شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (014)
هنا يقول البخاري -رحمه الله تعالى- وهذا من باب الفائدة، يقول -بعد رواية الحديث-: تابعه عبد الله بن يوسف، وأبو صالح، وتابعه هلال بن ردَّاد عن الزهري أي تابع يحيى بن بكير شيخ المؤلف عن الليث بن سعد عبد الله بن يوسف، وكذا تابعه أبو صالح كاتب الليث عن الليث، وتابع عُقَيْل بن خالد شيخ الليث هلال بن ردَّاد عن الزهري، والمتابعة موافقة الراوي في الرواية عن شيخه أو شيخ شيخه، وتسمى الأولى متابعة تامة، كمتابعة عبد الله بن يوسف وأبي صالح ليحيى بن بُكَيْر في الراوية عن الليث، وتسمى الثانية متابعة قاصرة، كمتابعة هلال بن ردَّاد لعُقَيْل بن خالد في الراوية عن الزهري.
والمتابعات إنما تكون مع اتحاد الصحابي، وإذا جاء الحديث عن صحابي آخر فهو الشاهد، وقيل: المتابِع ما جاء من طريقٍ آخر باللفظ بغض النظر عن اتحاد الصحابي واختلافه، والشاهد ما جاء بالمعنى سواء اتحد الصحابي أو اختلف. وعلى كل حال الخَطْب سهل، سواء سمي متابعة أو شاهد الأمر لا يختلف؛ لأن المقصود منهما التقوية، لكن الذي استقر عليه الاصطلاح عند المتأخرين أن المتابِع ما اتحد به الصحابي، والشاهِد ما اختلف الصحابي، والاعتبار طريقة التوصل والبحث عن وجود المتابعات والشواهد؛ لأنه يذكر العنوان في كتب علوم الحديث: الاعتبار والمتابعات والشواهد، فيظن القاري أنه قسيم للمتابعات والشواهد، وهو في الحقيقة ليس بقسيم، وإنما هو هيئة التوصل إلى المتابعات والشواهد.
يقول النووي في شرحه على البخاري، النووي -رحمه الله تعالى- شرح قطعة من أوائل الصحيح، بدء الوحي والإيمان فقط، يقول: طريقك في معرفة مثل هذا -أي: معرفة المتابعات- أن تنظر طبقة المتابِع، بكسر الباء فتجعله متابعًا لمن هو في طبقته بحيث يكون صالحًا لذلك.
المقدم: كما تلاحظون في الكتاب -أحسن الله إليكم- وضع علامة ثم في أسفل الهامش وضع حرف زاي ثم واحد ثم خمسة ثم ساق الحديث باختلافٍ بسيط جدًّا مثل «رفعت بصري» بدل: «رفعت رأسي» وزيادة: «زملوني زملوني» مرتين وإلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [سورة المدثر 5] ثم قال: وروايات أخر في تفسير سورة المدثر مسندةً ومتصلة، فترك الزبيدي كلها، ثم ذكر الأطراف مرةً أخرى، ما سبب الإيراد في هذا الوضع؟
هذا اعتبره صاحب الزوائد وهو عمر ضياء الدين الداغستاني من الزوائد، وهو في الحقيقة ليس من الزوائد، هذا ليس، لا يَرِد على الزبيدي؛ لأن الحديث يكاد يكون بحروفه، أما الزيادات اليسيرة التي لا يترتب عليها تأثير في حكم ولا تُخِل بمعنى فإنه لا يَلتفت إليها، وإلا لو أراد أن يأتي بجميع الألفاظ التي في صحيح البخاري ما صار مختصرًا بالمعنى الذي يرمي إليه المؤلف من أجل أن يحفظه طلاب العلم، فالاهتمام بمثل هذه الزوائد اليسيرة جدًّا لا تعني المختصِر، ولذا لم يورده.
وحقيقةً أنا عندي للمذكور هذا عمر ضياء الدين الداغستاني، معي الآن كتابان متعلقان بصحيح البخاري، أولهما كتاب أسماه: كتاب سنن الأقوال النبوية من الأحاديث البخارية، هذا مطبوع في اسطنبول سنة (1308هـ) والكتاب مختصَر للصحيح، جرَّده من الأسانيد؛ لكن فيه من الأحاديث ضِعْف ما في مختصَر الزبيدي، فيه من الأحاديث أربعة آلاف وخمسمائة وواحد وأربعين، على صغر حجمه فيه هذا العدد من الأحاديث، وهو مقتصر على الأحاديث القولية، والكتاب الثاني لعمر ضياء الدين المذكور كتاب اسمه: (زبدة البخاري) وهذا كتاب مختصَر جدًا، فيه من الأحاديث ألف وخمسمائة وأربعة وعشرين، وهو مختصر بالنسبة لسابقه، فهذا زبدة سماه (زبدة البخاري) وأما الزوائد التي يشار إليها في الحاشية فلم أقف عليه؛ لكن من خلال تأمُّل هذه الزوائد نجد أنها لا تَرِد على الزبيدي؛ لأن الزبيدي لا يهتم بمثل هذه الفروق اليسيرة التي لا تؤثِّر لا في حكم، ولا تخل بمعنى.
المقدم: هل الكتب التي أشرتم إليها مطبوعة الآن يا شيخ، طباعة جديدة أو لا زالت؟
لا، ما طبعت غير هذه الطبعات، الأول: عرفنا أنه مطبوع في اسطنبول سنة (1308هـ) والثاني: بمطبعة دار الكتب العربية بمصر سنة (1330هـ) يعني من أكثر من تسعين سنة، ولم يُعَدْ طبعها.
المقدم: إذًا إذا أشار هنا إلى حرف الزاي فهو يقصد زوائد؟
نعم الزوائد.
المقدم: يليه رقم الحديث الذي يزيده، (ز 1) يعني الزيادة الأولى.
الزيادة الأولى نعم، وخمسة يريده بعد رقم أربعة في المختصَر.
المقدم: ...... التراجم؟
بعد هذا تراجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- على الحديث، الحديث ذكره الإمام في تسعة مواضع، الأول: في بدء الوحي سبق ذكر إسناده ومناسبته، الثاني: في كتاب بدء الخلق بابٌ: «إذا قال: أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غُفِر له ما تقدم من ذنبه»، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا الليث قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله فذكره، ومناسبته لبدء الخلق وذكر الملائكة حيث ذكر فيه جبريل -عليه السلام- على الكرسي بين السماء والأرض.
في الموضع الثالث: في كتاب التفسير باب بدون ترجمة، وأشرنا إلى مراد البخاري من الباب الذي يذكره دون ترجمة، قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا وكيع عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فذكره، ومناسبته لتفسير سورة المدثر ظاهرة؛ لأن هذا الباب يلي تفسير سورة المدثر، فهو فرع منها.
الموضع الرابع: في كتاب التفسير أيضًا باب: {قُمْ فَأَنذِرْ} [سورة المدثر2] قال: حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي وغيره قالا: حدثنا حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله فذكره مختصَرًا، ومناسبته ظاهرة حيث ذكرت الآية في الحديث، وأحيانًا يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا فلان وغيره، ومسلم أيضًا يقولها: فيكنُّون بذلك عن الراوي الذي لا يحتاجون إلى ذكره، إما اكتفاءً بمن ذُكِر؛ لأنه إمام كبير فلا يحتاج إلى من يدعمه، ولو كان المحذوف ثقةً، وأحيانًا يُكنَّى عنه لأنه ضعيف، فمسلم يقول: حدثني فلان وغيره، يعني ابن لهيعة في أكثر من موضع، ولا يُخِل بالإسناد؛ لأنه يقتصر في ذلك على الثقة، ولا يحتاج إلى ذكر الضعيف، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وهذا من باب الفائدة قد يروي الحديث عن اثنين أحدهما ثقة والآخر ضعيف، فيقتصر على ذكر الثقة، ويترك الضعيف، وليس هذا من باب تدليس التسوية كما قد يظنه بعض الطلاب؛ لأن تدليس التسوية إسقاط ضعيف بين ثقتين، لقي أحدهما الآخر، فالثقة هنا يكفي عن الضعيف المحذوف، ولسنا بحاجة إلى رواية الضعيف، وأما في تدليس التسوية الضعيف لا بد من وجوده؛ لأنه واسطة بين الثقتين لا بد من وجوده، وإسقاطه مخل بالإسناد، أما إسقاط الضعيف الذي لا يُحتاج إليه في مثل هذا لأن هذا الثقة روى عن الثقة الآخر مباشرة، وكونه شاركه في الرواية عن ذلك الثقة راوٍ ضعيف آخر، لا يُخِل بالإسناد ولا داعي لذكره.
الموضع الخامس: في كتاب التفسير بابٌ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر 3] قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا حرْب قال: حدثنا يحيى قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أُنزل أول؟ فقال... الحديث مطولاً، ومناسبته ظاهرة حيث ذكرت الآية في الحديث.
السادس: كتاب التفسير باب: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [سورة المدثر 4] قال حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ح وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله، ومناسبته ظاهرة حيث ذُكرَت الآية أيضًا في الحديث.
الموضع السابع: في كتاب التفسير باب: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [سورة المدثر 5] قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث عن عقيل، قال ابن شهاب: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله فذكره، ومناسبته ظاهرة حيث ذكرت الآية في الحديث أيضًا.
الموضع الثامن: خرجه أيضًا في كتاب التفسير بابٌ بدون ترجمة، وهو فرع من تفسير سورة {اقرأ} قال محمد بن شهاب: فأخبرني أبو سلمة أن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- قال: فذكره، إِثْر حديث عائشة في بدء الوحي كما في بدء الوحي سواء.
المقدم: أحسن الله إليك يا شيخ، العزو إلى الباب المهمَل الذي يكون يترجم له الإمام البخاري باب ثم يورد الحديث، كيف يكون العزو إليه في حال التخريج منه؟
العزو لمثل هذا الباب المذكور بدون ترجمة نقول خرَّجه الإمام البخاري في بابٍ دون ترجمة بعد باب قوله كذا، باب بعد الباب المترجم، نذكر الباب المترجَم، فنقول: خرَّجه الإمام البخاري في باب بدون ترجمة يلي الباب الذي ترجمه بكذا من كتاب كذا، فنصوِّر الواقع للقارئ والسامع.
الموضع التاسع: كتاب الأدب، باب رفع البصر إلى السماء، وقوله تعالى: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [سورة الغاشية 17] قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله فذكره، ومناسبته ظاهرة لقوله: «فرفعْت بصري إلى السماء» مناسبة الحديث لباب رفْع البصر إلى السماء ظاهرة، لكن اقتصار الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- على قوله تعالى: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [سورة الغاشية 17] والترجمة باب رفْع البصر إلى السماء لماذا لم يأتِ بالآية التي بعدها؟ {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ} [سورة الغاشية 17-18] أيهما أصرح في المراد؟
المقدم: الآية الثانية.
الآية الثانية هي الصريحة في المراد، هي المطابقة للترجمة، جاءت في بعض الروايات، الآية الثانية جاءت في بعض الروايات دون بعض من الصحيح. وعلى كل حال اقتصار البخاري على هذه الآية هو المناسب لتصرفاته -رحمه الله تعالى-، فالبخاري يستدل بالغامض ويترك الصريح الواضح؛ لأن الذي يحتاج إلى النظر أو ينظر إلى الإبل نظر اعتبار ينظر في الغالب إلى أعلاها؛ لأنه هو موضع العجب، وإذا نظر إلى أعلاها اضطر أن يرفع بصره، فلا شك أن الاستدلال من هذه الآية لما تَرجَم به فيه غموض، وفيه بُعْد، والآية التي تليها صريحة في المراد، فالبخاري -رحمه الله تعالى- قد يعمد إلى الغامض دون الصريح، وهذه عادته -رحمه الله تعالى-، وإن وُجدَت الآية في بعض الروايات، لكن أكثر الروايات ليس فيها الآية الثانية.
المقدم: فضيلة الشيخ ذكرتم -حفظكم الله- كلام الإمام البخاري قبل قليل في قوله تعالى: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [سورة الغاشية 17] ثم ذكرتم التوجيه لاستدلاله بالآية، ولكن أليس من المناسب أن يقال في توجيه كلامه -رحمه الله تعالى-: أنه قد ورد أن من معاني الإبل أنها هي السحاب، والسحاب موجود في السماء؟
لا أعرف هذا القول منسوبًا لأحدٍ من أهل العلم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فإن كان ذلك ثابتًا عن أحد من أهل اللغة المعتبَرين أو من المفسرين من الصحابة أو من دونهم فيكون المعنى ظاهر، إذا كان المراد بالإبل السحاب، وتراجَع المسألة -إن شاء الله تعالى- في مظانِّها، وعلى كل حال اللائق بتصرفات الإمام البخاري مثلما ذكرت، يعدل عن الشيء الصريح الواضح إلى الغامض الذي قد لا يُدرَك.
ولا شك أن الإنسان بخِلْقته التي خلقه الله عليها أقل بكثير من مستوى الإبل، فإذا أراد أن ينظر إليها نظر اعتبار وتفكُّر اضطر أن يرفع بصره إلى رأسها مثلاً، إذا رفع الإنسان رأسه إلى رأس هذا البعير أو ما أشبهه فإنه يحتاج إلى أن يرفع رأسه رفْعًا ينظر فيه إلى السماء.
المقدم: أحسن الله إليك، لماذا يستدل البخاري دائمًا بالغامض ويترك الصريح؟ هل لأن الصريح واضح؟ أو يريد أن يدرب طالب العلم على البحث والنظر؟
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عرفنا دقته وخفاء أدلته -رحمه الله تعالى- على كثير ممن تصدى لشرح كتابه، فضلاً عمن يجهل مقاصد الكتاب، ومغازي الكتاب، وطريقة المؤلف في الكتاب، ومنهج المؤلف في الكتاب، فالإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يعدل عن الصريح لوضوحه، فلا يحتاج إلى أن يذكره، وقد يترجِم بالشيء الواضح، ويستدل له بالشيء الواضح للإيماء إلى أن مثل هذا الواضح قد خفي على بعض الناس، كقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب قول الرجل: ما صلينا، واستدل لذلك بحديث قال فيه عمر -رضي الله عنه-: "ما صليت"، أو قال النبي -عليه الصلاة والسلام- أيضًا: «وأنا والله ما صليتها» فالترجمة ظاهرة والمستدَل به ظاهر، ويريد بذلك الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- الرد على من أنكر مثل هذا القول، يريد بذلك الرد على من أنكر مثل هذا القول، وخفي عليه مثل هذا الدليل.
المقدم: أحسن الله إليكم، نستمر في قراءة الأحاديث.
قال: باب: عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [سورة القيامة 16] قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعالِج من التنزيل شدةً، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركهما، فأنزل الله -عز وجل-: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [سورة القيامة 16-17] قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [سورة القيامة 18] قال: فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [سورة القيامة 19] ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قرأه.
الحديث الخامس راويه ابن عباس رضي الله عنهما، وللعباس بن عبد المطلب أكثر من ابن، لكن إذا أطلق ابن عباس فالمراد به عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، حبر الأمة وترجمان القرآن، أحد العبادلة الأربعة، المتوفى بالطائف بعد أن كُفَّ بصره سنة ثمانٍ وستين.
يقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، لفظة: كان في مثل هذا التركيب تفيد الاستمرار، وأعاده في قوله: "وكان" قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعالج من التنزيل شدةً وكان"، وأعاده في قوله: "وكان مما يحرك" مع تقدمه في قوله: "كان يعالج" لطول الكلام، كما في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ} [سورة المؤمنون 35] فأعاد أنكم لطول الكلام.
"يعالج" المعالجة محاولة الشيء بمشقةٍ أي يحاول من تنزيل القرآن عليه شدة، لا شك أن القرآن ثقيل وشديد، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يتنزَّل عليه القرآن في اليوم الشديد البرد كما تقدم، وإن جبينه ليتفصَّد عرقًا، ولا شك أن الله -سبحانه وتعالى- يلقي عليه القرآن وهو قول ثقيل كما جاء في سورة المزمل.
ومنه ما جاء في الحديث: «وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاجَهُ» يعني الخادم، أي عمله وتعبه، ومنه معالجة المريض، وهي ملاطفته ومحاولته بالدواء حتى يُقبِل عليه، والمعالجة الملاطفة بالمراودة بالقول والفعل. "شدةً" بالنصب، مفعول يعالج، وقال الكرماني: يجوز أن يكون مفعولاً مطلقًا أي يعالج معالجةً شديدة، وكان مما يحرك شفتيه، يقول العيني: اختلفوا في معنى هذا الكلام وتقديره، فقال القاضي: معناه كثيرًا ما كان يفعل ذلك وبهذا قال ثابت السرقسطي، وثابت له كتاب الدلائل، له ولأبيه قاسم، وهو من أنفس كتب غريب الحديث، وقال الكرماني: أي كان العلاج ناشئًا من تحريك الشفتين، أي مبدأ العلاج منه، فعلى هذا تكون (ما) مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة، وقد تجيء لمن يَعقِل، وصوَّب ابن حجر الأول، وقال في الثاني فيه نظر؛ لأن الشدة حاصلة قبل التحريك، وتُعُقِّب بأن الشدة وإن كانت حاصلةً قبل التحريك، إلا أنها لم تظهر إلا بتحريك الشفتين إذ هي أمر باطني لا يدركه الرائي إلا به، فقال ابن عباس: "فأنا أحركهما" أي شفتيّ لك وفي بعض النسخ: لكم "كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركهما"، لم يقل ابن عباس كما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركهما، لم يقل كما رأيت؛ لأن ابن عباس لم يدرك ذلك، وقال سعيد بن جبير: فأنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما لأنه رأى ذلك منه بخلاف ابن عباس فإنه لم يرَ النبي -عليه الصلاة والسلام- في تلك الحالة لسبْق نزول آية القيامة على مولده إذ كان مولده قبل الهجرة بثلاث سنين، ونزول الآية في بدء الوحي كما هو ظاهر صنيع المؤلِّف حيث أورده هنا، ويحتمل أن يكون أخبره أحد الصحابة أنه رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- يحركهما، أو أنه -عليه الصلاة والسلام- أخبر ابن عباس بعد ذلك فرآه ابن عباس حينئذٍ، وفي مسند الطيالسي: قال ابن عباس: فأنا أحرك لك شفتيَّ كما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركهما، فإن ثبت ما في مسند الطيالسي فالتغيير من الرواة، وجملة: فقال ابن عباس إلى قوله: فأنزل الله اعتراض بالفاء، وفائدتها زيادة البيان بالوصف على القول، ومثل هذا يسمى المسلسل أو التسلسل، المسلسل بتحريك الشَّفَة، لكنه لم يتصل تسلسله، والمراد بالمسلسل عند أهل الحديث ما تتابع الرواة على نقله من صفةٍ قولية أو فعلية، هنا لم يتتابع التسلسل انقطع، ما كل واحد يروي الحديث من لدن النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى آخر الإسناد يحرك شفتيه كما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحركهما.
فأنزل الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ} [سورة القيامة 16] يا محمد، {بِهِ} أي بالقرآن {لِسَانَكَ} قبل أن يتم وحيه {لِتَعْجَلَ بِهِ} لتأخذه على عجَلٍ مخافة أن يتفلت منك، وفي تفسير ابن جرير من رواية الشعبي: عجِل به لحبه إياه، ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [سورة القيامة 17] أي قراءته فهو مصدر مضاف للمفعول والفاعل محذوف، والأصل: وقراءتك إياه، قال ابن حجر: ولا منافاة بين قوله: يحرك شفتيه وبين قوله في الآية: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [سورة القيامة 16] في الخبر: "يحرك شفتيه" والنهي عن تحريك اللسان، هل معنى هذا أنه يجوز له أن يحرك شفتيه؟ لأن النهي عن تحريك اللسان دون الشفتين؟