شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (008)
يقول رحمه الله تعالى: باب...
المقدم: اللفظة -أحسن الله إليكم- بين النية والنيات يرجع إلى الراوي؟
نعم، لعل الحميدي في الموضع الأول رواه للإمام البخاري بجمع النيات، وفي الموضع الثاني رواه الإمام البخاري عن عبد الله بن مسلمة القعنبي أو عن مالك بإفراد النية، فالإمام البخاري يتتبع ألفاظ الشيوخ -رحمه الله تعالى-، علمًا بأن الإمام البخاري لا يمكن أن يسوق حديثًا في موضعين بلفظه ومتنه وإسناده من غير تغيير، لا يمكن أن يفعل ذلك الإمام البخاري من غير تغيير، يعني مطابقة تامة إلا نادرًا، يعني ضبط عليه نحو عشرين موضعًا فقط، يعني من أكثر من سبعة آلاف موضع نحو عشرين موضعًا فقط، وهذه نادرة، والمراد بالحسبة التي ذكرها الإمام البخاري في الترجمة الاحتساب، طلب الأجر والثواب من الله -سبحانه وتعالى-، والمراد بالأحكام المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات كالبيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وقوله: {عَلَى شَاكِلَتِهِ} [سورة الإسراء 84] على نيته، تفسيرٌ من الإمام -رحمه الله تعالى- بحذف أداة التفسير، وتفسير الشاكلة بالنية صح عن الحسن البصري ومعاوية بن قرة المزني وقتادة، وقيل: على دينه، {عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي على دينه، قاله ابن زيد، وقيل: على ناحيته، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير.
على كل حال المراد بالشاكلة هل هو النية أو الدين أو الناحية؟ هذه أقوال لأهل العلم حفظها المفسرون وذكروها بأسانيدهم عمن ذكرنا، وممن ذكرها ابن جرير الطبري وابن الجوزي في تفسيره، وفي البصائر للفيروز أبادي يقول: {عَلَى شَاكِلَتِهِ} يعني على سجيته التي قيدته، وذلك أن سلطان السجية على الإنسان قاهر، وهذا كقوله -صلى الله عليه وسلم -: «كلٌّ ميسرٌ لما خلق له» على كل حال نعود إلى الترجمة، نرى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أدخل في الحديث الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام، فقدَّم الحج على الصوم بناءً على ما ثبت عنده في حديث ابن عمر: «بني الإسلام على خمس:... وحج بيت الله الحرام وصوم رمضان» والحج والصوم فقدم الحج على الصوم، وعليه بنى الإمام البخاري ترتيب كتابه، في الكتاب قدم الحج على الصيام.
المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ، بالنسبة لمن ألفوا في تراجم الإمام البخاري من هو أجود من ألف في هذا، كما تعلمون ألف أكثر من شخص وبعضهم لم يستوعب وبعضهم اختصر ولم يذكر جميع الأبواب فما هو أجمع؟ وما هو أحسنها؟ سؤال آخر: وهو حول... قد يسأل البعض يقول: ما الفرق بين الكتاب والباب والترجمة، هل هناك بينهم ترادف؟ وهل هناك فرق؟
ذكرنا مرارًا أن المراد بالترجمة التبويب على الحديث، والباب فرع من الكتاب، فالكتاب هو المكتوب الجامع لأبواب وفصول ومسائل، يدخل تحت الكتاب عدة أبواب غالبًا، ويدخل تحت الباب فصول ومسائل، هذا في الغالب، هذا غالبًا، فهناك ترتيب في تدرج الأكبر الكتاب، ثم الباب ثم الفصول والمسائل، ثم التتمات والتفريعات، وهذه غالبًا ما تذكر في كتب الفقه مثلاً أو كتب العربية وغيرها.
الكتب التي ألفت في بيان تراجم البخاري ومقاصده من هذه التراجم كثيرة، منها لأبي عبد الله بن رُشَيْد السبتي كتابٌ عظيم جدًّا لكن لم نقف عليه، ينقل عنه ابن حجر وغيره نفائس، وهناك تراجم لابن المنيِّر أيضًا ينقل عنه في الشروح طبع مختصره، وأما الأصل لم يوقف عليه، إنما ينقل عنه كثيرًا، أيضًا الشراح اعتنوا بالتراجم، وكل واحد يبين ما يلوح له من مقصد الإمام البخاري، ومن أحسن من تكلم على هذه التراجم الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- والعيني والكرماني على خللٍ في بعض ما يذكره، وأيضًا القسطلاني يعتني بالتراجم، فالشروح اعتنت بذكر هذه التراجم.
أشرنا فيما تقدم أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرَّج الحديث في سبعة مواضع، وذكرنا اثنين منها، وهنا نبدأ بالموضع الثالث في كتاب العتق، ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- للحديث بقوله: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لكل امرئ ما نوى» ولا نية للناسي والمخطئ، وذكر الحديث -رحمه الله تعالى- عن محمد بن كثير عن سفيان به بدون "إنما"، وإفراد النية، وذكر وجهي التقسيم كليهما، وأشرنا مرارًا إلى المراد بوجهي التقسيم فلا نحتاج إلى إعادته، وقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، أي نحو ذلك من التعليقات، لا يقع شيءٌ منها إلا بالقصد، وكأنه -رحمه الله تعالى- أشار إلى رد ما روي عن مالك أنه يقع الطلاق والعتاق عامدًا كان أو مخطئًا، ذاكرًا كان أو ناسيًا، وقد أنكره كثيرٌ من أهل مذهبه، قال الداودي -الداودي الشارح، شارح البخاري-: وقوع الخطأ في الطلاق والعتاق أن يلفظ بشيء غيرهما، فيسبق لسانه إليهما، وأما النسيان ففيما إذا حلف ونسي، ووقع في رواية القابسي: الخاطئ بدل المخطئ، هنا يقول: باب الخطأ والنسيان، إلى أن قال: ولا نية للناسي والمخطئ، وقع في رواية القابسي -وهو من رواة الصحيح كما هو معروف-: الخاطئ بدل المخطئ، وهل هناك فرق بين الخاطئ والمخطئ؟ الفرق بينهما أن المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي، فالخاطئ اسم فاعل من الثلاثي المراد به من تعمد الخطأ، وأما المخطئ اسم فاعل أيضًا من الرباعي أخطأ فمن جرى الخطأ على لسانه أو فعله من غير قصد ولا عمد. هنا يقول -رحمه الله تعالى-: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، معناه إذا أخطأ ونسي فأعتق أو طلَّق، وأشرنا فيما تقدم أنه لو قال لزوجته: أنت طالق، ويريد بذلك أنت طاهر، بل سبق لسانه، ولم يقصد الطلاق أنه يديَّن بذلك، ولا يقع الطلاق إلا إذا حصل مرافعة، فإنه في المرافعة تعلَّق به حق الغير حينئذٍ، فيؤاخذ بنطقه، أما ما بينه وبين ربه فإنه لا يؤاخذ بل يديَّن بذلك.
الموضع الرابع: في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، باب هجرة النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه إلى المدينة، وذكره من طريق مسدد، قال: حدثنا حماد هو ابن زيد عن يحيى، فذكره بدون "إنما" وبإفراد النية، والمناسبة ظاهرة حيث ساقه المصنف لبيان أن هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة كانت لله لا لغيره من الأغراض الدنيوية، الهجرة هجرة النبي –عليه الصلاة والسلام- كانت لله، وهجرة أصحابه كانت لله ورسوله، فوقعت مطابقة لما جاء في الحديث، فوجه المناسبة والرابط ظاهر.
الموضع الخامس: في كتاب النكاح، يقول -رحمه الله تعالى-: باب من هاجر أو عمل خيرًا لتزويج امرأة فله ما نوى، ورواه من طريق يحيى بن قزعة قال: حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد، فذكره بلفظ: «العمل بالنية» بإفراد الجزئين، ولعل هذا من رواية أو من لفظ يحيى بن قزعة، فرواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- على ما روي له -رحمه الله-، وما ترجم به من الهجرة منصوص في الحديث، باب من هاجر لتزويج امرأة فله ما نوى هذا نص الحديث، أما قوله: من عمل خيرًا، غير منصوص في الحديث، لكنه مستنبط؛ لأن الهجرة من جملة أعمال الخير، يدخل في الخبر ما وقع من أُمِّ سليم في امتناعها من التزويج بأبي طلحة حتى يسلم، أبو طلحة خطب أم سليم، فقالت له: أنت رجلٌ كافر وأنا مسلمة، والله -سبحانه وتعالى- حرم نكاح الكفار للمسلمات، فنسوق الحديث:
روى الإمام النسائي -رحمه الله تعالى- بسند صحيح عن أنسٍ قال: خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يُرَدّ، ولكنك رجلٌ كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، وما أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها، هل نقول: إن إسلام أبي طلحة غير مقبول؛ لأنه أسلم ليتزوج، ونقول: هذا كمن هاجر ليتزوج؟ قد يكون الإسلام في مبدأ الأمر لرغبة أو لرهبة، ثم يقع الإسلام من قلبه موقعًا عظيمًا فيحسن إسلامه، ويصدق في الإسلام قدمه، فيصير من أفضل المسلمين، ومن خيرهم، وهذا ما حصل بالنسبة لأبي طلحة، قال ثابت: فما سمعتُ بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم، الإسلام مهرها الإسلام، والقصة سندها صحيح.
لكن العيني في عمدة القاري ذكر أن هذا لا يصح عن أبي طلحة، فالحديث وإن كان صحيح الإسناد، العيني لا يُعل الحديث من جهة الإسناد، لكن يعله من جهة المتن، الإسناد صحيح بلا شك عند النسائي، يقول: فالحديث وإن كان صحيح الإسناد، ولكنه معللٌ بكون المعروف أنه لم يكن حينئذٍ نزل تحريم المسلمات على الكفار، وإنما نزل بين الحديبية وبين الفتح، حين نزل قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [سورة الممتحنة 10] كما ثبت في صحيح البخاري، وقول أم سليم في هذا الحديث: ولا يحل لي أن أتزوجك شاذٌ مخالفٌ للحديث الصحيح، وما أجمع عليه أهل السير، يعني كلام العيني في محله.
لكن الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قال: يمكن الجواب بأن ابتداء تزوج الكافر بالمسلمة، يعني ابتداءً يبتدئ الكافر بالزواج من مسلمة هذا ممنوع قبل نزول الآية، يقول: يمكن الجواب بأن ابتداء تزوج الكافر بالمسلمة كان سابقًا على الآية، والذي دلت عليه الآية الاستمرار، فلذلك وقع التفريق بعد أن لم يكن، ولا يحفظ بعد الهجرة، يعني قبل التحريم، لا يحفظ بعد الهجرة أن مسلمةً ابتدأت بتزوج كافر، معنى هذا الكلام كلام الحافظ -رحمه الله تعالى- أنه يُتسامح في الاستمرار والبقاء ما لا يُتسامح في الابتداء، يعني بعد الهجرة مباشرة تَمَيُّز المسلمين على الكفار خلاص لا يمكن تزوج الكافر من مسلمة قبل نزول الآية، هذا الحكم تقرر قبل نزول الآية، لكن استمرار النكاح، استمرار نكاح الكافر بالمسلمة استمر إلى أن نزلت الآية، وقول الحافظ أيضًا له حظٌ من النظر، لا سيما وقد صح سند القصة.
الموضع السادس: من المواضع التي خرج فيها البخاري الحديث من صحيحه في كتاب الأيمان والنذور: باب النية في الأيمان، قال الإمام البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: فذكره «إنما الأعمال بالنية».
مناسبة الحديث للترجمة أن اليمين من جملة الأعمال، فيُستدَل به على تخصيص الألفاظ بالنية زمانًا ومكانًا، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي ذلك، كمن حلف ألا يدخل دار زيد وأراد في شهرٍ أو سنةٍ مثلاً، كمن حلف ألا يدخل دار زيد، وأراد -يعني قصد في نفسه وقرارة قلبه- مدة شهر مثلاً أو سنة مثلاً، أو حلف ألا يكلم زيدًا مثلاً، وأراد في منزله دون غيره فلا يحنث إذا دخل بعد شهرٍ أو سنة في المسألة الأولى، ولا إذا كلمه في دارٍ أخرى في المسألة الثانية؛ لأن له ما نوى. واستدل به الشافعي ومن تبعه فيمن قال: إن فعلتِ كذا فأنتِ طالق ونوى عددًا أنه يُعتبَر العدد، يعني لو نوى واحدة تقع واحدة، نوى اثنتين تقع اثنتان نوى ثلاث تقع ثلاث، فيمن قال: إن فعلتِ كذا فأنت طالق، ونوى عددًا أنه يُعتبَر العدد المذكور وإن لم يلفظ به، وكذا من قال: إن فعلتِ كذا فأنت بائن، إن نوى ثلاثًا بانت، وإن نوى ما دونها وقع رجعيًّا؛ لأن البينونة وإن كانت تدل على المفاصلة، إلا أن هناك البينونة الكبرى والبينونة الصغرى.
وخالف الحنفية في الصورتين، واستُدِل به على أن اليمين على نية الحالف، لكن فيما عدا حقوق الآدميين فهي على نية المستحلِف، ولا ينتفع الحالف بالتورية، لا سيما إذا اقتطع بها حقًا لغيره، وهذا إذا تحاكما، وأما في غير المحاكمة فقال الأكثر: نية الحالف أيضًا، أخذًا من الحديث، وقال مالك وطائفة: نية المحلوف له، وقال النووي: من ادعى حقًا على رجلٍ فأحلفه الحاكم انعقد يمينه على ما نواه الحاكم، ولا تنفعه التورية اتفاقًا، فإن حلف بغير استحلاف الحاكم نفعت التورية، إلا أنه إن أبطل بها حقًا أثم وإن لم يحنث.
حكى الكرماني وهذا من أغلاطه -رحمه الله تعالى- ووهم في كثير من التراجم، وإن كان الكتاب جيد في جملته، ويشتمل على نفائس، لكن لا سيما في موضوع التراجم أخطأ في مواضع كثيرة ووهم، وفي الأسانيد أيضًا خلَّط بعض التخليط، واستُدرِك عليه، ونوقش من قبل الشراح ممن جاء بعده لا سيما الحافظ ابن حجر، الكرماني حكى أنه وجد في بعض النسخ: الإيمان بكسر الهمزة، باب النية في الإيمان، ونلاحظ أن الكتاب كتاب الأيمان والنذور، يقول أنه وجد في بعض النسخ: الإيمان، باب النية في الإيمان. هل يمكن أن يجد نسخة فيها كتاب الإيمان والنذور؟ يمكن أن يجد؟! مستحيل، إنما وجد في بعض النسخ الإيمان في الترجمة في الباب، باب النية في الإيمان، ووجَّه ذلك في أن مذهب البخاري أن الأعمال داخلةٌ في الإيمان، لكن القرينة القوية التي ترد هذا الكلام إدخال هذا الباب ضمن كتاب الأيمان، فكيف يدخل باب النية في الإيمان في كتاب الأيمان؟ يقول الحافظ ابن حجر: قرينة ترجمة كتاب الأيمان والنذور كافية في توهين الكسر، يعني لو وجدنا في نسخة الهمزة تحت لجزمنا بأنها خطأ.
الموضع السابع: في كتاب الحِيَل، ولنعلم أن الحيل كلها مبنية على المقاصد، في كتاب الحيل ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: بابٌ في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد، ونترك ما بعد يحيى بن سعيد في المواضع كلها للعلم به، لاتفاق جميع الطرق يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر، وفيه قال عمر: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية» وهذا يؤيد قول من قال: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- خطب بالحديث أيضًا؛ لأن غالب ما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس» إذا كان على المنبر يخطب.
قال ابن المنيِّر وهذا هو ناصر الدين بن المنيِّر وهناك زين الدين بن المنيِّر، لناصر الدين شرح ولزين الدين تراجم، يقول ابن المنيِّر: أدخل البخاري الترك في الترجمة باب في ترك الحِيَل، أدخل البخاري الترك في الترجمة لئلا يُتوهم من الترجمة الأولى إجازة الحيل؛ لأنه قال: كتاب الحيل، قد يفهم من يفهم أن الحيل جائزة، لكن الترجمة الفرعية التي هي الباب بيَّنت المقصود، ووضحت المراد، حيث قال -رحمه الله تعالى-: بابٌ في ترك الحيل، وقال ابن المنيَّر: اتسع البخاري في الاستنباط، والمشهور عند النُّظَّار حمْل الحديث على العبادات، فحمله البخاري عليها وعلى المعاملات، وتبع مالكًا في القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد، يعني أن الإمام البخاري تبع مالك -رحمه الله تعالى- في القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد، ولْنعلم أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- من الأئمة المجتهدين، شأنه في ذلك شأن غيره من الأئمة، كأحمد والشافعي ومالك وغيرهما من مجتهدي أهل الحديث، فلو فسد اللفظ وصح القصد ألغي اللفظ، وأُعمل القصد تصحيحًا وإبطالاً، قال، والكلام لابن المنيِّر: والاستدلال بهذا الحديث على سد الذرائع وإبطال التحيُّل من أقوى الأدلة. والحِيَل: جمع حِيْلَة، وهي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي، وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن تُوُصِّل بها بطريقٍ مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام، أو إلى إثبات حقٍّ أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن تُوُصِّل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو تُوُصِّل بها إلى ترك مندوب فهي مكروهة، وعلى كل حال تنتابها الأحكام الخمسة، ولجوازها ومنعها أدلة، من أظهر أدلة الجواز في موضعه الجواز المطلق قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ} [سورة ص 44] هذه حيلة لتنفيذ الحد أو في تنفيذ اليمين من غير ضرر لا يحتمله المحلوف عليه، وعلى كل حال في الحيل مخارج من المضايق عند القول بإجازتها في الأنواع التي تجوز فيها الحيل، أما الأنواع التي تحرم فيها الحيل فليقع الإنسان في المضايق ولا يرتكب ما حرَّم الله عليه، ولذا جاء في الخبر «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا ما حرَّم الله بأدنى الحيل» من حِيَلهم قصة أصحاب السبت، حُرِّم عليهم الاصطياد يوم السبت فنصبوا الشباك يوم الجمعة، وأخذوا ما يَعلق بها في يوم الأحد، قالوا: ما صدنا يوم السبت، وإنما صدنا يوم الأحد، اصطدنا يوم الأحد، هذه حيلة على تحليل ما حرَّم الله -سبحانه وتعالى-، حُرِّمت عليهم الشحوم فجملوها أذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها، قالوا: ما أكلنا الشحم، إنما أكلنا الدهن دهنٌ سائل، وهذا لا يسمى شحم، هذه حيلة على تحليل ما حرم الله -سبحانه وتعالى-، وهذه طريقتهم وهذا ديدنهم.