شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (020)
المقدم: أحسن الله إليكم، في بداية الشرح لما قلنا وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل ثم ذكرتم أيضًا شيئًا من اجتماعه ببطارقته هذا -الحقيقة- فيه لفتة إلى وزراء السوء أيضًا الذين ربما يكون لهم تأثير خطير على الإنسان ومن فضل الله -جل وعلا- بالمؤمن أن يجعل له وزيرًا من خاصة نفسه يذكِّره بالخير ويدلُّه عليه، أيضًا الصاحب والصديق للإنسان إذا كان خيِّرًا دله على الخير، وإذا كان سيِّئًا دله على السوء، فهؤلاء البطارقة الذين كانوا حوله، ربما كانوا سببًا أيضًا في ضلاله.
بلا شك أن الجليس له دَوْر كبير في توجيه الإنسان، وقصة أبي طالب حينما حضرته الوفاة وهي في الصحيح، لما قالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ يعني المسألة مصيرية، لو قال: لا إله إلا الله، «قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فخسر الدنيا والآخرة من أجل قرناء السوء -نسأل الله العافية-.
المقدم: تفضلوا بالحديث عن تراجم هذا الحديث -أحسن الله إليكم-.
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرَّج الحديث في اثني عشر موضعًا، وحقيقة مثل هذه الأحاديث، أحاديث بدء الوحي قد لا يحس الإنسان بقيمة هذه التراجم؛ لأنه لا يظهر فيها فقه عملي، في بدء الوحي، لكن بدءًا من كتاب الإيمان ثم العلم ثم العبادات والمعاملات وغيرها تظهر ميزة تراجم الإمام -رحمه الله- ودقة فقهه، لكن هذا مسلك سوف يكون أو نسير عليه -إن شاء الله تعالى- في الكتاب كله.
أقول: خرَّج الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- الحديث في اثني عشر موضعًا:
الأول: بدء الوحي، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره فذكره مطولاً كما سمعنا، ومناسبة الحديث لبدء الوحي أنه مشتمل على ذِكْر جُمَل من أوصاف من يُوحَى إليه، يعني في مساءلات هرقل لأبي سفيان كلها أوصاف النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو المُوحَى إليه، طرف في الموضوع، وأيضًا فإن قصة هرقل متضمنة كيفية حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في ابتداء الأمر، وأيضًا الابتداء يناسب البدء من هذه الحيثية.
وأيضًا فإن الآية المكتوبة إلى هرقل، والآية التي صُدِّر بها الباب، مشتملتان على أن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بإقامة الدِّين، وإعلاء كلمة التوحيد، يظهر ذلك بالتأمل قاله العيني، وقال ابن حجر: فإن قيل ما مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟ فالجواب: أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الابتداء؛ ولأن الآية المكتوبة إلى هرقل للدعاء إلى الإسلام ملتئمة مع الآية التي في الترجمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [سورة النساء 163]... الآية، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [سورة الشورى 13]... الآية، فبان أنه أوحى إليهم كلهم: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [سورة الشورى 13] وهو معنى قوله تعالى: {سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران 64]... الآية.
الموضع الثاني في كتاب الإيمان باب بلا ترجمة، قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره فذكره مختصرًا.
والباب تالٍ لباب سؤال جبريل النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال ابن حجر: بابٌ بلا ترجمة في رواية كريمة وأبي الوقت، وسقط من رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما، ورجَّح النووي إثبات باب، وزعم أن حذفه فاسد، والصواب إثباته؛ لأن ترجمة الباب الأول لا يتعلق بها هذا الحديث فلا يصح إدخاله فيه، ومقصود البخاري بقصة هرقل أنه سماه دِينًا وإيمانًا، وقال: وفي الاستدلال بها إشكال؛ لأنه كافر فكيف يُستدَل بقوله؟ وقد يقال: هذا الحديث تداولته الصحابة -رضي الله عنهم- وسائر العلماء ولم ينكروه، بل استحسنوه، والله أعلم.
الآن الرابط بين حديث جبريل وسؤاله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وبين حديث هرقل قال أنه سمى الدين أو سمى الإيمان دين في الأمرين، ولذا قال: ومقصود البخاري في قصة هرقل أنه سماه دِينًا، وإيمانًا، وهناك: «أتاكم جبريل يعلمكم دينكم» ثم قال النووي: وفي الاستدلال بها إشكال؛ لأنه كافر فكيف يُستدَل بقوله؟ وقد يقال: هذا الحديث تداولته الصحابة -رضي الله عنهم- وسائر العلماء ولم ينكروه بل استحسنوه والله أعلم.
وقال ابن حجر في الاستدلال بقوله: وهو كافر، فالجواب أنه ما قاله من قِبَل اجتهاده، وإنما أخبر به عن استقرائه من كتب الأنبياء كما قررناه فيما مضى، وأيضًا فهرقل قاله بلسانه الرومي، وأبو سفيان عبَّر عنه بلسانه العربي، وألقاه إلى ابن عباس وهو من علماء اللسان، فرواه عنه ولم ينكره، فدل على أنه صحيح لفظًا ومعنى، يقول ابن حجر متعقبًا كلام النووي، النووي يقول: الصواب إثبات كلمة (باب) لأنه لا علاقة بقصة هرقل مع الترجمة السابقة، التي هي ماذا؟
طالب: .......
نعم لكن باب سؤال جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإيمان والإسلام والإحسان يقول ما له ارتباط لا بد أن يفصل بينهما بباب، نذكر أننا تكلمنا عن الباب بلا ترجمة، وأنه بمنزلة الفصل من الباب السابق، وأنه له تعلق وارتباط وثيق به، هنا يقول ابن حجر: نفي التعلق لا يتم هنا على الحالتين؛ لأنه إن ثبت لفظ باب بلا ترجمة فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله فلا بد له من تعلق به، وإن لم يثبت فتعلقه به متعيِّن يعني جزء من الباب، يعني الحديث في الباب، لكنه يتعلق بقوله في الترجمة: جعل ذلك كله دينًا، ووجه التعلق أنه سمى الدين إيمانًا في حديث هرقل فيتم مراد المؤلف بكون الدين هو الإيمان، أين سمى هرقل الدين إيمانًا؟ انظر في المتن؟
المقدم: قال: "فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمّ".
أمر الإيمان حتى يتمّ.
المقدم: وقال أيضًا في موضعٍ آخر: "وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب".
نعم "فهل يترد أحد منهم سخطةً لدينه؟" فمرَّةً عبَّر بالدين، ومرة عبَّر بالإيمان، فدل على أن الدين هو الإيمان، وفي سؤال جبريل سأل عن الإيمان والإسلام والإحسان ثم قال في النهاية: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» فدل على أن البخاري -رحمه الله تعالى- دقيق الاستنباط حينما أورد هذا الحديث ليبين أن الإيمان والدين بمعنًى واحد، دقة متناهية.
الموضع الثالث: كتاب الشهادات باب من أمر بإنجاز الوعد، قال: حدثني إبراهيم بن حمزة، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله أن عبد الله بن عباس قال: أخبرني أبو سفيان فذكره مختصرًا وفيه: "فزعمتَ أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد" يأمر بالوفاء بالعهد، وفيه أيضًا: "فهل يغدر؟" والترجمة: باب من أمر بإنجاز الوعد، وجه تعلُّق الباب بالشهادات؟ أن وعْد المرء كالشهادة على نفسه قاله الكرماني، الترجمة باب من أمر بإنجاز الوعد، علاقة الوعد بالشهادات؟ الوعد والعهد وعدم الغدر، علاقتها بالشهادات؟ يقول الكرماني أن وعد المرء كالشهادة على نفسه، إذا وعد لا بد أن يفي، كما أنه إذا تحمل شهادة لا بد أن يصدق في التحمل، ولا بد أن يؤدي كما سمع.
الموضع الرابع: في كتاب الجهاد باب قول الله -عز وجل-: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [سورة التوبة 52] والحرب سجال، علاقة الحرب سجال بإحدى الحسنيين؟ لأنهم إن انتصروا، وهذه هي إحدى الحسنيين أُدِيْلُوا على أعداءهم، وإن قتلوا أُدِيْلَ أعداؤهم عليهم وهي أيضًا إحدى الحسنيين، وحينئذٍ يتضح قول البخاري -رحمه الله-: "والحرب سجال" وهذه مأخوذة من حديث هرقل.
المقدم : وهي من قول أبي سفيان.
نعم، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، قال: حدثني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله به فذكره مختصرًا، وفيه: "فزعمت أن الحرب سجال ودُوَل" قال ابن حجر: الغرض منه قوله فيه: فزعمت أن الحرب بينكم سجال أو دُوَل، وقال ابن المنيِّر: التحقيق أنه ما ساق حديث هرقل إلا لقوله: وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، قال: فبذلك يتحقق أن لهم إحدى الحسنيين إن انتصروا فلهم العاجلة والعاقبة، وإن انتصر عدوهم فللرسل العاقبة.
المقدم: أثناء شرحكم تفضلتم وقلتم أنه في باب بدء الوحي هنا سقط السؤال العاشر، وهو سؤاله عن القتال، وأُثبِت في باب الجهاد، وهو الذي أتيتم به في هذه الترجمة، هذا مرادكم به أنه أثبت في هذا الباب كاملاً.
نعم، يقول ابن حجر: وهذا لا يستلزم نفي التقدير الأول ولا يعارضه، بل الذي يظهر أن الأول أولى؛ لأنه من نقل أبي سفيان عن حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما الآخر فهو من قول هرقل مستندًا إلى ما تلَقَّفَه من الكتب، وعلى كل حال هذا وذاك كله يدل على الترجمة.
الموضع الخامس: في كتاب الجهاد باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام والنبوة، وألا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس فذكره مطوَّلاً، والمناسبة ظاهرة بين الجهاد والدعوة، وأن الدعوة لا بد أن تسبق الجهاد، والمناسبة بين الحديث والترجمة ظاهرة، المناسبة بين الجهاد والدعوة، كتاب الجهاد باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الجهاد، المناسبة ظاهرة؛ لأن الدعوة لا بد أن تسبق الجهاد، إن حصلت الاستجابة بها ونعمت، وهذا هو المطلوب، وإن لم تحصل تأتي المرحلة الثانية وهي الجهاد، المناسبة بين الحديث والترجمة ظاهرة أيضًا؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أرسل إلى هرقل الكتاب يدعوه إلى الإسلام، متغانمًا -عليه الصلاة والسلام-، ومغتنمًا فرصة الصلح مع الكفار، وعلى هذا ينبغي للمسلم أن يجنِّد نفسه للدعوة، وأن يستغل الفُرَص، لا سيما من كان الناس بحاجته؛ لأن قوله أوقَع، فهذا يوسف -عليه السلام- استغل وجوده في السجن بين أولئك الناس واستغل حاجة الناس إليه في التأويل والتعبير دعاهم {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} [سورة يوسف 39] المهم أنه استغل الموقف، وعلى هذا لو أن كل مسلم على حسب أو على اختلاف مواقع المسلمين وأعمالهم استغلوا هذه المواقع في نشر الدين، الطبيب المريض محتاج إليه فلو وجَّهَه بكلمات قَبِل منه، المعلِّم الطالب بحاجة إليه، كل إنسان بحسب موقعه، القاضي الخصوم بحاجة إليه، وهكذا، لا بد أن يغتنم المسلم فرصة عمله ووجوده لينشر الدين ليكون من الدعاة إلى الهدى، فمن دل على هدى كان له مثل أجر فاعله.
المقدم: والملاحَظ -مع الأسف- أن النصارى يستغلُّون هذا الجانب كثيرًا -فضيلة الدكتور- في أعمالهم الإغاثية ونحوها، فهم وإن أظهروها أنها باسم الإنسانية؛ لكنها في الحقيقة الأمر بالدعوة إلى النصرانية.
لا لا هي أسلوب من أساليب الدعوة، أقول: المحتاج يقبل ممن يساعده، فلو سُلِكَت الدعوة ومعها البذل، هناك المجتمعات الفقيرة حينما يُدعَمون بالمال أملِ عليهم ما شئت من الدعوة لا شك أنهم يَقبَلون، انتبَه النصارى لمثل هذا واستغلُّوه استغلال، أنشؤوا المستشفيات، وأنشؤوا اللجان الإغاثية وما أشبه ذلك، كله من أجل التأثير على هؤلاء المحتاجين، ومع ذلكم النتائج -ولله الحمد- ليست على ما يتصوَّرون ويتوقعون، والإسلام -ولله الحمد- رغم تقصير المسلمين في الدعوة إليه، ورغم ما يوجد من الصد عنه، إلا أنه -ولله الحمد- يسري في الناس سَرَيان النار في الهشيم، كل ذلك لأن دين الإسلام موافق للفطرة.
وذكر الشيخ العبودي -حفظه الله- في حلقةٍ من حلقاته ورحلاته في الهند أن رجلاً هنديًّا جاء إلى السفارة فأعلن إسلامه، فسئل ما السبب؟ هو ما دعي إلى الإسلام، قال: إنه ذهب بأمه ليحرقها، على عادتهم، فجمع الحطب لها وأشعل فيها النار فأكلت النارُ الكفن فقط، وبقيت الأم كما خُلِقَت، أديان -سبحان الله- كيف تقبلها العقول؟! ثم جاء فأعلن إسلامه؛ لأنه يعرف أن المسلم مكرَّم محترم، حيًّا ومَيْتًا فإذا مات دفن في هذه الحفرة أستر له بلا شك، والله المستعان.
الموضع السادس: في كتاب الجهاد أيضًا باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نُصِرْت بالرعب مسيرة شهر» قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله فذكره مختصرًا، وفيه قول أبي سفيان: "لقد أمِر أَمْرُ ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر" والمناسبة في قوله: "إنه يخافه ملك بني الأصفر" لأنه كان بين المدينة وبين المكان الذي كان قيصر ينزل فيه مدة شهرٍ أو نحوه «نصرت بالرعب مسيرة شهر» هذه الترجمة، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» يخافه ملك بني الأصفر، يخافه لماذا؟ من الرُّعْب، يخافه من الرعب.
الموضع السابع: في كتاب الجزية والموادعة، باب فضل الوفاء بالعهد، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله فذكره مختصَرًا، والمناسبة أن في الحديث التام هو مختصَر وليس فيما أورده البخاري هنا ما يدل على الترجمة، لكن البخاري عادة يذكر طرف الحديث، والترجمة المطابقة من الحديث قد تكون فيما لم يذكره الإمام -رحمه الله تعالى-، وقد تكون في رواية أو زيادةٍ ليست على شرطه، وإنما يشير إليها بترجمة، المناسبة أن في الحديث التام نفي الغدر، هل يغدر؟ نفي الغدر عنه -عليه الصلاة والسلام-، والغدر نقض العهد، باب فضل الوفاء بالعهد.
الموضع الثامن: في كتاب التفسير...
المقدم: عفوًا يا دكتور في هذا الموضع ما ذكر أنه لا يغدر.
لا، هو ذكره مختصَرا، ما فيه، لكن هو بهذا يشير إلى أنه في الرواية المطوَّلة موجود.
المقدم: هنا قال: "فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها؟"
هذه تغانمها أو اغتنمها أبو سفيان، ودس هذه الدسيسة، ولم يلتفت إليها هرقل؛ لأنه إخبار عن مستقبَل ما يمكن أن يقال له: كذبت.
المقدم: صاحب التجريد إذا جاء في ترجمة ولم يذكرها في باب قبْل هل يذكر الموضع مرةً أخرى أو يكتفي بذكر...؟
لا لا، صاحب التجريد قصده من ذلك الاختصار الشديد من أجل أن يُحفَظ، فيذكر الحديث في أول موضع، ولا يعرِّج عليه في الموضع الثاني، هو الأصل ألا يترك شيء من متون الأحاديث، فإذا ذكر الحديث في موضع، يأتي بالزوائد أو بالألفاظ الزائدة من الروايات الأخرى اللاحقة في الموضع الأول، يقول: وفي رواية كذا ليتم الكتاب كاملا.
الموضع الثامن: في كتاب التفسير: باب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ} [سورة آل عمران 64] قال: حدثني إبراهيم بن موسى عن هشام عن معمر ح، وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله فذكره مطولاً، والمناسبة ظاهرة، حيث ذكرت الآية في الحديث.
الموضع التاسع: في كتاب الأدب باب صلة المرأة أمها ولها زوج، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله فذكره مختصَرًا، وفيه: "يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة" وهنا باب: صلة المرأة أمها، والمناسبة ظاهرة، حيث ذكرت الصلة في الحديث وهي شاملة للأم وغيرها من المتزوجة وغيرها، فيؤخذ حكم الترجمة من عمومها.
الموضع العاشر: في كتاب الاستئذان، بابٌ كيف يكتب إلى أهل الكتاب؟ قال: حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله فذكره مختصَرًا وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى أما بعد» وما ذكره ظاهر المناسبة للترجمة، كيف يُكتَب إلى أهل الكتاب؟ قال ابن بطال: فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه، وفيه: حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، هذه حجة من يقول من أهل العلم أنه من أجل الدعوة والتأليف يُتنازل في مثل هذه الأمور، فيُبدَأ المخالف بالسلام، من أجل تحصيل أو تحقيق مصلحة الدعوة، يقول ابن بطال: فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه، هذا ظاهر، قال: وفيه حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، قال ابن حجر: قلت: في جواز السلام على الإطلاق نظر، والذي يدل عليه الحديث السلام المقيَّد، مثل ما في الخبر، السلام على من اتبع الهدى، أو السلام على من تمسك بالحق أو نحو ذلك، سلام مقيَّد وليس بسلامٍ مطلق، أما بداءة المشرك بالسلام جاء النهي عنها -كما هو معروف-.
المقدم: لكن مناسبة الكتاب للباب، كيف يُكتَب لأهل الكتاب؟ وأدخله في باب الاستئذان!
نعم الاستئذان؛ لأن المخاطَبة والمكاتَبة في حكم الاستئذان، من حكم الاستئذان.
الموضع الحادي عشر: في كتاب الأحكام، باب ترجمة الحكَّام وهل يجوز ترجمان واحد؟ قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله، فذكره مختصَرًا، وفيه: ثم قال لترجمانه، فقال للترجمان، والمناسبة ظاهرة.
قال ابن بطال: لم يُدخِل البخاري حديث هرقل حُجَّةً على جواز الترجمان المشرك؛ لأن ترجمان هرقل كان على دين قومه، وإنما أدخله ليدل على أن الترجمان كان يجري عند الأمم مجرى الخبر لا مجرى الشهادة وقال ابن المنيِّر: وجه الدليل من قصة هرقل مع أن ما فعله لا يُحتَجّ به، أن مثل هذا صواب من رأيه؛ لأن كثيرًا مما أورده في هذه القصة صواب وموافق للحق، فموضع الدليل تصويب حمَلَة الشريعة لهذا، وأمثاله من رأيه وحُسْن تفطنه، ومناسبة استدلاله، وإن كان غلبت عليه الشقاوة، وقال ابن حجر: وتكملة هذا أن يقال: يؤخذ من صحة استدلاله، قال ابن حجر: وتكملة هذا أن يقال: يؤخذ من صحة استدلاله فيما يتعلق بالنبوة والرسالة أنه كان مطَّلعًا على شرائع الأنبياء، فتُحمَل تصرفاته على وفق الشريعة التي كان متمسكًا بها. وقال ابن حجر أيضًا: والذي يظهر لي أن مستند البخاري تقرير ابن عباس، وهو من الأئمة الذين يقتدى بهم على ذلك، يعني أنه يكفي ترجمان واحد، وأن هذا يجري مجرى الأخبار، والأخبار يُقبَل فيها قول الواحد إذا ثبتت ثقته.
الموضع الثاني عشر:...
المقدم: لكن -عفوًا- النبي -عليه الصلاة والسلام- كتب له بالعربية.
نعَم بالعربية، نعَم بالعربية.
المقدم: ولم يتخذ إذ ذاك حتى الآن..
ما أمر أن يتعلموا، بالعربية الكتاب بالعربية، ثم قال للترجمان اقرأه.
الموضع الثاني عشر: في كتاب التوحيد، باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها لقول الله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سورة آل عمران 93] قال: وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل، و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران 64].
الآن أرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- بالآية إلى هرقل وهي بالعربية، "ما يجوز من تفسير التوراة" الترجمة، والترجمان ترجم له الآية بلغته، فإذا جاز ترجمة الآية فترجمة التوراة من باب أولى، ومعلوم أن ترجمة الآية معناها ترجمة المعاني، وأما ترجمة الألفاظ معروف أنها مستحيلة لإعجاز القرآن، لا يمكن أن يأتي أحد بمثله.
قال: وقال ابن عباس: "أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل، و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران 64]..." الآية، ووجه الدلالة منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى هرقل باللسان العربي، ولسان هرقل رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على ما من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه، فإذا جازت ترجمة الآية وترجمة معنى الآية فترجمة التوراة بالعربية وغيرها من باب أولى، وغيرها من الكتب الإلهية.
ولما فرغ المؤلف -رحمه الله تعالى- من الوحي الذي هو كالمقدمة لهذا الكتاب، هو كالمقدمة؛ لأن البخاري ما صدَّره بكتاب -كما تقدم-، فهو كالمقدمة لهذا الكتاب الجامع شرع بذكر المقاصد الدينية، وبدأ منها بالإيمان لأنه مِلاك الأمر؛ لأن الباقي مبني عليه ومشروط به، والله أعلم.
المقدم: هذا يسأل يقول: لماذا نرى أن البخاري -رحمه الله- لا يخرِّج بعض الأحاديث في صحيحه مع أن أهل العلم يقولون: رجاله رجال الصحيح، ومع ذلك لم يخرِّجه البخاري في صحيحه؟
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرَّج من الصحيح أصحه، ولم يلتزم -رحمه الله تعالى- أن يخرِّج جميع الأحاديث الصحيحة، وكذلك الإمام مسلم، ويُروَى عن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بالأسانيد أنه قال: خرَّجتُ فيه ما صح، وتركتُ من ذلك ما هو أكثر خشية أن يطول الكتاب. فلولا إطالة الكتاب لخرَّج المزيد من الأحاديث، فخرَّج في الكتاب ما هو منطبق عليه شرطه، وأما كونه يوجد شرطه في غيره من الكتب على اختلافٍ بين العلماء في المراد بشرطه -رحمه الله تعالى-، وهذه الكلمة يتداولها أهل العلم، واختُلف في مرادهم بها، ولكن الذي حرره أهل التحقيق من المحدِّثين أن المراد بشرط البخاري أو شرط الشيخين رجالهما، فإذا خُرِّج الحديث في أي كتابٍ من الكتب المعتبَرة عند أهل العلم بإسنادٍ خرَّج له الإمام البخاري قيل على شرط البخاري، وإذا خرَّج له الإمام مسلم قيل على شرط مسلم، وإذا خُرِّج في الصحيحين لرواة هذا الحديث قيل: صحيح على شرطهما.
المقدم: ويكون في نفس درجة الحديث عند البخاري ومسلم، في القوة عند أهل العلم؟
لا يكون بنفس القوة؛ لأن الإمامين -أعني البخاري ومسلمًا- ينتقيان من أحاديث الرواة، وليس معنى أن كل حديث يرويه كل راوٍ ممن خرَّج له البخاري في الصحيح أنه بدرجة ما خرَّج له البخاري، فالبخاري ينتقي من أحاديث هذا الراوي، وقد يترك بعض الأحاديث؛ لأنها لم تثبت عنده، وإن كانت من أحاديث راوٍ خَرَّج له في الصحيح، وانتقى له مما وافقه عليه الحفاظ الضابطون.
المقدم: أحسن الله إليك، يذكر أيضًا السائل يقول: هناك دعوى تقول: أن البخاري لا يروي في صحيحه إلا الأحاديث التي تكون موافقة لرأيه الفقهي، بمعنى: أن بعض الأحاديث لا يقبلها البخاري لأنها تعارض أحاديث أخر عَمِل بها، وترجم لها، هل هذا صحيح؟
أولاً: الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- فقيه، من فقهاء الحديث، لا ينتمي إلى مذهبٍ معيَّن يتعصَّب له، وإنما هو يدور مع السنة حيثما دارت، فهو يستنبط الفقه من الأحاديث، وتراجمه التي تتضمن فقهه هي مأخوذة من هذه الأحاديث الصحيحة التي بلغت شرطه، وكونه لم يخرِّج أحاديث أخرى تختلف مع هذه الأحاديث؛ لأن هذه الأحاديث أرجح عنده من حيث الصناعة الحديثية، لا لأنها توافق اجتهاده ونظره، والأخرى تخالف اجتهاده، لا، هذا يمكن أن يقال بالنسبة للمتفقهة على المذاهب، أما الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وهو يدور مع الحديث حيثما دار، ويستنبط من الأحاديث، ولا يتبع مذهبًا بعينه، فلا يقال في حقه مثل هذا الكلام.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد.