عند أهل العلم، الاصطلاحي الذي هو معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية بالأرباع الأربعة المعروفة؛ لأن الفقه العرفي مخصوص بالعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والمناكحات، والأقضية والجنايات هذا الفقه في عرف أهل العلم، وكثير من الفقهاء لا سيما الشراح يصدرون خطب كتبهم بهذا الحديث: "الحمد لله الذي فقه من شاء بالدين" استدلالاً أو إشارة إلى أن هذا الكتاب موضوعه الفقه، والفقه في الحديث الفقه في الدين أعم من الفقه العملي، بل يتناول ما سماه العلماء: الفقه الأكبر الذي هو العقائد يدخل فيه دخولاً أولياً، والمقصود المراد بالدين هنا بجميع أبوابه، بجميع أبوابه، فالعقائد، الأحكام، المغازي، السير، التفسير، الآداب، الرقاق، الأدعية والأذكار، وغيرها من أبواب الدين التي اشتملت عليها الكتب الجوامع مثل صحيح البخاري، بدليل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان قال: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فالمراد بالدين بجميع أبوابه وفروعه وأصوله.

والمعنى: ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء، ((إنما العلم بالتعلم)) ما في وسيلة للتحصيل إلا بالتعلم، أما أهل التخريف والشطحات والنزغات الشيطانية الذي يقول: إنه نام فلما انتبه من النوم فإذا به يحفظ القرآن، أو يحفظ السنة، أو يحفظ كتاب كذا أو كذا، هذا لا يمكن أن يحصل، وليست هذه هي الطريقة الشرعية المثاب عليها المرتب عليها الأجور العظيمة في الكتاب والسنة، ((إنما العلم بالتعلم)) ، ((إنما العلم بالتعلم)) وأصحاب بعض الحركات المستحدثة المسماة: بالبرمجة ونحوها يقول: أبداً بإمكانك أن تحفظ القرآن في وقت يسير في يوم مثلاً يعني كأنك تمسح مسح ضوئي، هذا الكلام ليس بصحيح، هذا الكلام ليس بصحيح، ويأتي على ألسنة بعض المخرفين من شيوخ الصوفية وغيرهم أنه يقول: حفظت القرآن في ساعة، أو حفظت كتاب كذا من الكتب الكبار في يوم، هذا الكلام لا شك أنه يجرى على أيدي شياطين تغرهم وتغر بهم، وتستدرجهم وتستدرج بهم، لكن العلم بالتعلم، نعم قد تطول مدة التعلم وقد تقصر، لكن ما في علم بساعات أو أيام، العلم بالتعلم، فالمعنى ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم.

قال ابن عباس..، ذكر البخاري في ترجمة هذا الباب قال ابن عباس: {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} [(79) سورة آل عمران] "حلماء فقهاء"، "حلماء فقهاء" أخرجه ابن أبي عاصم والخطيب بإسناد حسن، وفسره ابن عباس أيضاً بأنه الحكيم الفقيه، الرباني: الحكيم الفقيه، ووافقه ابن مسعود، وقيل: الرباني الذي يقصد ما أمره الرب بقصده من العلم والعمل، من العلم والعمل، وقال ثعلب وهو إمام من أئمة اللغة على منهج أهل السنة وأهل التحقيق، قال ثعلب: قيل للعلماء: ربانيون لأنهم يربون العلم أي يقومون به؛ لأنهم يربون العلم أي يقومون به، والحاصل أنه اختلف في هذه النسبة الرباني اختلف فيها هل هي إلى الرب أو إلى التربية؟ هل هي إلى الرب أو إلى التربية؟ فالذي يقصد العلم النازل من الرب -جل وعلا- على لسان جبريل على النبي -عليه الصلاة والسلام-، والوحي المصاحب له من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا رباني؛ لأن العلم هذا منسوب إلى الرب، والذي يربي الناس على العلم والعمل أيضاً هو رباني، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، يعني ينتبه إلى الصغار، ويربيهم على المتون الصغيرة.

يعني مثل هذه الدورات التي توجه إلى المبتدئين؛ لأن كثير من أهل العلم يهتمون بالكبار؛ لأنهم يعينونهم على التحصيل، أما الصغار فأمرهم متعب، ولذا مع الأسف قل وندر أن تجد من الكبار من يحفظ القرآن، وهو أولى الأولويات وأهم المهمات، ما تجد إلا القليل النادر من الكبار من يحفظ الناس القرآن، أو يعلمهم المتون الصغيرة، ولو تصدى لشرح المتون الصغيرة المؤلفة للمبتدئين لحلق بهم إلى طبقة المتقدمين، فنحن بحاجة ماسة إلى من يحسن التعامل مع الناشئة يربيهم على صغار العلم، ويحفظهم المتون الصغيرة، وما يحتاج إليه في هذا السن من القرآن، ومعاناتهم أشق من معاناة الكبار، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، والمراد بصغار العلم هي ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها، وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده، وقال ابن الأعرابي: لا يقال للعالم: رباني حتى يكون عالماً معلماً عاملاً، حتى يكون عالماً معلماً عاملاً.

العلم يهتف بالعمل، والمقولة التي سبقت وهي: أن العلم بدون عمل كالثمر بلا شجر، هذه لها حظ من النظر؛ لأن الثمرة العظمى من العلم هي العمل، فإذا تعلم وعمل بعلمه، ودعا الناس إليه ووجههم وأرشدهم إليه، استحق أن يدعى ربانياً، فإذا علم هذا فميراث النبوة العلم والعمل والدعوة إلى هذا العلم والعمل، والصبر على ذلك، وهي المسائل الأربع التي قررها الإمام المجدد في الأصول الثلاثة، واستدل لها بسورة العصر التي قال فيها الإمام الشافعي: "لو ما أنزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم".

ذكرنا في بداية الكلام الإشكال على هذا الكلام أن العلماء هم ورثة الأنبياء ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث)) الأنبياء ورثوا العلم ((فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) يشكل على هذا قول نبي الله زكريا -عليه السلام- في سورة مريم {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [(5 - 6) سورة مريم].

في تفسير القرطبي: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: خاف أن يرثوا ماله، خاف أن يرثوا ماله، وأن ترثه الكلالة، فأشفق أن يرثه غير الولد، وقالت طائفة: إنما كانت مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب ولياً يقوم بالدين بعده حكى هذا القول الزجاج، وعليه فلم يسأل زكريا من يرث ماله؛ لأن الأنبياء لا يورثون، وهذا هو الصحيح من القولين كما يقول القرطبي في تأويل الآية، وأنه -عليه الصلاة والسلام- أراد وراثة العلم والنبوة، أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال لما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة)) وفي كتاب أبي داود: ((أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ورثوا العلم)).

يقول: وهذا الحديث يدخل في التفسير المسند لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [(16) سورة النمل]، وعبارة عن قول زكريا: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [(5 - 6) سورة مريم] وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالاً خلفه داود بعده، وإنما ورث منه الحكمة والعلم، ولذلك ورث يحيى من آل يعقوب هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض، ما عدا الروافض؛ لأن الروافض طالبوا أبا بكر وطالبوا عمر ومازالوا يطالبون بالإرث النبوي من فدك وغيرها، وأن ما تركه النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو لورثته..، ما ترك من مال فهو صدقة.

قال: وروي عن الحسن أنه قال: يرثني مالاً، ويرث من آل يعقوب النبوة والحكمة، قال القرطبي: وكل قول يخالف قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مدفوع مهجور، قاله أبو عمر، يعني ابن عبد البر.

يقول الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب (مفتاح دار السعادة): قول زكريا -عليه الصلاة والسلام-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [(5 - 6) سورة مريم].

يقول: فهذا ميراث العلم والنبوة فهذا ميراث العلم والنبوة، والدعوة إلى الله وإلا فلا يظن بنبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوه ماله، يعني لو خاف إنسان من سائر الناس، شخص كلالة لا والد له ولا ولد، وخاف من عصبته الذين قد يكون منهم البعيد الذي لا يعرفه طول حياته، ابن عم بعيد يكون هو أقرب الناس إليه ويأخذ ماله بالتعصيب لو خاف هذا الإنسان من هذا الوارث وتصرف في ماله من أجل حرمان هذا الوارث لأثم بذلك، وبطلت وصيته، ونفذ الميراث، فكيف بني يخاف من الموالي من ورائه أن يرثوا ماله ويطلب من الله -جل وعلا- ويسأله أن يرزقه الولد الذي يرث عنه المال؟!.

يقول ابن القيم: فهذا ميراث العلم والنبوة فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله وإلا فلا يظن بنبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوه ماله فيسأل الله العظيم ولداً يمنعهم ميراثه، يعني يحجبهم عن الميراث، فهل هذا من مقاصد خاصة الناس فضلاً عن الأنبياء؟ هذه ليست من المقاصد التي يقصدها خواص الناس من أهل العلم والفضل والدين فضلاً عن الأنبياء، قد يقصد ذلك شخص ليس من أهل العلم، وليس من أهل الفضل، يشق عليه أن يجمع المال ويتعب عليه ثم بعد ذلك يأخذه ابن عم له بعيد لم يره طول حياته، قد يقصد ذلك، لكن هل يمكن أن يرد هذا بالنسبة لنبي من الأنبياء؟ لا يمكن، والدنيا بحذافيرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وكذلك عند أوليائه، لما جاء السفير الخاطب إلى سعيد بن المسيب من ابن الخليفة يخطب ابنته فقال له الخاطب أو الخطيب -السفير بينهما-: أتتك الدنيا بحذافيرها، ماذا؟ قال: ابن الخليفة يطلب ابنتك، قال: إذا كانت الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة فماذا ترى أن يقص لي من هذا الجناح؟ الدنيا لا شيء في نظر أهل الآخرة، وإن كانت كل شيء بالنسبة لنظر أهل الدنيا.

الأصل أن الإنس والجن إنما خلقوا لغاية، وهي تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [(56) سورة الذاريات] هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، إنما هي تحقيق العبودية، طيب تحقيق العبودية لا يمكن أن يتم وبقاء النوع الإنسان واستمرار العبودية لله -جل وعلا-، والتوارث على هذه الأرض وعمارة الأرض إلا بشيء من الدنيا، ولذلك قال الله -جل وعلا-: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] وبعض الناس عكس جعل جل الوقت للدنيا ووقت الفراغ ووقت الاسترخاء للدين، هذا عكس ما خلق من أجله، إنما خلق للعبودية وتحصيل أمر الدنيا وما يقوم به المعاش هذا لا ينساه.

يقول: فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله وإلا فلا يظن بنبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوه ماله فيسأل الله العظيم ولداً يمنعهم ميراثه ويكون أحق به منهم، وقد نزه الله -جل وعلا- أنبياءه ورسله عن هذا وأمثاله فبعداً لمن حرف كتاب الله ورد على رسوله -صلى الله عليه وسلم- كلامه، ونسب الأنبياء إلى ما هم براء منزهون عنه، والحمد لله على توفيقه وهدايته.

ثم ختم بأثر ساقه بصيغة التمريض قال: ويذكر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه مر بالسوق..، ويذكر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه مر بالسوق فوجدهم في تجاراتهم وبيوعاتهم فقال: أنتم هاهنا، أنتم هاهنا فيما أنتم وميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم في مسجده؟! فقاموا سراعاً إلى المسجد، قاموا سراعاً إلى المسجد فلم يجدوا فيه إلا القرآن والذكر ومجالس العلم، فقالوا: أين ما قلت يا أبا هريرة؟ فقال: هذا ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-، القرآن والذكر والعلم، هذا ميراث النبوة، هذا ميراث النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقسم بين ورثته وليس بمواريثكم ودنياكم، أو كما قال.

إذا تقرر هذا فالميراث الذي طلب الحديث عنه هو العلم؛ لأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وما تركوه صدقة، إنما ورثوا العلم، فما المراد بالعلم الذي يورث عن الأنبياء؟ هو العلم الموصل إلى رضا الله -جل وعلا- وإلى جناته، من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وما يعين على فهم الكتاب والسنة، وما يوفر لحامله خشية الله -جل وعلا-، وما يوفر لحامله خشية الله -جل وعلا-، فإذا ترتبت هذه الآثار على هذا العلم، صار هو الموروث عن النبوة، فأخشى الناس لله -جل وعلا- هو محمد -عليه الصلاة والسلام-، وأصدقهم تحقيقاً لهذا الوصف أتقاهم وأتبعهم للنبي -عليه الصلاة والسلام-.

إذا علم هذا فما يحمله الفساق الذين لا يخشون الله -جل وعلا- مما يمكن أن يسمى علماً، هو في عرف الناس علم؛ لأنه إذا سئل أجاب، أجاب عن الحكم بدليله، وهذا في عرف الناس علم، الفساق عندهم معرفة بالأحكام، وعندهم أدلة، وعندهم طريقة صحيحة لكيفية الاستنباط من الأدلة، درسوا هذا وأتقنوه وعرفوه، لكن ارتكبوا بعض المحرمات، وتركوا بعض الواجبات هل نقول: إن هذا علم شرعي موروث؟ هل ينظر إلى العالم بمجرده أو ينظر إلى العالم بعلمه وعمله معاً؟ الذي يحمله الفساق ليس بعلم موروث وإن كان في عرف الناس علم، والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [(17) سورة النساء] يعملون السوء بجهالة، الذي يشرب الخمر وهو يعرف الحكم أن الخمر محرم، الذي يزني ويعرف أن الزنا حرام، الذي يرابي ويعرف أن الربا حرام له توبة وإلا ليست له توبة؟ {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ} [(275) سورة البقرة] هل نقول: إن هذا للجاهل أو للذي يعرف الحكم؟ لأن من أنواع الجهل ما يعذر به صاحبه، فباب التوبة للعالم بالحكم والجاهل على حد سواءً، إذاً ما المراد بالعالم هنا والجاهل؟ العاصي جاهل، كل من عصى الله فهو جاهل، كل من عصى الله فهو جاهل؛ لأننا لو قلنا: إن الذي يعلم الحكم عالم وإن عصى قلنا: إنه ليس له توبة؛ لأن التوبة محصورة بمن ارتكب المعصية عن جهالة، التوبة محصورة فيمن عصى الله -جل وعلا- عن جهالة، فمن عرف الحكم إن قلنا: عالم قلنا: ليست له توبة، وهذا خلاف ما أجمع عليه أهل العلم، ودلت عليه النصوص القطعية، وإذا قلنا: جاهل، فما يحمله من علم ليس في الحقيقة بعلم، إذاً ميراث النبوة هو العلم المبني على الدليل الصحيح من الكتاب والسنة، المورث للعمل والخشية، ومع ذلك يتطلب أمراً ثالثاً مهماً وهو الدعوة إلى هذا العلم وتعليمه.

جاء في الحديث: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، فمنهم من ضعفه، ومنهم من قواه، ويذكر عن الإمام أحمد أنه صححه، هل هذا خبر عن أهل العلم أنهم عدول؟ أو هذا تعديل لأهل العلم أو هذا حث للعدول بحمل العلم؟ الذي قال: إن هذا خبر عن أهل العلم وأنهم عدول قال: كل من عرف بحمل العلم فهو عدل، وهذا يقوله أبو عمر بن عبد البر، ويتبناه، وينتصر له.    

قلت: ولابن عبد البر كل من عني
فإنه عدل بقول المصطفى

 

بحمله العلم ولم يوهنِ
يحمل هذا العلم لكن خولفا

خولف ابن عبد البر من جماهير أهل العلم أن هذا تعديل لمن يحمل العلم بغض النظر عن العمل، وأن كل من عرف بحمل العلم أنه عدل، هذا الكلام يخالفه الواقع، يخالفه الواقع، فإن الواقع يشهد ويثبت بأن ممن يحمل العلم من ليس بعدل، بل يخالف علمه إما بترك مأمور أو بفعل محظور، وعلى هذا يكون معنى الحديث عند من يثبته ويصححه أنه حث للعدول بحمل العلم، وتوجيه لهؤلاء الثقات العدول بحمل العلم، وأن لا يتركوا مجالاً لغيرهم أن يلبسوا على الناس، يشوشوا على الناس، ويضلوا الناس، ويشهد لذلك أو يدل على ذلك رواية: ((ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فهو أمر للعدول بحمل العلم، وأما غير العدول فلا شك أن ضررهم أكثر من نفعهم، وهم في الحقيقة جهال، وظهر أثرهم على مر العصور في تضليل الناس، وهو في وقتنا بسبب انتشار هذه الأقوال التي تلقى من أولئك الفساق عن طريق وسائل الإعلام ودخولها وولوجها إلى الناس في بيوتهم، هذا يدل دلالة واضحة أن ممن يحمل العلم من ليس بعدل، لكن لا ينبغي أن يسمى عالماً، ولا أن يسمى ما يحمله علم، ولو كان لديه معرفة بالأحكام، والنبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المخرج في البخاري وغيره يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ النار رؤوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) وما يوجد في وقتنا هذا من اضطراب كبير وتناقض وتعارض وتضارب في الفتاوى، إلا نماذج حية نلمسها في واقعنا، وأمثلة ظاهرة لما قاله النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اتخذ النار رؤوساً جهالاً)) وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، يعني الأمة خسرت ومنيت بوفاة بعض العلماء الربانيين الوارثين لعلم النبوة، لكن بقي -ولله الحمد- بقية صالحة تجمع بين العلم والعمل، وكثر أيضاً من يدعي العلم، ومن يتقمص العلم، ويفتي بغير علم -نسأل الله السلامة والعافية-.

المقصود أن العلم الموروث والإرث النبوي هو العلم الصحيح المؤصل المبني على كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، بفهم سلف هذه الأمة بفهم سلف هذه الأمة بالتوسط والاعتدال، وإلا ففي النصوص ما قد يتمسك به فئات من الطوائف المبتدعة، فالخوارج عندهم ما يستدلون به من نصوص الكتاب والسنة، والمرجئة في مقابلهم عندهم ما يتمسكون به من نصوص الكتاب والسنة، لكن العبرة بمن أخذ بالطرفين لم يأخذ بطرف ويترك الطرف الآخر، لم يأخذ بنصوص الوعيد فيرتكب ما ارتكبت الخوارج، ويدع نصوص الوعد، ولا يأخذ بنصوص الوعد فيرتكب ما ارتكبته المرجئة، ويترك ويهدر نصوص الوعيد، وقد وفق الله -جل وعلا- أهل السنة والجماعة وهم أهل التوسط بين الفرق والمذاهب فأخذوا من الطرفين بما يقتضي التوفيق بينهما، والتوفيق بينهما جارٍِ عند أهل السنة من غير أي تنافر وأي تناقض وأي تضارب وأي اعتراض، فإذا استطاع الإنسان على طريقة أهل السنة والجماعة أن يوفق بين هذه النصوص التي ظاهرها التعارض فإنه حينئذٍ على الجادة، وحينئذٍ يكون وارثاً إذا عمل بهذا العلم، وعلمه الناس، ودعا إليه، وفقه الناس به، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

هناك مسائل كثيرة تتعلق بالعلم والتحصيل والطلب وكيفية حفظ المتون، وكيفية جرد المطولات، والمنهجية في قراءة الكتب وطريق..، كلها هذه أمور في كل فرع منها محاضرة مستقلة ومسجلة -ولله الحمد-، وما عاد بقي إلا أن ننظر في الأسئلة.

والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.