شرح ألفية الحديث للحافظ العراقي (02)

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح: ألفية الحافظ العراقي (2)

الكلام على القسم الأول من أقسام الحديث الصحيح، وذكر أصح كتب الحديث، الصحيح الزائد على الصحيحين

الشيخ/ عبد الكريم الخضير

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال المصنف -رحمه الله تعالى-، وغفر الله له، ولنا ولشيخنا والسامعين برحمته إنه جواد كريم:

أقسام الحديث:

وأهل هذا الشأن قسموا السنن
فالأول المتصل الإسناد
عن مثله من غير ما شذوذ
وبالصحيح والضعيف قصدوا
إمساكنا عن حكمنا على سند
خاض به قوم فقيل مالك
مولاه واختر حيث عنه يسند
وجزم ابن حنبل بالزهري
وقيل: زين العابدين عن أبه
أو فابن سيرين عن السلماني
النخعي عن ابن قيس علقمه

 

إلى صحيح وضعيف وحسن
بنقل عدل ضابط الفؤاد
وعلة قادحة فتوذي
في ظاهر لا القطع، والمعتمد
بأنه أصح مطلقا، وقد
عن نافع بما رواه الناسك
الشافعي قلت: وعنه أحمد
عن سالم أي: عن أبيه البر
عن جده وابن شهاب عنه به
عنه أو الأعمش عن ذي الان
عن ابن مسعود ولم من عممه

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "أقسام الحديث" أقسام جمع قسم، والقسم، والضرب، والصنف، والنوع ألفاظ متقاربة، ألفاظ متقاربة، وأبدا الأديب البارع أبو هلال العسكري في كتابه: "الفروق" بينها فروقًا دقيقة جدًا فليراجع.

أقسام الحديث: الأنواع التي تذكر في هذا الفن كثيرة جدًا، بلغت عند ابن الصلاح أصل هذا الكتاب سبعة وستين نوعًا، أنواع ما يدرس في علوم الحديث بلغت هذه العدة، والتقسيم المذكور عندنا، وموضوع درسنا يراد به التقسيم الكلي، الذي تندرج فيه بقية الأنواع.

يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-:

وأهل هذا الشأن قسموا السنن

 

إلى صحيح وضعيف وحسن

حصروا القسمة في الثلاثة، وأول من حصر القسمة في الثلاثة أبو سليمان الخطابي في مقدمة "معالم السنن"، حصر القسمة في الثلاثة، وأقسام الثلاثة موجودة في استعمال الأئمة، فيحكمون على الحديث بأنه صحيح، ويحكمون على آخر بأنه حسن، ويحكمون على ثالث بأنه ضعيف.

القسمة الثلاثية استقرائية، وأول من بدأها أبو سليمان الخطابي، وإن كانت هذه الألفاظ مذكورة في كلام من تقدم من الأئمة، لكن الكلام في الحصر، إذا كان تقسيم العلماء بالاستقراء تقسيمهم للماء إلى ثلاثة أقسام طهور وطاهر ونجس، وهذه القسمة قابلة للزيادة والنقص، فمنهم من يرى أنها قسمان: طاهر ونجس، ومنهم من يرى أنها أربعة ويزيد المشكوك فيه، وهنا القسمة ثلاثية، وما عداها يندرج فيها، وإلا فهناك أنواع كثيرة تبحث في هذا الفن غير الثلاثة، لكنها إذا دققنا فيها النظر؛ دخلت في الأقسام الثلاثة المذكورة.

"وأهل هذا الشأن" أهل هذا العلم، والذين عليهم المعول في هذا الباب، أئمة الحديث قسموه إلى ثلاثة أقسام، قسموه بالفعل، وإن لم ينصوا على التقسيم الحاصر، حتى جاء الخطابي في القرن الرابع، فحصر القسمة في الثلاثة "أهل هذا الشأن قسموا السنن" المضافة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-:

...................................

 

إلى صحيح وضعيف وحسن

ووجه الحصر أنه إما أن تتوافر شروط القبول أو لا تتوافر، فإن توافرت فإما أن تكون هذه الشروط في الدرجة العليا أو الدنيا، الأول الصحيح والثاني الحسن، وإن لم تتوافر شروط القبول المذكورة في الحد الآتي فالضعيف، ولا رابع لها:

...................................

 

إلى صحيح وضعيف وحسن

"إلى صحيح" هذا هو الدرجة العليا، والضعيف الدرجة الدنيا، والحسن الدرجة المتوسطة، فالحسن في مرتبة متوسطة بين الصحيح والضعيف، وقدم عليه الضعيف في النظم؛ لأن النظم يقتضيه، وإن أمكن تقديم الحسن في نظم بعضهم:

علم الحديث راجع الصنوف

 

إلى صحيح حسن ضعيف

يمكن، لكن الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى- جعل الضعيف قبل الحسن مراعاةً للوزن، ولكي تتم المقابلة، مقابلة الصحيح بالضعيف، فالذي يقابل الصحيح الضعيف، والحسن في مرتبة متوسطة بينهما، فما دام الأمر كذلك، فلو قدمه على الضعيف، ولو غير في النظم، وأمكنه ذلك لكان أولى، ليكون الترتيب طبيعيًّا؛ ولذا هذا من حيث الإجمال، ومن حيث التفصيل جرى على التقسيم المعتبر عند أهل العلم، وهو تقديم الحسن على الضعيف، فلما أنهى الكلام على الصحيح؛ شرع في الكلام على الحسن ترتيبًا طبيعيًّا، وأخر الضعيف؛ لأنه متأخر، ودخول الصحيح والحسن في أقسام السنن لا إشكال فيه؛ لأن الصحيح والحسن مما يغلب على الظن ثبوته عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأما الضعيف فيغلب على الظن عدم ثبوته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فإدخاله من باب تتميم القسمة، وإلا هو في الحقيقة لا تصح نسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الذي يغلب على الظن عدم ثبوته، وليس من الحديث، وإن أطلق بعضهم على ما سيأتي في الموضوع، فقال: شر الأحاديث الموضوع:

شر الحديث الخبر الموضوع

 

...................................

ونسبته إلى الحديث إما على حد زعم قائله، وهو يضيفه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- على حد زعمه، وعلى سبيل التنزل، أو يقال: إن المراد بالحديث أعم مما يضاف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما يتحدث به، لكن عندنا "قسموا السنن" والمراد بالسنن المضافة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-:

...................................

 

إلى صحيح وضعيف وحسن

فالتعبير هنا على حد زعم رافعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإلا فالأصل أنه لا تجوز نسبته؛ لأن الغالب الذي يغلب على الظن أنه لم يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.

الخطابي لما ذكر الأقسام الثلاثة، وحصر القسمة في الثلاثة؛ عرف الأقسام الثلاثة، فعرف الصحيح بأنه ما اتصل سنده، وعدلت نقلته، ما اتصل سنده، وعدلت نقلته، وعرف الحسن كما سيأتي فيما نقله الحافظ العراقي عنه:

الحسن المعروف مخرجًا وقد

 

اشتهرت رجاله بذاك حد

هذا الخطابي، الذي يهمنا الآن من تعاريف الخطابي الصحيح، قال: ما اتصل سنده، وعدلت نقلته، الحافظ العراقي عرف الحديث الصحيح، وبالمناسبة نوصي الطلاب، ونحن بصدد شرح هذا النظم الجيد الجميل الوافي من كانت عنده همة لحفظ الألفية لا يحفظ في المصطلح غير الألفية، وهذا من خلال التجربة؛ لأن بعض المنظومات يشوش بعضها على بعض، بعضها يشوش على بعض، فإذا حفظ الإنسان البيقونية، وحفظ بعدها نظم الصنعاني للنخبة، أو غيره، ثم حفظ الألفية، وأراد أن يستشهد ببيت من الألفية؛ سبق إلى لسانه بيت من البيقونية، أو بيت من نظم النخبة، وتشوش العلم عنده، وهذا يحصل لنا ولغيرنا كثيرًا، لا سيما ممن حافظته تَهز، لا تسعفه في وقت الحاجة، مثل هذا يتشوش، فيقتصر على نظم واحد.

يقول الحافظ العراقي في تعريف الصحيح الذي هو القسم الأول: "فالأول" الذي هو الصحيح "المتصل الإسناد"

فالأول المتصل الإسناد

 

...................................

الأول إعرابها: الفاء هذه، نعم إن شئت فقل: تفريعية، وإن شئت فقل: فصيحة، على حسب ما تقدره قبلها، "فالأول المتصل الإسناد" الأول مبتدأ، والمتصل ماذا؟ فالأول المتصل، خبر، المتصل الإسناد، الإسناد إعرابها مضاف إليه "فالأول المتصل الإسناد" الإسناد مضاف إليه؛ كيف يكون مضاف إليه؟ المتصل مقترن بأل، والمقترن بأل معرفة؛ فهل يحتاج المعرفة إلى إضافة؟ هل يحتاج إلى معرفة؟ هل يجوز اقتران المضاف بأل؟ يعني يجوز مطلقًا؟ متى يقترن المضاف بأل؟ إذا كان المضاف إليه مقترنًا بها، وغيره أهم من ذلك، إذا قلت مثلًا: جاء محمد العبد الله، ما يستعمله الناس اليوم، ما هم يستعملون هذا؟ يستعملون هذا؛ يجوز، أو ما يجوز؟ افتقد الشرط الأول، فقد الشرط الأول، نعم يجوز إذا كانت الإضافة لفظية، إذا كانت الإضافة لفظية كما عندنا، أما إذا كانت الإضافة محضة معنوية فلا يجوز، فلا يجوز تقول: العبد الله بحال "ووصل أل بذا المضاف" بهذا المضاف من النوع الثاني، إذا كانت الإضافة لفظية:

فذي الإضافة اسمها لفظية

 

وتلك محضة ومعنوية

فإذا كانت الإضافة لفظية جاز شريطة أن يقترن المضاف إليه بأل، أو بالذي يضاف إليه المضاف إليه:

ووصل أل بذا المضاف مغتفر
أو بالذي له أضيف الثاني

 

إن وصلت بالثاني كالجعد الشعر
كزيد الضارب رأس الجاني

بهذا الاعتبار يجوز، وهنا الإسناد مضاف إليه "المتصل الإسناد" متصل بأي شيء، كيف يكون اتصاله؟ اتصال الإسناد وهو الشرط الأول؛ بأن يكون كل راو من رواته قد تحمله عمن فوقه بطريق معتبر من طرق التحمل، بأن يكون كل راو من رواته قد تحمله بطريق معتبر من طرق التحمل، وهذا الشرط الأول لصحة الخبر بأن يكون كل واحد من رواته قد تحمله، ورواه عن شيخه بطريق معتبر من طرق التحمل التي يأتي الكلام عليها -إن شاء الله تعالى-، الإسناد كما يقول الحافظ ابن حجر: حكاية طريق المتن، أو الطريق الموصل إلى المتن، أو بعبارة واضحة نقول: هو سلسلة الرجال الذين يذكرهم المحدث ابتداءً من شيخه، وانتهاءً بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا هو الإسناد، والاتصال يكون بما ذكرنا، وهذا هو الشرط الأول، ويخرج من قطع سنده، بأي نوع من أنواع الانقطاع الآتي ذكرها بالتفصيل، سواءٌ كان الانقطاع ظاهرًا أو خفيًا، فالظاهر مثل القطع، والإرسال، والإعضال، والتعليق، وكلها سيأتي الكلام فيها بالتفصيل -إن شاء الله تعالى-، فإذا كان الخبر منقطعًا اختل الشرط الأول، إذا كان السند معضلًا فيه إعضال سقط منه اثنان على التوالي -على ما سيأتي-، اختل الشرط الأول، إذا كان معلقًا حذف من مبادئ إسناده راو أو أكثر، اختل الشرط الأول، إذا سقط منه، أو رفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فصار مرسلًا اختل الشرط الأول الذي هو اتصال الإسناد، أو كان الانقطاع خفيًّا كالتدليس، والإرسال الخفي، ويأتي توضيحهما، والفرق بينهما، هذا هو الشرط الأول من شروط صحة الخبر.

فالأول المتصل الإسناد

 

...................................

ولا بد أن يكون اتصاله:

...................................

 

بنقل عدل ضابط الفؤاد

"عدل" الشرط الأول: اتصال السند، والثاني: عدالة الرواة، والعدالة يعرفها أهل العلم بأنها ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، العدالة ملكة يتصف بها الراوي تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، والفرق بين الملكة والصفة أن الملكة هي الصفة الراسخة، أما الصفات التي تطرأ وتزول بسرعة هذا وصف وليس بملكة؛ لأن الإنسان يتصف أولًا، ثم يلزم هذه الصفة حتى تكون هيئة راسخة فيعبر عنها بالملكة، تحمل على ملازمة التقوى، والتقوى: فعل المأمورات، واجتناب المحذورات، والمروءة مراعاة الآداب التي يتعارف عليها الناس، مما يحسن ويجمل الاتصاف به، وإن لم يرد به شرع.

"بنقل عدل" هذا هو الشرط الثاني: عدالة الرواة، والثالث أشار إليه المؤلف بقوله: "ضابط الفؤاد"

...................................

 

بنقل عدل ضابط الفؤاد

الضبط مع العدالة لا بد من توافر الضبط، وهو الحفظ بحزم، بحيث يتمكن الراوي من الأداء كما سمع متى شاء، يضبط، ويحفظ بحزم وقوة ما يتلقاه عن شيوخه بحيث يتمكن من أدائه متى شاء وأراد عند الحاجة إليه، والضبط وهو الحفظ يكون بالصدر ضبط صدر، ويكون –أيضًا- بالكتاب، ضبط صدر، وضبط كتاب، ضبط الصدر بحيث يحفظ في صدره في فؤاده في قلبه ما يسمع، هذا إذا حدث باللفظ، أو يحفظ المعنى، ويؤديه من غير اختلاف يخل به إن حدث بالمعنى -على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى- "ضابط الفؤاد" والمراد من الضبط هنا: أعلاه؛ لأن هذا هو المشترط لصحة الخبر، عرفنا أنه إذا انقطع الإسناد ضعف الخبر، وانتقل من حيز القبول إلى حيز الرد، العدالة إذا اختلت كذلك، إذا اختل الضبط، فإن كان الخلل فيه محتملًا؛ ينزل من الدرجة العليا إلى الدرجة الوسطى لا يضعف الخبر ولا يرد، ولكن تنزل الدرجة من الصحيح إلى الحسن، وإن فقد الضبط فقد شرط القبول فصار مردودًا:

...................................

 

بنقل عدل ضابط الفؤاد

"عن مثله" انتهى الشرط الأول، والثاني، والثالث، المتصل الإسناد بنقل عدل ضابط الفؤاد، اتصال الإسناد عدالة الرواة، تمام الضبط، هذه الشروط الثلاثة "عن مثله" عن مثله؛ هل يحتاج إلى قوله: عن مثله؟ ماذا نستفيد من قوله: عن مثله؟

طالب:......

لا؛ نحن افترضنا في الرواة كلهم أن يكونوا عدولًا ضابطين، بالشرطين المتقدمين، هم عدول ضابطين انتهينا منهم، نعم.

طالب:......

نعم، عن مثله يعني عمن فوقه، عن مثله في العدالة والضبط، ويراد بذلك اتصال الإسناد، ونقول بهذا إنه مجرد تصريح بما هو توضيح فقط، تصريح بما هو مجرد توضيح؛ فلا يحتاج إليه، فالشرط الأول انتهينا منه، اتصال الإسناد، والثاني: عدالة الرواة، والثالث تمام ضبطهم:

عن مثله من غير ما شذوذ

 

...................................

عن مثله من غير ما شذوذ، الشروط الثلاثة المتقدمة وجودية، بمعنى أنه لا بد من وجودها، وتوافرها في الرواة، الذي بعدها -من غير ما شذوذ- شرط عدمي بمعنى أن الشذوذ لا بد أن يكون معدومًا، إذا اشترطنا وجود الاتصال، والعدالة، والضبط نشترط مع ذلك الشرط العدمي، وهو أن لا يوجد الشذوذ، والشاذ على ما سيأتي شرحه في بابه المستقل يُختلف فيه بين أهل العلم لكن الذي مشى عليه المتأخرون: أنه ما يخالف فيه الثقة من هو أوثق منه:

وذو الشذوذ ما يخالف الثقة

 

فيه الملأ فالشافعي حققه

فلا توجد المخالفة من الراوي العدل الضابط لمن هو أوثق منه، لمن هو أوثق منه إذا كان واحدًا، أو أكثر عددًا؛ لأن العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد كما قال الإمام الشافعي وغيره، فإذا خالف من هو أوثق منه، أو أكثر عددًا؛ حكم على رواية هذا المخالف بالشذوذ، ولو كان عدلًا ضابطًا مع اتصال الإسناد، وحينئذٍ يخرج من قسم الصحيح إلى قسم الضعيف؛ لأن الشاذ ضعيف، على نزاع بينهم في اشتراط انتفاء الشذوذ لصحة الخبر، فمنهم من يقول: أنه قد توجد المخالفة، قد توجد المخالفة للراوي الثقة بالنسبة لمن هو أوثق منه، ولا يحكم عليه بالضعف؛ ولذا يقول بعضهم: الشاذ منه الصحيح، ومنه الضعيف، ومنه الراجح، ومنه المرجوح، ويوجد صحيح وأصح، ومن نظر في الصحيحين وجد جملة من الأحاديث بهذه المثابة، فالبخاري يخرج الحديث على وجوه منها الراجح، ومنها المرجوح، وكلها في دائرة شرطه كما أخرج قصة جمل جابر على وجوه متعددة، ومختلفة، وبعضها أرجح من بعض، لكنه رجح الراجح من وجهة نظره، والمرجوح يبقى أنه من شرط الصحيح من حيث الصناعة، لكن من حيث العمل يعمل بالراجح ويترك المرجوح "من غير ما شذوذِ" في تعريف الخطابي السابق: ما اتصل سنده، وعدلت نقلته، الشرط الأول يتفق معه الحافظ العراقي، عدلت نقلته، نعم، بنقل عدل، لكن ماذا عن الضبط؟ لم يشر إليه الخطابي الضبط ولا انتفاء الشذوذ ولا انتفاء العلة، اكتفى باتصال السند وعدالة الرواة، مع أن بعضهم يقول: إن العلماء إذا عدلوا الراوي دخل في العدالة الضبط فلا تحتاج إلى التصريح بها، وهذا إنما يقال للدفاع عن الخطابي، وإلا فالأصل أن الضبط شرط لا بد من توفره، لا تلازم بين العدالة والضبط، فقد يكون الراوي من أتقى الناس وأبعدهم عن المحرمات، وأفعلهم للواجبات، ومع ذلك لا يضبط، ينسى، يهم، يخطئ، فيه غفلة، وهذا حال كثير ممن صار همه العبادة، وغفل عن حفظ السنن، كثيرًا ما يقولون: أصاب فلان غفلة الصالحين، وهو صالح عدل، يفعل الواجبات، ويترك المحظورات، ومع ذلك شريطة الضبط لا تتحقق فيه على ما سيأتي في الحديث عن لفظ صدوق من ألفاظ التعديل.

عن مثله من غير ما شذوذِ

 

وعلة قادحة فتوذي

وهذا أيضًا هو الشرط الخامس وهو عدمي، يشترطون انتفاء العلة القادحة، والعلة: عبارة عن أسباب طرأت على ما سيأتي فيها غموض وخفاء أثرت، العلة: سبب خفي غامض يقدح في صحة الخبر الذي ظاهره السلامة منها، وعلة قادحة الأصل في العلة متى تسمى علة؟ إذا كانت قادحة، ألا يوجد من العلل ما يقدح وعلل غير قادحة؟ ولذا احتاج أن يقول: قادحة، أولًا: قسم المعل، المعل منه صحيح ومنه ضعيف وإلا هو ضعيف كله؟ الآن التنصيص على كون العلة قادحة له داع أم لا داعي له؟ إلى أن من العلل ما لا يقدح، الأصل في العلة سواء كانت الحسية أو المعنوية أنها قادحة بقدرها، العليل ضد الصحيح، فإذا قيل: فلان عليل يعني به علة يعني مرض والمرض يتفاوت من زكام إلى سرطان، لكنه يقدح مهما خف يقدح بقدره، فهل نستطيع أن نقول: يمكن الاستغناء عن قوله: قادحة؟

ابن دقيق العيد يستدرك على أهل الحديث اشتراطهم انتفاء العلة بكون الفقهاء لا يضعفون الحديث بأي علة، والعلل التي يعل بها المحدثون يصفونها بأنها علة لا تقدح من وجهة نظر الفقهاء، لكن هل المعول في هذا الباب على أهل الحديث أو على الفقهاء؟ على أهل الحديث بلا إشكال، والفقهاء تبع لهم في هذا، نعم من مباحث علوم الحديث ما يمكن إدراكه، ومنها ما لا يمكن إدراكه بمجرد النظر، ويأتي تفصيل هذا في الأبواب اللاحقة، فمن أنواع علوم الحديث ما لا يمكن إدراكه، بل هو بالنقل، وبالتلقي على الأئمة، ومنها ما يمكن إدراكه بالموازنة والنظر في الأقوال، فهذا للفقهاء فيه مدخل على ما سيأتي، لكن ما لا يدركه الإنسان برأيه. وبالمناسبة يعتب كثير ممن يعاني علوم الحديث في الأيام المتأخرة على بعض من صنف أو على جميع من صنف في علوم الحديث وأدخل أقوال الفقهاء والأصوليين في علوم الحديث، ويقول: ما علاقة الغزالي فيذكر رأيه؟ وسيأتي ذكره في النظم، ما علاقة الرازي بعلوم الحديث ليذكر قوله في علوم الحديث؟ قل مثل هذا في الأصوليين والفقهاء قاطبة، ما لهم علاقة في هذا الفن؛ لأنه نقل، ولا مدخل لهم، فكيف نقول: الغزالي بضاعته في الحديث مزجاة وننقل أقواله في علوم الحديث؟ هذا الكلام يكرر على ألسنة بعض الغيورين على السنة، لكن من مباحث علوم الحديث ما يدرك بالنظر، والتعليلات التي يعل بها الخبر على ما سيأتي منها ما يدرك بالنظر، يعني حينما ينسب ابن الصلاح إلى الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة مثلًا أنهم يفرقون بين السند المأنن والمعنعن، يعني حينما يمثل ابن الصلاح عن محمد ابن الحنفية عن عمار أن النبي -عليه الصلاة والسلام- مر به، وبين قوله: عن محمد ابن الحنفية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بعمار أو أن عمارًا مر به النبي -عليه الصلاة والسلام- يقولون: هذا الأول متصل والثاني منقطع، والعلة في ذلك أن السند الأول روي بـ(عن) والثاني بـ(أن) لكن ألا يمكن أن يدرك مرد الخلاف اختلاف الحكم بين الطريقين بالرأي؟ نعم؟ يعني حينما نسب ابن الصلاح للإمام أحمد ويعقوب بن شيبة أنهم يفرقون على ما سيأتي في السند المعنعن؛ ولذا قال الحافظ العراقي:

...................................

 

كذا له ولم يصوب صوبه

يعني ابن الصلاح ما فهم، فمثل هذه الأمور الدقيقة تدرك بالرأي، يعني حينما يقول: عن محمد ابن الحنفية عن عمار يروي القصة عن صاحب الشأن فهي متصلة، لكن لما يقول: عن محمد ابن الحنفية أن عمارًا مر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، هل مرد هذا لأن الصيغة (أن)؟ أو لأن محمد ابن الحنفية يحكي قصة لم يشهدها ولم يروها عن صاحبها؟ فمثل هذه الأمور الدقيقة تدرك بالرأي فليس مردها إلى النقل، وإن نقل ابن الصلاح عن الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة هذا الاختلاف عن الحكم، وقال: إن مرده إلى اختلاف الصيغة، استدرك عليه الحافظ العراقي قال:

...................................

 

كذا له ولم يصوب صوبه

ما أدرك المحك، ما عرف العلة يعني هجم على ذهنه شيء فغطى الحقيقة، فمثل هذا الأمور تدرك بالبصيرة النافذة، ودقة النظر، فمثل هذا لو حلل هذا التحليل واحد من الأصوليين نقول: مردود؟ ما نقول: مردود يا أخي، ولهم دقة في النظر في هذا المسائل، ولو لم يكونوا من أهل النقل، نعم ما يكون المعول فيه على النقل لا علاقة لهم به، بل لو قلنا: إنهم من أبعد الناس عن هذه الأمور ما بعد، وكثير منهم يصرح بأن بضاعته مزجاة في هذا الباب، وأقول: نقل أقوالهم لا يضر أبدًا، لا من قريب ولا بعيد، والمعول عليه الأئمة في هذا الشأن، أئمة هذا الشأن، لكن فهم كلام الأئمة يعني نقل كلام الأئمة يحتاج إلى سند، وفهم كلام الأئمة يحتاج إلى نظر كما قدمنا في المثال، على كل حال الفقهاء فيما ذكر ابن دقيق العيد عندهم..، أو نقل عنهم أنهم لا يعلون بكثير من العلل التي يتداولها المحدثون، فالمحدثون يعتبرون ما ذكره الأخ مثلًا علة، الإبهام أو الإهمال في السند فإذا قيل: عن حماد أو عن سفيان ولم نستطع التمييز بينهما هذه بعضهم يطلق عليها علة، والحديث أينما دار سواء عرفنا أنه سفيان الثوري أو ابن عيينة أينما دار فهو على ثقة، نعم نحتاج إلى التمييز بينهما إذا كان الراوي المهمل يدور بين اثنين أحدهما ثقة والآخر ضعيف، فلا بد من التمييز بينهما، الترمذي سمى النسخ علة، والترمذي من أهل الحديث، وهذا لا يعل به الفقهاء، ولا يؤثر في صحة الخبر، فمثلًا حديث: ((الماء من الماء)) صرح الترمذي بأنه منسوخ، وفي علل الجامع قال: "بينا علته في الكتاب" فسمى النسخ علة، وهذه العلة تقدح في صحة الخبر، وحديث: ((الماء من الماء)) صحيح أم ضعيف؟ صحيح مخرج في الصحيح، لا كلام لأحد فيه، ومع ذلكم فيه علة وهي النسخ، وعلى هذا قوله: "وعلة قادحة" الوصف بكون العلة قادحة أمر لا بد منه؛ لأن من العلل على اصطلاحهم ما لا يقدح.

"فتؤذي" توذي من؟ توذي الحديث أو المحدث؟

...................................

 

وعلة قادحة فتوذي

توذي الحديث أو المحدث؟ الأذى إذا قلنا: منه الحسي ومنه المعنوي قلنا: إنها توذي الحديث والمحدث، الحديث يتأذى بها بمعنى أنه يتأثر بها، والمحدث يتأذى بها بمعنى أنها تعوقه عن تصحيحه والعمل به، هذه هي الشروط الخمسة: اتصال الإسناد، عدالة الرواة، تمام الضبط، انتفاء الشذوذ، انتفاء العلة القادحة، انتفاء العلة القادحة، والمراد بهذا الصحيح المجمع عليه، المجمع على صحته، ولا نحتاج إلى اشتراط قدر زايد على ذلك، لا نحتاج إلى تعدد رواة؛ ولذا قال: "بنقل عدل" والنووي في التقريب تقريب الأسانيد يقول: ما اتصل سنده بنقل العدول الضابطين، بنقل العدول الضابطين هل يفهم من كلام النووي أنه يشترط العدد في الرواية، أو أنه يتحدث عن مجموعة الرواة الذين يتكون منهم مجموع الإسناد؟ هذا هو الظاهر، فالنووي لا يشترط العدد في الرواية، لا لصحة الحديث مطلقًا، ولا لكونه شرط للصحيح، وإن اشترط ذلك أو زعمه شرطًا للبخاري بعضهم، كما يؤمي إليه كلام الحاكم والبيهقي وابن العربي والكرماني وشارح البخاري هؤلاء يزعمون أن تعدد الرواة شرط للبخاري، وهذا الكلام ليس بصحيح، ومنهم من يراه شرطًا للصحيح؛ ولذا يقول الصنعاني في نظم النخبة لما ذكر العزيز قال:

وليس شرطًا للصحيح فاعلمِ

 

وقد رمي من قال بالتوهمِ

وفي بعض النسخ يقول:

وليس شرطًا للصحيح فاعلمِ

 

وقيل: شرط وهو قول الحاكمِ

الكرماني الشارح نص على أن شرط البخاري ألا يروي الحديث الذي يتفرد به راويه، مع أن أول حديث في الصحيح وآخر حديث في الصحيح يرد عليه، فرد مطلق الأول والأخير، وابن العربي في عارضة الأحوذي يقول في حديث: ((هو الطهور ماؤه)) لم يخرجه البخاري؛ لأنه تفرد به راويه، ومن شرطه العدد في الرواية، وهذا الكلام ليس بصحيح، فليس العدد في الرواة شرط للصحيح مطلقًا، ولا للبخاري في صحيحه، ثم قال الناظم -رحمه الله تعالى-:

وبالصحيح والضعيف قصدوا

 

في ظاهر لا القطع والمعتمدُ

إذا توافرت الشروط السابقة، إذا توافرت هذه الشروط الخمسة وحكمنا على الخبر بالصحة فهل نقطع به أو نقول: إن الظاهر والذي يغلب على الظن ثبوته؟

وبالصحيح والضعيف قصدوا

 

في ظاهر..........................

يعني يحكم عليه بالحكم الظاهر بالصحة إن توافرت الشروط، وبالضعف إن تخلف شرط منها في الظاهر، ولا نقصد بذلك القطع بصحة الخبر ولا بضعفه، لماذا؟ لأن العدل الضابط قد يخطئ، يعني هذا الراوي أو هؤلاء الرواة في نقدنا عدول ضابطين، نص الأئمة على أنهم ثقات، وتسلسل الخبر بهؤلاء العدول الضابطين، ألا يمكن أن يخطئ الثقة؟ نعم، ألا يحتمل أن يخطئ الثقة؟ احتمال وارد، ومن يعرو من الخطأ والنسيان؟ وما دام هذا الاحتمال وارد لا نقطع، يعني لو جاءك شخص من أوثق الناس إليك وقال لك: جاء زيد من سفره هل تحلف على هذا الخبر؟ تحلف؟ ألا يحتمل أن هذا الراوي أخطأ أو الذي نقل لك الخبر أخطأ، احتمال قائم، وإذا كان -على ما سيأتي- مالك عن نافع عن ابن عمر، هؤلاء حفظ عليهم بعض الأخطاء وبعض الأوهام وسيأتي في المنكر:

...................................

 

ومالك سمى ابن عثمان عمر

 

وأخطأ خطأه الأئمة، مالك نجم السنن أخطأ، ونافع كذلك، وابن عمر زعم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- اعتمر في رجب وخطأته عائشة، المقصود أن الثقة مهما بلغ في الحفظ والضبط والإتقان لا بد أن يحصل منه ما يحصل من الخطأ والوهم والسهو، واستدركت عائشة على بعض الصحابة بعض الأوهام، فلا يسلم، وما دام هذا الاحتمال قائمًا فإننا لا نقطع، بمعنى أننا لا نجزم قطعًا بأن هذا الخبر ثابت لوجود احتمال النقيض، وسيأتي مزيد بحث في حكم الصحيحين الآتي.

واقطع بصحة لما قد أسندا

 

...................................

وما يفيده خبر الواحد إذا صح هل يفيد القطع أو يفيد الظن؟ مسألة معروفة عند أهل العلم، والأقوال فيها مشهورة، والجمهور على أنها تفيد الظن إلا إذا احتفت بها قرينة، إذا احتفت بها قرينة تكون في مقابل هذا الاحتمال إفادة العلم والقطع، ومنهم من يرى أنها تفيد القطع مطلقًا كحسين الكرابيسي وداود الظاهري وغيرهم، ويأتي مزيد بحث لهذه المسألة -إن شاء الله تعالى- في مكانه.

إذا كان الاحتمال بالنسبة للراوي العدل الضبط أنه قد يخطئ فالاحتمال أيضًا بالنسبة لغيره غير العدل وغير الضابط أنه قد يضبط، يعني هل جميع أخبار غير الضابط ليست صحيحة؟ أو قد يأتي بالأخبار الصحيحة وكثير منها يخطئ فيه؟ إذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول عن الشيطان: ((صدقك وهو كذوب)) فكيف بالراوي العابد الذي غفل عن السنة وكثر الخطأ والوهم في حديثه؟ مثل هذا ألا يضبط أحيانًا؟ ما يمكن يضبط أبدًا؟ يمكن يضبط، وهم يحكمون على الراوي بعدم الضبط إذا كثر الخطأ في حديثه، وإن كان الأصل الضبط، فإذا كثر الخطأ في حديث الراوي حكموا عليه بأنه غير ضابط.

ومن يوافق غالبًا ذا الضبطِ

 

فضابطٌ أو نادرًا فمخطي

إذا وافقهم غالبًا فضابط، إذا وافقهم نادرًا فمخطي، لكنه يوافقهم أحيانًا، وإذا كان هذا الاحتمال قائمًا فإننا لا نقطع بكذب ما ينقله مثل هذا الراوي، ولهذا يقول:

 

وبالصحيح والضعيف قصدوا

 

في ظاهر..........................

يعني في ظاهر الأمر "لا القطع" يعني في حقيقة الأمر، ثم قال:

................................... إمساكنا عن حكمنا على سند
خاض به قوم فقيل: مالكُ

 

...........................والمعتمدُ

بأنه أصح مطلقًا وقد
عن نافع بما رواه الناسكُ

المعتمد عند الناظم وجمهور أهل العلم أنهم لا يحكمون على سند بأنه أصح من غيره مطلقًا، لا يحكمون على سند بعينه أنه أصح مطلقًا هذا المعتمد، هذا القول المرجح، لماذا؟ لأننا لو استعرضنا السلاسل التي قال فيها من قال: إنها أصح الأسانيد لو دققنا فيها بالميزان الشرعي بالعدالة والضبط هل تثبت أمام التدقيق وإلا ما تثبت، نأخذ المثال الأول الذي قال به إمام الصنعة الإمام البخاري:

...................فقيل: مالكُ

 

عن نافع بما رواه الناسكُ

مالك نجم السنن ولا إشكال في هذا، ولو قيل: إنه أوثق أهل طبقته لما بعد، لكن نأتي لنافع أيهما أجل نافع أم سالم؟ الأكثر سالم، لماذا ما يقول: مالك عن سالم؟ وقال البخاري: مالك عن نافع وسالم أجل منه، طيب عن ابن عمر، ما في الصحابة أحفظ من ابن عمر ولا أعدل وأوثق من ابن عمر؟ يعني هل ابن عمر أوثق من عمر؟ لا، هل ابن عمر أحفظ من أبي هريرة؟ لا، فلو بحثنا في هذه التراجم ترجمة ترجمة لوجدنا في كثير منهم في طبقته من هو أوثق منه، سواء كان في جميع الترجمة، جميع الرواة المذكورة في هذه السلاسل أو في بعضهم دون بعض؛ ولذا قال الناظم -رحمه الله تعالى-:

................................... إمساكنا عن حكمنا على سند

 

...........................والمعتمدُ

بأنه أصح مطلقًا ..................

أصح مطلقًا كما قالوا في أصح حديث ما قالوا، ما حكم أحد من الأئمة على حديث بأنه أصح مطلقًا من غيره، وإن كان حديث: ((من كذب عليّ متعمدًا)) لو قيل به لكان له وجه، وما حكموا على كتابه بأنه أصح مطلقًا من غيره على سبيل التفصيل لا على سبيل الإجمال، نعم على سبيل التفصيل يعني أن كل حديث في هذا الكتاب أصح من كل حديث في غيره من الكتب على ما سيأتي في المفاضلة بين الصحيحين في الدرس اللاحق -إن شاء الله تعالى-، يعني هل قال أحد: إن كل حديث في صحيح البخاري أصح من كل حديث في صحيح مسلم؟ ما قاله أحد، وإن فضلوا في الجملة صحيح البخاري على صحيح مسلم على ما سيأتي.

...................................
خاض به .........................

 

بأنه أصح مطلقًا وقد
...................................

خاض غمرات هذا البحر الذي لا ساحل له من الرواة، خاض به قوم فقيل: مالك، القول الأول قول الإمام البخاري، فقيل: ملك هذا قول إمام الصنعة البخاري يقول: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.

.......................فقيل: مالكُ
مولاه..............................

 

عن نافع بما رواه الناسكُ
....................................

معتقه عبد الله بن عمر، ووصفه بالنسك لما اشتهر به من التحري في العبادة، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)) فكان بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلًا، فوصف -رضي الله تعالى عنه- بالنسك، وهو أهل لذلك، تميز بين أقرانه بالعبادة والتنسك على هدي وإرث من النبي -عليه الصلاة والسلام-، "بما رواه الناسك *** مولاه" ثم قال:

..........واختر حيث عنه يسندُ

 

...................................

هذا قول ابن طاهر، يقول: إذا أضفت راويًا بعد مالك فليكن الشافعي؛ لأنه لا يوجد في الرواة عن مالك أجل من الشافعي، والإمام أحمد يقول: قرأت الموطأ أو سمعت الموطأ من كثير من أصحاب مالك فوجدت الشافعي أتقنهم وأوثقهم، قلت -يقول الحافظ العراقي-:

...................................

 

.....................وعنه أحمدُ

يعني وإن زدت راويًا بعد الإمام الشافعي فليكن الإمام أحمد الذي يقول فيه الإمام الشافعي: إنه خرج من العراق فما خلف فيه أحد مثل الإمام أحمد، وحق له ذلك، فالإمام أحمد بالاتفاق أجل الآخذين عن الإمام الشافعي، فعلى هذا يكون القول الأول بما أضيف إليه يعني أصله للبخاري مالك عن نافع عن ابن عمر أضيف الشافعي بعد الإمام مالك، أضيف الإمام أحمد بعد الإمام الشافعي، فأصح الأسانيد على هذا: الإمام أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، والمسند على كبره ما يوجد فيه من الأحاديث بهذا الإسناد إلا حديث واحد مكون من أربع جمل: ((لا يبع بعضكم على بيع بعض)) الإمام أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يبع بعضكم على بيع بعض))، ونهى عن النجش، ونهى عن بيع حبل الحبلة، ونهى عن المزابنة، أربع جمل مروية بهذا الإسناد، ولا يوجد في المسند غيره، مثل هذا السند الذي تعاقب عليه الأئمة هذا يقطع به أو لا يقطع به؟ على ما سيأتي في القرائن التي تحتف بالخبر فتجعله مما يقطع به، مما يفيد القطع تعاقب الأئمة على رواية خبر، كون الحديث يتداوله الأئمة هذه قرينة تقضي على الاحتمال، احتمال كون بعض الرواة يخطئ؛ لأنه لو أخطأ الإمام مالك يتابعه الشافعي على خطئه؟ لا يمكن، لو أخطأ الإمام الشافعي مع الإمام مالك يتابعهم الإمام أحمد، ما يمكن، فيجعل هذه القرينة وهي اتفاق الأئمة على رواية هذا الخبر في مقابل الاحتمال المرجوح في كون هذا الراوي الضابط الثقة العدل قد يخطئ، فإذا جعلنا تتابع الأئمة على روايته في مقابل هذا الاحتمال قلنا: إن الخبر يفيد القطع؛ ولذا نحلف أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((لا يبع بعضكم على بيع بعض)).

وجزم ابن حنبلٍ بالزهري

 

...................................

القول الثاني قول الإمام أحمد ومعه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه، وجزم ابن حنبل الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، إمام أهل السنة، العلم المشهور، وإسحاق كذلك إمام من أئمة المسلمين جزموا بأن أصح الأسانيد الزهري محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر "أي عن أبيه البري" الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر، هذا أصح الأسانيد عند الإمام أحمد، ومعه إسحاق بن راهويه عن سالم عن أبيه البري، هذا القول الثاني في هذه المسألة والقول الثالث:

وقيل: زين العابدين عن أبه

 

عن جده وابن شهاب عن به

وقيل: يعني قال عبد الرزاق وابن شيبة والنسائي قالوا: أصح الأسانيد زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طلب عن أبيه الحسين عن جده علي.

وقيل: زين العابدين عن أبه

 

...................................

عرفنا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبه، يعني عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب، عن جده أمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، عن أبه هذه لغة في الأسماء الخمسة، تسمى لغة النقص؛ لأن الأسماء الخمسة فيها الثلاث اللغات، تعرب بالحروف وبالقصر، وتعرب أيضًا بالنقص.

...................................

 

وقصرها من نقصهن أشهرُ

بأبه اقتدى عدي بالكرم

 

ومن يشابه أبه فما ظلم

هذه لغة النقص، عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب، "وابن شهاب عنه" أي عن زين العابدين، يعني زين العابدين يرويه عنه ابن شهاب المذكور في الترجمة السابقة الزهري عنه أي عن زين العابدين به "وابن شهاب عنه به" الضمير في (به) "وابن شهاب عنه به" يقرر الحافظ العراقي في شرحه لألفيته أن الضمير يعود على الحديث، (به) أي بالحديث، والسخاوي يقرر أن الضمير يعود على السند، ما المرجح منهما؟ صاحب البيت أدرى بمن فيه، أهل مكة أدرى بشعابها، الحافظ العراقي يقول: (به) أي بالحديث، والسخاوي يقول (به) أي بالإسناد، وإذا قلنا: إن الحافظ العراقي هو الناظم وهو أدرى بما أضمر رجنا قوله، لكن المسألة مفترضة بالأحاديث أو بالأسانيد؟ نعم بالأسانيد، فهو رجح أن الضمير يعود على الإسناد، وابن شهاب عن زين العابدين به أي بالإسناد لا بالحديث، وكثير ممن أتى بعدهما يرجح قول السخاوي؛ لأن المسألة مفترضة بالأسانيد، والقول الذي يليه.

أو فابن سيرين عن السلماني

 

...................................

وهذا هو القول الرابع، و(أو) هذا لتنويع الخلاف، لا للتخيير ولا للشك، لتنويع الخلاف، والتنويع والتقسيم بمعنى واحد.

خير أبح قسم بـ(أو) وأبهمِ

 

...................................

فالتنويع بمعنى التقسيم، وتأتي (أو) للتقسيم الكلمة: اسم أو فعل أو حرف (أو) هذه شك وإلا تخيير؟ تقسيم وتنويع، و(أو) هنا لتنويع الخلاف، وهذا القول الفلاس عمرو بن علي، وهو قول ابن المديني وسليمان بن حرب، هذا قولهم، وهو القول الرابع في هذه المسألة، ويختلف بعضهم في التعبير بالأصحية والأجودية، بعضهم قال: أصح الأسانيد، وبعضهم قال: أجود الأسانيد، واستعمال اللفظين بأفعل التفضيل لا يختلف، هل يختلف أصح الأسانيد عن أجود الأسانيد؟ نعم، صحيح وجيد يطلقون جيدًا بإزاء صحيح، لكن الحافظ ابن حجر يقول: إلا أن الجهبذ لا يعمد ويعدل عن التعبير بصحيح إلى جيد إلا لنكتة إلا لسبب، لكن إذا قلنا: أصح وأجود يختلف وإلا ما يختلف؟ هل نقول: إن الاختلاف بين أصح وأجود مثل الاختلاف بين صحيح وجيد؟ نعم؟ إذًا أجود الأسانيد لا تختلف عن التعبير بالأصحية؛ ولذا قرنوا مع بعض.

"أو فابن سيرين" محمد بن سيرين، التابعي الجليل، السيد الثقة النبيل، عن عبيدة بن عمرو السلماني.

أو فابن سيرين عن السلماني

 

عنه...................................

يعني عن علي -رضي الله تعالى عنه-، صحابي الترجمة السابقة، (أو) وهذه مثل السابقة،

........................................
النخعي عن ابن قيس علقمهْ

 

.........أو الأعمش عن ذي الشأنِ
عن ابن مسعود................... 

وهذا قول الإمام يحيى بن معين، أو الأعمش سليمان بن مهران الأعمش، عن ذي الشأن النخعي إبراهيم بن يزيد بن قيس، عن ابن قيس علقمة، عن علقمة بن قيس النخعي أيضًا، عن ابن مسعود أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافر الهذلي ابن أم عبد، الصحابي الجليل.

....................................

 

.....................ولم من عممه

الناظم اقتصر على هذه السلاسل التي ذكرها، وهي أقوى ما قيل في هذه المسألة، وهناك أقوال أخرى أوصلها السخاوي في نكته على الألفية وشرحها التي لم يبقَ منها شيء، ولا توجد، أوصلها إلى عشرين ترجمة، وذكر ابن حجر منها في نكته على ابن الصلاح خمس عشرة ترجمة، والمراد بالترجمة عندهم السلسلة كاملة، خمس عشرة، والحافظ العراقي -رحمه الله تعالى- له كتاب في أحاديث الأحكام انتقاه بواسطة الأسانيد التي قيل فيها: أصح الأسانيد، وبلغت عنده هذه السلاسل إلى ستة عشر، وخرج أحاديث الكتاب من طريق هذه الأسانيد التي قال الأئمة بأنها أصح الأسانيد، والكتاب هذه ميزته، تقريب الأسانيد في أحاديث الأحكام، روي بهذه الأسانيد التي قال الأئمة بأنها أصح الأسانيد "ولم من عممه" لم أي اعتب وأعذل من عمم الحكم على سند من الأسانيد بأنه أصح مطلقًا من غيره، وفي صدر الحديث عن هذه المسألة

................................... إمساكنا عن حكمنا على سند

 

...........................والمعتمدُ

بأنه أصح مطلقًا..................

...إلى آخره؛ ولذا قال: "ولم من عممه" لأنه حكم على سند بأنه أصح مطلقًا من غيره، إذا كان الأمر كذلك فلماذا يذكر أهل العلم مثل هذه المسألة ويعنى بها أهل العلم ويدونونها ويتتبعونها مع أنه قول مرجوح؟ عند الترجيح لو حصل تعارض بين حديث مروي بسند قيل فيه إنه أصح الأسانيد مع حديث روي بسند لم يقل فيه أحد بأنه أصح الأسانيد يرجح عليه ما قيل فيه: إنه أصح الأسانيد، قالوا: ولو باعتبار القائلين، عندنا حديث مالك عن نافع عن ابن عمر، وحديث عن ابن سيرين عن السلماني عن علي أيهما نرجح؟ مالك عن نافع عن ابن عمر باعتبار القائل وهو الإمام البخاري، على قول الفلاس ومن معه، وإذا اعتبرنا الكثرة -كثيرة القائلين- ووازنا قلنا: القول الأخير أرجح؛ لأنه قال به جمع من الأئمة، فلهذا يذكرون ويعنون بمثل هذه الأشياء مع أنه قول مرجوح، لكن عند التعارض والترجيح قد يلجأ إليه، وجاء مثل ما جاء في أصح الأسانيد تكلموا على أوهى الأسانيد، وتكلموا كما تكلموا هنا على سبيل العموم تكلموا على سبيل التفصيل، فقالوا: أصح أسانيد إلى علي -رضي الله عنه- كذا، أصح الأسانيد إلى عائشة كذا، أصح الأسانيد إلى أبي هريرة كذا، أصح أسانيد المكيين كذا، أصح أسانيد المصريين كذا.. إلى آخره، وهذا فيه قرب، يعني الحصر براوي مثلًا أو بجهة وبلد أسهل من الإطلاق أن يكون هذا أصح مطلقًا، فالمرجح عند أهل العلم أنه لا يحكم بالأصحية المطلقة، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"