التعليق على تفسير القرطبي - سورة العنكبوت (01)

بسم الله الرحمن الرحيم

"الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"سورة العنكبوت، مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا، فِي قَوْلِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَمَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا، فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. وَفِي الْقَوْلِ الآخَرِ لَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنُ سَلاَّمٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلاَّ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَهِيَ تِسْعٌ وستون آية.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت 29/1-2] تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَوَائِلِ السُّورِ."

في أوائل السور: يعني من الحروف المُقطَّعة، وقد كان ذلك في سورة البقرة، وأطال المؤلف -رحمه الله- في بيان أقوال أهل العلم في المراد بهذه الحروف، وسيذكر بعضها هنا.

"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ."

الهمزة من ألف، والألف هذه المعنى: مأخوذة من أنا، واللام: من الله، والميم: من أعلم. هذا يُذكَر عن ابن عباس والله أعلم بصحته، لأن التخير من الحروف، أو دلالة الحرف على معنى كلمة لم يرد -كلهم- بها شيء مرفوع، هذا كله من الظن، ولذا أولى ما يقال في تفسير الحروف المُقطَّعة في أوائل السور، أنها هي الحروف الهجائية، تعارف العرب عليها، وتكوَّنَت منها لغتهم، وتحداهم الله بها أن يأتوا بمثل هذا القرآن، والغالب -كان بعضهم يطرد- لكن الغالب أنها لا تذكر هذه الحروف إلا ويذكر القرآن بعدها، سواء كان مباشرة، أو بعدها آيات.

"وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ للسورة، وقيل: اسم للقرآن. أحَسِبَ: اسْتِفْهَامٌ أُرِيدَ بِهِ التَّقْرِيرُ، وَالتَّوْبِيخُ، وَمَعْنَاهُ: الظَّنُّ. أَنْ يُتْرَكُوا: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِحَسِبَ، وَهِيَ وَصِلَتُهَا مَقَامُ الْمَفْعُولَيْنِ -عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ-."

"أن يتركوا": يعني أن وما دخلت عليه في المصدر، منبثق من أن وما بعدها، يقوم مقام المفعولين، لأن حَسِبْت تُعَدَّى إلى مفعولين.

"وأَنْ الثَّانِيَةَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِحْدَى جِهَتَيْنِ، بِمَعْنَى لأَنْ يَقُولُوا أَوْ بِأَنْ يَقُولُوا أَوْ عَلَى أَنْ يَقُولُوا."

 يعني نُصِبَتْ على نَزْع الخافض، وانتُصِب ما بعده.

"وَالْجِهَةُ الأُخْرَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّكْرِير."

يعني تكرير العامل، أحسب الناس أن يتركوا، أحسبوا أن يقولوا.

"التقدير: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا}  أَحَسِبُوا {أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يُرِيدُ بِالنَّاسِ قَوْمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ، وَكَانَ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ يُؤْذُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ عَلَى الإِسْلامِ."

وعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخصوص، ولا مانع من إرادة العام به وبقاء عمومه، والناس كلهم على هذا، يحسبون أنهم يُترَكون، أنهم يعيشون في رخاء، ويدَّعون الولاية والقرب من الله -جل وعلا-، وهم لم يفتنوا في دينهم، لم يُختَبَروا ولم يمتحنوا ولم يعرف ثباتهم بالفتنة والامتحان.

"كَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَيَاسِرٌ أَبُوهُ، وَسُمَيَّةُ أُمُّهُ، وَعِدَّةٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَتْ صُدُورُهُمْ تَضِيقُ لِذَلِكَ، وَرُبَّمَا اسْتُنْكِرَ أَنْ يُمَكِّنَ اللَّهُ الْكُفَّارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ."

نعم مع الابتلاء كثير من الناس لا يصبر، ويضيق به ذرعا، وتُخيِّل له نفسه وشيطانه أنه لو كان على الحق ما ابتلي، والكفار يتنعمون بالنعم ويبتلى بالفقر والأمراض وتسليط الأعداء، وما يدري أن البلوى هذه للتمحيص، لا بد من التمحيص، وإما أن تكفر بها السيئات وترفع بها الدرجات، فهي على كل حال خير، وإن كان الإنسان لا يتمناها كالمرض والعدو لا يتمنى، لكن إذا وقع المرض أو جاء العدوان فالصبر الصبر.

"قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُسَلِّيَةً وَمُعْلِمَةً أَنْ هَذِهِ هِيَ سِيرَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ اخْتِبَارًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِتْنَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بِهَذَا السَّبَبِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الأَقْوَالِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَوْجُودٌ حُكْمُهَا بَقِيَّةَ الدَّهْرِ."

وعلى كل حال المتفق عليه من أهل العلم: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ما يقول الإنسان والله يمكن أن أدعي أني مسلم أو مؤمن وولي من أولياء الله وما جاءني شيء وهذه الآية خاصة بمن نزلت فيهم، لا يقال هذه، فلا إمامة إلا بفتنة، ولا قيادة إلا بامتحان.

"وَذَلِكَ أَنَّ الْفِتْنَةَ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- بَاقِيَةٌ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، بِالأَسْرِ، وَنِكَايَةِ الْعَدُوِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِذَا اعْتُبِرَ أَيْضًا كُلُّ مَوْضِعٍ، فَفِيهِ ذَلِكَ بِالأَمْرَاضِ وَأَنْوَاعِ الْمِحَنِ. وَلَكِنَّ الَّتِي تُشْبِهُ نَازِلَةَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قُرَيْشٍ هِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الْعَدُوِّ فِي كُلِّ ثَغْرٍ."

يعني: دخول أصحاب الثغور في النص دخول أولي وقطعي، لأنهم يُبتلَون ويُمتحَنون من قِبَل الأعداء، ويشمل أيضا -كلفظ النص- سائر أنواع الابتلاء والامتحان.

"قُلْتُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ، وَلَقَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي مِهْجَعٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، رَمَاهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مِهْجَعٌ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ». فَجَزِعَ عَلَيْهِ أَبَوَاهُ وَامْرَأَتُهُ فَنَزَلَتْ {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا} [سورة العنكبوت 29/1-2]"

سيد الشهداء كما هو معلوم حمزة بن عبد المطلب عم الرسول -عليه الصلاة والسلام-، الخبر فيه كلام.

طالب: قال: ذكره الواحدي عن مقاتل بلا سند، وهذا معضل، وقد ورد في فضل مهجع، راجع ترجمته بالإصابة.

ما ذكر منها شيء، على كل حال هذا الحديث هو فرد من الأفراد داخلين في الآية، هو فرد من أفراد الآية، ولا يلزم أن يكون هو سيد الشهداء -كما تقدم-.

"وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: نَزَلَ مُفْتَتَحُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ لا يُقْبَلُ مِنْكُمْ إِقْرَارُ الإِسْلامِ حَتَّى تُهَاجِرُوا، فَخَرَجُوا فَأَتْبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَآذَوْهُمْ. فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةِ: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا} [سورة العنكبوت 29/1-2] فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ: نَزَلَتْ فِيكُمْ آيَةُ كَذَا، فَقَالُوا: نَخْرُجُ وَإِنِ اتَّبَعَنَا أَحَدٌ قَاتَلْنَاهُ، فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا فَنَزَلَ فِيهِمْ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} [سورة العنكبوت 29/2]."

الخبر فيه ما فيه، لأن فيه افتئات على النبي -عليه الصلاة والسلام-، والأصل أن الذي يكتب لهم أو يبلغهم هو النبي -عليه الصلاة والسلام-.

"{وَهُمْ لا يُفْتَنُون}: مُمْتَحَنُونَ، أَيْ: أَظَنَّ الَّذِينَ جَزِعُوا مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، أَنْ يُقْنَعَ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّا مُؤْمِنُونَ وَلا يُمْتَحَنُونَ فِي إِيمَانِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ حَقِيقَةُ إِيمَانِهِمْ؟! قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [سورة العنكبوت 29/3] أَيِ: ابْتَلَيْنَا الْمَاضِينَ كَالْخَلِيلِ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَكَقَوْمٍ نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ فِي دِينِ اللَّهِ فَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْهُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأرت: قالوا شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّد بُرْدَة لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ لَحْمُهُ وَعَظْمُهُ فَمَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»."

يمكن حصل ما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عنه، وعاشت الأمة مدد متطاولة في أمن وأمان، ويحصل لها من حين لآخر من الفتن ما يحصل، في بعض الأوقات، في بعض الأقطار، دون بعض، وما زالت المحن والفتن تتوالى على هذه الأمة إلى يومنا هذا.

"وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُوعَكُ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ فَوْقَ اللِّحَافِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَشَدَّهَا عَلَيْكَ! قَالَ: «إِنَّا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا الْبَلاءُ وَيُضَعَّفُ لَنَا الأَجْرُ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ» وَقُلْتُ: ثُمَّ مَنْ. قَالَ: «ثُمَّ الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ ليبتلى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلاَّ الْعَبَاءَةَ يَحُوبُهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلاءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ»."

في حديث أبي سعيد، صح منه حديث أبي موسى وحديث ابن مسعود، في صحيح مسلم عن ابن مسعود في صحيح مسلم لما دخل علَيَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو مريض، فقال: يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا! قال: «أجل إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم» قال إن لك أجرين؟ قال: «أجل» ولا شك أن الإنسان يبتلى على قدر دينه، ما يجزئ إلا العباءة يحوبها، يبتلى بالفقر الذي من لازمه الجوع، ثم لا يجزئ إلا العباءة يحوبها أو يحويها: بمعنى أنه يفتلها ويلويها ويربطها على بطنه.

"وَرَوَى سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قال: «الأنبياء ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ». وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- كَانَ لَهُ وَزِيرٌ، فَرَكِبَ يَوْمًا فَأَخَذَهُ السَّبُعُ فَأَكَلَهُ، فَقَالَ عِيسَى: يَا رَبِّ وَزِيرِي فِي دِينِكَ، وَعَوْنِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَخَلِيفَتِي فِيهِمْ، سَلَّطْتَ عَلَيْهِ كَلْبًا فَأَكَلَهُ. قَالَ: نَعَمْ كَانَتْ لَهُ عِنْدِي مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ. وَقَالَ وَهْبٌ: قَرَأْتُ فِي كِتَابِ رجل من الحواريين: إذا سُلِكَ بِكَ سَبِيلُ الْبَلاءِ فَقِرَّ عَيْنًا، فَإِنَّهُ سُلِكَ بِكَ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِذَا سُلِكَ بِكَ سَبِيلُ الرَّخَاءِ فَابْكِ عَلَى نَفْسِكَ، فَقَدْ خولف بك عن سبيلهم."

جاء ما يدل على ذم ما لم يتعرض إلى مرض أو مصيبة، وأن هذا دليل على أن سيئاتهم مدخرة لهم لم يكفر منها شيء -نسأل الله العفو والعافية-، بخلاف من أصيب بنفسه أو ماله أو ولده فإن هذا يكفر عن سيئاته حتى يلقى الله وما عليه خطيئة.

 قوله تَعَالَى {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [سورة العنكبوت 29/3] أَيْ فَلَيَرَيَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ."

عِلْم الله -جل وعلا- سابق ومتقدم، فالعلم هنا المقصود به: ما يظهر للعيان، بدلا من أن يكون في عالم الغيب يكون في عالم الشهادة، يعني كالحكمة مِن وَضْعِ الموازين والحساب، الله -جل وعلا- عالم بما عملوا وما يعملون، وأن النتائج عنده ظاهرة وجلية، وشقي أو سعيد، وهو في بطن أمه، ومع ذلك تنتصب الموازين ليظهر ذلك العلم الغيبي إلى عالم الشهادة.

"وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَعْلَمَ صِدْقَ الصَّادِقِ بِوُقُوعِ صِدْقِهِ مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمَا، وَلَكِنَّ الْقَصْدَ قَصْدُ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِمَا يُجَازِي عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يَعْلَمُ صِدْقَ الصَّادِقِ وَاقِعًا كَائِنًا وُقُوعُهُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقَعُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: فِيهِ قَوْلانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ {صَدَقُوا} مُشْتَقًّا مِنَ الصِّدْقِ وَ{الْكاذِبِينَ} مُشْتَقًّا مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصِّدْقِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَلَيُبَيِّنَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا فَقَالُوا نَحْنُ مُؤْمِنُونَ وَاعْتَقَدُوا
مِثْلَ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ اعْتَقَدُوا غَيْرَ ذَلِكَ."

وهذا الظاهر من اللفظ والمتبادر.

"وَالْقَوْلُ الآخَرُ أَنْ يَكُونَ صَدَقُوا مُشْتَقًّا من الصَّدق وهو الصُّلْب، والكاذبين مُشْتَقًّا مِنْ كَذَّبَ إِذَا انْهَزَمَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي الْحَرْبِ، وَالَّذِينَ انهزموا، كما قال الشاعر:

فَجَعَلَ {لَيَعْلَمَنَّ} فِي مَوْضِعِ فَلَيُبَيِّنَنَّ مَجَازًا."

اللجوء إلى مثل هذا التأويل البعيد لا يحل الإشكال، سواء كان اختبارهم وامتحانهم لعلم صدقهم وكذبهم في الأقوال كما هو الاحتمال الأول -وهو الظاهر-، أو معرفة صدقهم من كذبهم في الأفعال يعني الثبات والفرار وما أشبه ذلك. لا، لا يختلف الأمر.

العلم الإلهي سابق قبل أن يخلقوا، والله-جل وعلا- أعلم بما كانوا عاملين قبل أن يعملوا، وكتب عليهم السعادة والشقاء في بطون أمهاتهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقوا بآلاف السنين، -ومع ذلك- ليظهر ذلك في عالم الشهود، ليقرر كل إنسان بما يعمله، لتقوم عليه الحجة، لئلا يكون للناس على الله حجة.

لأن لجان التحقيق عندما تحقق مع الجناة، الذين ظهرت، وعرفوا بسوابقهم وجرائمهم، بحيث لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، إنما من أجل أن يقرروا، وإلا فالحكم عليهم بالشهود، يعني كونهم يقرر عليهم إضافة إلى الشهود، ويحقق معهم في بعض الأمور، من أجل أن يقتنعوا بأنفسهم أنهم مستحقون لهذا العقاب، مع أن التحقيق بالنسبة للمخلوق قد تنكشف له أمور لم تنكشف من قبل، بخلاف ما يتعلق بالخالق -جل وعلا- الذي لا يخفى عليه خافية.

"فَجَعَلَ {لَيَعْلَمَنَّ} فِي مَوْضِعِ فَلَيُبَيِّنَنَّ مَجَازًا، وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ {فَلَيَعْلَمَنَّ} [سورة العنكبوت 29/4] بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللاَّمِ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللاَّمِ، وَهِيَ تُبَيِّنُ مَعْنَى مَا قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَيَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ مَعَانٍ: الأَوَّلُ أَنْ يُعْلِمَ فِي الآخِرَةِ هَؤُلاءِ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ بِمَنَازِلِهِمْ مِنْ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَبِأَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، بِمَعْنَى يُوقِفُهُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الأَوَّلُ مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: فَلَيُعْلِمَنَّ النَّاسَ وَالْعَالَمَ هَؤُلاءِ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ، أَيْ: يَفْضَحُهُمْ وَيُشْهِرُهُمْ، هَؤُلاءِ فِي الْخَيْرِ وَهَؤُلاءِ فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعَلامَةِ، أَيْ: يَضَعُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ عَلامَةً يَشْتَهِرُ بِهَا. فَالآيَةُ عَلَى هَذَا تَنْظُرُ إِلَى قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها»."

فلا تنظروا تنظر، تنظر تكون نظير قول النبي –عليه الصلاة والسلام-يعني بمعناه.

خُرِّج؟

طالب: قال: لا أصل له في المرفوع، وإنما هو من كلام العبثي.

وفي الحديث يقولون لو أن رجلا زورا في نفسه حديثا -يعني: بينه وبين نفسه- حديثا يكذب به على النبي -عليه الصلاة والسلام- لأصبح الناس يتحدثون به.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [سورة العنكبوت 29/4] أي: الشرك. قال: {أَن يَسْبِقُونَا} [سورة العنكبوت 29/4] أي: يفوتنا وَيُعْجِزُونَا قَبْلَ أَنْ نُؤَاخِذَهُمْ بِمَا يَفْعَلُونَ."

الشرك ما دونه، لأن السيئات أعم من الشرك، فالشرك لا بد من المؤاخذة فيه، وما دونه يحتمل المشيئة.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهْلٍ، وَالأَسْوَدَ، وَالْعَاصِ بْنَ هِشَامٍ، وَشَيْبَةَ، وَعُتْبَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وحنظلة بن أَبِي سُفْيَانَ، وَالْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ. {ساءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ: بِئْسَ الْحُكْمُ مَا حَكَمُوا فِي صِفَاتِ رَبِّهِمْ."

نعم يظنون أنهم يفلتون من حكم الله -جل وعلا- وجزاءه، كما قد يصنعونه بالنسبة للبشر، فالجاني قد يفلت من أيدي الناس، من أيدي الحكام، من أيدي من يطبِّق عليهم الحدود، لكن هل يفلتون من حكم الله -جل وعلا- وقضائه وجزائه لهم؟! لا يمكن.

"أَيْ: بِئْسَ الْحُكْمُ مَا حَكَمُوا فِي صِفَاتِ رَبِّهِمْ أَنَّهُ مَسْبُوقٌ وَاللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كل شيء. وَ{مَا}: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى سَاءَ شَيْئًا أَوْ حُكْمًا يَحْكُمُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ {مَا} فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، بِمَعْنَى سَاءَ الشَّيْءُ أَوِ الْحُكْمُ حُكْمُهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَدَّرَهَا ابن كيسان تقديرين آخَرَينَ خِلافَ ذَيْنكَ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ {ما يَحْكُمُونَ} بمنزلة شيء وَاحِدٍ، كَمَا تَقُولُ: أَعْجَبَنِي مَا صَنَعْتَ، أَيْ صَنِيعُكَ، فَـ{مَا} وَالْفِعْلُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ، سَاءَ حُكْمُهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ الآخَرُ أَنْ تَكُونَ {مَا} لا موضع لها من الإعراب، وقد قامت مقام الاسم لساء، وكذلك نعم وبئس."

قامت مقام الاسم، وهي لا موضع لها من الإعراب، يعني لو قيل إنها موصولة، ساء ما يحكمون ساء الذين يحكمون، صلتها لا محل لها من الإعراب، والعائد محذوف ساء ما يحكمونه، اتجاه القول بأن لا موضع لها من الإعراب يعني صلة الموصول، وأما الموصول له محل من الإعراب.

"قال أبو الحسن بن كَيْسَانَ: وَأَنَا أَخْتَارُ أَنْ أَجْعَلَ لِـ{مَا} مَوْضِعًا فِي كُلِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} [سورة آل عمران 3/159]."

يعني صيانة القرآن من الزيادة والنقصان، لأنهم يقولون {فَبِمَا رَحْمَةٍ} [سورة آل عمران 3/159] ما زائدة، لأن الكلام يستقيم بدونها {فَبِمَا نَقْضِهِم} [سورة النساء 4/155] ما زائدة، لاستقامة الكلام بدونها، لكن هو يقول: لا، الجار دخل على ما، والذي بعدها بدل منها، وهذا كلام في غاية الجودة، فصيانة القرآن واجبة، وليس معنى الزيادة أنها يمكن حذفها، ووجودها وعدمه سواء، حتى عند من يقول إنها زائدة، إلا أنها من حيث الإعراب يستقيم الكلام بدونها.

"وَكَذَا {فَبِمَا نَقْضِهِم} [سورة النساء 4/155] وَكَذَا {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [سورة القصص 28/28] {ما} فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ فِي هَذَا كُلِّهِ وَمَا بَعْدَهُ تَابِعٌ لَهَا، وَكَذَا {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} [سورة البقرة 2/26] {مَا} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَ{بَعُوضَةً} تَابِعٌ لها.

قوله تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} [سورة العنكبوت 29/5]
{يَرْجُو} بِمَعْنَى يَخَافُ، مِنْ قَوْلِ الْهُذَلِيِّ فِي وَصْفِ عَسَّالٍ:

يعني: لم يخف، لأنه اعتادها جسمه، اعتاد عليها هذا الإنسان، ما اعتاده بعض الناس، يعتاد الأمور ويزاول أمور لا يطيقها غيرهم، ومع ذلك لا تؤثر فيهم، ومن ذلك المواد السامة، والمواد المؤثرة، مؤثرة الحساسية، كالفلفل -مثلا- الناعم، هذا يكال ويباع ويتداول بين أهله من غير أن يحصل لا عطاس ولا شيء، الذي يبيعه ما يحصل له شيء، لكن الذي يشتريه لأول مرة لم يعتاده لا شك أنه يتأثر، فالنحال لا يتأثر بلسع العسل.

"وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَخَافُ الْمَوْتَ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا فَإِنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَهُ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَالَ الزجاج: معنى {يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} [سورة العنكبوت 29/5] ثَوَابَ اللَّهِ وَ{مَنْ} فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالابْتِدَاءِ وَ{كانَ} فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالشَّرْطِ، وَ{يَرْجُو} فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ، وَالْمُجَازَاةُ {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة العنكبوت 29/5]."

اللقاء {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} [سورة العنكبوت 29/5] المراد به: البعث بعد الموت وما يتبعه من الرؤية، رؤية الناس لربهم، مسلمهم وكافرهم، المؤمن والكافر، والمؤمن في الجنة يتلذذ -وهي أعظم نعيم-، وأما الكافر فلا يتلذذ، وإنما يكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان، هو وغيره.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [سورة العنكبوت 29/6] أَيْ وَمَنْ جَاهَدَ فِي الدِّينِ، وَصَبَرَ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ وَأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّمَا يَسْعَى لِنَفْسِهِ، أَيْ ثَوَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ لَهُ، وَلا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ نَفْعٌ مِنْ ذَلِكَ."

 يعني كما جاء في حديث أبي ذر: «يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا»، الله -جل وعلا- لا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره المعصية، مثل لو كانوا على أفجر قلب رجل ما نقص من ملكه شيء والله المستعان.

 "{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} أَيْ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى، مَنْ جَاهَدَ عَدُوَّهُ لِنَفْسِهِ لا يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فليس لله حاجة بجهاده قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ صَدَّقُوا {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ} أَيْ لَنُغَطِّيَنَّهَا عَنْهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَهُوَ الطَّاعَاتُ. ثُمَّ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ تُكَفَّرَ عَنْهُمْ كُلُّ مَعْصِيَةٍ عَمِلُوهَا فِي الشِّرْكِ وَيُثَابُوا عَلَى مَا عَمِلُوا مِنْ حَسَنَةٍ فِي الإِسْلامِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُكَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالإِسْلامِ. وَيُثَابُوا عَلَى حَسَنَاتِهِمْ في الكفر والإسلام."

الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه فقد أسلم على ما أسلف من خير كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- تكتب له حسناته، كما أن الصبي إذا بلغ تكتب له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات قبل ذلك في أصح قولي العلماء.

 "قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً} نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِيمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ فَذَكَرَ قِصَّةً، فَقَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْبِرِّ! وَاللَّهِ لا أَطْعَمُ طَعَامًا، وَلا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ، قَالَ أبو عيسى: فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ."

يعني أدخلوا في فمها عودا يفتحون به بالقهر وهذا لون من الإضراب عن الطعام لحث الطرف المخالف على الانصياع لما يطلبه هذا المُضْرِب، ولا يعرف له أصل في الشرع  الإضراب لا يعرف له أصل في الشرع وإن أدى ذلك للضرر فهو من المحرم، قد يقول قائل قد لا يكون هناك وسيلة لاستخراج الحقوق إلا بمثل هذا، لا، الوسائل الشرعية كافية -ولله الحمد- وليس في الشرع ما يلجئ إلى مثل هذا، على كل حال لو مات من الجوع هذا المُضْرِب أثم وكان قاتلا لنفسه مثل هذه الوسيلة غير شرعية الإضراب عن الطعام لأنه ضرر والضرر يزال والمحتاج والمضطر إلى الأكل يأكل ما حرم الله عليه -والله المستعان-.

"قَالَ أبو عيسى: فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَوَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً} الآيَةَ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسن صحيح. وَرُوِيَ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ بَارًّا بِأُمِّي فَأَسْلَمْتُ، فَقَالَتْ: لَتَدَعَنَّ دِينَكَ أَوْ لا آكُلُ وَلا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرُ بِي، وَيُقَالُ يَا قَاتِلَ أُمِّهِ، وَبَقِيَتْ يَوْمًا وَيَوْمًا فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ! لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ، فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي، وَإِنْ شِئْتِ فَلا تَأْكُلِي، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَكَلَتْ وَنَزَلَتْ: {وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي} الآيَةَ."

لا شك أن الطاعة بالمعروف فإن أمر الوالد ولده بفعل محرم فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق أو في ترك واجب لكن إن أمره بترك مسنون أو فعل مكروه فالأمر أسهل وأخف لأنه حينئذ يتعارض أمر الوالد الذي هو في الأصل واجب مع ترك هذا المأمور ولكن قد يكون الباعث على ذلك ليس حاجة الوالد، نعم قد يقول لا تذهب إلى الدرس اليوم وأنا محتاج أن توصلني إلى مكان كذا وكذا هذا هو الظاهر لكن قد يكون لا حاجة له به لكن يريد أن يمنعه من الخير بدون مبرر فهل له ذلك أو ليس له ذلك؟ إذا كان محتاجًا إليه هذا مفروغ منه، إذا كان غير محتاج إليه اذهب لأي مكان لكن لا تذهب للدرس هذا قد يفعله بعض الآباء من باب الشفقة على أولادهم مما يرون ويسمعون مما لُبس أهل الخير من غير لباسهم أو لبس على الناس وأظهر أهل الخير وأهل العلم وأهل الفضل بغير لباسهم فيخشى على ولده أن يُلبس ويقول كون ويقولون كن رجلا عاديًّا أو أقل من عادي أفضل من أن يتهم بتهمة لا تليق به أو تضره، فإذا قالوا لا تذهب إلى هذا أو احلق لحيتك فهذا محرم لا طاعة لمخلوق، لأنه وجد من يقول هذا ويقول اسبل ثوبك هذا أيضا لا يطاع لأنه محرم لكن إذا قال لا تذهب الدرس لأن هذه الدروس يتهم أصحابها وأربابها وطلاب العلم لأنهم متطرفون وأنهم كذا وأنهم كذا هذا من باب الشفقة على الولد، مثل هذا يطاع أو لا يطاع؟ إذا كان الأمر أو النهي الباعث عليه الشفقة على المأمور والمنهي مثل ما قال أهل العلم في عبد الله بن عمرو بن العاص لما قال له النبي -عليه الصلاة والسلام- «في سبع ولا تزد» وزاد صار يقرأ القرآن في ثلاث لا يوجد أحد من أهل العلم قال إن عبد الله بن عمرو أثم في هذا لأنه خالف قوله -عليه الصلاة والسلام- «اقرأ القرآن في سبع » عَرَف ابن عمرو أنه من باب الشفقة عليه فلا يلزمه الأخذ به يعني من باب أولى إذا قال الوالد لولده لا تذهب إلى الدروس نعم لا يصادمه مصادمة تجعل قلبه ينكسر ويتحسر عليه وينفر منه ويكرهه ويبغضه ويدعوا عليه أحيانا إنما يتحايل عليه إلى الذهاب إلى مواطن العلم والدروس وما ينفعه في أمر دينه ودنياه ولو لم يعلم الوالد ولا يُحمل الأمر على أصله المقتضي المنع والتحريم.

طالب: إذا منع ابنه من الحج المسنون هل تلزمه الطاعة أم لا؟

من الحج المسنون إذا كان الجهاد وهو آكد من الحج لا بد من إذن الوالد فالحج من باب أولى.

"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخِي أَبِي جَهْلٍ لأُمِّهِ وَقَدْ فَعَلَتْ أُمُّهُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الأُمَّةِ إِذْ لا يَصْبِرُ عَلَى بَلاءِ اللَّهِ إِلاَّ صِدِّيقٌ. وَ{حُسْناً} نُصِبَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى التَّكْرِيرِ أَيْ وَوَصَّيْنَاهُ حُسْنًا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْقَطْعِ تَقْدِيرُهُ وَوَصَّيْنَاهُ بِالْحُسْنِ كَمَا تَقُولُ وصيته خيرا أي بِالْخَيْرِ."

يعني منصوب بتكرار العامل أو منصوب بنزع الخافض.

 "وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: تَقْدِيرُهُ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ حُسْنًا فَيُقَدَّرُ لَهُ فِعْلٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَيْ يُوصِينَا أَنْ نَفْعَلَ بِهَا خَيْرًا، كَقَوْلِهِ: {فَطَفِقَ مَسْحاً} أَيْ يَمْسَحُ مَسْحًا. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ وَوَصَّيْنَاهُ أَمْرًا ذَا حُسْنٍ، فَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، وَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلْزَمْنَاهُ حُسْنًا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ {حُسْناً} بضم الحاء وإسكان السين. وقرأ أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ."

حَسَنًا يعني.

"وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ. {إِحْسَانًا} عَلَى الْمَصْدَرِ، وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، التَّقْدِيرُ: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ أَنْ يحسن إليهما إحسانا، ولا ينتصب بوصينا، لأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى مَفْعُولَيْهِ. {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} وَعِيدٌ فِي طَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ. {فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} كَرَّرَ تَعَالَى التَّمْثِيلَ بِحَالَةِ المؤمنين العاملين لتحرك النُّفُوسَ إِلَى نَيْلِ مَرَاتِبِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} مُبَالَغَةٌ عَلَى مَعْنَى، فَالَّذِينَ هُمْ فِي نِهَايَةِ الصَّلاحِ وَأَبْعَد غَايَاتِهِ. وَإِذَا تَحَصَّلَ لِلْمُؤْمِنِ هَذَا الْحُكْمُ تَحْصُلُ ثَمَرَتُهُ وَجَزَاؤُهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ."

يعني في جملة الصالحين ليكون منهم، والتعبير بفي دون مع والأصل أن يكون مع الصالحين مبالغة في إدخاله في أثنائهم ومن بينهم لئلا يكون طرفا في الصالحين إنما يكون في ظرفين في أثنائهم وبينهم قبله أناس وبعده أناس وعن شمائله أناس إلى آخره وهذا أبلغ من كونه مع الصالحين.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ كانوا يقولون آمَنَّا بِاللَّهِ {فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي أذاهم {كَعَذابِ اللَّهِ} في الآخرة فارتد عن إيمانه. وقيل: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر على الأذية في الله. {وَلَئِنْ جاءَ} المؤمنين {نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ} هؤلاء المرتدون {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} وهم كاذبون، فقال الله لهم {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ} يعني الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم."

يعني بما أن الله -جل وعلا- أعلم بما في صدورهم من أنفسهم فكيف بغيرهم؟! إذا كان يعلم السر الحاصل وأخفى يعني أخفى من السر، الله -جل وعلا- أعلم بما عملوا وما سيعملون وما لم يكن من عملهم لو كان.

"وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَلاءٌ مِنَ اللَّهِ أَوْ مُصِيبَةٌ فِي أَنْفُسِهِمُ افْتُتِنُوا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ، فَإِذَا أُوذُوا رَجَعُوا إِلَى الشِّرْكِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ قَوْمٌ قَدْ أَسْلَمُوا فَأَكْرَهَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى بَدْرٍ فَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ} فَكَتَبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ، فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَافْتُتِنَ بَعْضُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيهِمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَسْلَمَ وَهَاجَرَ، ثُمَّ أُوذِيَ وضرب فارتد. وإنما عذبه أبو جهل والحرث وَكَانَا أَخَوَيْهِ لأُمِّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ. {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ رَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مكة."

يعني ممن ثبت على دينه وإسلامه وممن آمن بلسانه دون قلبه.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا} أَيْ دِينَنَا. {وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ} جُزِمَ عَلَى الأَمْرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ أَمْرٌ فِي تَأْوِيلِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ إِنْ تَتَّبِعُوا سَبِيلَنَا نَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ، كَمَا قَالَ:

يعني إذا انضم صوتي إلى صوت قوي يقوى الصوت بانضمام غيره عليه بخلاف الصوت المفرد فإنه يكون ضعيفا.

"أَيْ إِنْ دَعَوْتِ دَعَوْتُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَجَاءَ وُقُوعُ {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} بَعْدَهُ عَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، لأَنَّ الْمَعْنَى إِنِ اتَّبَعْتُمْ سَبِيلَنَا حَمَلْنَا خَطَايَاكُمْ. فَلَمَّا كَانَ الأَمْرُ يَرْجِعُ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْخَبَرِ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّكْذِيبُ كَمَا يُوقَعُ عَلَيْهِ الْخَبَرُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ نَحْنُ وَأَنْتُمْ لا نُبْعَثُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْكُمْ وِزْرٌ فَعَلَيْنَا، أَيْ نَحْنُ نَحْمِلُ عَنْكُمْ ما يلزمكم."

كلامهم فيه مبالغة في إنكار البعث مبالغة في إنكار البعث.

"والحمل هاهنا بمعنى الحمالة لا الْحَمْلُ عَلَى الظَّهْرِ."

يعني نتحمل عنكم.

"وَرُوِيَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ."

ويحتمل أن يكون معناه المراد به الحمل على الظهر مبالغة وإمعانًا في الإنكار لأنه لا بعث ولو قدر أن هناك بعث ووجد من الأوزار ما يمكن حمله بعد كونه محسوسا ثقيلا نحمل عنكم.

"{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ} يَعْنِي مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِمْ مِنْ سَيِّئَاتِ مَنْ ظَلَمُوهُ بَعْدَ فَرَاغِ حَسَنَاتِهِمْ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ."

حديث المفلس في صحيح مسلم وغيره حديث المفلس يحمل أثقاله وأثقال غيره جاء بأعمال صالحة وجاء بأعمال سيئة متعدية، في المقاصة تنتهي حسناته فإذا لم تتم المقاصة وبقي من ظلمه شيء أخذت من أوزارهم وسيئاتهم فألقيت عليه فألقي في النار.

"قَالَ أَبُو أمامة الباهلي: «يؤتى الرجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ كَثِيرُ الْحَسَنَاتِ فَلا يَزَالُ يُقْتَصُّ مِنْهُ حَتَّى تَفْنَى حَسَنَاتُهُ ثُمَّ يُطَالَبُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اقْتَصُّوا مِنْ عَبْدِي فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ مَا بَقِيَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ فَيَقُولُ خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ» ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِم} وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلا يُنْقَصُ مِنْ أوزارهم شيء."

وجاء في الحديث الصحيح «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجره وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل به إلى يوم القيامة» -نسأل الله العفو والعافية- وتجد العالم المحقق تجرى عليه الأجور من تعليمه إلى يوم القيامة وتجد بالضد من ألف في نشر البدع والخرفات وما يؤدي إلى الفجور والفسوق عليه أوزار من عمل بمثل عمله ومثل ما دعي إليه إلى يوم القيامة.

"وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلامُ-: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ ينقص من أوزارهم شيء» رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ عَلَيْهِ وَعُمِلَ بِهِ فَلَهُ مِثْلَ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ وَلا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا وَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِمَّنِ اتَّبَعَهُ لا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شيئا» ثم قرأ الحسن {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} قُلْتُ: هَذَا مُرْسَلٌ وَهُوَ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَنَصُّ حَدِيثِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَاتُّبِعَ فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنِ اتبعه ولا ينقص من أوزارهم شَيْئًا وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ فإن له مثل أجور من اتبعه وَلا يُنْقِصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ."

ولا يعارض قوله -جل وعلا- {ولا تزر وازرة وزر أخرى} لا يعارض هذا بهذا لأن هذا من عمله من وزره هذا من ثمرات عمله من نتيجة عمله من الآثار المترتبة من عمله فمن أوزاره -نسأل الله العفو والعافية- كما أن الحسنات التي تجنى من أجور من اتبع من دعا إلى هدى من ثمرات عمله نتيجة لسعيه وكسبه.

 وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَجَرِيرٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ. وَقِيلَ: أَصْحَابُ الْبِدَعِ إِذَا اتُّبِعُوا عَلَيْهَا وَقِيلَ: مُحْدِثُو السُّنَنِ الْحَادِثَةِ إِذَا عُمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِمْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ وَالْحَدِيثُ يَجْمَعُ ذَلِكَ كله."

كل هذه أمثلة للقاعدة من سن في الإسلام، «ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجره وأجر من عمل بها» يعني اقتدى به ومثله من سن في الإسلام سنة سيئة -نسأل الله العافية-.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} ذَكَرَ قِصَّةَ نُوحٍ تَسْلِيَةً لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَيِ ابْتُلِيَ النَّبِيُّونَ قَبْلَكَ بِالْكُفَّارِ فَصَبَرُوا. وَخَصَّ نُوحًا بِالذِّكْرِ، لأَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى الأَرْضِ وَقَدِ امْتَلأَتْ كُفْرًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي هُودٍ. وَأَنَّهُ لَمْ يَلْقَ نَبِيٌّ مِنْ قَوْمِهِ مَا لَقِيَ نُوحٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ عَنِ الْحَسَنِ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ «أَوَّلُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ نُوحٌ» قَالَ قَتَادَةُ: وَبُعِثَ مِنِ الْجَزِيرَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَبْلَغِ عُمْرِهِ. فَقِيلَ: مَبْلَغُ عُمْرِهِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَبِثَ فِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ ثلاثمائة سنة ودعاهم ثلاثمائة سَنَةٍ، وَلَبِثَ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلاثَمِائَةِ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُعِثَ نُوحٌ لأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الْغَرَقِ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشُوا. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ بُعِثَ وهو ابن ميتين وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ مِائَتِي سَنَةٍ. وَقَالَ وَهْبٌ: عُمِّرَ نُوحٌ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ كَعْبُ الأَحْبَارِ: لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سَبْعِينَ عَامًا فَكَانَ مَبْلَغُ عُمْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ وعشرين عاما. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ شَدَّادٍ: بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وَثَلاثِمِائَةِ سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَكَانَ مَبْلَغُ عُمْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَنَحْوَهُ عَنْ الْحَسَنِ."

 هذه الأعداد يثبت منها ما ذكره الله -جل وعلا- بالنص القطعي {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} يعني زمن الدعوة تسعمائة وخمسين سنة وما عدا ذلك مما كان قبل الدعوة أو بعد الطوفان والغرق الله أعلم به كل هذا مما تلقي من بني إسرائيل وتجدون فيه التفاوات الكبير بين هذه الأقوال لأنها لا تستند إلى نص صحيح.

" قال الحسن: لَمَّا أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ نُوحًا لِيَقْبِضَ رُوحَهُ قَالَ: يَا نُوحُ كَمْ عِشْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: ثَلاثُمِائَةٍ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، وَأَلْفُ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فِي قَوْمِي، وَثَلاثُمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً بَعْدَ الطُّوفَانِ. قَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: فَكَيْفَ وَجَدْتَ الدُّنْيَا؟ قَالَ نُوحٌ: مِثْلَ دَارٍ لَهَا بَابَانِ دَخَلْتُ مِنْ هَذَا وَخَرَجْتُ مِنْ هَذَا. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لما بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ بَعَثَهُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وَمِائَتِي سَنَةٍ فَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا وَبَقِيَ بَعْدَ الطُّوفَانِ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْ سَنَةٍ فَلَمَّا أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ يَا نُوحُ يَا أَكْبَرَ الأَنْبِيَاءِ وَيَا طَوِيلَ الْعُمُرِ وَيَا مُجَابَ الدَّعْوَةِ كَيْفَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا قَالَ مِثْلَ رَجُلٍ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ لَهُ بَابَانِ فَدَخَلَ مِنْ وَاحِدٍ وَخَرَجَ مِنَ الآخَرِ» وَقَدْ قِيلَ: دَخَلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَجَلَسَ هُنَيْهَةً ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الآخَرِ."

خُرِّجَ الخبر؟

طالب: قال: لم يجده مسندًا ولا يصح... وأنه ورد عن أناس بالكوفة وأخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا في باب... والوقوف أشبه والظاهر أن مسنده ضعيف.

يعني كما ذكر كسوابقه.

"وَقَالَ ابْنُ الْوَرْدِيِّ: بَنَى نُوحٌ بَيْتًا مِنْ قَصَبٍ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ بَنَيْتَ غَيْرَ هَذَا، فَقَالَ: هَذَا كَثِيرٌ لِمَنْ يَمُوتُ، وَقَالَ أَبُو الْمُهَاجِرِ: لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فِي بَيْتٍ مِنْ شَعْرٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ابْنِ بَيْتًا فَقَالَ: أَمُوتُ الْيَوْمَ أَوْ أَمُوتُ غَدًا."

قصر الأمل لا بد من الحث على العمل لأن المسلم مع طول الأمل يتراخى في العمل فلا بد من تقصير الأمل في الدنيا يشمر ويجد في العمل كم من شخص في واقعنا الذي نعيشه قصص لأناس معروفين شيدوا القصور وبعضهم مات قبل السكن وبعضهم مات قبل الفرض وبعضهم مات قبل تمام البنيان وبعضهم سكن مدة يسيرة ثم مات وهكذا واهتمامنا بهذا التراب وهذا الطين وهذا البينان لا يجدي ولا يغني شيئا ولا يدفع عنا شيء.

"وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: مَرَّتْ بِنُوحٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةً لَمْ يَقْرُبِ النِّسَاءَ وَجَلاً مِنَ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَجُوَيْبِرٌ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ كَبِرَ وَرَقَّ عَظْمُهُ قَالَ يَا رَبِّ إِلَى مَتَى أَكِدُّ وَأَسْعَى؟ قَالَ: يَا آدَمُ حَتَّى يُولَدَ لَكَ وَلَدٌ مَخْتُونٌ. فَوُلِدَ لَهُ نُوحٌ بَعْدَ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ أَلْفِ سَنَةٍ إِلاَّ سِتِّينَ عَامًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِلاَّ أَرْبَعِينَ عَامًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ."

وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عامًا أيقصد آدم هذا الذي بينه وبين نوح؟ هذا كلام ابن عباس وثابت عنه أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التوحيد كما هو معلوم.

 "فَكَانَ نُوحُ بْنُ لامَكَ بْنِ مُتُوشْلِخَ بْنِ إِدْرِيسَ وَهُوَ أَخْنُوخُ بن يرد بن مهلائيل بْنِ قَيْنَانِ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شَيثَ بْنِ آدَمَ. وَكَانَ اسْمُ نُوحٍ السَّكَنَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ السَّكَنَ، لأَنَّ النَّاسَ بَعْدَ آدَمَ سَكَنُوا إِلَيْهِ، فَهُوَ أَبُوهُمْ. وَوُلِدَ لَهُ سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ، فَوَلَدَ سَامُ الْعَرَبَ وَفَارِسَ وَالرُّومَ وَفِي كُلِّ هَؤُلاءِ خَيْرٌ. وَوَلَدَ حَامٌ الْقِبْطَ وَالسُّودَانَ وَالْبَرْبَرَ. وَوَلَدَ يَافِثُ التُّرْكَ وَالصَّقَالِبَةَ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَلَيْسَ في شي مِنْ هَؤُلاءِ خَيْرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي وَلَدِ سَامٍ بَيَاضٌ وَأُدْمَةٌ وَفِي وَلَدِ حَامٍ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ قَلِيلٌ. وَفِي وَلَدِ يَافِثَ -وَهُمُ التُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ- الصُّفْرَةُ وَالْحُمْرَةُ. وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ رَابِعٌ وَهُوَ كَنْعَانُ الَّذِي غَرِقَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ يام. وسمي نوح نوحا لأنه ناح عن قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَفَرُوا بَكَى وَنَاحَ عَلَيْهِمْ. وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ فِي كِتَابِ التَّخْبِيرِ لَهُ:"

التحبير الظاهر التحبير في شرح الأسماء الحسنى له كتاب بهذا الاسم اسمه التحبير.

"يُرْوَى أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ اسْمُهُ يَشْكُرُ وَلَكِنْ لِكَثْرَةِ بُكَائِهِ عَلَى خَطِيئَتِهِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا نُوحُ كَمْ تَنُوحُ فَسُمِّيَ نُوحًا، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ شيء كَانَتْ خَطِيئَتُهُ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ مَرَّ بِكَلْبٍ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ مَا أَقْبَحَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ اخْلُقْ أَنْتَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا». وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحًا لِطُولِ مَا نَاحَ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَالَ {أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} وَلَمْ يَقُلْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا. فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ تَكْثِيرُ الْعَدَدِ فَكَانَ ذِكْرُهُ الأَلْفَ أَكْثَرَ فِي اللَّفْظِ وَأَكْثَرَ فِي الْعَدَدِ. الثَّانِي مَا رُوِيَ أَنَّهُ أُعْطِيَ مِنَ الْعُمُرِ أَلْفَ سَنَةٍ فَوَهَبَ مِنْ عُمْرِهِ خَمْسِينَ سَنَةً لِبَعْضِ وَلَدِهِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ رَجَعَ فِي اسْتِكْمَالِ الأَلْفِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النَّقِيصَةَ كَانَتْ مِنْ جِهَتِهِ. {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: الْمَطَرُ. الضَّحَّاكُ: الْغَرَقُ. وَقِيلَ: الْمَوْتُ. رَوَتْهُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ لِكُلِّ كَثِيرٍ مُطِيفٍ بِالْجَمِيعِ مِنْ مَطَرٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ مَوْتٍ طُوفَانُ."

نعم لأنه أطاف بهم من جميع الجهات.

 {وَهُمْ ظالِمُونَ} جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَ{أَلْفَ سَنَةٍ} مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ {إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} مَنْصُوبٌ عَلَى الاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُوجَبِ. وَهُوَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ."

الموجَب يعني بخلاف السالب، لا يوجد نفي لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يعني لو كان سالب قال ما لبث فيهم، والاستثناء الموجب ينصب ما بعده.

 "لأَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ كَالْمَفْعُولِ. فَأَمَّا الْمُبَرِّدُ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ فَهُوَ عِنْدَهُ مَفْعُولٌ مَحْضٌ. كَأَنَّكَ قُلْتَ اسْتَثْنَيْتُ زَيْدًا. تَنْبِيهٌ رَوَى حَسَّانُ بْنُ غَالِبِ بْنِ نَجِيحٍ أَبُو الْقَاسِمِ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « كان جِبْرِيلُ يُذَاكِرُنِي فَضْلَ عُمَرَ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا بَلَغَ فَضْلُ عُمَرَ قَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ لَوْ لَبِثْتُ مَعَكَ مَا لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ مَا بَلَّغْتَ لَكَ فَضْلَ عُمَرَ» ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْبَغْدَادِيُّ. وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ حَسَّانُ بْنُ غَالِبٍ عَنْ مَالِكٍ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ مِنْ حَدِيثِهِ."

هذا ضعفه ظاهر، انظر عندك.

طالب: قال باطل أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أُبَيّ بن كعب وعن عبد الله بن عامر الأسلمي من حديث عمار بن ياسر ونقل عن أحمد بن حنبل قوله هذا حديث موضوع وأما الإسناد الذي ساقه المصنف فإنه معلول بحسان بن غالب قال الحاكم روى عن مالك أحاديث موضوعة قال الزهري بترجمته...

ظاهر ظاهر.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ} مَعْطُوفٌ عَلَى الْهَاءِ."

والعطف على الضمير المنصوب لا يحتاج إلى فاصل فأنجيناه وأصحاب، لكن لو كان الضمير ضمير متصل مرفوع احتجنا إلى الفاصل.

"{وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ} الهاء وَالأَلِفُ فِي {جَعَلْناها} لِلسَّفِينَةِ، أَوْ لِلْعُقُوبَةِ، أَوْ للنجاة، ثلاثة أقوال."

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.