شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (034)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامج: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله وبارك فيكم.
المقدم: لازال الحديث متواصلاً حول حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، ولعلكم تتفضلون بإكمال الموضوع حوله.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في آخر الحديث يقول عبادة بن الصامت: «فبايعناه على ذلك» بايعناه على ما سبق أن ذُكر في هذا الحديث، وسبق تعريف المبايعة، وأنها المعاقدة والمعاهدة، قيل: سميت بذلك لأن صاحبها باع نفسه لله تعالى، ويقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-: التحقيق أن البيع والمبايعة مأخوذان من مَدِّ الباع؛ لأن المتبايعَين للسلعة كل منهما يمد باعه للآخر، ويعاقده عليها، وكذلك من بايع الإمام ونحوه، فإنه يمد باعه إليه، ويعاهده ويعاقده على ما يبايعه عليه، الفقهاء قالوا في تعريف البيع إنه مأخوذ من الباع؛ لأن كل واحد من المتبايعَين يمد باعه، لكن ما أدري ما المراد بالأخذ هنا هل هو الاشتقاق؟ إذا قلنا: الاشتقاق البيع مصدر، وهو أصل المشتقات فكيف يشتق من الباع؟ والمبايعة كذلك، لكن إذا قلنا بما هو أعم من ذلك وهو أنه أُخِذَ من هذه الكلمة للمناسبة؛ لأن هذا الأمر يحصل وقت البيع والمبايعة فالأمر سهل.
كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يبايع أصحابه عند دخولهم في الإسلام على التزام أحكامه، وكان أحيانًا يبايعهم على ذلك بعد إسلامهم تجديدًا للعهد، وتذكيرًا بالمقام عليه، وقد ذَكَر طائفة من العلماء منهم القاضي أبو يعلى أن البيعة على الإسلام كانت من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستدلوا بأن الأمر بالبيعة في القرآن يخص الرسول بالخطاب وحده، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [سورة الممتحنة 12] ولما كان الامتحان -وليس هو البيعة- وُجِّه الخطاب إلى المؤمنين عمومًا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [سورة الممتحنة 10] فالبيعة لا يقوم بها إلا الإمام، والامتحان يقوم به المؤمنون، فلذا اختلف الخطاب في البيعة، جاء موجهًا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفي الامتحان جاء موجهًا إلى المؤمنين، فدل على أنه يعم المؤمنين، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة الفتح 10] وهذا أمر يختص به الرسول -عليه الصلاة والسلام- لا يَشْرَكه في غيره، ولما بايع عبد الله بن حنظلة الناس يوم الحرة على الموت قال عبد الله بن زيد: لا أبايع أحدًا على هذا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن روي عن عثمان أنه كان يبايِع على الإسلام.
صِدِّيْق حسن خان في شرحه يقول: في الحديث دلالة على أن البيعة سنة في الدين، واستفاض عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الناس كانوا يبايعونه تارة على الهجرة والجهاد، وتارة على إقامة أركان الإسلام، وتارة على الثبات والقرار في معارك الكفار، وتارة على هجر الفواحش والمنكرات كما في حديث الباب، وتارة على التمسك بالسنة والاجتناب عن البدعة، والحرص على الطاعة، وبايَع ناسًا من فقراء المهاجرين على ألا يسألوا الناس شيئًا، فكان أحدهم يسقط سوطه فينزل عن فرسه فيأخذه، ولا يسأل أحدًا، قال: ولا شك ولا شبهة أنه إذا ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فِعْل على سبيل العبادة فإنه لا ينزل عن كونه سنة في الدين، بقي أنه -عليه الصلاة والسلام- كان هو الخليفة، كان هو خليفة الله في أرضه، وهو العالم بما أنزله الله تعالى من القرآن والحكمة، معلمًا للناس الكتاب والسنة، مزكيًا للأمة، فما فعله على جهة الخلافة كان سنة للخلفاء، وما فعله على جهة كونه معلمًا كان سنة للعلماء، إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-. الأصل الاقتداء والائتساء، لكن ما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- على أساس أنه ولي الأمر وهو الخليفة يفعله آحاد الناس اقتداء به أو هذا يختص بالخلفاء؟ ما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- على أساس أنه إمام نقول: كل مصلٍّ يفعل ما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لعموم قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلِّي» بهذا يستدل الشافعية على قولهم أن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «سمع الله لمن حمده»، ويستدل بهذا من يقول: الإمام مأمور كغيره أن يبكِّر إلى الجمعة، لكن إذا عرفْنا أن من عادته -عليه الصلاة والسلام- أنه إذا دخل صعد المنبر، نقول: الإمام يقتدي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حال الإمامة، والمأموم يمتثل ما أُمِر به، أو ما حُضَّ عليه من التبكير، وهكذا، وبهذا نَعْرِف بدعية البيعات التي يفعلها بعض المبتدعة مع متبوعيهم، ناكبين جاهلين أو متجاهلين حقوق ولاة الأمر في هذا الشأن، يأخذون البيعة من مرؤوسيهم، ويعاهدونهم ويعاقدونهم على السمع والطاعة، مع أنهم تحت ولاية ولي أمر، هذا إذا كان ولي الأمر معتبرًا شرعًا، أما إذا لم يكن معتبرًا شرعًا فالله المستعان، فالأمر سهل.
في الحديث رَدٌّ على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب؛ لماذا؟ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه» وفيه أيضًا رَدٌّ على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، قال الطيبي: فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد أو بالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه، من أين هذه الإشارة؟ أين الإشارة في الحديث إلى هذا؟ إلى الكف؟ فأمْره إلى الله، لكن هذا بالنسبة من وَفَّى فأجره على الله، ومن أصاب فهو إلى الله، فالكل مربوط بالله، سواء وفَّى، أو أصاب من هذه الذنوب شيئًا، أمره إلى الله، أيضًا ما مقدار هذه التوفية؟ هل يستطيع إنسان أن يقول: إنه وفَّى على الوجه المطلوب ليُشهَد له؟ مذهب أهل السنة في هذه المسألة أنه لا يُشهَد لأحد، ولا يُقطَع لأحد بجنة ولا نار، بل مذهبهم المعتمد أنهم يرجون للمحسن الثواب، ويخشون على المسيء العقاب، إلا من شهد له النبي -عليه الصلاة والسلام- بالجنة أو النار كالعشرة مثلاً يُشهَد لهم بالجنة، وإن كان عند أهل السنة قول بأنه يُشهَد لمن اتفقت ألسنة الناس على مدحه؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «وَجَبَت» فيمن اتفقوا على الثناء عليه، ويشهد بالنار لمن اتفقت ألسنة الناس بذمه لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «وجبت» يعني: النار، فيمن أثنوا عليه شرًّا، -كما في الحديث-.
الحديث مخرَّج في الصحيح في اثني عشر موضعًا:
الأول: هنا في كتاب الإيمان، "بابٌ" بغير ترجمة، وسقط لفظ الباب من رواية الأصيلي، وتقدم أن الباب إذا كان بغير ترجمة يكون كالفصل بالنسبة للباب الذي قبله مع تعلقه به كصنيع مصنفي الفقهاء، يكون هذا الباب كالفصل من الباب الذي قبله، وجه التعلق، تعلُّق هذا الباب بالذي قبله، أنه لما ذكر الأنصار، وأن آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار في الحديث السابق، أشار في هذا الحديث إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار؛ لأن أول ذلك كان ليلة العقبة.
قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: "حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وكان شهد بدرًا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وحوله عصابة من أصحابه... فذكره" عرفنا ارتباط هذا الحديث بالباب السابق، وارتباط الباب السابق بكتاب الإيمان ظاهر «آية الإيمان» يعني علامة الإيمان.
الموضع الثاني: في كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة وبيعة العقبة، قال: حدثني إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه، قال: أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت من الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أصحاب ليلة العقبة، أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وحوله عصابة من أصحابه: «تعالوا بايعوني»... فذكره.
ثم قال بعده وهو الموضع الثالث: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن الصنابحي عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنه قال: "إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وقال: "بايعناه على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا ننتهب، ولا نقضي بالجنة" كذا للأكثر: ولا نقضي بالجنة، ما معنى: لا نقضي؟
المقدم: لا نجزم.
لا نجزم، هذا ظاهر هذه الرواية، لكن في بعض النسخ عن شيوخ أبي ذر: ولا نعصي، "بالجنة" قلنا: الجنة هي الجزاء، بايعناه بالجنة، فتكون بالجنة متعلِّقة بـ"بايعناه"، وإذا قلنا: إنها لا نقضي بالجنة صار فيها دليل لقول من سبق، وهو أنه لا يُشهَد لأحد، فيه الإشارة إلى قوله في كلام الطيبي إشارة للكف بالشهادة بالنار على أحد أو بالجنة إلا من ورد النص بحقه، كأنه استدل بهذه اللفظة، كأنه استدل بهذه اللفظة، لكن على النسخة الثانية التي أشير إليها: "ولا نعصي" إن فعلنا ذلك "ولا نعصي بالجنة إن فعلنا ذلك، فإن غشينا من ذلك شيئًا كان قضاء الله إلى ذلك" وهو الموضع الثالث كما عرفنا، ومناسبة الحديث للباب وفود الأنصار ظاهرة، حيث كانوا من النقباء الذين وفدوا على النبي -عليه الصلاة والسلام- من المدينة إلى مكة، وهذه الوفادة وهذه البيعة من مناقب الأنصار التي لا يشركها فيهم غيرهم، فلذا ذكر في كتاب مناقب الأنصار.
الموضع الرابع: في كتاب المغازي، بابٌ بدون ترجمة، وهو متعلِّق بما قبله، باب فضل من شهد بدرًا من الناس، ثم باب من شهد بدرًا من الملائكة، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت وكان شهد بدرًا، هذا الشاهد، فضل من شهد بدرًا، وكان قد شهد بدرًا، وذكر بدر في المغازي لا يحتاج إلى بيان، المناسبة ظاهرة حيث ذكر الخبر عن عبادة أنه ممن شهد بدرًا، وبدر من المغازي، فلذا أدخله الإمام البخاري في كتاب المغازي.
الموضع الخامس: في كتاب التفسير، بابٌ {إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [سورة الممتحنة 12]، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال الزهري: حدثَناه، قال: حدثني أبو إدريس سمع عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا» وقرأ آية النساء"... الحديث، والمراد آية بيعة النساء، وليس المراد آية سورة النساء، وفي قوله: حدثَناه هو من تقديم الاسم على الصيغة، والضمير في حدثَناه للحديث الذي يريد أن يذْكره، والمناسبة المطابَقة حيث ذُكرت الآية المطلوب تفسيرها في الخبر؛ لأنها في كتاب التفسير، بابٌ {إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [سورة الممتحنة 12]، وذُكرت الآية في الخبر، فالمناسبة ظاهرة.
الموضع السادس: في كتاب الحدود، بابٌ الحدود كفارة، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في مجلس، فقال: «بايعوني» والمناسبة ظاهرة الحدود كفارة في كتاب الحدود، وفي الحديث: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به» يعني أقيم عليه الحد في الدنيا «فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك»... إلى آخره، فالمناسبة ظاهرة.
الموضع السابع: في باب توبة السارق، من كتاب الحدود في باب توبة السارق، قال الإمام البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي، قال: حدثنا هشام بن يوسف، قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي إدريس عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رهط، فقال: «أبايعكم على ألا تشركوا بالله شيئًا» إلى آخر الحديث: « تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا» هذا هو الشاهد في توبة السارق، في قوله: «ولا تسرقوا» ومن تمام الشاهد «من ستره الله فذلك إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» يعني أنه تحت المشيئة إذا لم يتب، فإذا تاب فهو من باب أولى، إذا كان لم يُقَم عليه حد السرقة ولم يتب مع ذلك تحت المشيئة، فإذا تاب من باب أولى أن يُغفَر له.
الموضع الثامن: في كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [سورة المائدة 32] قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا يزيد عن أبي الخير عن الصنابحي عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل النفس التي حرم الله، ولا ننتهب، ولا نعصي بالجنة إن فعلنا ذلك، فإذا غشينا من ذلك شيئًا كان قضاء ذلك إلى الله" والشاهد: "ولا نقتل النفس التي حرم الله" في باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [سورة المائدة 32] "من أحياها" قال ابن عباس: من حرَّم قتلها إلا بحق فكأنما أحيا الناس جميعًا.
الموضع الذي يليه: في كتاب الفتن، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» وقال عبد الله بن زيد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا إسماعيل قال: حدثني ابن وهب عن عمرو عن بكير عن بُسر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله حدِّث بحيث ينفعك الله به سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: دعانا النبي -عليه الصلاة والسلام- فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعَنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأَثَرَة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله برهان" والشاهد في قوله: "وأَثَرَة علينا" الشاهد في قوله، من الحديث لقوله: باب قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» "وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا" معناه أنهم سيرون أشياء يُنكرونها، لكنها لا تقتضي الخروج ما لم تصل إلى حد الكفر البواح، وهذا في كتاب الفتن.
والموضع العاشر: في كتاب الأحكام، بابٌ كيف يبايِع الإمام الناس؟ قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني عبادة بن الوليد، قال: أخبرني أبي عن عبادة بن الصامت، قال: "بايعْنا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم" والشاهد لكتاب الأحكام كيف يبايِع الإمام الناس؟ هذه الصيغة التي صدَرت من النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما بايَع الناس فيما رواه عبادة -رضي الله عنه-: "بايعْنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والمكره" هذه كيفية المبايعة، فإذا الإنسان أعطى ثمرة فؤاده لإمام من الأئمة لا بد أن يفي له، بايعنا على السمع والطاعة لا بد من السمع والطاعة للأئمة، في المنشط والمكره وليس إذا نشط سمع وأطاع وأجاب، وإذا كره ما كره لا سمع ولا طاعة، لا، بل لا بد أن يسمع ويطيع فيما يرضيه وفيما يغضبه وألا ينازع الأمر أهله، ومع ذلك كله هذا لا ينافي القول بالحق، ولذا جاء بعده مباشرة في الحديث: وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم؛ لأن بيان الحق ليس من الخروج، وليس مِن نزْع اليد من الطاعة، بل هو من تمام النصح للإمام.
الموضع الذي يليه وهو الحادي عشر: في كتاب الأحكام أيضًا، باب بيعة النساء، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو الوليد، أخبرنا شعيب عن الزهري ح وقال الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو إدريس الخولاني أنه سمع عبادة بن الصامت يقول: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في مجلس: «تبايعوني ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم»... الحديث، ومناسبة الحديث لبيعة النساء، وذِكْر الحديث التي تضمَّن ما تضمنته بيعة النساء في سورة الممتحنة، المناسبة ظاهرة، فالحديث ما جاء فيه من جُمَل يكاد أن يكون مطابقًا لما جاء في آية بيعة النساء.
والموضع الأخير وهو الثاني عشر: في كتاب التوحيد، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا عبد الله المسنَدي، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي إدريس عن عبادة بن الصامت قال: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رهط، فقال: «أبايعكم على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم»... الحديث، ومطابقته لباب المشيئة والإرادة الداخلة في كتاب التوحيد ظاهرة، من أين؟ لأنه قال فيه: «ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» ففي الحديث كغيره من النصوص إثبات المشيئة لله -سبحانه وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته -سبحانه وتعالى-. والحديث أيضًا مخرَّج في صحيح مسلم، رواه الإمام مسلم من طرُق، وهو أيضًا موجود في غير الصحيحين من دواوين الإسلام، فهو حديث عظيم، مشتمل على جُمل ينبغي لطالب العلم أن يتدبرها، وأن يعمل بها، والله المستعان.
المقدم: أحسن الله إليكم سبق ونبهنا في الحلقة الماضية أنكم ستشيرون إلى خطأ أدرج في الحديث من خلال الطباعة في النسخة المعتمدة عند المستمعين والمستمعات في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا» أشرتم إلى أن حرف الجر «به» ليس موجودًا في الأصل.
نعم، نبهنا في الشرح أن «به» لا توجد في الروايات، وإنما توجد في المسند عند الإمام أحمد.
المقدم: ليست من صاحب التجريد.
ليست في التجريد.
المقدم: ليست من التجريد الأصلي أيضًا، يعني الخطأ في النسخة المعتمدة عندنا؛ لأن بين يدي المختصَر أيضًا ليس فيه «به».
نعم، ليست في الأصل.
المقدم: مختصَر صحيح البخاري المسمى التجريد الصريح، طبعة أخرى، والتي سبق أن ذكرتموها غير موجود فيها.
التجريد مأخوذ من الصحيح، ما دامت هذه الكلمة لا توجد في الصحيح إذًا لا توجد في مختصَره.
المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
وإذًا أيها الإخوة والأخوات نصل وإياكم إلى هنا مع نهاية هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.