شرح ألفية الحديث للحافظ العراقي (21)

بسم الله الرحمن الرحيم

سم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-: المقلوب:

وقسموا المقلوب قسمين إلى:
بواحد نظيره كي يرغبا
ومنه قلب سند لمتن
في مائة لما أتى بغدادا
وقلب ما لم يقصد الرواة
حدثه في مجلس البناني
فظنه عن ثابت جرير

 

ما كان مشهورًا براو أبدلا
فيه للإغراب إذا ما استغربا
نحو: امتحانهم إمام الفن
فردها وجوَّد الإسنادا
نحو: ((إذا أقيمت الصلاة..))
حجاج اعني ابن أبي عثمان
بينه حماد الضرير

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"المقلوب" وهو اسم مفعول من القلب، وهو تبديل شيء بآخر.

وهو من أقسام الضعيف، المقلوب من أقسام الضعيف، ويقع في السند والمتن، والقلب في السند له أقسام؛ ولذا قال: "وقسموا" يعني المحدثين "المقلوب" سندًا "قسمين" يعني إلى قسمين: عمدًا وسهوًا، قسموه إلى قسمين: أحدهما "ما كان" يعني الحديث الذي كان "مشهورًا براوٍ" شهرته براو؛ كسالم بن عبد الله بن عمر "أبدلا"، "بواحد" من الرواة "نظيره" في الطبقة كنافع؛ يعني أبدل سالم بنافع أو العكس؛ هذا قلب، هذا قلب سواءٌ كان هذا القلب عمدًا، أو سهوًا، لكنه من العلل غير المؤثرة؛ لأن سالمًا ونافعًا كلاهما ثقة، فأينما دار فهو على ثقة، نظير ما إذا أهمل الراوي، ولم يتوصل إلى حقيقته؛ كسفيان مثلًا، أو حماد، فأينما دار فهو على ثقة، سواءٌ كان الراوي سالمًا، ثم أبدل بنافع أو العكس، فكلاهما ثقة، وإن كان سالمًا عند الأكثر أجل من نافع، فمثل هذا قد يترتب عليه نزول يسير في الحديث لكنه لا يترتب عليه رد الحديث فمثل هذا الإبدال، وإن قدح في حفظ الراوي وضبطه وإتقانه إلا أنه لا يقدح في المروي على ما تقدم في بعض العلل التي لا تقدح، والمشترط انتفاؤها لصحة الخبر هي العلل القادحة، إذا كان عن عمد، أو سهو؛ فإن كان عن عمد فأبدل سالم بنافع؛ كما قال الناظم -رحمه الله تعالى-:

بواحد نظيره كي يُرغبا

 

...................................

والألف هذه للإطلاق "فيه" لأنه قد يكون محفوظًا عن سالم عن عشرة من الرواة، ثم يأتي واحد منهم، فيجعله عن نافع، والمحدثون إذا ظفروا بطريق غير المشهور، غير المتداول بين الرواة فرحوا به؛ لأنه طريق جديد للخبر، فكون الحديث يروى عن سالم، وعن نافع معا؛ أقوى من كونه يروى عن أحدهما، فإذا كان عشرة يروونه عن سالم، ثم أورده واحد منهم عن نافع قلبًا؛ يرغب فيه المحدثون؛ لأنه طريق آخر للحديث، ووقوفهم على طريق لا شك أنهم يفرحون به أشد الفرح، ما يقولون: هذا الأمر لا يعنينا ما دام ثبت الخبر عن سالم فلا داعي لنقله عن نافع، لا؛ فهم يفرحون بمثل هذه الطرق؛ كثرتها، إذا كان للحديث أكثر من مخرج، وأكثر من راوٍ؛ فرحوا به فرحًا شديدًا، كما أن العلماء إذا ظفروا بفوائد علمية، أو حل إشكال في مسألة علمية؛ يفرحون بذلك فرحًا شديدًا، وهذا الأمر يعنيهم، وهو جل اهتمامهم، وقصدهم؛ ولذلك تجدون من يكرر الحمد إذا وقف على شيء لم يقف عليه غيره، من حل الإشكال، أحيانًا يكون هناك بين بعض النصوص اختلاف، فيقف عليه العالم، ويوفق لحل هذا الاختلاف، والجمع بين هذه النصوص المختلفة، وكم وجدنا للحافظ ابن حجر يقول: وهذا توفيق من الله -جل وعلا-، فله الحمد، وله الحمد، وله الحمد، وله..، يكرر الحمد، والشكر؛ لأنه انحل عنده هذا الإشكال، وقد تطلب حله مددٌ متطاولة، ثم يقف عليه، أو يحله بنفسه هذه من نعم الله -جل وعلا-، على العالم، وينبغي أن يكون طالب العلم على هذه الحالة، وعلى هذا المستوى محبًّا للعلم، مكتشفًا، محررًا، منقحًا، يفرح إذا ما وقف على فائدة عزيزة، يدونها، ويكتبها، ولا يتركها بحيث ينساها، فإذا وجد طريقًا غير الطريق المشهورة، فالحديث معروف بسالم، وتداوله الرواة على هذا الأساس، ثم يأتي به راوٍ عن نافع، يفرحون بهذا "كي يرغبا" يرغبون..

...................................
ج
ج

 

فيه للإغراب إذا ما استغربا

يعني الراوي الذي يقلب السند عمدًا من أجل الإغراب؛ كي يرغب فيه أهل الحديث؛ لا شك أنه آثم، ومغرر بأهل الحديث، وإذا كان ثقة وأكثر من ذلك فإنه يجرح، وإن كان عن سهو، وكثر ذلك في حديثه لا شك أنه مؤثر في ضبطه، وحفظه أحيانًا يكون القلب بهذه الطريقة بإبدال راوٍ براو نظيره من طبقته كما مثلنا بسالم ونافع، وقد يكون القلب في الراوي الواحد، الراوي الواحد يُقلب، فيجعل الأب ابنًا، والابن أبًا، فيجعل نصر بن علي؛ علي بن نصر، ومرة بن كعب؛ كعب بن مرة؛ هذا قلب، إذا قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، جاء واحد من الرواة قال: حدثنا علي بن نصر الجهضمي، وأحدهما أب للآخر، لكن كلاهما يشتركان في الرواية عن بعض الرواة، فيجعل الحديث المروي عن الأب حديثًا مرويًا عن الابن والعكس، وقل مثل هذا في كعب بن مرة، ومرة بن كعب؛ حصل قلبه من بعض الرواة، وهذا قلب في الإسناد.

ومنه وهو القسم الثاني من قلب الإسناد، وهذا يدخل في العمد؛ في القلب المتعمد "ومنه قلب سند" يعني سند تام "لمتن" فيجعل لمتن آخر مروي بسند آخر؛ يعني يركب على هذا المتن سندًا آخرَ غير السند الذي روي من طريقه، "ومنه" يعني القسم الثاني من العمد "قلب سند" تام "لمتن" فيجعل هذا المتن يركب له سندًا آخرًا تامًّا "نحو امتحانهم" يعني المحدثين ببغداد "إمام الفن"، وشيخ الصنعة البخاري -رحمه الله تعالى- "نحو امتحانهم" يعني المحدثين ببغداد "إمام الفن" فإنهم لما سمعوا بمقدمه ضربوا له مجلسًا، اجتمعوا فيه ووعدوه يومًا يحضر فيه، ويحضر معه المحدثون ببغداد، وامتحنوه في هذا المجلس، تم امتحانه في هذا المجلس في مائة حديث، وكَلُوا أمرها إلى عشرة من طلاب الحديث، عشرة من الطلاب، وزعوا عليهم مائة حديث، وكل هذه الأحاديث مقلوبة الأسانيد والمتون، جعلوا متن الحديث الأول لسند الحديث الثاني والعكس إلى تمام المائة، فلما تم اجتماعهم وحضروا، وجاء إمام الفن -رحمة الله عليه-، انتدب له الأول من العشرة، فسأله عن الحديث الأول، ما تقول فيما رواه فلان عن فلان عن فلان عن فلان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا؟ فقال: لا أعرفه، ثم سأله عن الحديث الثاني فقال: لا أعرفه، ثم سأله عن الحديث الثالث إلى العاشر، وفي كلها يقول: لا أعرفه، ثم انتدب له الثاني من العشرة، وصنع كما صنع الأول، والإمام البخاري في ذلك كله يقول: لا أعرفه، ثم الثالث، ثم الرابع إلى العاشر، فلما تم العشرة؛ أتموا أحاديثهم التفت إلى الأول، قال: أما حديثك الأول الذي قلت فيه كذا وكذا؛ صوابه كذا وكذا، فرد المتن إلى إسناده، والإسناد إلى متنه، والثاني قلت كذا وكذا، على الترتيب الذي ألقيت عليه الأحاديث بخطئها، بقلبها، فأعادها على الصواب إلى أن أتم العشرة بالنسبة للأول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع إلى العاشر، فتمت المائة حديث على الصواب، لما كان -رحمه الله تعالى- في العرض الأول، وهو يقول: لا أعرفه، لا أعرفه، الجهال قضوا عليه بأنه لا يفهم شيئًا؛ يعني مائة حديث ما يعرف منها ولا حديث، ويقال له: محدث، والذين يفهمون ويعرفون الحديث على وجهه، وأهل الشأن من أول واحد منهم، قالوا: فهم الرجل؛ فهم يعني انتبه الرجل لما دبر له رحمه الله، وبعد أن ردها إلى صوابها، أذعنوا له، واعترفوا له بالفضل.

ومنه قلب سند لمتن
ج

في مائة لما أتى بغدادا
 

 

نحو امتحانهم إمام الفن

...................................

بغداد البلد المشهور العظيم، والألف فيه للإطلاق، ويقال: بالدال بغداد، وبالذال المعجمة وبالنون؛ بغداد بالدال المهملة، وبالذال المعجمة وبالنون، بغذان، وهذه الألف للإطلاق "فردها" -رحمه الله تعالى- رد المتون إلى أسانيدها في المائة كلها "وجود الإسنادا" وجود الإسنادا، ولم يخف عليه موضع مما قلبوه، أو ركبوه، ولم يخف عليه موضع مما قلبوه وركبوه، فأقر الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالإمامة، وأغرب من حفظه لها، يعني كونه يردها إلى الصواب؛ حفظه لخطئها مرتبة؛ على الترتيب الذي أورد عليه، وردها إلى صوابها مرتبة –أيضًا-، وهذا النوع يفعله العلماء بقصد الامتحان، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بهذه المثابة، ولا يستغرب منه أن يصنع مثل هذا.

والآن لو يطلب من مجموعة من طلاب العلم الذين حفظوا الأربعين النووية من صباهم بدون أسانيد؛ يعني بالصحابي فقط، يجعل صحابي الحديث الأول للحديث الثاني، والعكس إلى تمام الأربعين، فمن ردها يعد إمام الوقت، وأنا أعرف من يطلق عليه المحدث الفاعل التارك، وهو لا يحفظ الأربعين، بيننا وبين القوم مفاوز؛ يعني مجرد كون الإنسان عنده ميل إلى الحديث، أو رغبة في الحديث، أو يقرئ بعض كتب الحديث؛ يوصف بأنه المحدث الفاعل التارك، تجدون بعض الشباب يكتب عنهم كذا، وإذا كتبوا، أو قدموا، أو فعلوا؛ أشيد بهم ورفعوا فوق منازلهم، وهم لا زالوا في مصاف طلاب العلم، ومع ذلك لا ننكر أن من طلاب العلم من قطع شوطًا طيبًا في هذا الشأن، لكن دون وصولهم إلى مصاف الأئمة خرط القتاد.

وهذه القصة وهذا الامتحان المتعمد جوزه أهل العلم شريطة أن لا يثبت حديثًا، وأن لا يتفرق أهل المجلس إلا بعد الاطلاع على الصواب، وإذا كانت مكتوبة، والامتحان تحريري فيها لا بد أن تتلف الأوراق في مكانها؛ لئلا يطلع عليها؛ فيظن أن هذه الأسانيد صحيحة لهذه الأحاديث، فلا بد من بيان الصواب، وبيان الحق في موضعه؛ في المكان الذي يجرى فيه الامتحان، وهذه القصة امتحان أهل بغداد للإمام البخاري أنكرها بعض من ينتسب إلى التحقيق؛ لماذا؟ لأن ابن عدي يرويها في جزء له سماه شيوخ البخاري، وقال في مطلع السند: "حدثنا عدة من شيوخنا" عدة من شيوخنا، وهؤلاء الشيوخ أبهمهم ابن عدي، فهم مجاهيل، ومن يصحح مثل هذه القصة، وليست بغريبة أن يقع امتحان لمثل هذا الإمام الذي طار سيطه في الآفاق، وطبق المشارق والمغارب؛ لا يبعد أن يمتحن بمثل هذا، الذي يصحح مثل هذه القصة، الذي يصححها يقول: إن هؤلاء الشيوخ، وإن كانوا مجاهيل إلا أنهم جمع، ولا يمكن أن يقول ابن عدي عدة لواحد أو لاثنين؛ بل لجمع، وجمع المجاهيل؛ الجمع من المجاهيل يجبر بعضهم بعضًا، فعلى هذا تكون القصة ثابتة، ولا مانع من ثبوتها، المتن متن القصة ليس فيه ما ينكر؛ لأن هذا معروف، امتحان معروف، وفعله العلماء بعد هذه القصة، وفعلوه قبل هذه القصة، مسألة الامتحان معروفة.

والقسم الثاني الذي هو قسم السهو من المقلوب في السند:

قلب ما لم يقصد الرواة
ج

 

...................................

قلب ما لم يقصد الرواة؛ يعني قلبه بل وقع سهوًا، ووهمًا

نحو: ((إذا أقيمت الصلاة..))

 

...................................

نحو: ((إذا أقيمت الصلاة؛ فلا تقوموا حتى تروني)).

"حدثه" يعني حدث الحديث "في مجلس البناني" ثابت بن أسلم المعروف نسبة إلى بنانة؛ محلة بالبصرة

حدثه في مجلس البناني

 

حجاج..............................

فاعل "حدث"

...................................
ج

 

حجاج أعني ابن أبي عثمان

وعثمان هنا مصروف للوزن، حجاج بن أبي عثمان الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:

حدثه في مجلس البناني

 

حجاج أعني ابن أبي عثمان

كما قلنا: عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه –أبي قتادة- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني))، وبهذا يعلم أن السنة أن لا يقوم المأموم حتى يرى الإمام، وبعض الفقهاء كالحنابلة يرون أن القيام إنما يشرع عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، وفيه حديث مخرج عند البيهقي، وفي إسناده الحجاج ابن أرطأة، وهو مضعف؛ فالخبر ضعيف، وهذا الحديث صحيح، في الصحيحين، وغيرهما: ((إذا أقيمت الصلاة؛ فلا تقوموا حتى تروني))؛ لأنه قد يبدأ بإقامة الصلاة منذ دخول الإمام المسجد، والمسافة بعيدة حتى يصل إلى مكانه بحيث من كان في الصف الأول لا يرون الإمام إلا إذا وصل إلى المحراب، وحينئذٍ فلا يقومون حتى يروه؛ لأنه قد يطرأ للإمام.

طالب:......

حديث القيام عند "قد..."؟

طالب:......

نعم، مضعف، القيام عند "قد..." مخرج عن البيهقي، وفي إسناده الحجاج بن أرطأة مضعف؛ لأنه قد يطرأ للإمام ما يطرأ له، ثم يستمر المأموم قائمًا؛ فيشق عليه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- دخل مرة إلى المسجد فأقام بلال، فذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن عليه غسلًا، وذهب ليغتسل، ثم رجع وهم قيام، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا أقيمت الصلاة؛ فلا تقوموا حتى تروني))؛ لئلا يشق على أمته -عليه الصلاة والسلام- فيطول بهم القيام، يعرض لأحد حاجة بالإمام، فيكلمه، ويحتاج إلى أن ينتظره الناس؛ فمثل هذا ينبغي للإمام أن لا يشق على المأمومين:

حدثه في مجلس البناني

 

حجاج أعني ابن أبي عثمان

"فظنه" أي الحديث "عن ثابت" البناني "جرير" جرير بن حازم أبو النظر، فرواه عن ثابت عن أنس، "بينه حماد الضرير":

فظنه عن ثابت جرير

 

بينه حماد الضرير

فظنه أي ظن الحديث جرير بن حازم، فظنه عن ثابت حينما حدث به في مجلسه، فظنه عنه كما بين ذلك حماد بن زيد الضرير، وقال: وهم أبو النظر جرير بن حازم فيما قاله، وهم في ذلك.

هذا بالنسبة لمقلوب السند، أما مقلوب المتن فله أمثلة، له أمثلة منها: حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفيهم: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))، وهذه هي الجادة، وهذا هو الصواب، وهو المتفق عليه، وجاء في رواية في الصحيح: ((حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله))، ومعلوم أن الإنفاق والأخذ والإعطاء إنما يكون باليمين، والرواية في مسلم: ((حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله))، والحفاظ حكموا على هذه الرواية بأنها مقلوبة، وعندي أنه يمكن توجيهها على وجه تسلم به من الحكم بالقلب، ويصان الصحيح من الحكم على هذه الرواية بالضعف؛ لأن المقلوب من قسم الضعيف، ويصان الرواة الثقات من الوهم في هذا الحديث، فيقال: إن الإنسان الأصل فيه أن ينفق بيمينه، وعلى هذا جاءت رواية الأكثر، وقد يحتاج في بعض المواطن أن ينفق بشماله لا سيما، والمقام مقام إخفاء، فقد يحتاج إلى الإنفاق بشماله، في الحديث الصحيح في البخاري، وغيره: ((ما يسرني أن يكون لي مثل أحد ذهبًا؛ تأتي علي ثالثة، وعندي منه دينار إلا دينارًا أرصده لدين، حتى أقول به هكذا، وهكذا، وهكذا؛ عن يمينه، وعن شماله، ومن أمامه، ومن خلفه)) فإذا كان الشخص مكثرًا من النفقة؛ قد يعطي أكثر من واحد في آن واحد، فيحتاج إلى أن ينفق بالشمال إضافة إلى اليمين، وقد يضطر لإخفاء الصدقة أن تكون بالشمال لا باليمين؛ كأن يكون عن يمينه أناس وعن يساره سائل، فإذا أخرج الصدقة بيمينه، ثم سلمها للسائل اطلع من عن يمينه، لكنه إن أخرجها بشماله، وأعطاه إياها بشماله؛ لم يطلع عليها من بيمينه لا سيما والمقام مدح إخفاء الصدقة، وبهذا نصون الصحيح، بمثل هذا الكلام نصون الرواة الثقات من الوهم، فالمنفق يحتاج –أحيانًا- إلى أن ينفق بشماله، وفي سورة المائدة: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [(55) سورة المائدة]، وهم راكعون؛ قالوا: إن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب؛ إذ جاء سائل وهو راكع، وفي أصبعه خاتم، فمد يده إلى السائل، وهو راكع، ليأخذ الخاتم، وهذا من وضع الشيعة، ولا يثبت، وليس له إسناد يثبت به، وهذا من وضعهم، وليس المراد بقوله: وهم راكعون الحالية، أنهم ينفقون: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [(55) سورة المائدة]، حال كونهم راكعين؛ أبدًا، بل في هذه الآية مدح لمن يتصف بالإنفاق، ويؤدي الزكاة، ويتصدق على الناس، وأيضًا يحافظ على الصلوات.

من الأحاديث التي يمثل لها بالقلب في المتن: ((إن بلالًا يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)) حتى يؤذن ابن أم مكتوم، جاء في بعض الروايات العكس: ((إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال))، ومنهم من يحاول أن يجمع بين هاتين الروايتين فيقول: أن الأذان نوب؛ مرة يؤذن بلال قبل، ومرة يؤذن ابن أم مكتوم قبل، لكن الحفاظ حكموا على الرواية الثانية بالوهم والقلب، ومن أهل العلم من يقول: إن الإجابة على مثل هذه الروايات التي حكم الحفاظ عليها بالقلب يقضي على كثير من علل الحديث التي أبداها الأئمة، الأئمة إنما حكموا على هذه الأحاديث التي رأوا أنها مقلوبة؛ لماذا؟ لأنها عارضت ما هو أقوى منها، فحكموا عليها بالقلب، لكن إذا أمكن الجمع بين هذه الروايات، وحمل كل منها على وجه يصح فلا داعي للقول بالقلب، لا سيما وأن القلب ضعف في الخبر، فالجمع إذا أمكن أولى من الترجيح.

مما قيل بأنه مقلوب حديث البروك: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه)) قال ابن القيم: إنه مقلوب، وأجلب على ذلك بجميع ما أوتي من قوة بيان -رحمه الله- وأطال في تقرير ذلك، وقلده علماء كبار، ولا شك أنه أهل لأن يقلد، وإمام من أئمة المسلمين، وفهمه للنصوص يكاد أن يبلغ الكمال، لكن الكمال لله، والعصمة لرسله، ابن القيم قرر أنه مقلوب، مع أنه مصحح من قبل جمع من الحفاظ المتقدمين من الأئمة الكبار، ومرجح على حديث وائل بن حجر الذي قال فيه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، القلب الذي ادعاه ابن القيم حقيقةً من صححه من الأئمة يرد القلب، ومن رجحه على حديث وائل ينفي القلب؛ لأنه لو كان مقلوبًا لاتفقوا على ضعفه، ولا ما رجح على ما جاء ماثلًا على الجادة، فمقتضى قول من صححه إنه لا قلب فيه، إذ لو كان مقلوبًا لاقتضى ذلك أن يكون ضعيفًا، ولاقتضى أن يكون مرجوحًا.

طيب كيف يكون هذا الخبر غير مقلوب، والبعير يقدم يديه قبل ركبتيه؟ أشرنا إلى نفي هذا القلب في مناسبات كثيرة، ولا مانع من أن نشير إشارة سريعة؛ لأننا بسطناها في مواضع، وملها كثير من الإخوان.

أنا أقول: لا قلب في هذا الحديث؛ بل آخره يشهد لأوله: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير)) يعني فلا يرمي بنفسه على الأرض بقوة، كما يفعل البعير بحيث يثير الغبار، ويفرق الحصى، بل يضع يديه مجرد وضع على الأرض، فإذا وضع يديه مجرد وضع على الأرض، فإنه حينئذٍ لا يقال له أنه برك، وإذا وضع يديه على الأرض بقوة يقال برك، وفي صحيح البخاري: "فبرك عمر -رضي الله عنه- على ركبتيه بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-" يعني أنه نزل على الأرض بقوة، من هول الموقف فبرك على ركبتيه، الصورة في تقديم اليدين على الركبتين لا يمكن أن تشابه؛ لأن البعير من الأصل يديه على الأرض ما كانت يداه مرفوعتان ثم يهوي بهما إلى الأرض فلا مطابقة بين من قدم يديه على ركبتيه، وبين بروك البعير، المشابهة إنما تكون إذا هوى على الأرض بقوة فإنه حينئذٍ يشبه بروك البعير؛ لأن البعير إذا برك أثار الغبار، وفرق الحصى، فإذا أثار الغبار، وفرق الحصى؛ قلنا: برك كما يبرك البعير، ولو قدم ركبتيه على يديه بقوة، وسمع لركبتيه صوت، وبعض الناس يخلخل البلاط إذا نزل على الأرض بقوة، نقول: هذا برك مثل ما يبرك الحمار؛ لأنه يقدم ركبتيه على يديه.

ليس وجه الشبه في تقديم اليدين على الركبتين، ولا داعي أن نقول: إن ركبتي البعير في يديه، أو في غير ذلك، إنما نقول: المنهي عنه أن نشابه البعير في نزولنا على الأرض بقوة، أما إذا نزلنا على الأرض برفق وهون فلا مشابهة؛ لأن اليدين مرفوعتان فوق قبل ذلك، ويدي البعير على الأرض من الأصل، فلا مشابهة بوجه من الوجوه اللهم إلا إذا نزلنا بقوة، نكون حينئذٍ أشبهنا البعير، يقال: برك البعير، وحصحص البعير إذا أثار الغبار وفرق الحصى.

مقتضى قول من رجح تقديم اليدين على الركبتين لا بد أن يقول مثل هذا الكلام، ومن يصحح الحديث لا بد أن يقول مثل هذا الكلام، وإلا إذا قلنا: إن الحديث مقلوب كيف يصححه وهو مقلوب، الذي يرجح حديث وائل، ولحديث أبي هريرة شاهد عن ابن عمر، وبهذا رجح على حديث وائل، الذي يرجح يقول بمثل ما قلناه في تقديم اليدين على الركبتين، يقول: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، فالمنظور إليه هو مجرد الوضع، والنزول إلى الأرض برفق وهون؛ سواءٌ كان باليدين، أو بالركبتين؛ ولذا شيخ الإسلام يرى التخيير بينهما، فهو مخير إن شاء قدم يديه، وإن شاء قدم ركبتيه، المنظور إليه هو مجرد الوضع، وفرق بين الوضع وبين البروك سواءٌ كان على اليدين، أو على الركبتين، وفرق بين أن تضع المصحف على الأرض، وبين أن ترمي المصحف على الأرض، وضع المصحف على الأرض جائز ما فيه إشكال، يعني تحمل المصحف بيدك، وتريد أن تسجد مثلًا، وتضعه على الأرض، هكذا ما فيه إشكال، لكن إذا رميت المصحف على الأرض؛ هذا ما فيه إشكال؟ لا، هذا خطر عظيم، هذا استخفاف بكلام الله -جل وعلا-، فينتبه لمثل هذا، والأمثلة على ذلك كثيرة، وإمكان الإجابة عليها –أيضًا- سهل يعني.

اقرأ الذي بعده؟

تنيهات

وإن تجد متنًا ضعيف السند
ولا تضعف مطلقا بناءا
بسند مجوَّد بل يقف
بيان ضعفه فإن أطلقه
وإن ترد نقلًا لواه أو لما
فأت بتمريض كيُروى واجزم
وسهلوا في غير موضوع رووا
بيانـه في الحكـم والعقائـد

 

فقل: ضعيف أي بهذا فاقصد
على الطريق إذ لعل جاءا
ذاك على حكم إمام يصف
فالشيخ فيما بعده حققه
يشك فيه لا بإسنادهما
بنقل ما صح كقال فاعلم
مـن غير تبيين لضعف ورأوا
عـن ابن مهدي وغير واحد

هذه التنبيهات الثلاثة التي ذكرها المؤلف تبعًا للأصل ابن الصلاح، توضح بعض الأحكام المتعلقة بما مر مما حكم بضعفه، وغير ذلك.

تضعيف السند لا يقتضي تضعيف المتن، ورواية الضعيف من غير إسناد الجزم بنسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- خطأ، بل يروى عنه -عليه الصلاة والسلام- بصيغة التمريض، لا بصيغة الجزم.

ورواية الأحاديث الضعيفة غير الموضوعة لا تجوز في الأحكام والعقائد، وتجوز فيما سوى ذلك، هذه التنبيهات الثلاثة هي التي تحدث عنها الناظم تبعًا للأصل في هذا الموضع، فأحد هذه التنبيهات الثلاثة، قال -رحمه الله-: "وإن تجد متنًا" يعني حديثًا "ضعيف السند؛ فقل: ضعيف" أي قل: هذا الحديث ضعيف "أي بهذا" السند فقط "فاقصد" ذلك، فإن صرحت به فهو أولى، يعني أقصده في نفسك، فإن صرحت به فهو أولى، وأقول: لا بد من التصريح بذلك، إذا وجدت حديثًا درسته، درست إسناده الذي بين يديك، أنت تدرس أحاديث كتاب، كسنن ابن ماجه مثلًا، ومر بك حديث لما درست رجال هذا الإسناد خمسة، أو ستة؛ وجدت فيهم رجلًا ضعيفًا، فالخلاصة تقول: الحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لأن في رواته فلان، وهو مضعف، فأنت تقول: الحديث بإسناده ضعيف، وهل يعني الحكم على السند الخاص حكم على المتن بالعموم؟ لا يلزم، اللهم إلا إذا كان لا يوجد له غير هذا الإسناد، ويكون مداره على هذا الراوي الضعيف، فالحكم على هذا المتن ملازم للحكم على هذا الإسناد.

الطريقة المثلى في دراسة الأسانيد: أن تدرس السند الذي بين يديك، وتحكم عليه بما يليق به، فإن كان له ثقات وسنده متصل، فتقول: الحديث بهذا الإسناد صحيح؛ لأن رواته ثقات، وبإسناد متصل ليس فيه انقطاع، ومتنه لا شذوذ فيه، ولا علة، فالحديث بهذا الإسناد صحيح، ثم إن ورد عليك متابعات تذكرها، وتخرجها، وتدرس أسانيدها، ثم تذكر الشواهد المروية عن غير صحابي الحديث، ثم تدرسها، تدرس أسانيدها، وتبين ما فيها من علل، ثم النتيجة النهائية الحكم العام، الأول الحكم الخاص على السند الذي بين يديك، ثم الحكم العام بعد جمع الطرق من متابعات وشواهد إن كان الحديث أصله يحتاج إلى تقوية، بأن كان بإسناده الخاص ضعيف، فتحتاج إلى المتابعات والشواهد؛ ليرتقي بها إلى الحسن، أو إلى الصحيح على ما قررناه سابقًا، وأشرنا إليه من أن الضعيف، هل يرتقي درجة، أو درجتين؟ هل يمكن أن يرتقي درجة واحدة؟ هذا قول الكل أنه يرتقي، لكن هل بالإمكان أن يرقَّى درجتين، بأن صحت متابعاته وشواهده، فبدلًا من أن يقال: ضعيف، يقال: صحيح؟ أو يقال: حسن لغيره؛ لأنه لا يمكن أن يرتقي درجتين، كما هو قول الأكثر؟ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يرى أنه لا مانع من أن يرقَّى درجتين إذا كانت المتابعات والشواهد صحيحة.

وأقول: لا مانع من ذلك إذا كان شيء من هذه المتابعات، أو الشواهد في الصحيحين، أو في أحدهما؛ لأنه لا يمكن أن يقال: حديث حسن لغيره، والشاهد أو المتابع في البخاري أو في مسلم، يعني في النتيجة النهائية، فالطريقة المثلى أن يذكر الحديث بإسناده، ثم يدرس هذا الإسناد من أوله إلى آخره، من حيث التوثيق والتضعيف للرواة، ثم ينظر فيه من حيث الاتصال والانقطاع، ثم ينظر في متنه من حيث الشذوذ والعلة والمخالفة، ثم يحكم عليه بإسناده الخاص، إن كان صحيحًا، فبها ونعمت، وإن كان حسنًا –كذلك- يطلب له من الشواهد والمتابعات ما يرقيه إلى الصحيح، وإن كان ضعيفًا يطلب له من هذه الأمور من الشواهد والمتابعات ما يرقيه إلى درجة الاحتجاج، وهو الحسن لغيره، فأنت تقول: ضعيف بهذا الإسناد، ولا تحكم على الحديث بأنه ضعيف حتى تجمع طرق الحديث من المتابعات، والشواهد، فإذا جمعت جميع ما ورد به الحديث من متابعات، وشواهد، وحكمت عليه، ولك أن تحكم، وإن كنت متمرنًا، يعني في حال التمرين تحكم على الأحاديث بهذه الطريقة، ثم تعرض حكمك على أحكام العلماء، فإذا طابق حكمك ما قيل في الحديث من قِبل أهل العلم، فاحمد ربك أنك نجحت في الطريق، وإن اختلف حكمك عن حكمهم فانظر السبب، سبب الاختلاف بين حكمك وحكمهم، والمتمرن، المتدرب، ولو كان في أول الأمر له أن يفعل ذلك إلى أن يستقل بنفسه بعد كثرة الممارسة، وإدامة النظر في أحكام أهل العلم، على الطرق والقواعد المعتبرة عند أهل العلم، "ولا تضعف" يعني لا تضعفه "مطلقًا بناءً على الطريق" يعني على ضعف ذلك السند الذي درسته، أو وقفت عليه، يعني لا تقول: هذا حديث ضعيف؛ لأنه بلغك بسند فيه رجل مضعف، أو فيه انقطاع، عليك أن تقول: الحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لأن فيه كذا، إما ضعف بعض الرواة، أو انقطاع في الإسناد، أو مخالفة في المتن، تقول: بهذا الإسناد ضعيف "ولا تضعف" يعني لا تضعفه:

.................... مطلقًا بناءا

 

على الطريق إذ لعل جاءا

على ضعف الطريق الذي درسته "إذ لعل" يعني لعله يعني الحديث جاء، والألف هذه للإطلاق في الشطرين.

"بسند" يعني آخر "مجود" يثبت به بمثله، أو بمثلهما الحديث بسند آخر "مجود بل يقف" يعني يثبت بمثله، أو بالسندين معًا الخبر، بل إطلاق الحكم جوازه يقف على حكم إمام من الأئمة "بل يقف ذاك" أي الإطلاق "على حكم إمام يصف بيان ضعفه" يعني الإمام المطلع لا يمكن أن يقول: الحديث ضعيف، أو إسناده ضعيف، وله ما يتقوى به؛ لأنه لو قال: ضعيف، وهو يعرف أن له متابعًا، أو شاهدًا يصح به، أو يرتقي به عن درجة الضعف يكون غاشًّا، والمسألة مفترضة في إمام ناصح، والأئمة المعروفون، أئمة الحديث، والسنة كلهم ناصحون، بل يقف ذاك على حكم إمام من أئمة الحديث "يصف بيان ضعفه" أي المتن بأنه شاذ، أو منكر "فإن أطلقه" فإن أطلقه أي أطلق ذلك الإمام يعني الضعف، يعني لو قال: ضعيف "فالشيخ" من هو؟ ابن الصلاح، "فالشيخ" يعني ابن الصلاح "فيما بعد حققه"، وعندكم "فيما بعده حققه"، وبعض النسخ الصحيحة "فيما بعد قد حققه"، وكلاهما صحيح، والوزن مستقيم:

...................................

 

فالشيخ فيما بعد قد حققه

سيأتي في البيت رقم: مائتين واثنين وسبعين:

فإن يقل: قل بيان ما انجرح

 

كذا إذا قالوا لمتن: لم يصح

وسيأتي شرحه -إن شاء الله تعالى-، شيء يتعلق بهذا الكلام، ويوضحه -إن شاء الله تعالى-.

التوقف على إطلاق إمام، وأما غير الأئمة ليس لهم ذلك، هذا ميل من ابن الصلاح إلى ما يؤيد مذهبه في انقطاع التصحيح والتضعيف في العصور المتأخرة، وتقدم الكلام في هذه المسألة، وأن ابن الصلاح لم يوافَق على ذلك -رحمه الله-.

..................................

وإن ترد .................

 

فالشيخ فيما بعده حققه

...................................

وهذه ثانية، أو ثاني التنبيهات، ثانيهما ما تضمنه قوله: "وإن ترد نقلًا لواهٍ" يعني لمتن واهٍ ضعيف، لكنه لم يبلغ الوضع "لواهٍ أو لما يشك فيه" يعني من قِبَل أهل الحديث، أهو صحيح، أم ضعيف؟

...................................

 

يشك فيه لا بإسنادهما

"لا بإسنادهما" يعني لا بذكر إسنادهما، يعني إذا ذكرت الحديث الضعيف الذي لا يصل إلى درجة الوضع بدون إسناد ذكرت الضعيف والواهي.

أو ما يشك فيه بدون إسناد، بل بمجرد الإضافة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو إلى غيره ممن ينسب إليه، فإنك لا تجزم بنسبته، حديث ضعيف، أو تشك في ثبوته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا تذكر له إسنادًا تبرأ به عهدتك من نسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فإنك لا تجزم، ولا تقل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما ائت بصيغة تمريض "فأت بتمريض" يعني بصيغة تمريض، فيكتفى بها عن التصحيح بمعاني التصريح بالتضعيف، تقول: يُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُذكر، ذُكر، رُو.

"فأت بتمريض كيُروى" يعني ويُذكر، فلا تجزم بنقله، وإضافته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ خوفًا من الوعيد، من أن تضيف إليه، تقول عليه ما لم يقل "واجزم بنقل" بلا سند "ما صح كقال فاعلم" فاعلم ذلك فأت به بصيغة الجزم، ولا تأت به بصيغة التمريض، عكس الأول، يعني إذا رويت حديثًا بدون إسناد، فإن كان ضعيفًا تعلم ضعفه، أو تشك في صحته، فلا تجزم به، بل ائت بصيغة التمريض، فقل: يُروى عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، يُذكر عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، رُوي عنه، ذُكر عنه، أما إذا كان صحيحًا، تجزم بصحته، فلا تقل: يُروى وُيذكر، بل اجزم بنسبته، فقل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكثير من الفقهاء لا يراعي مثل هذا الاصطلاح، وفي كتب الفقه كثير مما يجزم به بنسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا، وهو ضعيف، أو العكس، قد يكون في الصحيحين، فيقولون: والدليل على ذلك ما يُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال، أو يُذكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال، وفي هذا تضييع لطالب العلم القارئ في هذه الكتب، فلا بد من مراعاة هذا الاصطلاح؛ لأن المؤلف إذا جزم بالنسبة أخذه الطالب المتعلم على جهة القبول من غير نظر فيه، وتسبب في ذلك بعمل هذا الطالب بهذا الخبر الذي لم يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن المؤلف جزم به، وإذا جاء به بصيغة التمريض، وهو صحيح جعل الطالب يزهد، ويترك العمل بهذه الحديث، وهو صحيح.

التنبيه الثالث: ما أشار إليه المؤلف الناظم -رحمه الله تعالى- بقوله: "وسهلوا" أي جوزوا التساهل "في غير موضوع رووا" يعني في رواية غير موضوع من الحديث حيث رووه بإسناده:

وسهلوا في غير موضوع رووا

 

...................................

فإذا رووه بإسناده، فإنهم يبرئون من عهدته "من غير تبيين لضعف" إن كان في الترغيب والترهيب، والفضائل، وغيرها من الأبواب التي جاء عن أئمة الحديث التساهل فيها،

...................................

بيانه ......................

 

من غير تبيين لضعف ورأوا

...................................

وعدم التساهل في ذكره إلا مقرونًا ببيان درجاته "بيانه"، "ورأوا بيانه في الحكم" يعني في الأحكام الشرعية من الحلال والحرام، لا في الفضائل، والترغيب، والترهيب "والعقائد" والعقائد أمرها أشد، كالصفات، ونحوها مما يضاف إلى الله -جل وعلا-.

ورأوا بيانه في الحكم والعقائد

 

عن ابن مهدي ...............

عبد الرحمن بن مهدي "وغير واحد" كأحمد بن حنبل، وابن معين، وابن المبارك، بل هذا قول جمهور العلماء، أنهم إذا رووا في الفضائل تساهلوا، وإذا رووا في الأحكام تشددوا، يتساهلون في رواية الأحاديث الضعيفة في الفضائل، ويقبلون الأحاديث الضعيفة غير شديدة الضعف في الفضائل، فضائل الأعمال، وأما الأحكام فلا يقبلون فيها إلا ما صح، أو حسن، ويشددون في الأحكام وفي العقائد، وأما في الفضائل والترغيب والترهيب، فيتسامحون، ويتساهلون فيها.

وهذا يجرنا إلى القول بحكم العمل بالحديث الضعيف؛ لأن عندنا أبواب الدين: العقائد، والأحكام، والفضائل، والتفسير، وإثبات قراءة من قراءات القرآن، والمغازي، والسير، هذه أبواب الدين التي يطلب الدليل لها، فالجمهور يشددون في الأحكام، والعقائد، ويتساهلون فيما عدا ذلك، يتساهلون في التفسير، وهذا مروي عن الإمام أحمد -رحمه الله-، يتساهلون في الفضائل، يتساهلون في المغازي والسير، فيقبلون فيها الضعيف، وإذا رووا في الأحكام، واستدلوا للأحكام، وطلبوا دليل للأحكام، والعقائد يشددون، وهذا مأثور عمن ذكرنا، كابن مهدي، وابن المبارك، وابن معين، والإمام أحمد، وغيرهم من لفظهم.

والنووي في مقدمة الأربعين، وفي الأذكار نقل الاتفاق على هذا القول، وأن العلماء اتفقوا على قبول الأحاديث الضعيفة في الفضائل، في فضائل الأعمال، وهذا النقل فيه تساهل، فقد وجد من يمنع كالبخاري ومسلم أيضًا، يشددون في رواية الأحاديث الضعيفة، ولا يستدلون بها، والبخاري -رحمه الله تعالى- في تراجمه من الإشارات الكثيرة في رد الأحاديث الضعيفة في جميع أبواب الدين في التراجم، أبو حاتم -رحمه الله- لا يقبل الحسن، ولا يحتج به، فكيف بالضعيف؟ أبو بكر ابن العربي يرد الضعيف، ويوصي طلابه كما في أحكام القرآن أن لا يشتغلوا من الحديث إلا بما صح، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كرر ذلك في كثير من كتبه، وأنه لا يعتمد على غير الصحيح والحسن، يعني ما يقبل من الأحاديث، فهو يرد الضعيف، والشوكاني كذلك صرح في مقدمة تفسيره أنه لا يعول على الضعيف، لا في الأحكام، ولا في إثبات التفسير لكتاب الله -جل وعلا-، ولا في شيء من أبواب الدين، والسبب في ذلك أن الظن غالب في عدم ثبوته، والصحيح والحسن الظن غالب في ثبوته، ومناط الأحكام إنما هو على غلبة الظن، وإضافة إلى أن الاشتغال بالأحاديث الضعيفة يلهي، ويشغل عن الأحاديث الصحيحة، وفيما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- غنية عن الاشتغال بالضعاف، وما دخل المبتدعة من صوفية، وغيرهم إلا من قبل الأحاديث الضعيفة، والذين يستدلون بالضعيف جرهم ذلك الاستدلال إلى أن تساهلوا فرووا الأحاديث شديدة الضعف، بل بعضهم استدل بما هو شديد الضعف الواهي، ولا شك أن مثل هذا الاسترسال غير مرضي.

الجمهور الذين يستدلون بالضعيف يشترطون له شروطًا، أن يكون في فضائل الأعمال لا في الأحكام والعقائد، وأن يكون الضعف غير شديد، فإن كان الضعف شديدًا فلا، وأن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط، لكن هذا الاحتياط –أحيانًا- يترتب عليه ترك مأمور، وأحيانًا يترتب عليه ارتكاب محظور، وإذا ترتب على الاحتياط شيء من هذا، ترك مأمور، أو فعل محظور، فالاحتياط كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ترك هذا الاحتياط.

فالمرجح أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقًا، يعني الضعيف الباقي على ضعفه، وليس له ما يشهد له، بعضهم يرى أن الحديث الضعيف تلقي بالقبول مثلًا، فيعمل به للتلقي بالقبول، وهذه جادة معروفة عند أهل العلم، بعضهم يقول: إذا كان الضعيف مندرجًا تحت أصل عام، وهذا من شروط الجمهور في قبوله، أو يندرج تحت قاعدة كلية فإنه يعمل به، وعلى كل حال هذا القول والتوسع فيه جعل كثير ممن ينتسب إلى العلم لا يعنى بالصحيحين وغيرهما، بل يعنى بأحاديث تسند وتدعم ما يذهب إليه من أقوال، فلو كان معوله على الأحاديث الصحيحة، أو على الأقل الأحاديث المقبولة من صحيحة وحسنة، ولا يتشاغل بالضعيف، لا شك أنه لن يقع في مخالفة بإذن الله -جل وعلا-، ولن يصده ذلك عن تحصيل الدين على وجهه كما أنزل، وما أوتيت الأمة في كثير من تصرفات المبتدعة إلا من قبل الأحاديث الضعيفة، ومع الأسف أن الأحاديث الضعيفة تملأ كتب التفسير، وتملأ كتب الفقه، وتجدهم يستدلون بالضعيف، فضلًا عن كتب التواريخ والأدب، والكتب غير المتخصصة، ففيها من ذلك الشيء الكثير، بل فيها بعض الموضوعات.

والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

"