شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (010)
قوله: «فيفصم عني» يفصم مضارع فصم، يفصم من باب ضرب، والمراد قطع الشدة أن يقلع وينجلي ما يغشاني من الكرب والشدة، ويروى بضم الياء يُفصم من الرباعي، يقال: أفصم المطر إذا أقلع، وأصل الفصم القطع، ومنه قوله تعالى: {لاَ انفِصَامَ لَهَا} [سورة البقرة 256] وقيل: الفصم بالفاء القطع بلا إبانة، وبالقاف القطع بإبانة، فذُكر الفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود؛ لأن الفصم قطعٌ بلا إبانة، بخلاف القصم الذي هو القطع بإبانة، فذكر الفصم إشارةً إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العُلقة.
قوله: «وقد وعيتُ» أي فهمت وحفظتُ وجمعت «عنه» أي عن الملَك «ما قال» أي القول الذي قاله.
وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى عن الوحيد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [سورة المدثر 11] ماذا قال؟ هذا تعبير يعبر به شيخ الإسلام كثيرًا إذا أراد أن يسوق هذه الآية قال: هي قول الوحيد، قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [سورة المدثر 25] أقول: إسناد الوحي إلى قول الملك أعي عنه ما قال إسناده إلى الملك لا معارضة بينه وبين قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [سورة المدثر 25] لأن الكفار كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به، الوحي تارة ينسب إلى الملك وتارة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكل ذلك بلفظ الرسول، ففي سورة الحاقة يقول الله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [سورة الحاقة 38-40] ما قال لقول ملك كريم أو قول رجل كريم، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [سورة الحاقة 40] يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ونلاحظ التعبير برسول، وفي سورة التكوير قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [سورة التكوير 19-20] يعني جبريل -عليه السلام-، وأضافه إليهما بلفظ الرسالة على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسِل كما أفاده شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- والحافظ ابن كثير في تفسيره، في شرح الشيخ عبد الله الشرقاوي المسمى (فتح المبدي) قال: وسماع الملَك وغيره من الله تعالى ليس بحرفٍ ولا صوت، بل يخلق الله للسامع علمًا ضروريًا، فكما أن كلامه تعالى ليس من جنس كلام البشر فسماعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سماع الأصوات. والصحيح أن الله -سبحانه وتعالى- يتكلم بصوتٍ وحرفٍ يسمع، كما قرره علماء الإسلام، مع اعتقاد عدم المشابهة بين الخالق والمخلوق، بل كما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى- وعظمته، وفي عون الباري لصدِّيق حسن خان يقول: وفي الباب أحاديث تدل على أن العلم بكيفية الوحي سرٌّ من الأسرار التي لا يدركها العقل، وفيه دلالة على أن سماع الملك وغيره من الله تعالى يكون بحرفٍ وصوت يليق بشأنه سبحانه، وقد دلت الأحاديث الصحيحة الكثيرة على ذلك خلافًا لمن أنكره فرارًا عن التشبيه، وأوله بخلق الله للسامع علمًا ضروريًا، والسنة المطهرة ترده كما هو مقررٌ في محله. هذا نوع من أنواع الوحي، والنوع الآخر هو ما أشار إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: «وأحيانًا يتمثل» أي يتصور «لي» أي لأجلي، فاللام تعليلية، وفي رواية: «إليَّ» والتمثل مشتق من المثل، «الملك» اللام للعهد، أي جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «كان الوحي يأتيني على نحوين» يأتيني به جبريل فيلقيه عليَّ كما يلقي الرجل على الرجل، «رجلاً» منصوب على المصدرية، أي يتمثل مثل رجل، أو تمييز أو حال، وقد جاء الملك على صورة دِحْيَة الكلبي جاء الملك على صورة دِحْيَة بن خليفة الكلبي، وذُكر في الشروح من جماله ما ذُكر، حتى أنه كان يمشي بين الناس متلثمًا؛ لئلا يُفتتَن به، المتكلمون يزعمون أن الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل في أي شكل أرادوا.
المقدم: ضبط الصحابي -أحسن الله إليكم يا شيخ- دِحية هكذا؟
دِحية نعم.
وبعض الفلاسفة يزعم أنها جواهر روحانية، وعلى كل حال الإيمان بالملائكة ركنٌ من أركان الإيمان، نؤمن بهم على ما بلغنا عنهم في الكتاب والسنة، ونعتقد أن لله ملائكة مطهرين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، يقول ابن حجر: الحق أن تَمثُّل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه، والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط، والله أعلم. وذلك بعد أن نقل عدة أقوال عن بعض أهل العلم، الزائد من خلق جبريل الذي يسد الأفق وله ستمائة جناح يأتي على صورة رجل، أين يذهب الزائد، منهم من يقول: يفنى، ومنهم من يقول: يزول ثم يعود، كل هذا لا دليل عليه، القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي، لا يمنع أن يكون الرسول -عليه الصلاة والسلام- يراه على صورة رجل وعلى هيئة رجل كما رآه الصحابة -رضوان الله عليهم- في حديث عمر وغيره وأبي هريرة وغيرهما حينما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، رأوه على صورة رجل، وجاء ذكره في الأحاديث الصحيحة على هذه الكيفية.
المقدم: أحسن الله إليك، في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [سورة الشورى 51] وحيًا أول أقسامه، هذا كأنه من غير طريق الملَك؟
هناك من أقسام الوحي ما يأتي ذكره؛ لأن الحديث حصر الوحي في نوعين، ويأتي في الكلام على الحديث أنواع أخرى -إن شاء الله تعالى- فالحصر غير مفهوم، سيأتي -إن شاء الله تعالى-.
المقدم: في قوله -أحسن الله إليك-: «مثل صلصلة الجرس» يعني التشبيه هنا على التتابع والقوة..؟
نعم، من حيث القوة نعم لا من حيث الإطراب والطنين كما ذكرنا.
وقفنا عند قوله في الحديث: «فيكلمني» كذا للأكثر، ووقع عند البيهقي: «فيعلمني» بالعين بدل الكاف، والظاهر أن هذا تصحيف كما قال ابن حجر، قوله: «فأعي ما يقول» أي القول الذي يقوله، ووقع التغاير في فهم النوعين، فقال في النوع الأول: «وعيتُ» «فيفصم عني وقد وعيتُ» بلفظ الماضي، وفي الثاني قال: «فأعي ما يقول» بلفظ المضارع؛ لأن الوعي والفهم والحفظ حصل قبل الفصم، ولا يُتصوَّر بعده، هذا بالنسبة للنوع الأول.
وفي الثاني يحصل حال المكالمة ولا يُتصور قبلها، فرق بين «وعيتُ» إذا جاءه في مثل صلصلة الجرس، إذا انتهى فإذا النبي -عليه الصلاة والسلام- قد وعى وانتهى، حفظ ما قاله، وفي الثاني يقول: «أعي» يعني حال المكالمة، هذا الثاني يحصل حال المكالمة ولا يتصور قبلها، يقول: وقع التغاير في فهم النوعين فقال في الأول: «وعيت» بلفظ الماضي، وفي الثاني قال: «فأعي» بلفظ المضارع؛ لأن الوعي والفهم والحفظ حصل قبل الفصم في النوع الأول، ولا يتصور بعده، وفي النوع الثاني يحصل حال المكالمة ولا يتصور قبلها، يعني إذا حددنا فيها ظهر معناها، في النوع الأول الذي هو مثل صلصلة الجرس، إذا انتهت هذه الصلصلة، لا تنتهي إلا والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد وعى ما قال، في الحال الثانية حينما يتمثل له الملك رجلاً فيكلمه كما يخاطبه الرجال يكلمه فيعي، يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «فأعي» بصيغة المضارع، أعي حال المكالمة، هناك ما تنتهي العملية التي مثل صلصلة الجرس حتى يكون الرسول قد وعى وانتهى، وهنا حال المكالمة (يعي) بلفظ المضارع، ولا يتصور قبلها، والمفهوم الحصر في الحديث حصر الوحي في النوعين المذكورين غير مراد؛ لأن للوحي أنواعًا أخر، إما من صفة الوحي كمجيئه كدوِيِّ النحل، والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة، وإما من صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض، وقد سد الأفق، يقول ابن حجر: الجواب منع الحصر في الحالتين المذكورتين، وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، و لم يأتِ في تلك الحالة أو لم يأتِ في تلك الحالة بوحي أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس، ما الذي يمنع أن يكون على هيئته له ستمائة جناح وجاء على مثل صلصلة الجرس فيدخل في النوع الأول في الحديث. وأما فنون الوحي فدَوِي النحل لا يعارض صلصلة الجرس؛ لأن سماع الدَّوِي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر: "يسمع عنده كدَوِيِّ النحل"، والصلصلة بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفث في روعه، فلا تنافي ولا تضاد، وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه؛ لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذلك التكليم ليلة الإسراء لا يدخل، لا يدخل في السؤال؛ لأن السؤال وقع عن كيفية مجيء الوحي الذي يحمل، وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد؛ لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس؛ لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره، والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءًا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمَّى نبيًّا، لا سيما إذا رأى رؤيا صالحة 46 مرة، نقول: أخذ النبوة كلها، إذا قلنا: أن الجزء بمعنى حقيقة النبوة جزء من حقيقة النبوة، فإذا اجتمعت هذه الأجزاء صار نبيًّا كاملاً، وهذا غير مراد، إنما هي مشبهة للنبوة في صدقها، يحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة فلا يشمل ما يجيء في المنام، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي كما هو معروف، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل فاقتصر على ما يخفى عليه.
"قالت عائشة -رضي الله عنها-" قال ابن حجر: هو بالإسناد الذي قبله ما قال: وقالت عائشة، يقول: وهو بالإسناد الذي قبله يعني موصول بالإسناد الذي قبله وليس معلقًا، يقول: وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف وغيره كثيرًا يقول: وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف، وتعقبه العيني بأنه لم يُقِم دليلاً على قوله، لا شك أن كلام الحافظ -رحمه الله تعالى- أغلبي، وقد جاء في الصحيح التعليق بدون حرف العطف في مواضع من الصحيح، كما أنه جاء بحرف العطف من غير تعليق في الإسناد السابق، لكن كلام الحافظ -رحمه الله تعالى- أغلبي.
ونكتة الاقتطاع هنا اختلاف التحمُّل، قد يقول قائل: لماذا أُفرِد قول عائشة هنا؟ والحديث كله مروي عن عائشة؟ ما ألحق بهذه الجملة ألحقت بالحديث كله؟ لما قال: «فأعي ما يقول» لماذا ما قال مباشرة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد.. إلى آخره؟ إنما قال: قالت عائشة، لماذا؟ نكتة الاقتطاع هنا، يعني فصل الخبر الثاني عن الأول اختلاف التحمل؛ لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدًا للخبر الأول.
تقول رضي الله عنها: "ولقد رأيته" تعني النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا مقول عائشة، والواو للقسم واللام للتأكيد أي والله لقد أبصرته "يَنزل" بفتح أوله وكسر ثالثه من الثلاثي، وفي رواية أبي ذر والأصيلي: "يُنزَلُ" بالضم والفتح، "عليه" -صلى الله عليه وسلم- "الوحي في اليوم الشديد البرد" الشديد صفة جرت على غير ما هي له، الأصل أن الصفة تتبع الموصوف، هنا صفة الشديد صفة لليوم في الإعراب، هي تابعة له في الإعراب، في اليوم الشديد، لكنها من حيث المعنى هي صفةٌ للبرد لا لليوم، فهي من حيث الإعراب وصف لليوم، ومن حيث المعنى وصف للبرد، هل اليوم هو الشديد أو البرد هو الشديد؟
المقدم: أصلاً البرد هو الشديد.
البرد هو الشديد، فهي من حيث الإعراب تابعة لليوم ومن حيث المعنى تابعة للبرد، وفيه دلالة على كثرة معاناته -صلى الله عليه وسلم- بالتعب والكرب عند نزول الوحي لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد.
«فيَفصِمُ عنه» أي يقلع، أو «فيُفصَمُ عنه» في بعض الروايات أي يقلع، «وإن جبينه يتفصد» الجبين فوق الصُدغ، والصدغ ما بين العين والأذن، وللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة، والمراد جبيناه معًا، والإفراد يجوز أن يعاقب التثنية، يعني يأتي الإفراد ويراد به التثنية، والإفراد يجوز أن يعاقب التثنية في كل اثنين يغني أحدهما عن الآخر كالعينين والأذنين، يعني إذا قلت: فلان واسع العين، تريد واحدة أو اثنتين؟
المقدم: الثنتين.
نعم، كبير الأذن، تريد الواحدة أو الاثنتين؟ لا، تريد الاثنتين، ومن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» وفي الرواية الأخرى: «عاتقيه» تفسر المراد، «ليتفصد» بالصاد المهملة المشددة أي يسيل، مأخوذٌ من الفصد، وهو قطع العِرْق لإسالة الدم، شبه جبينه المبارك -عليه الصلاة والسلام- بالعِرْق المفصود مبالغة في كثرة العَرَق، «عرَقًا» بفتح الراء رَشْح الجلد، وإنما كان ذلك ليُبْلَى صبره -عليه الصلاة والسلام- فيرتاض لاحتمال ما كلف من أعباء النبوة، وهو منصوبٌ على التمييز.
الحديث مشتمل على فوائد كثيرة جدًّا، لكن منها أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، الحارث بن هشام سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- كيف يأتيه الوحي؟ هل نقول: لأن الحارث شك؟ لا، طلبًا للطمأنينة كما سأل إبراهيم -عليه السلام- ربه عز وجل: {كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى} [سورة البقرة 260] هذا لا يقدح في يقين إبراهيم، ولذا جاء في الحديث الصحيح من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ما شك إبراهيم -عليه السلام-.
فالسؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، ومن ذلك جواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل، لكي يُنتبَه لبقية الأقسام. وفيه إثبات الملائكة خلافًا لمن أنكرهم من الملاحدة والفلاسفة، وأن لهم قدرةً على التشكل، ولا شك أن الإيمان بالملائكة ركنٌ من أركان الإيمان كما هو معروف، والحديث مخرَّج في الصحيح في البخاري في موضعين. الأول: في بدء الوحي والمناسبة ظاهرة كما تقدم، والثاني: في بدء الخلق في باب ذكر الملائكة، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا فروة قال: حدثنا علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره، لكن بدون قول عائشة: ولقد رأيته إلى آخره. ففي بدء الخلق باب ذكر الملائكة المناسبة ظاهرة من قوله: «وأحيانًا يتمثل لي الملَك» ومن قوله: «أحيانًا يأتي مثل صلصلة الجرس» يعني مع الملك الذي يحمله، وأظهر منه قوله في الشق الثاني: «وأحيانًا يأتيني أو يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول».
أخرجه أيضًا الإمام مسلم في الفضائل في باب عَرَق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالحديث متفق عليه، ومعنى كون الحديث متفقًا عليه أن يكون مخرجًا في الصحيحين من طريقٍ راوٍ واحد عن صحابيٍّ واحد، أما إذا كان في البخاري عن صحابي ومسلم عن صحابي آخر، ولو اتحد اللفظ فإنه لا يسمى حينئذٍ متفقًا عليه، وأخرجه أيضًا الإمام مالك في القرآن باب ما جاء في القرآن، وأخرجه الترمذي في المناقب والنسائي في الافتتاح: باب جامع ما جاء في القرآن.
المقدم: أحسن الله إليكم، بعد هذا البيان من خلال الحديث وما تفضلتم به من ذكر بعض ألفاظه، لم يمر بنا حتى الآن أي حديث حذفه المختصِر حتى الآن يا شيخ.
إلى الآن نعم، لم يرِد مكرر إلى الآن.
المقدم: هل هناك منهج للبخاري -رحمه الله- في ترتيب الأحاديث، بمعنى ما دام الآن في كتاب بدء الوحي لماذا لم يقدم حديث عائشة أول ما بُدِئ به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة، ثم ذكرت بداية الوحي، ألم يكن هذا الحديث هو الأحق أن يبدأ به قبل حديث الحارث؟
مما قيل في ذلك أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرَّج حديث «الأعمال بالنيات» عن شيخه الحميدي وهو مكي، ثم ثنى بحديث عائشة الثاني؛ لأنه من طريق مالك وهو مدني، فقدَّم مكة ثم المدينة، من أجل هذا قدَّم حديثه على حديث عائشة أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة أو الصالحة على ما سيأتي، هذا مما قيل، وعلى كل حال هذا وقع في الصحيح، ومناسبة الحديث للباب ظاهرة، وكونها من الدقة بحيث تكون مائة بالمائة لا يلزم؛ لأن المقصود العلم وقد حصل، وحفظ السنة يحصل بهذه الكيفية.
المقدم: ذكرتم فضيلة الشيخ حديث: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فهل يعني هذا أن إبراهيم -عليه السلام- أفضل من نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ لو فصلتم في هذا فضيلة الشيخ.
الحديث كما في الصحيح يقول -عليه الصلاة والسلام-: «نحن أحق بالشك من إبراهيم...».