شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (019)
"قال أبو سفيان: فلما قال هرقل ما قال" أي الذي قاله في السؤال والجواب "وفرغ من قراءة الكتاب" النبوي "كثر عنده الصَّخَب" أي اللغَط، وهو اختلاط الأصوات في المخاصَمة "وارتفعت الأصوات وأُخرجنا، فقلت لأصحابي حين أُخرجنا" وفي رواية: حين خَلَوْت به: "والله لقد أَمِرَ" أي كَبُرَ وعَظُم "أَمْرُ ابن أبي كَبْشَة"، أي شأنه، وكَبْشَة ليس هو مؤنَّث الكَبْش، من غير لفظه، والمراد بذلك كنية النبي -عليه الصلاة والسلام-، لأنها كنية أبيه من الرضاعة، الحارث بن عبد العزى فيما قاله ابن ماكولا، أو هو والد حليمة مرضعته، أو ذلك نسبةً إلى جد جده؛ لأن أمه آمنة بنت وهب وأم جد وهب قيلة بنت أبي كبشة، أو لجد جده عبد المطلب لأمه، أو هو رجل من خزاعة اسمه وجْز بن غالب، خالَف قريشًا في عبادة الأوثان، فعبد الشِّعر، فنسبوه إليه لاشتراكه في مطلق المخالفة، يعني يكون لقب لهذا للخزاعي، لما خالف قريش فعبد غير ما كانت تعبده قريش نُسِب إليه النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه خالف قومه فدعا إلى عبادة الله وحده، مخالفًا بذلك قومه.
"إنه يخافه" بكسر الهمزة على الاستئناف، وجوَّز العيني فتحها، والمعنى عظم أمره -عليه الصلاة والسلام- لأجل أنه يخافه ملك بني الأصفر، وهم الروم؛ لأن جدهم روم بن عيص ابن إسحاق تزوج بنت ملك الحبشة فجاء ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر، أو لأن جدته سارَة حلَّته بالذهب، وقيل غير ذلك.
قال أبو سفيان: "فما زلت موقِنًا أنه سيَظْهَر، حتى أدخل الله علَيَّ الإسلام، فأبرزْت ذلك اليقين"، أبو سفيان كأنه عنده شيء من القناعة النفسية لكن تمنعه الأنَفة عن الدخول في الإسلام كما كانت تمنع أبا طالب، هذا موجود من كُبَرَاء قريش تمنعهم الأنَفة من أن يعترفوا ويذعنوا، لكن أدخل الله عليه الإسلام فأبرز ذلك وحدَّث به الناس.
المقدم: هنا إشكال -أحسن الله إليكم- الحقيقة يَرِدُ كثيرًا في خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: «إني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِم تسلَم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» كيف يُحمَّل وِزْرَ هؤلاء أي الأريسيين إذا لم يُسلِم؟ هل من عادة الملوك منع أتباعهم من الإسلام، أو بمجرد أن يكون ذا سلطةٍ وبالتالي يتبعه من تحته، ويكون عليه الوزر لامتناع دخول جمهرة الناس في دين الإسلام؟
سبقت الإشارة إلى شيءٍ من ذلك، وأن ليس لأحد أن يُحمَّل وزر غيره {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الزمر 7] لكن هو سبب في صدِّهم عن الإسلام، سواء كان بفعله إذا اقتدوا به، أو بقوله وإلزامه وإكراهه لهم، فمجرد الاقتداء به لا شك أنه سبب في صدهم عن دين الإسلام، وهذا يجعل على طالب العلم مسؤولية كبرى في أن يعمل بعلمه، عليه أن يعمل بعلمه؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه واقتدى به الناس تحمل آثامهم وأوزارهم لماذا؟ لأنهم يقولون: لو كان ما يقوله حق؟ لفعله هو، هو أولى الناس به، فدل على أنه غير مقتنع بما يقول؟ فهو وإن أمر الناس بقوله فقد صدهم عن الاقتداء به بفعله، فعلى طالب العلم وعلى العالِم أن يكون داعيةً بقوله وفعله؛ لأن الاضطراب والازدواجية بين القول والفعل تجعل عامة الناس يضطربون فلا يدرون يصدِّقونه فيما يقول أو يقتدون به فيما يفعل؟ لا شك أن مثل هذا له نصيب من الصد عن دين الله. وكثيرًا ما نرى بعض عامة الناس يستدل الشيخ الفلاني يقول كذا، الشيخ الفلاني يفعل كذا، الشيخ الفلاني يجر ثوبه، الشيخ الفلاني يقص من لحيته، أو الشيخ الفلاني... يقولون مثل هذا الكلام فهم يقتدون بفعله، ولا شك أن القدوة والأسوة هو محمد -عليه الصلاة والسلام-، لكن حذاري حذاري أن يكون العالِم أو طالب العلم ممن يكون داعية شرٍّ وداعية ضلال بفعله، وإن أظهر بلسانه خلاف فعله، والله المستعان.
المقدم: أحسن الله إليكم، هذا النص جاء في الإمام لأمةٍ كاملة، ومع ذلك جاء هذا التحذير الشديد، ألا ترون أن ولي الأمر في المنزل أيضًا ربما يناله حظ من هذا الإثم إذا كان سببًا لصد أبناءه ومن تحت يده من الهداية بأن يسَّر لهم سبل الشر في المنزل، ألا يناله وزر من هذا يكون من تحته؟
لا شك أن كل مسؤول ومقتدَى به عليه وزر من تبعه، إضافةً إلى وزره الأصلي، وكلٌّ مسؤول، كلٌّ راعٍ وكل مسؤول عن رعيته، لا شك أن رب البيت راعٍ في بيته، وهو قدوة لأولاده، والمعلم قدوة أيضًا لطلابه وتلاميذه، والعالِم قدوة للناس، وهكذا، فكل بحسب موقعه ومسؤوليته، لا شك أن الذي يجلب ما يصد الناس عن دين الله، لا شك أنه شريك له، بل يتحمل أوزار الناس كلهم؛ لأنه هو المتسبِّب، الرجل في بيته إذا أدخل في بيته ما يكون سببًا لصد أسرته وعائلته عن دين الله عليه الوزر، إذا اقتدَى به من عوام الناس من الجيران وغيرهم أيضًا ناله من الإثم ما يناله؛ لأنه في موقع الاقتداء والائتساء، والله المستعان.
المقدم: قال: "وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقفا على نصارى الشأم، يحدِّث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح خبيث النفس، فقال بعض بَطَارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حَزَّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن مَلِك الخِتَان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يُهِمَّنَّك شأنهم، واكتب إلى مدائن مُلْكك فيقتلون من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أُتِيَ هرقل برجل أرسل به ملك غَسَّان يخبر عن خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدَّثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا مُلْك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يَرِم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه نبي، فأَذِن هرقل لعظماء الروم في دَسْكَرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا الرجل فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نَفْرتهم وأَيِس من الإيمان قال: رُدوهم علي، وقال: إني قلت: مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل".
والناطور هو حافظ البستان، وهو لفظ أعجمي تكلمت به العرب، وفي رواية: الناظور بالمعجمة، وفي رواية الليث عن يونس: ابن ناطورا، بزيادة ألفٍ في آخره، والواو عاطفة، فالقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزهري خلافًا لمن توهَّم أنها معلقة أو مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان، والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله، وذكر الحديث، ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدِّث، فذكر هذه القصة، "صاحب إيلياء" أي أميرها، وصاحب منصوب على الاختصاص أو الحال، لا خبر كان؛ لأن خبرها إما أسقُفًّا أو يحدِّث وجُوِّز كونه خبرًا لكان؛ لأنه لا مانع من تعدد الخبر، وفي رواية: صاحبُ بالرفع صفة لابن الناطور، وجَوَّز بعضهم إعرابه خبر مبتدأ محذوف أي هو صاحب إيلياء.
"وهرقلَ" مجرور عطفًا على إيلياء، أي صاحب إيلياء وصاحب هرقل، وأَطلق عليه الصحبة إما بمعنى التَّبَع، وإما بمعنى الصداقة، "أُسْقِفَا" هذه اللفظة رُويَت بألفاظٍ متعددة، بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، وفي رواية: أُسْقُفًّا بتشديد الفاء، بضم الهمزة وسكون السين، وضم القاف وتشديد الفاء، وفي رواية: أُسْقُفًا مثلها إلا أنها بتخفيف الفاء، والتشديد أُسْقُفًّا قال النووي: هي الأشهر، وفي رواية: سُقِّفَا "على نصارى الشام" لكونه رئيس دينهم، أو عالمهم، أو هو قيِّم شريعتهم، وهو دون القاضي، أو هو فوق القِسِّيْس ودون المَطْرَان، "يحدِّث أن هرقل حين قَدِم إيلياء" عند غلبة جنوده على جنود فارس، وإخراجهم في سنة عمرة الحديبية، "أصبح خبيث النفْس" رديئها غير طيبها، مما حل به من الهَم، وعبَّر بالنفْس عن جملة الإنسان روحه وجسده اتساعًا لغلبة أوصاف الجسد على الروح، وفي رواية: أصبح يومًا خبيث النفْس أصبح خبيث النفْس، يعني هو كله خبيث، قالوا: عبَّر بالنفْس عن جملة الإنسان عن روحه وعن جسده عن كامله لغلبة أوصاف الجسد على الروح، يعني تطلق الروح ويراد بها الجسد، كأن هذا مرادهم.
"فقال له بعض بطارقته" بفتح الموحدة جمع بِطريق بكسرها أي قُوَّاده وخواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم "قد استنكرنا هيئتك" أي سمتك وحالتك، لكونها مخالفةً لسائر الأيام، "قال ابن الناطور" وفي رواية: الناظور، "وكان" عُطِف على مقدَّر تقديره قال ابن الناطور: كان هرقل عالمًا، وكان "حَزَّاءً" فلما حُذِف المعطوف عليه أُظهِر هرقل في المعطوف وحَزَّاء منصوب؛ لأنه خبر كان، والحَزَّاء بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة أي كاهنًا "ينظر في النجوم" خبر ثاني لـ(كان) إن قلنا أنه ينظر في الأمرين، يعني يكون حَزَّاء، وينظر في النجوم، أو هو تفسير للحَزَّاء؛ لأن الكهانة تؤخذ من ألفاظ الشياطين تارةً، وتارةً من أحكام النجوم، وكان هرقل عَلِم ذلك بمقتضى حساب المنجِّمين، "فقال هرقل لهم" أي لبعض بطارقته حين سألوه "إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم مَلِك الختان" مَلِك بفتح الميم وكسر اللام، وفي رواية: مُلْك بالضم ثم الإسكان "قد ظهر" أي غَلَب، وهو كما قال؛ لأنه في تلك الأيام كان ابتداء ظهوره -صلى الله عليه وسلم-، إذ صالح الكفار بالحديبية، وأنزل الله تعالى سورة الفتح، ومقدمة الظهور ظهور، "فمن يختتن من هذه الأمة؟" أي من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم تجوُّز، وفي رواية: من يختتن من هذه الأمم؟ "قالوا" مجيبين لاستفهامه إياهم "ليس يختتن إلا اليهود" أجابوا بمقتضى علمهم؛ لأن اليهود كانوا بإيلياء تحت الذلة، مع النصارى بخلاف العرب، يعني ما في خلطة بين النصارى والعرب بخلاف الخلطة الحاصلة بين اليهود والنصارى، "فلا يُهِمَّنَّك" أي لا يقلقك شأنهم "واكتب إلى مدائن مُلْكك" جميع مدينة بالهمز، وقد يُترَك فيقال: مَدَاين "فيقتلوا من فيهم من اليهود" وفي رواية: فليقتلوا باللام، "فبينما هم" الآن هرقل وأعوانه ما رفعوا شأنًا باليهود ولا اهتموا لهم، فلذلك قال: فلا يهمنك شأنهم لأنهم قد ضرب عليهم الذلة والصَّغار، فلا شك أن شأنهم أضعف من أن يلقى لهم أي بال، وأن يحسب لهم أي حساب، وكونهم يتسلطون في مثل هذه الأيام، وفي مثل هذه العصور على المسلمين هذا من باب العقوبة للمسلمين لإعراضهم عن دين الله، وكون الإنسان يعاقَب بأضعف الأشياء زيادة في النكاية به، هذه زيادة في النكاية وتشديد في العقوبة أن يسلَّط على الإنسان أضعف الأشياء، وأحقر الأشياء، "فبينما هم" بالميم وأصله (بين) فأُشبعَت الفتحة فصارت (بينا) ثم زيدت عليها الميم، وفي رواية: (فبينا) والمعنى واحد، و(هم) مبتدأ خبره "على أمرهم" مشورتهم التي كانوا فيها "أُتِيَ هرقل برجلٍ أرسل به ملك غسان" بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة، والمَلِك هو الحارث بن أبي شِمْر، وغَسَّان اسم ماء نزل عليه قوم من الأَزْد فنُسبوا إليه، ولم يُسَمَّ الرجل ولا من أرسل به، "يخبِر عن خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فقال -كما عند ابن إسحاق-: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس فكانت بينهم ملاحم في مواطن وتركْتُهم وهم على ذلك، "فلما استخبره هرقل" وأخبره بذلك، قال هرقل لجماعته: "اذهبوا فانظروا إلى الرجل أمختتن هو؟" بهمزة الاستفهام، وفتح المثناة الفوقية وكسر الثانية، "أم لا؟ فنظروا إليه" وعند ابن إسحاق: "فجردوه فإذا هو مختتن" "فحدثوه" أي حدثوا هرقل "أنه مختتن" "وسأله عن العرب" هل يختتنون؟ "فقال" أي الرجل: "هم يختتنون" وفي رواية: مختتنون "فقال هرقل: هذا" الذي نظرته في النجوم "مُلْك هذه الأمة" أي العرب، وفي رواية: يملك وليس المراد بذكر هذا هنا، تقويةً لقول المنجمين أو اعتمادًا عليها، بل المراد أن البشارات به -عليه الصلاة والسلام- جاءت على لسان كل فريقٍ من إنسي أو جني، يعني تظافرت عليه الأدلة.
المقدم: النسخة التي بين أيدينا -أحسن الله إليكم- فقال هرقل: هذا مُلْك هذه الأمة قد ظهر، وقد ذكرتم أنه قال: هذا نظري في النجوم.
لا لا، هذا شرح "فقال هرقل: هذا" أي الذي نظرته في النجوم "ملك هذه الأمة" يعني طابق وقع ما رآه، ولا شك أن أخبار المنجِّمين وأخبار الكهَّان قد تَصْدُق، فمسترق السمع قد يسترق الكلمة ويلقيها على الكاهن، والكاهن يزيد عليها مائة كما جاء في الأخبار.
"ثم كتب هرقل إلى صاحبٍ له" يُسَمَّى ضَغَاطِر الأُسْقُف "برُوْمِيَة" بالتخفيف، أي فيها وهي مدينة كبيرة يقال إن سورها أربعة وعشرون ميلاً، "وكان نظيره في العلم" أي مثيله "وسار هرقل إلى حمص" مجرور بالفتحة حِمْص مجرور بالفتحة؛ لأنه غير منصرِف، لعللٍ ثلاث، للعلمية والتأنيث والعجمة، وجوَّز بعضهم صرفه وعدمه؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط، والخلاف بين العيني وابن حجر هل كونه ثلاثيًّا ساكن الوسط يقابِل العلل الثلاث فيُصرَف؟ أو يقابل واحدة من الثلاث فيبقى فيه علِّتان فيُمنَع من الصرف؟
وعلى كل حال الخَطْب سهل، هو ثلاثي ساكن الوسط فيخف على اللسان ويهون ويسهل صرفه، مثل نوح ولوط وهند، وإنما سار هرقل إلى حمص لأنها دار ملكه، "فلم يَرِم" أي يبرح منها أو لم يصل إليها هرقل "حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه" ضَغَاطِر "يوافق رأي هرقل على خروج النبي -صلى الله عليه وسلم-" أي ظهوره "وأنه نبي" وهذا يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوته -صلى الله عليه وسلم، لكن هرقل لم يستمر على ذلك، ولم يعمل بمقتضاه، بل شحّ بملكه ورغب في الرياسة، وآثر الدنيا على الآخرة، بخلاف صاحبه ضَغَاطِر فإنه أظهر إسلامه وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام فقتلوه، "فأَذِن" بالقصر من الإذْن وفي رواية: فآذَن بالمَدِّ أي أعلَمَ "هرقل لعظماء الروم في دَسْكَرَة" الدَّسْكَرَة هي القصر يكون حوله البيوت، "له" أي كائنة له "بحمص، ثم أمر بأبوابها" أي أبواب الدَّسْكَرَة "فغُلِّقَت" بتشديد اللام وكأنه دخلها ثم أغلقها، وفتح أبواب البيوت التي حولها، وأَذِن للروم في دخولها ثم أغلقها، دخل أولاً ثم أغلق على نفسه خوفًا منهم، "ثم اطلع" عليهم من علو، خوف أن ينكروا مقالته فيقتلوه كما قتلوا صاحبه ضَغَاطِر، ثم خاطبهم "فقال: يا معشر الروم، هل لكم" رغبة "في الفلاح والرُّشْد؟" بالضم ثم السكون، أو بفتحتين الرَّشَد، وهو خلاف الغَيّ، "وأن يثبت ملككم، فتُبايِعوا" منصوب بحذف النون بأن مقدرة في جواب الاستفهام، وفي نسخةٍ: فبايِعوا وفي روايةٍ: نُبايِع بنون الجمع ثم موحدة، وفي رواية: نُتابِع وفي رواية: فتُتابِعوا من الاتباع أو من البيعة وفي نسخة: فنَتَّبِع "هذا الرجل" النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية: لهذا وإنما قال هرقل هذا لما عرفه من الكتب السابقة أن التمادي على الكفر سبب لذهاب الملك، ونُقِل أن في التوراة: ونبيًّا أرسله أيُّ إنسانٍ لم يقبل كلامي الذي يؤديه عني فإني أهلكه، هذا منقول من التوراة، والله أعلم.
"فحَاصُوا" أي نفروا "حَيْصَة حُمُر الوحْش" أي كحيصتها "إلى الأبواب فوجودها قد غُلِّقَت" بالتشديد، وشبه نفرتهم مما قال لهم من اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنَفْرَة حمر الوحش؛ لأنها أشد نُفْرَةً من سائر الحيوانات، ولذا جاء في سورة المدثر: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} [سورة المدثر 50].
"فلما رأى هرقل نفرتهم وأَيِسَ" وفي رواية: يَئِس أي قَنِط "من الإيمان" أي من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لكونه شَحَّ بملكه، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه، ويسلم ويسلمون، هو يحب هذا، ليجمع بين خيري الدنيا والآخرة، لكن الآن الامتحان في المفاضلة، حصلت المفاضلة بين الدنيا والآخرة فآثر الدنيا، الله المستعان.
"قال: ردوهم علَيّ، وقال لهم: إني قلت مقالتي آنفًا" بالمَدّ أي هذه الساعة "أختبر" أي أمتحن "بها شدتكم" أي رسوخكم "على دينكم، فقد رأيت شدتكم" فحَذف المفعول للعلم به مما سبق، وفي رواية: "فقد رأيت منكم الذي أحببت"، "فسجدوا له" حقيقةً، على عادتهم لملوكهم، أو قبَّلوا الأرض بين يديه؛ لأن ذلك ربما كان كهيئة السجود، "ورضوا عنه، فكان ذلك آخر" بالنصب خبر كان "شأن هرقل" أي فيما يتعلق بهذه القصة خاصةً، لا يعني أن هذا آخر حياة هرقل، إنما هذا آخر شأنه فيما يتعلق بهذه القصة، أو فيما يتعلق بالإيمان، فإنه بعد ذلك وقعت له أمور من تجهيز الجيش إلى مؤتة وتبوك ومحاربته للمسلمين، وهذا يدل على استمراره على الكفر -نسأل الله العافية- لكن قال بعض الشراح: مع ذلك يحتمل أنه يكون يُضْمِر الإيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاةً لمملكته، وخوفًا من أن يقتله قومه.
وعلى كل حال مثل هذا الإيمان ولو أَضْمَرَه، ولو وَقَرَ الإيمان في القلب لكن لم ينطق به الشخص، فإنه لا يُحكَم بإيمانه، وإنما حكمه في الدنيا الكفر، إلا أن في مسند الإمام أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أني مسلم، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «بل هو على نصرانيته».
وقال البخاري بعد ذلك: "رواه" أي روى حديث هرقل، وفي رواية: بواو العطف، وفي رواية: نسخ الصحيح هذا كله لا يوجد في المختصَر، هذا في الأصل، قال: محمد أي البخاري "رواه صالح بن كيسان" المدني المتوفَّى بعد الأربعين ومائة عن مائة سنة ونَيِّفٍ وستين، عُمِّر لأنه قيل إنه ابتدأ طلب العلم بعد التسعين فأخذ عن الزهري حتى عُدَّ من كبار الآخذين عن الزهري وانتفع ونفع الله بعلمه بعد التسعين، منهم من يقول أقل من ذلك، لكن أقل ما قيل الخمسين فلا يأس، كثير من عوام المسلمين كبار السن حُرِموا من التعلُّم في أوائل حياتهم حتى لا يقرؤون ولا القرآن، فينظرون إلى من يقرأ القرآن حَسْرَة، أنا أقول: لماذا هذا اليأس والبيوت، ولله الحمد الآن مملوءة بمن يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن؟ لماذا لا يجاهد الإنسان -وإن كان كبير السن- نفسه في حفظ شيء من كتاب الله ولو تَعِب؟ ولا يلزم أن يحفظ في كل يوم قدرًا كبيرًا، لو يحفظ كل يوم آية، أو يردد آية حتى يحفظها في يوم يومين ثلاثة، سورة قصيرة، الذي ينتفع بذلك، والحرف بعشر حسنات. ونحن ننظر مع الأسف الشديد في مساجد المسلمين في رمضان كثير من عوام المسلمين وكبار السن يلتفت يمينًا وشمالاً يتمنَّى ويتحسَّر أن لو كان يقرأ القرآن ويستفيد مثل الناس؛ لأنه فاته القطار في حَدِّ زعمه، لا، لا يأس، الآن بإمكانه أن يستمع من ولده، من بنته، من المسجِّل، والحمد لله كل شيء متيسر، ولله الحمد، وهذا جهاد بحد ذاته، لو لم يدرِك شيء هو في جهاد؛ لأنه يطلب العلم وخير العلوم ما يتعلق بكتاب الله -عز وجل-.
ورواه أيضًا يونس بن يزيد الأيلي، ورواه مَعْمَر بن راشد الثلاثة عن الزهري، فأخرج المصنِّف الأول والثاني في الجهاد، والثالث في التفسير، والحديث مخرَّج في مسلم أيضًا فهو متفق عليه.
المقدم: في طلب هرقل من أصحابه أن يتأكدوا أمختتن هو أم لا؟ قال: فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن؟ كيف كان هذا النظر؟
كما جاء في بعض الروايات أنهم جرَّدوه، جرَّدوه من ثيابه.
المقدم: جردوا النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
لا لا، جردوا هذا الرجل الذي جيء به إلى هرقل، الذي أرسل به ملك غسان، هذا الرجل من العرب جيء به إلى هرقل فقال: تأكدوا هل العرب يختتنون أو لا؟
المقدم: وبالتالي تبيَّن من خلال هذا العربي أنه من الأمة التي تختتن، وأن النبي الذي سيبعث منهم.
وسأل هل العرب يختتنون؟ فقال: نعم، هم يختتنون.
المقدم: ذكرتم -أحسن الله إليكم- في مسند أحمد أنه كتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- من تبوك أنه مسلم فقال النبي: «بل هو على نصرانيته»، هذا مما يؤيد القول ويفصل النزاع في مسألة إسلامه من عدمه.
نعم، لكن هذا إن صح؛ لأن في سنده مقال.
المقدم: لا زلنا في باب بدء الوحي، ولم يُحذَف أي حديث حتى الآن من التجريد فهو موافق لما في الصحيح أصلاً.
بلا شك؛ لأن أوائل الكتاب ما بعد مرَّ التَّكرار إلى الآن، ما جاء تَكرار إلى الآن.
المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا أيضًا نتعرف من خلالكم عن موقف هرقل وكسرى وأتباع هذين المسؤولَيْن أو الأمرَيْن من كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- المذكور في صدر الحديث كما سبق؟
أما بالنسبة لكسرى، فإنه لما جاءه كتاب النبي -عليه الصلاة والسلام- مزَّقه، فدعا عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يمزِّق الله ملكه فحصل، ولم تقم لهم قائمة، أما بالنسبة للروم وهرقل فإنهم احتفظوا بكتاب النبي -عليه الصلاة والسلام- ويُذكَر في أخبارٍ كثيرة أن النصارى أطْلَعوا بعض قُوَّاد المسلمين، وبعض علماء المسلمين على هذا الكتاب، وأنه موجود عندهم في صندوقٍ من ذهب، وملفوف بقطعة حرير وما أشبه ذلك، اعتنَوا به، واهتموا به، ويظنون أن بقاء ملكهم دائم مع بقاء هذا الكتاب.