كتاب الصيام من عمدة الفقه - 02

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "باب الاعتكاف"

"وهو اللزوم" {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[(52) سورة الأنبياء] يعني ملازمون لها، فالاعتكاف لزوم، وهي لفظة متداولة الآن في أيام الاختبارات، إذا لزم الطلاب البيوت والمساجد قيل لهم: عاكفون على دروسهم، وعكف على كذا: لزمه، وتعريفه في الاصطلاح عند أهل العلم: لزوم المسجد لطاعة الله تعالى.

والمسجد جنس يشمل جميع المساجد الثلاثة وغير الثلاثة، المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى وغيرها من مساجد المسلمين فهو جنس {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[(187) سورة البقرة] جنس، فعلى هذا يصح الاعتكاف في أي مسجد، ما لم يترتب عليه تعطيل لما هو أهم منه، فمسجد لا تقام فيه جماعة لا يصح الاعتكاف فيه، لماذا؟ لأنه إما أن يضطر للخروج على كل صلاة، وهذا ينافي معنى الاعتكاف، أو يلزم عليه ترك الجماعة، وصلاة الجماعة واجبة، والاعتكاف مسنون.

"وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى" وعرفنا أن من مسمى الاعتكاف اللزوم وطول المكث، فالذي يدخل المسجد مدة يسيرة، يجلس ساعة ينوي الاعتكاف؟ هل معنى هذا أنه لزم المسجد وعكف فيه ولزمه؟ بعض الفقهاء يقول: لا حد لأقله، كلما دخلت المسجد انوي الاعتكاف؛ لكن هذا على خلاف الهدي النبوي، وخلاف ما يقتضي اسم الاعتكاف.

لزوم المسجد لأي شيء؟ لطاعة الله تعالى، لطاعة الله، فمن يلزم المسجد فراراً من الغريم مثلاً على حد زعمه لا يسمى معتكفاً، من يلزم المسجد لمناسبة جوه للمكث بعض الناس في بيته غير مناسب للنوم ما فيه مكيفات، ولا في أماكن مريحة، يقول: أعتكف وأنام مضبوط، فالهدف من الاعتكاف تفريغ القلب لله -جل وعلا- بلزوم طاعته، و يرجح أهل العلم بل بعضهم يرى هذا من مقتضى الاعتكاف أنه لا يزاول فيه إلا الطاعات الخاصة اللازمة من صلاة وتلاوة وذكر، أما تعليم العلم لا يسمى اعتكاف، ولذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا اعتكف اتخذ حجيرة في المسجد، كل من أراد الاعتكاف يتخذ خباء لينعزل عن الناس وينشغل بالعبادات الخاصة.

فتعليم العلم ليس مما يؤدى في الاعتكاف، هذا الأصل في الاعتكاف عند جمع من أهل العلم، وبعضهم يقول: لطاعة الله تعالى، وتعليم العلم من أفضل الطاعات، وشهر رمضان كما هو معلوم شهر القرآن، والنبي -عليه الصلاة والسلام- اعتكف في العشر الأول، وفي العشر الأواسط، وفي العشر الأخير، اعتكف في العشر من شوال، ثم استقر اعتكافه في العشر الأخير من رمضان.

ومعلوم أن شهر رمضان شهر القرآن، يخلو فيه المعتكف بربه -جل وعلا- فيناجيه وينطرح وينكسر بين يديه ذاكراً له تالياً لكتابه مصلياً ساجداً قائماً.

كثير من السلف إذا جاء رمضان عطلوا التدريس، تعليم الناس الخير نفع متعدي، وفضله عظيم، ومع ذلك يتركون التعليم، ويتجهون إلى قراءة القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[(185) سورة البقرة] فهو شهر القرآن، لطاعة الله تعالى فيه، وبلغنا عن السلف من ضربوا في هذا الباب -في باب العبادة وفي باب التلاوة وفي باب الذكر- أوفر نصيب، تجد الواحد منهم، وهذا ثابت عن عثمان وغيره يقرأ القرآن كل ليلة، والشافعي في النهار مرة وفي الليل مرة، هذا ثابت عن كثير من السلف؛ لأن القرآن ينبغي أن يغتنم شهر المضاعفات، وأهل العلم يحملون حديث: ((أقرأ القرآن في سبع)) وحديث: (( لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)) من كان ديدنه ذلك، أما من اغتنم الأوقات والأزمان الفاضلة فلا يدخل في هذا.

وعلى هذا في هذا الشهر العظيم المبارك ينبغي أن تستغل الأنفاس في الطاعة، وينقطع الإنسان فيه عن جميع العلائق إلا ما أوجبه الله عليه؛ لأنه أيضاً مثل ما أسلفنا الإسلام دين التوازن، كونه أيضاً يعتكف ويلزم المسجد للعبادة، ويضيع ما تحت يده، ويفرط في الواجبات؟ مثل هذا يقال له: الاعتكاف في حقك مفضول، وأنت في عبادة، ما دمت مشغولاً في أداء الواجبات كنت في عبادة.

لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه، وعلى هذا لا يصح الاعتكاف خارج المسجد، الغرف والملاحق ومكتبة المسجد والمنارة، يقول أهل العلم: إن كانت تفتح إلى المسجد فحكمها حكم المسجد، وإن كانت تفتح إلى خارج المسجد فليست من المسجد، هذا المقرر عند أهل العلم.

يقول: "وهو سنة لا يجب إلا بالنذر" محل إجماع بين أهل العلم على أن الاعتكاف سنة ليس بواجب، إلا إذا ألزم الإنسان نفسه به في نذر ونحوه، إذا ألزم الإنسان نفسه بالنذر وجب عليه ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) وعلى هذا لو مات وعليه اعتكاف نذر، يعتكف عنه وليه وإلا ما يعتكف؟ تقدم لنا، أنه وكذا كل طاعة ينذرها الإنسان يقوم وليه مقامه؛ لأنه هو الذي أوجب ذلك على نفسه كأنه استدان على ذمته، فيجب قضاء ما عليه، وقضاء الله أحق، ودين الله آكد.

"لا يجب إلا بالنذر، ويصح من المرأة في كل مسجد" يصح من المرأة في كل مسجد، ومعلوم أن هذا مقرون بأمن الفتنة، إذا كانت المرأة لا تفتتن بالرجال، ولا يفتتن بها الرجال صح منها الاعتكاف، بل ندب لها؛ لأن أمهات المؤمنين اعتكفن؛ لكن إذا خشي من النساء التضييق على الرجال منعن، كما منع النبي -عليه الصلاة والسلام- أزواجه ثلاث سنوات، كثرت الأخبية في المسجد، فضيقن على الرجال، والأصل في المساجد أنها للرجال، وأما المرأة فهي مأمورة بالقرار في بيتها {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}[(33) سورة الأحزاب] لكن مع أمن الفتنة ووجود الفسحة في المكان والرغبة في الغير ((لا تمنعوا إماء الله بيوت الله)).

"يصح من المرأة في كل مسجد" سواءً كان في مسجد تقام فيه الجماعة، أو لا تقام فيه الجماعة، قد يقول قائل: الذي لا تقام فيه الجماعة هل يسمى مسجد؟ نعم هل يسمى مسجد؟ نعم إذا كانت معالم المسجد فيه ظاهرة، وأوقف لهذا الأمر، ويصلى فيه، ولو نادراً فإنه يسمى مسجد، بدليل أن مسجد نمرة مسجد إجماعاً، ولم يصلَ فيه إلا مرة واحدة في السنة، فهو مسجد.

"في كل مسجد" لا يلزم أن يكون مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأن المرأة لا تلزمها الجماعة.

"ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه جماعة" لا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تكرار الخروج والدخول، وهذا ينافي مسمى الاعتكاف الذي هو اللزوم، أو يؤدي إلى ترك الجماعة، والجماعة واجبة.

"واعتكافه في المسجد الذي تقام فيه الجمعة أفضل" لماذا؟ لأنه إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة لزمه أن يخرج يوم الجمعة لأداء صلاة الجمعة، وكونه يلزم المسجد لزوماً تاماً أكمل بلا شك، وإن كان خروجه لصلاة الجمعة مستثناً شرعاً، يعني لو اعتكف في مسجد لا تقام فيه جمعة، هل نقول له: إذا خرجت إلى الجمعة بطل اعتكافك؟ لا، فهذا مستثنى شرعاً، ولذا يقول: "واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل" لئلا يخرج منه.

"ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعله ذلك  -يعني الاعتكاف أو الصلاة- في أي مسجد شاء، إلا المساجد الثلاثة" نذر شخص أن يعتكف في هذا المسجد، هل لهذا المسجد ميزة على غيره ميزة شرعية؟ قد يكون هناك مميزات طارئة؛ لكن لا يعلق بها أحكام، قد يكون هنا فيه أعوان يعينونه على الخير، يكون اعتكافه فيه أولى؛ لكن ليس بالملزم، فمن نذر الاعتكاف في هذا المسجد له أن يعتكف في أي مسجد كان وكذلك الصلاة.

"إلا المساجد الثلاث" إذا نذر أن يعتكف في المسجد الحرام ليس له أن يعتكف بغيره، إذا نذر أن يعتكف في المسجد النبوي له أن يعتكف في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي؛ ولكن لا يجوز له أن يعتكف في غيرهما لوجود المزية الشرعية لهما على غيرهما، وإذا نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى له أن يعتكف في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وليس له أن يعتكف في غيره الثلاثة، ولذا يقول: "إلا المساجد الثلاثة".

"فإذا نذر في المسجد الحرام لزمه، وإن نذر في مسجد المدينة فله فعله في المسجد الحرام" يعني والمسجد النبوي، "وإن نذر في المسجد الأقصى فله فعله فيهما" من باب أولى وله فعله فيما نذر فيه؛ لأنهما أفضل من المسجد الأقصى.

بعضهم يرى أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، ويروي في ذلك خبراً رده ابن مسعود، المقصود أنه يروي في ذلك خبراً أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة، وعلى كل حال على قوله: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة فإن صح الخبر مع أن ابن مسعود شكك فيه، إن صح الخبر حمل على أنه لا اعتكاف أكمل وأفضل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة، مع أن قوله -جل وعلا-: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[(187) سورة البقرة] يدل على العموم.

"ويستحب للمعتكف الاشتغال بفعل القرب" وهي الطاعات الخاصة اللازمة، كالصلاة والذكر والتلاوة، تعليم العلم أو مذاكرة العلم إن كان شيئاً يسيراً بحيث لا يعطيه من الوقت والجهد ما يجعله يصرف له ما ينطبق على أنه اعتكف لهذا الأمر فلا بأس، وإلا فالأصل أن الاعتكاف للعبادات الخاصة؛ ليتفرغ فيه في هذه الليالي العشر للانكسار بين يدي الله -جل وعلا-.

"واجتناب ما لا يعنيه من قول وفعل" ولو كان مباحاً فضلاً عن المحرم، وفي الحديث الصحيح ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) وهذا عام في وقت الاعتكاف، وفي الأوقات الفاضلة والأماكن الفاضلة وغيرها؛ لكنه يتأكد في الأوقات والأماكن الفاضلة، ويتأكد أيضاً في وقت الاعتكاف الذي فرغ الإنسان فيه ليكثر مما يرضي الله -جل وعلا-، واشتغاله بالمباحات يعوقه ويحول دونه ودون مزاولة هذه الأعمال العبادية، فضلاً عن كونه يزاول المحرمات؛ لأن مزاولة المحرمات نقيض الهدف الشرعي من الاعتكاف، الاعتكاف إنما شرع للعبادة، فإذا زاول محرم اقترف نقيض ما شرع الاعتكاف من أجله، وتأكد وشدد في حقه العقاب.

"ولا يخرج من المسجد إلا لما لا بد له منه" لا يخرج من المسجد هذا الأصل؛ لأن الأصل في الاعتكاف لزوم المسجد للعبادة، فلا يجوز له أن يخرج من المسجد إلا لما لا بد له منه "إلا أن يشترط".

لا بد له منه الطعام والشراب إذا منع من إدخاله إلى المسجد، وإلا يجوز الأكل والشرب في المسجد، فإذا منع من دخول الطعام والشراب جاز له أن يخرج من المسجد ليأكل ويشرب؛ لأن هذه ضرورة، يجوز له أيضاً أن يخرج من المسجد لقضاء حاجته.

"إلا أن يشترط" قد يقول قائل: العشر الأواخر فيها دوام، يستغرق وقتاً طويلاً من النهار، إذا اشترط الإنسان أن يداوم، يخرج من المسجد بداية الدوام، ويرجع إليه عند نهاية الدوام، مقتضى قولهم أنه يجوز له أن يشترط، ويكون مشترطه غير داخل في وقت الاعتكاف، له أن يشترط الخروج لبعض العبادات والطاعات كالصلاة على الجنائز، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، والمشاركة في دفنها، فإذا اشترط ذلك له، الأمر لا يعدوه.

"ولا يجوز له أن يباشر امرأته" الرسول -عليه الصلاة والسلام- يخرج رأسه إلى عائشة لترجله، فمثل هذا لا بأس به؛ لكن لا يجوز له أن يباشر امرأته، ولو بغير جماع من دواعيه من تقبيل ولمس، وما أشبه ذلك للنهي الصريح {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[(187) سورة البقرة]

"وإن سأل عن المريض وغيره في طريقه، ولم يعرج عليه جاز" يعني هو خارج لحاجته، ليقضي حاجته، ليأكل، ليشرب لأداء ما لا بد له منه، فوافقه شخص، فقال: كيف حال فلان؟ أو صلى بجانبه شخص فقال له: ما ذا عن فلان، فلا بأس.

"وإن سأل عن مريض وغيره في طريقه ولم يعرج إليه جاز" الذي في داخل المسجد ما يحتاج؛ لكن إذا خرج لقضاء حاجته الأمر يسير، ولا يخل هذا بالاعتكاف، فإذا سأل عن فلان المريض ولم يذهب إليه، ولم يعرج إليه جاز له ذلك؛ لأنه لا يخل بالاعتكاف؛ لكن زيارة المريض لا تصح، وعيادة المريض، وتشييع الجنائز والصلاة عليها إلا أن يشترطه الإنسان، أو تكون الصلاة داخل المسجد الذي هو فيه...