شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (038)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله، وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: لا زلنا مع حديث عائشة -رضي الله عنها- "قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم؛ أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا»."
أشرتم إلى شيء من معاني هذا الحديث في حلقة ماضية، نستكمل ما تبقى منه -أحسن الله إليك-.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ذكرنا كلام أهل العلم في الأمر بما يطيقون في معنى قوله: "أمرهم بما يطيقون" وكان مما ذكرناه كلام النووي -رحمه الله تعالى- يقول: معناه بما يطيقون الدوام عليه، وقال لهم -صلى الله عليه وسلم- هذا لئلا يتجاوزوا طاقتهم فيعجزوا، وخير العمل ما دام وإن قل، وإذا تحملوا ما لا يطيقون الدوام عليه تركوه أو بعضه بعد ذلك، وصاروا في صورة ناقض العهد، والراجع -يقول كذا ولعله الرجوع- عادة غير جميلة، واللائق بطالب الآخرة الترقي، فإن لم يكن فالبقاء على حاله، ولأنه إذا اعتاد من الطاعة ما يمكنه الدوام عليه دخل فيها بانشراح، واستلذاذ ونشاط. يعني هل الأفضل للإنسان أن يقرأ في اليوم جزء واحد من القرآن في اليوم بانشراح، واستلذاذ ونشاط، أو يقرأ أربعة أجزاء وشيء ليقرأ القرآن في سبع، ولو قلِّت هذه الراحة والنشاط والاستلذاذ كي يتم حزبه اليومي، لا شك أن الترغيب وترتيب الثواب على الحروف يقتضي الثاني، يقتضي الاستكثار، ولو كان الأقل فيه من الاستلذاذ والنشاط والانشراح، على أنه لا يلبث الذي يكثر من قراءة القرآن أن يستلذ وينشرح، وينشط لقراءة الأكثر، وأَمْر القرآن عجيب، كل ما أكثر الإنسان من تلاوته زادت رغبته فيه، وليس كغيره من الكلام، والله المستعان.
فكلام البشر إذا قرئ المرة الأولى، الثانية، الثالثة لا بد أن يمله الإنسان، الثانية على استرخاء، لكن الثالثة لا بد أن يمل كلام البشر، بخلاف كلام الله -سبحانه وتعالى-.
"قالوا: إنا لسنا كهيئتك" يعنون لسنا مثلك، وأرادوا بهذا طلب الإذن في الزيادة من العبادة والرغبة في الخير، يعني الباعث لهم على هذا الكلام إنما هو الزيادة من العبادة والرغبة في الخير، والصحابة عُرِفوا بذلك، فهم سبَّاقون لمثل هذه الأعمال، يقول الكرماني: الهيئة الحالة والصورة وليس المراد نفي تشبيه ذواتهم بحالته -عليه الصلاة والسلام-، إنما هو بشر مثلهم من حيث الذات هو بشر -عليه الصلاة والسلام- مثلهم، لكن المراد الحالة، وحاله -عليه الصلاة والسلام- مع ما أكرمه الله -سبحانه وتعالى- من مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول: فلا بد من تأويله في أحد الطرفين، فقيل: المراد من: «كهيئتك» يعني كمثلك، أي كذاتك أو كنفسك، وزيد لفظ الهيئة للتأكيد، نحو مثلك لا يبخل، والمقصود أنت لا تبخل.
«ولسنا» ليس حالنا، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، واتصل الفعل بالضمير فقيل: لسنا، يقولون: أنت مغفور لك لا تحتاج إلى عمل، ومع هذا أنت مواظب على الأعمال، فكيف بنا وذنوبنا كثيرة؟! فرد عليهم وقال: أنا أولى بالعمل؛ لماذا؟ لأني أعلمكم وأخشاكم.
قوله: "إن الله قد غفر لك" هذا مقتبس من قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [سورة الفتح 2] فإن قلت، وهذا أيضًا للكرماني: الأنبياء معصومون عن الكبائر مطلقًا، وعن الصغائر عمدًا على الأصح، وأما السهو فلا مؤاخذة به على مكلف أصلاً، فما ذنبه الذي غفر له؟ هذه المسألة بحَثَها الشراح، الكلام هنا للكرماني يقول: الذنب الذي قبل النبوة، المتقدِّم بعضه على بعض، الذنب كله قبل النبوة، ما تقدم وما تأخر كله قبل النبوة، فما تقدم من هذا وما تأخر وكله قبل النبوة، وحينئذٍ يكون قد ارتكب ذنوبًا قبل النبوة وهذه الذنوب بعضها متقدم على بعض، منها متقدم ومنها متأخر.
منهم من قال: إن المراد بالذنوب هنا خلاف الأولى، ترك الأولى، ومنهم من قال: المراد ذنوب أمته، يعني ذنوب قومه نُسِبَت إليه، لكن هذا لا وجه له، أما ترك الأولى فقال به العيني، العيني قال: المراد منه ترك الأولى والأفضل بالعدول إلى الفاضل وترك الأفضل، كأنه ذنب لجلالة قدر الأنبياء -عليهم السلام-، يعني مثل ما يُكَرَّر ويقال: حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين، ولا شك أن الأعمال تتفاوت من شخص إلى شخص، فقد يعمل شخص هو في حقه حَسَن، وهو في حق من هو أعلى منه مرتبة أقل، فهو مفضول بالنسبة لهذا، والمطلوب من الأكمل أكمل.
المقدم: هذا ما يسمى عند العلماء بمبحث عصمة الأنبياء يا شيخ.
باب عصمة الأنبياء نعم، هذا المقصود أن الأنبياء لا يقع منهم الكبائر مطلقًا، والصغائر العَمْد منها على الأصح، وإن كانت المسألة لا تَسلَم من خلاف، وشيخ الإسلام له كلام طويل في هذه المسألة -رحمه الله تعالى-، لولا ضيق الوقت بسطنا كلام الشيخ -رحمه الله-.
يقول القسطلاني: المعنى -والله أعلم- أي حال بينك وبين الذنوب، ما معنى غفر لك؟ حال بينك وبين الذنوب فلا تأتيها، يعني لا ذنب أصلاً، لكن هذه الحيلولة بينك وبين الذنوب مغفرة؛ لماذا؟ لأن الغفر هو الستر، وهو إما بين العبد والذنب، وإما بين الذنب وعقوبته، فاللائق بالأنبياء الأول، وبأممهم الثاني، قاله البرماوي.
قوله: "فيغضب -عليه الصلاة والسلام- حتى يُعرَف الغضب في وجهه الشريف" لأن حصول الدرجات لا يوجِب التقصير في العمل بل يوجِب الازدياد، وفي بعض النسخ: "فغضب حتى عُرِف الغضب في وجهه" ثم يقول: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله -عز وجل- أنا» فأتقاكم اسم (إن) وأعلمكم معطوف عليه، و(أنا) خبرها، وفيه إقامة الضمير المنفصل مقام المتصل وهو ممنوع عند أكثر النحاة إلا للضرورة، وأَوَّلُوا قول الشاعر:
............................. وإنما
|
|
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
|
بأن الاستثناء فيه مقدَّر، أي وما يدافع عن أحسابهم إلا أنا، يقول بعض الشراح: والذي وقع في هذا الحديث يشهد للجواز بلا ضرورة، هذا كلام ابن حجر، قال بعض الشراح: والذي وقع في هذا الحديث يشهد للجواز بلا ضرورة. القائل من الشراح هو ابن رجب -رحمه الله تعالى-، يقول في آخر شرح الحديث: ولكن هذا الذي وقع في هذا الحديث يشهد لجوازه من غير ضرورة، ويكون حينئذٍ قوله:
............................... إنما
|
|
يدافع عن أحسابهم أنا
|
شاهدًا له غير محتاج إلى تأويل، والله أعلم.
المسألة في الاحتجاج بالحديث بالنحو على القواعد النحوية مسألة خلافية بين أهل العلم، منشؤها جواز رواية الحديث بالمعنى، منشأ الخلاف جواز رواية الحديث بالمعنى، فالذين يحتجون بالحديث على تقرير القواعد النحوية يقولون: وإن كان الحديث مرويًّا بالمعنى إلا أن الرواة في الصدر الأول ممن يُحتَج بكلامهم، والذين يقولون: لا يُحتَج به قالوا: إنه دخل في الإسلام من غير العرب، وهم كغيرهم إذا تعلموا علم الكتاب والسنة جاز لهم أن يرووا بالمعنى كغيرهم بشروطها، بشروط جواز الرواية بالمعنى، أن يكون عارفًا بالألفاظ ومدلولاتها، عالم بما يحل بالمعاني، والجمهور على هذا.
وعلى كل حال المسألة خلافية مبسوطة في أول شرح شواهد شرح الكافية، الخزانة خزانة الأدب، المسألة مبسوطة بإفاضة هناك، وعلى كل حال هذه المسألة فرع منها، فهل نقول -كما قال ابن رجب-: الذي وقع في هذا الحديث يشهد للجواز من غير الضرورة؟ أو نقول: إنه خلاف القاعدة والحديث مروي بالمعنى؟ على القولين المذكورين.
جاء عند الإسماعيلي من رواية أبي أسامة: «والله إن أبركم وأتقاكم أنا» والتقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل المأمورات واجتناب المحظورات، أمر الله -سبحانه وتعالى- بأن نَقِي أنفسنا وأهلينا أن {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم 6] والتقوى وصية الله سبحانه وتعالى للأولين والآخرين، والحديث عنها يطول.
يقول الكرماني: قوله: «أتقاكم» إشارة إلى كمال القوة العملية «وأعلمكم» إشارة إلى كمال القوة العلمية، فهو في البابين فاضل على غيره، يعني أتقاكم وأعلم هذه أفعل تفضيل في البابين، فهو أكمل من غيره في القوة العملية لأنه أتقى، وهو أيضًا أعلم من غيره، ومتميز على قوله في القوة العلمية لأنه أعلم.
يقول النووي: في هذا الحديث أنواع من الفوائد، وجُمَل من القواعد، منها: القصد في العبادة، وملازمة ما يمكن الدوام عليه، لكن إذا أمكن أن يداوِم الإنسان على العمل الكثير، شخص تيسَّرَت له سبل الرزق وأسبابه، فأراد أن ينقطع للعبادة هل نقول له: أكثر من العبادة؟ ويشهد لهذا قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أعنِّي على نفسك بكثرة السجود» والترغيب في العبادات من الصيام والقيام وتلاوة القرآن أمر معروف في الشرع مستفيض، هل نقول لمن تيسرت له سبل الرزق وأسبابه انقطع للعبادة واستكثر منها؟ أو نقول: عليك بالقصد في العبادة لئلا تَمَل؟ المقصود أن يتعبد لله -سبحانه وتعالى- بما لا يشق عليه فتحمله المشقة على الانقطاع، لكن هذا تيسرت له الأسباب، ولا تحمله الكثرة على الانقطاع، بل قد يتلذذ بالكثرة، وهذا حال كثير من السلف، حال كثير من السلف من الصحابة والتابعين فمن دونهم، منهم من انقطع للعبادة، والإكثار من التعبد -كما هو معروف- ليس ببدعة، إنما المقصود أن يقتصد في العبادة لئلا يَتْرُك كي يداوم على العمل، لكن إذا أكثر منها مع تَيَسُّر أسباب الرزق له وعدم تضييعه لمن يمون حينئذٍ الله أكثر، وجاء في الحديث: «أعني على نفسك بكثرة السجود» والنبي -عليه الصلاة والسلام- قام حتى تفطرت قدماه.
منها: أن الرجل الصالح ينبغي أن لا يَترُك، يرِد على هذا حديث عبد الله بن عمرو حينما أراد أن يقرأ القرآن قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: «اقرأ القرآن في شهر» فما زال يزاوده حتى قال: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد» ولا يفقه من يقرأ في أقل من ثلاث، وعُرِف من حال بعض السلف من الصحابة والتابعين قراءة القرآن في ليلة، في يوم، بل أكثروا من تلاوة القرآن، وهذا في التابعين أكثر، وأحوالهم في هذا كثيرة مشهورة، هل نقول: إنهم خالفوا الأمر النبوي في قوله -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد» أو نقول: إنهم عرفوا القصد؟ عبد الله بن عمرو جاء مندفع، يعني لو سمح له أن يقرأ القرآن في يوم...
المقدم: لقرأ.
لقرأ القرآن في يوم، بل قد زاد.
المقدم: كما فعل في الصيام.
كما فعل في الصيام.
نعم، وتمنى أن لو ترخص؛ لأن الإنسان لا يلبث، نعم، فيه قوة وحيوية ونشاط في الشباب، لكن إذا ضعفت هذه القوة يفتر.
فنرجع إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» فالإكثار من العبادة في أوقات الفراغ أمر مطلوب، لكن على ألا يشق الإنسان على نفسه، ويضيع نفسه، ويضيع من يمون ويقوت، وعلى ألا يحمل على نفسه بحيث يحمله هذا الإكثار إلى الترك، كم من شخص أقبل بقوة ونَهَم ثم ترك، كم من طالب مبتدئ في طلب العلم أقبل بقوة ثم ترك بالكلية، على الإنسان أن يقتصد في مثل هذه الأمور حتى يتمكَّن، وقد قرأنا في تراجم أهل العلم، ورأينا من حال بعضهم أن أوقاتهم كلها معمورة بالعبادة والطاعة، كلها منذورة لله -سبحانه وتعالى-، بل وُجِد من أهل العلم من لم يتمتع ولا بيوم واحد في نزهة أو رحلة، بل عمله ليل نهار لله -سبحانه وتعالى-، خدمة للعلم والدين وأهله، بل نزهته ومتعته في هذه الخدمة، فالله -سبحانه وتعالى- يكافئ المرء إذا علم الله -سبحانه وتعالى- من العبد صدق النية أعانه، والأمثلة على ذلك من السلف كثيرة جدًّا، ويوجَد في الخلف من هم على مثل هذه الحالة، والله المستعان.
يقول النووي: ومنها: أن الرجل الصالح ينبغي ألا يترك الاجتهاد في العمل اعتمادًا على صلاحه، ما يقول: خلاص أنا عبد صالح، أنا رجل صالح، يزكي نفسه، أنا لست بحاجة إلى مثل هذه الأمور، ويحسب نفسه أنه بلغ مبلغًا لا يحتاج إلى مثل هذه الأعمال، وهذه الأعمال الصلاة والصيام هذه للعوام، بل من المبتدعة من يرى أنه وصل إلى حدٍّ ارتفعت عنه التكاليف، وهذه مع الأسف الشديد يقال: إنه ولي مثل هذا، لا شك أن هذا انحراف؛ لأن التكاليف لا ترتفع ما دام الموجِب ومناط التكليف موجود وهو العقل، نعم إذا ارتفع مناط التكليف ارتفع التكليف، والله المستعان.
ومنها: أن له الإخبار بفضيلة إذا دعت إلى ذلك الحاجة، يعني إذا احتاج إلى أن يذكر ما في نفسه، ما عنده من عمل ليدافِع عن نفسه، والله -سبحانه وتعالى- يقول: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [سورة النساء 148] فإذا ظُلِم الإنسان بأنه مقصِّر، نُسِب إلى شيء من التقصير، وعنده شيء مما يخفى على هذا المتكلم لا بأس أن يدافِع عن نفسه بمثل هذا الأسلوب، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا». ابن عمر -رضي الله عنه- لما نُسِب إلى العي قال: كيف يكون عَيِيًّا من في جوفه كتاب الله؟! فأخبر عن هذه الفضيلة، والله المستعان.
يقول: ومنها: أن له الإخبار بفضيلة إذا دعت إلى ذلك حاجة، وينبغي أن يحرص على كتمانها، فإنه يُخاف من إشاعتها زوالها، يقول النووي: ونسأل الله الكريم دوام نعمه علينا وعلى أحبابنا وسائر المسلمين والمزيد من فضله، آمين.
يقول النووي أيضًا: وقد بسطت هذه المسألة بشواهدها من الأحاديث الصحيحة في آخر كتاب الأذكار الذي لا يستغني متديِّن عن مثله، نعم كتاب الأذكار فريد في بابه، فيه بعض الأحاديث الضعيفة، لكن على طريقته ومنهجه أن الضعيف يحتج به ويعمل به في مثل هذه الأمور التي هي الأذكار، يبقى قوله: لا يستغني متديِّن عن مثله، الأمر كذلك، لكن هل للمؤلف أن يقول عن كتابه مثل هذا الكلام؟ هي نفس المسألة التي: "أن يحرص على الكتمان" نفس المسألة التي معنا، هذا مدح لكتابه ومدح كتابه مدح لنفسه.
وهو -رحمه الله- يقول: "وينبغي أن يحرص على كتمانها"، هذا من باب التشجيع هو من باب التشجيع، من باب تشجيع السامع والقارئ وحضِّه على قراءة مثل هذا الكتاب، ولا شك أن كتب النووي الذي يغلب على الظن أنها انبعثت من إخلاص شديد لله -سبحانه وتعالى-، ونفع الله بها، فلا نظير لكتابه: "رياض الصالحين"، حيث اعتنت به الأمة منذ تأليفه إلى يومنا هذا في كل قطر، وفي كل بقعة، وفي كل مكان يقال: قال -رحمه الله تعالى-.
المقدم: للمعلومية أحسن الله إليك، وأيضًا للإخوة المستمعين، يصل للإذاعة آلاف الرسائل شهريًّا -بلا مبالغة- كلها تنص على كتاب رياض الصالحين للإمام النووي، يطلبونه في أصقاع الأرض، بل إن بعض المسلمين في إفريقيا يتمنى أن يرى هذا الكتاب ويسمع به، وربما لم ير من كتب علماء الإسلام أي كتاب مما يدل على انتشاره والنفع العظيم الذي حصل.
قبول غريب لهذا الرجل -الله المستعان-، على ما عنده من مخالفة في الاعتقاد، لكن يظهر -والله أعلم- أن الإخلاص عنده منه قدر كبير، والله المستعان.
ابن القيم في كثير من المواضع في كتبه: احرص على هذه الفائدة علَّك ألا تجدها في مصنَّف آخر ألبتة. يقول هذا الكلام ابن القيم، فيشحذ همة القارئ أن يعيد النظر في هذا الكلام، ويتدبره ويقرأه مرة ثانية وثالثة من أجل أن يرسخ في نفسه، ولا مانع من هذا عند الحاجة إليه.
يقول: منها الغضب عند رَدِّ أَمْر الشرع، ونفوذ الحكم في حال الغضب، لكن نفوذ الحكم في حال الغضب هذا خاص بالنبي -عليه الصلاة والسلام- الذي لا يقول إلا حقًّا، أما غيره فقد جاء النهي: «لا يقضي القاضي وهو غضبان».
ومنها: ما كانت الصحابة -رضي الله عنهم- عليه من الرغبة التامة في طاعة الله تعالى، والازدياد من أنواع الخير وغير ذلك، إذًا في غضبه -عليه الصلاة والسلام- الغَيْرَة على محارم الله وعلى حدود الله، يقول ابن حجر: الأعمال الصالحة ترَقِّي صاحبها إلى المراتب السَّنِيَّة من رفع الدرجات ومَحْوِ الخطيئات؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم ينكر عليهم استدلالهم ولا تعليلهم من هذه الجهة بل من الجهة الأخرى.
وقال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: لما زادت معرفة الرسول -عليه الصلاة والسلام- لربه زادت خشيته له وتقواه، فإن العلم التام يستلزم الخشية، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [سورة فاطر 28] فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى، وإنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله، وقد خرَّج الإمام البخاري في آخر صحيحه عن مسروق قال: قالت عائشة: "صنع النبي -عليه الصلاة والسلام- شيئًا ترخَّص فيه وتنزَّه عنه قوم، فبَلَغ ذلك النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- فحمد الله، ثم قال: «ما بال أقوام يتنزَّهون عن الشيء أصنعه، فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية»" وفي حديث أنس: "أن ثلاثة رهط جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- يسألون عن عبادته -عليه الصلاة والسلام-، فلما أُخبِروا بها كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -عليه الصلاة والسلام- قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فإني أُصَلِّي الليل أبدًا، وقال آخر: أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فجاء النبي -عليه الصلاة والسلام- إليهم فقال: «أنتم قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكن أصوم وأفطر، وأُصلِّي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»" خرجاه في الصحيحين بمعناه.
والكلام في هذا الحديث يطول، والتفريعات عليه أيضًا تكثر، وهو أيضًا من أفراد الإمام البخاري عن مسلم، وهو من غرائب الصحيح، قال ابن حجر: لا أعرفه إلا من هذا الوجه فهو مشهور عن هشام، فَرْدٌ مُطْلَق من حديثه عن أبيه عن عائشة والله أعلم.
يعني: لم يروه عن عروة إلا هشام، فهو فَرْد مطْلَق من حديثه عن أبيه عن عائشة، وهذا معنى الغرابة هنا، الغرابة في السند ليست الغرابة في اللفظ؛ لأنه قد ورد معناه من جهة، من وجه آخر عن عائشة -رضي الله عنها-.
السائل: أحسن الله إليكم شيخنا ونفع بعلمكم المسلمين.
هنا أثابك الله يا شيخ تساؤل حول سؤال النبي -عليه الصلاة والسلام- المغفرة في مثل قوله -عليه الصلاة والسلام- عند خروجه من الخلاء: «غفرانك» بل في مثل أمر الله -جل وعلا- له بالاستغفار في سورة النصر: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر 1-3] مع كون هذا الحديث وغيره يُثبِتُ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف الجمع بين تلك النصوص وهذا الحديث وأمثاله؟
وهل كلام الكرماني -رحمه الله تعالى- في التفريق بين المغفرة، مغفرة الأنبياء ومغفرة غيرهم من الخَلْق هل له ما يشهد له من الشرع بأن تكون مغفرة الأنبياء هي الستر بينهم وبين الذنب، ومغفرة الخَلْق الستر بينهم وبين العقوبة؟ أثابكم الله.
كون النبي -عليه الصلاة والسلام- يستغفر، ويؤمَر بالاستغفار، ويقول: «غفرانك» فكونه -عليه الصلاة والسلام- يقول: «غفرانك» لأنه مَكَث مدة لا يذكر الله فيها، فهو يستغفر عن مثل هذه المدة التي مرَّت عليه وهو في الخلاء، ومعروف أن الذي في الخلاء لا يذكر الله، فهو يستغفر عن التقصير الحاصل في هذه المدة، ولا شك أن هذا كمال، وكونه -عليه الصلاة والسلام- أيضًا يؤمَر بالاستغفار، وإن كان -عليه الصلاة والسلام- لا ذنب له هذا تعليم لأمته، فإذا كان المغفور له يُطلَب منه أن يستغفر، فكيف بغيره؟! فغيره من باب أولى، وأيضًا جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «إنه ليُغَان على قلبي» يعني: يغفل، وهو بشر -عليه الصلاة والسلام-، يغفل عن الذكر «وإني لأستغفر الله -سبحانه وتعالى- في اليوم مائة مرة» «في المجلس سبعين مرة» لا شك أنه من طلب الكمال له -عليه الصلاة والسلام-، ولا يلزم من هذا أن يكون قد ارتكب ذنبًا -صلى الله عليه وسلم-.
المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
أيها الإخوة والأخوات، انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. لنا بكم لقاء -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.