شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (013)
وصحح ابن حجر كونه يكتب بالعبرانية والعربية؛ لأن ورقة تعلَّم اللسان العبراني والكتابة العبرانية، فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي، وقد جاءت الرواية بهما لتمكنه من الكتابين واللسانين، وبهذا يُعرَف بطلان من يزعم أن القرآن عبارة عن كلام الله، وكلام الله واحد، إن كان بالعربية كان قرآنًا، وإن كان بالعبرانية كان إنجيلاً، وإن كان بالسريانية كان توراةً، إن كان بالعربية كان قرآنًا، وإن كان بالعبرية أو بالعبرانية كان توراةً، وبالسريانية كان إنجيلاً؛ لأنه لو قلنا بهذا لقلنا أن ورقة ما استفاد، ما استفاد شيئًا من الدين الجديد، لأنه مجرد ما يترجمه من لغة إلى لغة يصير على ما أراد، إن ترجمه بالعربية صار هو القرآن نفسه، مع العلم بأنه قرأ التوراة والإنجيل وترجمهما إلى العربية وإلى لغةٍ أخرى إما السريانية وإما العبرانية قبل نزول القرآن، حقيقةً مثل هذا الكلام لا يدعمه لا عقل ولا نقل، ولا يؤيده رأي ولا دليل، وإنما وُصِف بكتابة الإنجيل دون حفظه؛ لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرًا كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة، لذا جاء في صفتها: "أناجيلها في صدورها"، وكان ورقة شيخًا كبيرًا قد عمي، "فقالت خديجة -رضي الله عنها-: يا ابن عم"، هذا النداء على حقيقته؛ لأنه بمنزلتها وفي مرتبتها في النسب، ووقع في مسلم: "يا عم"، وهو وهم؛ لأنه وإن كان صحيحًا لجواز إرادة التوقير لكن القصة واحدة، لم يتعدد مخرجها، بل مخرجها متحد فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فيتعين الحمل على الحقيقة، وإنما صُحِّح وجُوِّز ذلك في العربي والعبراني، قد يقول قائل: لماذا منعنا يا عم، وقلنا أن مخرج القصة واحد، وقلنا يكتب الكتاب العبراني، وفي رواية العربي وصححنا اللفظين؟ وإنما صُحِّح وجُوِّز ذلك في العربي والعبراني لأنه من كلام الراوي، الراوي هو الذي تحدث عن ورقة بأنه يكتب الكتاب العربي والعبراني؛ لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التَّعداد، وهذا الحكم يطَّرد في جميع ما أشبهه، اللفظ المنسوب إلى مصدره إذا لم يتعدد مخرجه فإنه يرجح بين ألفاظه ولا يجوِّز الاحتمال، ولا يصوْغ تجويز أكثر من احتمال، بينما إذا تعددت المخارج جاز وصُحِّحَت جميع الألفاظ، أمكن تصحيح جميع الألفاظ، وصُحِّحَت الاحتمالات، "اسمع من ابن أخيك" تعني النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه، "فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس"، بالنون والسين المهملة، وهو صاحب السر، وقال ابن دريد هو صاحب سر الوحي، والمراد به جبريل -عليه السلام-، وأهل الكتاب يسمونه الناموس الأكبر، وزعم بعضهم أن الناموس صاحب سر الخير والجاسوس صاحب سر الشر، "الذي نزَّل الله على موسى"، وفي رواية: أَنزَل الله، وفي رواية: أُنزِل، فإن قيل: لِمَ قال ورقة: موسى ولم يقل عيسى؟ مع كونه نصرانيًّا؟ أجيب بأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام، وكذلك كتاب نبينا -عليه الصلاة والسلام-، بخلاف عيسى فإنه كتاب أمثال ومواعظ، وفي رواية الزبير بن بكار بلفظ: عيسى، "يا ليتني فيها جذعًا"، يا: نداء، والتقدير: يا محمد، ليتني فيها أي في مدة النبوة أو الدعوة، جَذَعًا بفتح الجيم المعجمة وبالنصب، خبر كان مقدرة عند الكوفيين، يعني يا ليتني أكون فيها جذعًا أو على الحال.
المقدم: فضيلة الدكتور مَن قال أن قول ورقة هذا لأن عيسى شريعته ليست مستقلة وإنما تبعًا لموسى؟ هل هذا القول صحيح؟
نعم، هي مكمِّلة لشريعة موسى، الأحكام تؤخذ من التوراة والمواعظ والأمثال من الإنجيل -كما هو معروف-، نقول: "يا ليتني فيها جذعًا"، يا: نداء، والتقدير: يا محمد ليتني فيها أي في مدة النبوة أو الدعوة، "جذعًا" بفتح الجيم المعجمة وبالنصب، خبر كان مقدرة عند الكوفيين، أو على الحال من الضمير المستكن في خبر ليت، وخبر ليت متعلق بالجار ومجرور كائن فيها، حال الشبيبة والقدرة والقوة لأنصرك، "ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك" من مكة، واستعمل إذ في المستقبل كإذا على حد قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} [سورة مريم 39] لتحقق الوقوع، فنُزِّل منزلته، فإن قيل: كيف تمنَّى ورقة مستحيلاً وهو عَوْد الشباب؟ أُجيب بأنه يجوز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، كما تمنى النبي -صلى الله عليه وسلم- الشهادة مرارًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوَ" بفتح الواو "مُخرِجِيَّ هم" بتشديد الياء مفتوحة، لأن أصله مخرجوني جمع مخرج من الإخراج فحُذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، و"هم" مبتدأ خبره مُخْرِجِيَّ مقدمًا ولا يجوز عكسه؛ لأنه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة؛ لأن إضافة مخرجي لفظية، والهمزة للاستفهام الإنكاري؛ لأنه استعبد إخراجه عن الوطن من غير سببٍ يقتضي ذلك، قال ورقة: "نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به من الوحي إلا عودي"؛ لأن الإخراج عن المألوف موجب لذلك، "نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به من الوحي إلا عودي"؛ لأن الإخراج عن المألوف موجِب لذلك؛ لأن الناس أعداء لما يجهلون، فإذا أخرجْتهم من المألوف من عوائدهم من طبائعهم عادَوك، "وإن يدركْني" بالجزم بإن الشرطية "يومُك" بالرفع فاعل، أي يوم انتشار نبوتك، "أنصرْك" بالجزم جواب الشرط "نصرًا" مصدر "مؤزرًا" أي قويًّا بالغًا، وظاهر هذا أنه أقر بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرى الراهب، وفي إثبات الصحبة له نظر، وقد ذكره بعضهم في الصحابة كابن منده، "ثم لم يَنْشَب" أي يلبث "ورقة" فاعل "أن توفي" أي لم تتأخر وفاته عن هذه القصة، واختُلف في وقت وفاته، فالحديث دليل على أنه مات بمكة بعد المبعث بقليل، وقال بعضهم إنه خرج إلى الشام وتأخرت وفاته ولكن هذا ضعيف، "وفتر الوحي" أي احتبس ثلاث سنين، كما جزم به ابن إسحاق، وفي بعض الأحاديث أنه قدر سنتين ونصف.
وزاد معمر عن الزهري في كتاب التعبير من الصحيح: "حتى حزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغَنا حزنًا غدَا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقًّا، فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك".
قال ابن حجر: وهذا من بلاغات الزهري، وليس موصولاً، قال الكرماني: هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور، وهذا مجرد احتمال أبداه الكرماني، والاحتمالات العقلية كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر في رده على الكرماني في مواضع، الكرماني يجوِّز إذا كان التجويز العقلي عنده سائغ حمَل الحديث عليه أحيانًا بمجرد التجويز العقلي، الحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: الاحتمالات العقلية التي لا تستند إلى دليل لا دخل لها في هذا العلم ألبتة، في علم الحديث؛ لأن الكرماني يقول: هذا هو الظاهر ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور، التجويز العقلي عند الكرماني مستمر، فإذا جاز عنده الاحتمال عقلاً مشَّاه عليه، لكن الحافظ -رحمه الله- رد عليه في مواضع، وقال: إن الاحتمالات العقلية المجرَّدة التي لا يسندها دليل من روايةٍ ثابتة فإن هذا الاحتمال لا قيمة له.
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم على حديث عائشة -رضي الله عنها- ببدء الوحي بتراجم عديدة حسب وروده في كتابه، حيث أخرجه في سبعة مواضع، الأول: في بدء الوحي، حيث قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا يحيى بن بُكَيْر، قال: حدثنا الليث عن عُقَيْل عن ابن شهابٍ عن عروة بن الزبير عن عائشة، ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرة كما تقدم.
الموضع الثاني: في كتاب أحاديث الأنبياء باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا} [سورة مريم 51] فقال: عن عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الليث قال: حدثني عُقَيْل عن ابن شهاب، سمعت عروة قال: قالت عائشة -رضي الله عنها- فذكره مختصرًا.
ومناسبته: قوله "هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى"، الشاهد من الحديث قوله: "هذا الناموس"، قول ورقة: "هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى"، ومناسبتها للترجمة ظاهرة؛ لأنه قال: باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى} وفي الحديث: "هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى"، فذِكْر موسى في الحديث يوافق أو يطابق ما جاء في الترجمة.
الموضع الثالث: في كتاب التفسير، بابٌ بدون ترجمة، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا يحيى بن بُكَيْر، قال: حدثنا الليث عن عُقَيْل عن ابن شهاب، وحدثني سعيد بن مروان، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، قال: أخبرنا أبو صالح سَلْمَوَيْه، قال: حدثني عبد الله عن يونس بن يزيد قال: أخبرني ابن شهاب أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة، وإيراده في تفسير سورة {اقرأ} ظاهر المناسبة، والباب بلا ترجمة كما هنا قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: الباب إذا لم تُذكَر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله، مع تعلقه به كصنيع مصنفي الفقهاء.
الموضع الرابع: في كتاب التفسير أيضًا: باب قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [سورة العلق 2] قال: حدثنا ابن بُكَيْر، قال: حدثنا الليث عن عُقَيْل فذكره مختصرًا، ومناسبته ظاهرة حيث ذُكرَت الآية في الحديث.
وفي الموضع الخامس: في كتاب التفسير باب قوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [سورة العلق 3] قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري ح، وقال: الليث حدثني عُقَيْل قال محمد: أخبرني عروة عن عائشة مختصرًا، ومناسبته ظاهرة حيث ذُكرَت الآية في الحديث.
ويحسن أن ننبه أن هذه الحاء المهملة التي توجد في الأسانيد لا سيما عند مسلم كثيرًا، وهي قليلة عند الإمام البخاري، يراد بها التحويل من إسنادٍ إلى آخر، ويستفاد منها اختصار الأسانيد؛ لأنها قد تعرض لطالب العلم المبتدي، مثل هذه الحاء فتُشْكِل عليه.
الموضع السادس: في كتاب التفسير أيضًا، باب: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [سورة العلق 4] قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث عن عقيل مختصرًا، ومناسبته كسابقَيه، ولم يذكر الآية المترجم بها هنا، في الحديث لما ذكره مختصرًا، لم يذكر الآية التي تُرجِم بها، لم يذكر الآية المترجم بها هنا وقد أشار بها إلى ما جاء في الحديث بتمامه.
الموضع السابع: في كتاب التعبير، باب أول ما بدء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤية الصادقة، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ح، وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا مَعْمَر قال: الزهري، فذكره مطوَّلاً، ومناسبته للترجمة ظاهرة، التعبير، تعبير الرؤيا، كتاب التعبير، يعني: تعبير الرؤيا، ومناسبة الحديث، حيث ذكر في أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا، الرؤيا الصالحة، وفي رواية: الصادقة هذا ما يتعلق بتراجم الحديث، ويَبِيْن لنا ويتضح لنا أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يخرِّج الحديث في مواضع متعددة تبعًا لما لدلالاته المتعددة وأجزائه.
المقدم: عفوًا يا فضيلة الدكتور، نحن أشرنا في حلقات ماضية إلى أن المصنِّف لهذا الكتاب أو حتى الذي قام بخدمته علي حسن، وضع الأطراف هنا، الأحاديث وِفْقًا للترقيم الموجود في الأصل؛ لأن لما يرجع المستمع مثلاً، والمتابع مع فضيلتكم الآن يجد في آخر الحديث أطرافه ثلاثة آلاف وثلاثمائة واثنين وتسعين، أربعة آلاف وتسعمائة وثلاثة وخمسين وهكذا، هذه الأطراف غير موجودة في هذا الكتاب؛ لأن الحديث مَرّ، وقد أشرتم أنه إذا مَرّ لا يكرره مرةً أخرى، فبالتالي هذه الأطراف يرجع بها إلى الأصل؟
إلى الأصل أصل الصحيح، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
المقدم: أحسن الله إليكم، نستمر في الحديث الذي يليه؟
نعم حديث جابر.
قال -رحمه الله-: عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- وهو يحدِّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي إذ سمعتُ صوتًا من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرُعبتُ منه، فرجعت فقلت: زملوني» فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [سورة المدثر 1-5] فحمي الوحي وتتابع.
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- قال في صحيحه: قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: وهو يحدِّث عن فترة الوحي فذكر الحديث، قال: ابن شهاب، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لم يدرك ابن شهاب، فهل هذا من المعلَّقات؟ ولماذا جاء بالواو؟ قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة، يقول ابن حجر: إنما أتى بحرف العطف ليُعلم أنه معطوف على ما سبق؛ كأنه قال: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا، يعني قال ابن شهاب: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا، فعلى هذا يكون هذا الحديث بالإسناد السابق فلا يُعَد من المعلقات، يقول القسطلاني -رحمه الله-: مقول القول لا يكون بالواو، وحينئذٍ فليس هذا من التعاليق، ولو كانت صورتُه صورتَه، صورة المعلَّق، خلافًا للكرماني حيث أثبته منها وقد خطَّأه ابن حجر في الفتح. مناسبة الحديث في بدء الوحي ظاهرة لظهور علاقته بالحديث الذي قبله وهو يحدِّث عن فترة الوحي، يقول: وهو يحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي...» إلى آخره، فعلاقته ببدء الوحي ظاهرة جدًّا، وجابر بن عبد الله راوي الحديث، جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الخزرجي، المتوفى سنة ثمانٍ وسبعين، وهو آخر الصحابة موتًا بالمدينة، وله في الصحيح تسعون حديثًا.
يقول: "وهو يحدِّث عن فترة الوحي"، أي احتباسه والجملة حاليَّة، "فقال في حديثه: «بينا»، بالألف، أصله: بين، فأُشبعَت فتحة النون فصارت ألفًا، وهي ظرف زمان مكفوف بالألف عن الإضافة إلى المفرد، «أنا أمشي» وجواب «بينا» قوله: «إذ سمعت صوتًا من السماء» أي في أثناء أوقات المشي فاجأني السماع، «فرفعت بصري فإذا الملَك» جبريل -عليه السلام- «الذي جاءني بحراء جالس» خبرٌ عن الملك الذي هو مبتدأ، ويجوز نصب جالسًا على الحال، «على كرسي» بضم الكاف، وقد تكسر، وجمعه: كراسي، قال الماوردي في تفسيره: أصل الكرسي: العلم، ومنه قيل لصحيفة يكون فيها علم: كراسة، وقال الزمخشري: الكرسي ما يجلس عليه، ولا يَفْضُل عن مقعد القاعد، يعني قد يكون الأصل، أصل الكلمة في العلم، ثم الاستعمال خصصها بما يُجلَس عليه، فتكون حقيقته العرفية ما يُجلَس عليه، «بين السماء والأرض» ظرف في محل جر صفة لكرسي، «فرُعِبْت منه» بضم الراء وكسر العين المهملة مبني لما لم يُسَمّ فاعله أي فزعت، «فرجعت» أي: إلى أهلي بسبب الرعب، «فقلت لهم: زملوني زملوني» بالتكرار، وفي رواية كريمة مرة واحدة، ولمسلم كالمؤلِّف في التفسير، يعني الإمام البخاري -رحمه الله- خرَّج الحديث في كتاب التفسير وخرَّجه أيضًا مسلم من رواية يونس: «دثروني» بدل «زملوني» قال الزركشي: وهو أنسب لماذا؟ لقوله: "فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر 1]" لأن المناسب لقوله: «زملوني زملوني» {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [سورة المزمل 1] أما «دثروني دثروني» المناسب له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إيناسًا له وتلطفًا، والتدثير والتزميل بمعنًى واحد، والمعنى: يا أيها المدثر} بثيابه، وعن عكرمة: أي المدثر بالنبوة وأعبائها، {قُمْ فَأَنذِرْ} [سورة المدثر 2] حذِّر من العذاب من لم يؤمن بك، وفيه دلالة على أنه أُمر بالإنذار عقب نزول الوحي للإتيان بفاء التعقيب، واقتُصر على الإنذار؛ لأن التبشير إنما يكون لمن دخل في الإسلام، ولم يكن إذ ذاك من دخل فيه، يعني إلا القليل مثل خديجة، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر 3] أي عظِّمه، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [سورة المدثر 4] أي من النجاسة، وقيل: المراد بالثياب النفس وتطهيرها اجتناب النقائص، {وَالرُّجْزَ} [سورة المدثر 5] الأوثان كما جاء في التفسير من تفسير الراوي، التفسير يعني من صحيح البخاري وفسره الراوي بأنها الأوثان، وسميت رجزًا لأنها سبب للرجز والرجز هو العذاب، والأوثان جمع وثَن وهو ما له جُثَّة من خشبٍ أو حجرٍ أو فضةٍ أو جوهر، وكانت العرب تنصبها وتعبدها، قاله العيني.
{فَاهْجُرْ} [سورة المدثر 5] أي اترك، "فحمي" يقول بعد ذلك: "فحمي الوحي وتتابع" حَمِيَ: أي بعد نزول هذه الآيات كثر نزول الوحي وتتابع، وللكشميهني: وتواتر، بدل وتتابع، والتواتر: هو التتابع، ولم يكتف بحمي؛ لأنه لا يستلزم الاستمرار والدوام والتواتر، والتواتر: مجيء الشيء يتلو بعضه بعضًا من غير تخللٍ، تقول: تواترت الإبل والقطا إذا جاءت متتابعة، ولم تأتِ دفعةً واحدة. هنا يقول البخاري -رحمه الله تعالى- وهذا من باب الفائدة...