شرح ألفية الحديث للحافظ العراقي (27)
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، والسامعين يا ذا الجلال والإكرام.
قال العراقي -رحمه الله تعالى-:
مراتب التعديل
والجرح والتعديل قد هذبه |
| ابن أبي حاتم إذ رتبه |
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول الناظم -رحمه الله تعالى-: "مراتب التعديل" مراتب التعديل، يعني مراتب ألفاظ التعديل، والمراد بألفاظ التعديل: هي الكلمات والجمل التي تصدر عن أهل العلم في منزلة الرواة الثقات المعدَّلين، بينما مراتب الجرح مثلها إلا أنها في حق المجروحين.
مراتب التعديل إما أن تكون ألفاظًا، وإما أن تكون جملًا يوزن بها الرواة، وينزلون بها منازلهم من الثقة والأمانة، والحفظ والضبط والإتقان، وما يضاد ذلك في الباب الثاني، هذه الألفاظ في غاية الأهمية في معرفة منازل الرواة، ومن يقبل منهم في الرواية، ومن يرد.
جمع أهل العلم بعض الألفاظ، وهي كثيرة جدًّا في كتب الرجال، ذكروا هذه الألفاظ مرتبة حسب قوتها وضعفها، ورتبوها على أربعة مراتب كما هو الشأن عند ابن أبي حاتم، وابن الصلاح، أو خمس مراتب كما هي عند الذهبي في مقدمة الميزان، والعراقي هنا في ألفيته، أو ست مراتب كما هو صنيع الحافظ ابن حجر في تقريبه، ومثله تلاميذه السخاوي، والسيوطي، ومن جاء بعدهم، هذه المراتب كل مرتبة فيها ألفاظ تناسبها، وتلاحظون التدرج، التدرج في هذه المراتب، أول ما جعلت المراتب أربع، ثم زيد فيها خامسة، ثم زيد سادسة، والمسألة اصطلاح، ولو جاء شخص، وجعلها عشرًا ما يلام على ذلك؛ لأن النظر في هذه الألفاظ وهذه الجمل حسب قوتها، وضعفها إنما يتم ويكمل إذا استطعنا جمع جميع هذه الألفاظ، والحافظ ابن حجر جمع بعض الألفاظ الزائدة، وزاد المراتب إلى ست، والسخاوي زاد عليه بعض الألفاظ، لكن المراتب عنده ست، ولو فصلت لجاءت سبعًا، وقل مثل هذا عند السيوطي، ولو تتبعت هذه الألفاظ جميعها من كتب الرجال، من التواريخ تواريخ ابن معين، وسؤالات الإمام أحمد، وتواريخ الإمام البخاري، والجرح والتعديل، والضعفاء والمجروحين، والثقات، وغيرها من الكتب، وتواريخ البلدان، وفيها أشياء كثيرة من هذا النوع؛ لكثرة عدد الألفاظ والجمل، وتبعًا لذلك تكثر المراتب؛ لأن لبعض الألفاظ من الدلالة ما ليس لغيره، لبعض الألفاظ من الدلالات ما ليس لغيره، وأنتم تلاحظون ألفاظ المدح والذم الموجودة الآن المستعملة، يُبتكر ألفاظ لم تكن موجودة، ودلالتها على المدح ظاهرة، أو دلالتها على الذم ظاهرة، ثم بعد ذلك هذه الألفاظ المبتكرة الجديدة تختلف؛ لأن بعض الناس يبالغ في المدح، وبعضهم يبالغ في الذم، وبعضهم يتوسط، وبعضهم يأت بما لم يأت به من قبله، ودلالة لفظه قد تكون أقوى من دلالة من تقدم، وتبعًا لهذه القوة، وهذا الضعف تتفاوت هذه المراتب، قد يقول قائل: ماذا للمتأخر من هذا العمل؟ هل للمتأخر أن يجتهد في مثل هذا؟ يعني هل لأحد أن يأتي فيجعل المراتب عشرًا، مراتب التعديل عشرًا، أو مراتب الجرح عشرًا؟ نقول: إذا كان ذلك تبعًا لتفاوت ما جمعه من الألفاظ، بحيث جمع من كتب الرجال ما لم يجمعه غيره له ذلك؛ لأنه قد يقف على لفظ ما ذكر في هذه المراتب الست مثلًا، يقف على لفظ لا يصلح أن يلحق بأي مرتبة من هذه المراتب، إما أن يكون أشد منها في التوثيق، أو أقل منها في التضعيف، فنحتاج إلى زيادة مرتبة، وعلى كل حال جمع الألفاظ، والجمل مطلب تمناه الحافظ ابن حجر، تمناه السخاوي، لو اعتنى بارع بتتبع هذه الألفاظ -يعني ألفاظ الجرح والتعديل-، فجمعها من كتب الرجال، بحيث لا يترك شيئًا، ثم بعد ذلك تكلم عليها لغةً واصطلاحًا، وعرف مدلولات هذه الألفاظ حسب سياقاتها، وحسب القرائن التي تدل على منزلتها ورتبها، هذا مطلب تمناه الحافظ ابن حجر، ومن بعده السخاوي، المقصود أن مثل هذا لم يتم.
وأعرف قبل عشرين سنة أن شخصًا من البارعين على شرط ابن حجر جمع كمية طيبة من الألفاظ، أظن يقرب من خمسمائة لفظ في البابين، وينوي ترتيبها، ولا أدري هل أكملها، أو لم يكملها؟ المقصود أن هذه أمنية لم تتحقق بعد، فمثل هذه الأمور قابلة للزيادة، وصُنف، أو أُلف في بعض الألفاظ النادرة، بعض الألفاظ النادرة في الجرح والتعديل أُلف فيها بعض الرسائل، المقصود أن مثل هذا الموضوع في غاية الأهمية؛ لأن فيه ألفاظًا تشكل على كثير من طلاب العلم، حتى أن بعضها أشكل على أهل العلم هل هو تعديل، أو تجريح؟ تعديل، أو تجريح يشكل؛ لأن الناس حينما يذم، أو يمدح الأحوال، والقرائن التي تحيط به، وبمن قال فيه الكلام له دور كبير في تحديد منزلة هذا اللفظ، يعني على سبيل المثال، وهذه من ألفاظ التي أشكلت على الحافظ العراقي، ومن بعده ابن حجر مدة ما قاله أبو حاتم في جبارة بن المغلس: "بين يدي عدل"، الحافظ العراقي يقول: مدح، هذه في ألفاظ التعديل، وينطقها: "بين يديَّ عدل" الحافظ ابن حجر أوجس من هذه الكلمة خيفة، يعني ظاهرها التعديل، لكنه أوجس منها خيفة باعتبار أن هذا الرجل الذي قيلت فيه ليس بعدل، ولا ثقة، ضعيف، فكيف أبو حاتم مع شدته يقول في جبارة بن المغلس: بين يديَّ عدل، أنا أجيب مثل هذا المثال؛ لكي ندلل أن هذا الموضوع ليس بالسهل، وأنه لم يتم تتبعه، واستقراؤه استقراءً تامًّا، وأن الطلب مازال ملحًا، والأمنية مهمة لكنها لم تتحقق بعد، قد يقول قائل: هل معنى هذا أن السنة ما حررت، ولا نقحت، ولا عرف رجالها؟ لا، السنة محفوظة ولله الحمد، محفوظة، والصحيح مصحح مفروغ منه، والضعيف مضعف، ما عاد في إشكال، لكن كون المسألة تتم من جميع جوانبها هذا أفضل، وإلا ما يحتاج إليه من السنة محفوظ، ولله الحمد.
الحافظ ابن حجر أوجس خيفة من هذا اللفظ الذي رأى شيخه أنه يدل على تعديل "بين يديَّ عدل" يدل على التعديل.
يقول ابن حجر: فوقفت في إصلاح المنطق لابن السكيت، وأدب الكاتب لابن قتيبة أن العدل اسم شخص، بين يدي عدل، عدل اسم شخص، عدل بن جزء بن سعد العشيرة، هذا عدل، وكان على شرطة تبَّع، فإذا أراد تبع أن يقتل أحدًا سلمه للعدل هذا، ماذا يمكن أن يقال في هذا الرجل الذي سلم إلى هذا رئيس الشرطة من أجل أن يقتل؟ هل هذا لإكرامه، أو لإهلاكه؟ فإذا قيل: "بين يدي عدل" فمعناه أنه هالك؛ لأنه يراد قتله؛ ولذا قالوا: "بين يدي عدل" هذا مَثَل قديم يطلق على الهالك، ثم إن ابن حجر وقف على قصة لأبي عيسى ابن هارون الرشيد مع القائد طاهر، طاهر كان أعورَ، وكان يأكل على مائدة مع أبي عيسى ابن هارون الرشيد، في عهد المأمون، وعلى المائدة أخذ أبو عيسى هندبات، إما من الدباء، أو من الكوسة، أو من أي نوع من هذه البقول، أخذ شيئًا فضرب به عين طاهر السليمة، ضرب به عينه السليمة، الأخرى لا تبصر، فضرب السليمة، فشكاه إلى المأمون، وقال له: إن أبا عيسى ضرب عيني بالهندبات، والأخرى "بين يدي عدل"، فقال المأمون: إنه يفعل معي أكثر من ذلك، ماذا يفيد هذا الكلام؟ إنه أطلق "بين يدي عدل" على العين التالفة التي لا تبصر، فدل على أنه مدح، وإلا ذم؟ ذم، ومثل هذا لا بد أن ينتبه له، يعني بعض الألفاظ قد يقرأها القارئ، ويظنها تعديلاً، وهي في الواقع تجريح، وهذا يدلنا على أن هذا العلم متين بجميع فروعه، وأن الإحاطة به دونها خرط القتاد، يعني كون الإنسان يريد أن يكون محدثًا لا يقلد أحدًا، هذا إمكانه من إمكان الإحاطة بالعلم كله، والله -جل وعلا- يقول: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} [(85) سورة الإسراء]، فلا يمكن الإحاطة بالعلم من كل وجه، وما نقص علم موسى والخضر إلا كما نقص العصفور -بالنسبة لعلم الله- إلا كما نقص العصفور من البحر، فالعلم بعض الناس يأتي إلى العلم بشره، ويريد أن يأخذ العلم كله في وقت قصير، ومثل هذا يتعب نفسه، وقد لا يحصل شيئًا.
لو قيل لشخص، أو قيل عن شخص: إنه مجتهد اجتهادًا مطلقًا، يعني هل يتصور اجتهادًا مطلقًا من كل وجه، نعم؟
طالب: صعب.
ما يمكن؛ لأنه إن اجتهد في توثيق كل راوٍ بعينه، خلونا نبدأ من الدرجة الأولى، كل الرواة يريد أن يكون له رأي في كل راوٍ من الرواة، هذه مرتبة درجة أولى من مراتب الاجتهاد، من أجل ماذا؟ أن يكون له حكم في كل حديثٍ من الأحاديث، كم عدد الرواة؟ وهل يستطيع أن يجتهد في كل راوٍ راو من الرواة؟ ما يمكن، لا بد أن يقف عند بعض الرواة الذين لا يتحرر له القول في حكمه، ثم إذا جمع من الرواة، لو تصورنا خمسين ألف راوٍ، وجمع جميع ما قيل فيهم، ووازن بين هذه الأقوال على ضوء الضوابط التي وضعها أهل العلم، ثم خرج بالنتيجة التي يستقل بها، لا يُقلد فيها أحد في هؤلاء الرواة كلهم، ثم المرحلة الثانية جاء إلى الأحاديث بأسانيدها، ونزل حكم كل راوٍ ممن اجتهد فيهم على هذه الأسانيد، ونظر فيها النظر الثاني، وهو الاتصال والانقطاع، ونظر في المتون من حيث المخالفة، والموافقة، والشذوذ، والنكارة، والإعلال، في كل حديث حديث، ثم خرج برأي يستقل به في جميع الأحاديث، هذا على سبيل التنزل، وإلا هذا يمكن، وإلا غير ممكن؟ لا يمكن؛ لأنه لو افترضنا كتابًا واحدًا، سنن البيهقي، يمسك سنن البيهقي بمتونه، وأسانيده، ويتكلم على كل جزئيه برأيه المستقل الذي لا يقلد فيه أحدًا، هذا ما يكفيه عمره، فنزلنا هذه الأقوال التي استقل بها، وأداه إليه اجتهاده لقوله المستقل في كل راو من الرواة، ثم نزل هؤلاء الرواة على هذه الأحاديث، وخرج بنتائج يستقل بها في أحكامه على جميع الأحاديث، هذا إذا تصورنا إمكان الإحاطة، ثم يعود إلى هذه الأحاديث مرة ثانية ليتفقه فيها، ويستنبط منها، ويستخرج أحكامًا لم يسبق إليها، أو سبق إليها، ووافق، أو خالف، لا يعني أن يخالف إذا كان مجتهدًا، لا يلزمه المخالفة، قد يوافق وهو مجتهد، لا يقال: إنه إذا وافق حكمه حكم غيره صار مقلدًا له، وقد نظر على جهة الاستقلال في الحديث، ثم وافق غيره، هذا ليس بمقلد، كم يحتاج من العمر إلى أن يدرس –مثلًا- خمسين ألف حديث بهذه الطريقة؟ لأن بعض الناس ينادي بالاجتهاد المطلق، وأن تقليد الرجال مذموم، ولا تقلد في أي باب من أبواب الدين، هذا ليس بصحيح، حتى شيخ الإسلام -رحمه الله- مع إحاطته بالعلوم، والفنون، وأقوال من تقدم من المحدثين، والفقهاء، والمفسرين، وغيرهم من أصحاب المقالات، والمذاهب كثيرا ًما يفتي بقول غيره، نعم هو لا يقلد التقليد المذموم بحيث يأخذ قول غيره من غير نظر في دليله، لكن قد يضيق عليه الوقت، ويحتاج إلى أن ينظر نظرًا عاجلًا لا يعني أنه اجتهد فيه الاجتهاد الذي يطلبه أهل العلم في هذه المسائل، فالاجتهاد المطلق دونه خرط القتاد؛ لأنه إن اجتهد في استنباط المسائل، ولا قلد الأئمة في أقوالهم في الأحكام؛ لا بد أن يقلد في الوسائل، وسائل الإثبات، وتجدون كبار الأئمة الذين وصفوا بالاجتهاد تجد معولهم في الرجال على أئمة الحديث الذين تكلموا في الرجال، وتجد معولهم في أحكامهم على الأحاديث على الأئمة الذين تكلموا في الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، لكن يكفي طالب العلم أن ينبذ التقليد المذموم الذي هو قبول قول الغير من غير نظر في دليله، عليك أن تنظر في دليله، أفتى الشيخ فلان، في حكم كذا، ما تقول: أخذ به؛ لأن فلان ثقة عندي، وأنت طالب علم تستطيع أن تصل إلى القول الصحيح بدليله، يعني تعارض عندك قول للشيخ الألباني، أو الشيخ ابن باز مع الشيخ ابن عثيمين، أو فلان، أو علان، وكل واحد من هؤلاء يذكر الحكم بدليله، هؤلاء يذكرون الأحكام بأدلتها، فأنت لا تنظر إلى الأشخاص أنفسهم، انظر إلى أدلتهم، واتبع الدليل، ودُر مع الدليل، وإذا فعلت ذلك؛ فأنت متبع لا مقلد، وهذا اجتهاد جزئي، وإلا فالأصل أن تنظر أنت بنفسك من غير فلان أو علان، تنظر في الأحكام بنفسك، وتنظر في أدلتها، والموازنة بين الأدلة في المسألة المثبتة، والنافية على ضوء القواعد التي حررها أهل العلم، وعلى كل حال الاجتهاد..، الشروط التي يضعها أهل العلم للاجتهاد، إن نظرنا إلى معنى الاجتهاد المطلق، ما معنى الاجتهاد؟ أنك لا تقبل قول أحد، إنما أنت الذي تنظر في المسائل بأدلتها، وتوازن بينها، وقبل ذلك تنظر في هذه الأدلة من حيث الثبوت، وعدمه، وقبل ذلك تنظر في رواة هذه الأدلة من حيث التوثيق والتضعيف، هذا كله مطلوب لطالب العلم، وينبغي أن يبدأ به من وقته، ولا يلزم أن يحيط إحاطة بالعلم كله، عندك حديث اجتهد في أن تنظر في سنده، ومتنه، وتصحح، وتضعف هذه مرحلة، ثم بعد ذلك انظر فيما يستنبط من هذا الحديث إذا ثبت عندك، وإن ثبت عندك ضعفه؛ فإن استدل به أحد على مسألة ما تبين له أنه ضعيف، وهكذا يجتمع العلم شيئًا، فشيئًا إلى أن تكون من أهله الذين هم على الجادة، على اتباع الدليل من غير تقليد، فالتقليد مذموم، لكن لا يتصور أن الإنسان في يوم من الأيام يبغي يصل إلى أن يحيط بكل شيء: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} [(85) سورة الإسراء]، نعم؟
طالب:......
نعم، لابد من التقليد؛ لأن مثل هذا العلم لا بد فيه من التقليد، لكنه تقليد مع نظر، ما هو بتقليد من غير نظر في دليله، يعني أنت إذا نظرت في أحكامهم على الرجال، قال أحمد: ثقة، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال فلان، وفلان، أنت إذا نظرت بين هذه الأقوال أنت لا يمكن أن تأتي بقول غير هذه الأقوال إلا أن يكون نتيجةً لهذه الأقوال، يعني معتمد على هذه الأقوال، وإلا فمن أين لك؟ هم عاصروا الرواة، عاصروهم، وعايشوهم؛ لأنهم في زمن الرواية، وحكموا على كل راوٍ بما يليق به بالنظر إلى ذاته، وبالنظر إلى مرويه، ومعارضته، ومقابلته على روايات الثقات، فأنت لا يمكن أن تأتي، لو وجدت راوٍ ما تكلموا فيه، ماذا تريد أن تقول؟ توجد له حكمًا؟ من أين تأتي بحكم؟ مستحيل، لكن هم ذكروا في الراوي ابن لهيعة فيه ثلاثة عشر قولاً مثلًا، أو خمسة عشر قولاً، أنت بإمكانك أن تأتي بخلاصة لهذه الأقوال على ضوء ما درست من قواعد، وقد توفَّق، وقد لا توفَّق، وقد يتبين لك في وقت، وتستروح إلى أن هذا القول هو الراجح قول فلان من هؤلاء الأئمة، وقد يترجح لك في وقت آخر أنه مرجوح، وهكذا حصل، يعني لو نظرت في أحكام ابن حجر في فتح الباري، وأحكامه في التقريب، وجدت فرقًا، وجدت أنه قد يحكم على الراوي في الفتح بحكم، وفي التقريب بحكم، لكن قد يكون حكمه عليه في التقريب حكمًا عامًّا على جميع مروياته، وحكمه عليه في الفتح؛ لأنه جاء في سند معين، وقد يحكم على الراوي بالنسبة لحديث، أو ضبطه، وأتقنه، ويحكم عليه بالنسبة على جهة العموم بحكم ثان، فمثلًا ابن لهيعة الذي ذكرنا اسمه في فتح الباري ضعفه ابن حجر في مواضع، وقال عنه في موضع: أخرجه، حديث فيه ابن لهيعة قال: أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن، وفيه ابن لهيعة، وضعفه في مواضع، وقال في التقريب: صدوق ربما وهم، المقصود أن الأحكام تأتي على هذه الكيفية، الإحاطة والتصور، والاستحضار باستمرار هذا ليس في مقدور كل أحد، قال في عبيد الله بن الأخنس في فتح الباري: ثقة، وهو من رواة البخاري، ثقة، وشذ ابن حبان فقال: يخطئ، وقال عنه في التقريب: صدوق، وقال ابن حبان: يخطئ كثيرًا، يعني اعتمد قول ابن حبان، وهناك قال: شذ ابن حبان، لماذا؟ لأنه ينظر في هذا الموضع إلى روايته في الصحيح، وفي التقريب يحكم عليه حكمًا إجماليًّا بحيث يحكم على أحاديثه التي هي خارج الصحيح، فلا بد من هذه الأنظار أن الإنسان يستحضر هذه الأمور، لا بد من استحضارها أثناء أحكامه على الرواة، وعلى الأحاديث؛ ولذلك تجدون بعض الشباب -يعني في مرحلة الطلب- يتصدى لكتاب يجبن عنه الكبار، ثم بعد ذلك ينظر في أحاديثه، وأسانيدها، ويجزم، ويحكم، ويضعف، ويصحح، ويوهم، هذه جرأة، فطالب العلم ينبغي أن يكون مع حرصه على هذا الاجتهاد أن يكون على الجادة، لا يحمله هذا الاجتهاد على الجرأة التي قد يخطِّئ فيها الأئمة، أو يجرؤ فيصحح ما ضعفه الأئمة، أو يضعف ما صححه الأئمة، فالإنسان لا يستقل بأمره من أول الأمر، لا بد أن ينظر في الأسانيد والمتون، يعني مع قراءته لعلوم الحديث يطبق، ويزيد شيئًا فشيئًا، وينظر في أحكام الأئمة، ومواقع استعمالهم في ألفاظهم للرواة، وللأحاديث، ثم تتكون لديه الأهلية، والله المستعان.
في مقدمة الألفية التي كتبناها، أظنها معكم الألفية الطبعة هذه، في المقدمة قلت: "ولكثرة ما صنف في هذا العلم من كتب مطولة، ومختصرة، منظومة، ومنثورة من قبل المتقدمين، والمتأخرين، والمعاصرين كثرة تجعل طالب العلم المبتدئ يحتار في اختيار ما يدرسه من كتب هذا الفن؛ فكثر سؤال طلاب العلم عن الترتيب، والتدرج في دراسة هذه الكتب، كغيره من الفنون الذي صنف العلماء كتبها، ملاحظين مستويات الطلاب حيث جعلوهم على طبقات، وجعلوا لكل طبقة ما يناسبها من المؤلفات، وكنت أنصح الطلاب المبتدئين بالبداءة بكتاب (نخبة الفكر) للحافظ ابن حجر؛ لأنه متن متين شامل مختصر حاوٍ لكثير مما يحتاجه الطالب في هذه المرحلة، على أن يقرأه على أحد الشيوخ المتقنين الذين يحسنون التعامل مع الطلاب في هذه السن، ويقرؤوا ما كتب عليها من شروح وحواش، ويسمعوا ما سجل عليها من دروس، ويكثر في هذه المرحلة مع ذلك من حفظ المتون المجردة كالأربعين، والعمدة، والبلوغ، وغيرها، ولا مانع أن يتمرن فيبدأ بتخريج بعض الأحاديث تخريجًا مختصرًا تحت نظر، وإشراف أستاذ متمكن يوجهه، ويسدده، ثم يرتقي بعد ذلك إلى ما يناسب الطبقة الثانية، والكتاب المرشح عندي هو كتاب (اختصار علوم الحديث) للحافظ ابن كثير، ويصنع فيه نظير ما صنع في النخبة بقراءة الشروح والحواشي، وسماع الأشرطة، والسؤال عما يشكل، وفي هذه المرحلة يبدأ بحفظ المتون بأسانيدها، ويحرص على حفظ السلاسل المشهورة التي يروى بواسطتها كثير من الأحاديث، ومع ذلك يستمر في التخريج، ويكثر منه، وينظر في الأسانيد من خلال كتب الرجال المختصرة، كالتقريب، والكاشف، والخلاصة، ونحوها، ويعرض عمله على شيخ معروف من شيوخ الفن، ويكون عمله من تخريج، ودراسة، للتمرين لا للنشر، كما يفعله بعض الطلاب الذين تعجلوا النتائج، ثم ندموا على ذلك، ثم يرتقي الطالب إلى المرحلة التي تليها، والكتاب المرشح عندي لهذه الطبقة هو (ألفية العراقي) الشهيرة التي نظم فيها الحافظ العراقي (علوم الحديث) لابن الصلاح، وزاد عليه ما يحتاجه طالب العلم مما أغفله ابن الصلاح، وهذه الألفية كتب الله لها القبول؛ فلا تكاد تقرأ ترجمة عالم بعد تأليفها إلا وتجد في ترجمته، ومن بين محفوظاته، ومقروءاته (ألفية العراقي) لإمامة مؤلفها، وجودت نظمها، وما حوته، واشتملت عليه مما يحتاجه طالب العلم، ولا أرى ما يدعو إلى تفصيل القول والحديث عن أهميتها، ومزاياها.. إلى آخره"، "فإذا أتقن الطالب النخبة، واختصار الحافظ ابن كثير لعلوم الحديث، ثم سمت همته إلى ألفية العراقي، وحفظ منها ما يحتاج إليه إن قصرت همته عن حفظ جميعها، وقرأ شروحها بدءًا من شرح الناظم، ثم شرح الشيخ زكريا الأنصاري، وهو على اختصاره فيه فوائد ولطائف تفرد بها، ثم ختم بشرح السخاوي (فتح المغيث) الذي يستحق أن يسمى موسوعة المصطلح مع إكثاره" يعني مع إكثار الطالب "في هذه المرحلة من حفظ الأحاديث بأسانيدها، وتخريج الأحاديث، ودراسة أسانيدها بمراجعة كتب الرجال التي تعنى بنقل لأقوال الأئمة في الرواة جرحًا وتعديلًا، ولا ينسى مع ذلك مراجعة كتب المصطلح الأخرى، كـ(تدريب الراوي)، (وتوضيح الأفكار) للصنعاني، وغيرها، ومع ذلك يعنى بقراءة، ودراسة ما يكتبه العلماء المهتمون بنقل أقوال الأئمة الذين عليهم المعول في هذا الشأن، ككتب ابن رجب، وأيضًا كتب ابن عبد البر -رحمه الله-، وكتب العلل، فإذا سار على هذا المنهج، وأكثر من الحفظ للمتون، والأسانيد، والسؤال عما يشكل مخلصًا في ذلك كله لله -عز وجل-؛ صارت لديه الأهلية -بإذن الله تعالى- للمشاركة في هذا العلم العظيم.
ومع كثرة الممارسة والنظر في كتب الأئمة، ومحاكاتهم في أحكامهم، والنظر في دقائق علومهم يتأهل للحكم بالقرائن على طريقة المتقدمين التي ينادي بها بعض الغيورين على هذا العلم، إذا تقرر هذا.. إلى آخره".
فهذه طريقة لدراسة هذا الفن أعتقد أنها مفيدة، وكل فن من فنون المعرفة بحاجة إلى مثل هذه المقدمة، يعني كل فن يكتب له ما يناسبه من مثل هذه المقدمة، كيفية طلب هذا الفن، والنية موجودة أنا نكتب لجميع الفنون بهذه الطريقة -إن شاء الله تعالى-، يعني بطلب من بعض المشايخ الكبار، قالوا: لو كتب للعلوم كلها بهذه الطريقة يستفيد الطلاب -إن شاء الله تعالى-.
يقول الناظم -رحمه الله تعالى-:
والجرح والتعديل قد هذبه |
| ................................... |
"الجرح والتعديل" المنقسمان إلى: أعلى، ووسط، وأدنى، إلى مراتب متفاوتة: الضعيفة، والقوية "قد هذبه" أي نقاه، وصفاه، معتمدًا على أقوال الأئمة في الرواة، الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي "إذ رتبه" في مقدمة "الجرح والتعديل" صفحة (37) من المقدمة، فأجاد، وأحسن -رحمه الله-، يعني قبل ابن أبي حاتم المراتب ما هي موجودة، مع أن ابن أبي حاتم في أوائل الرابع، المراتب غير موجودة، إذن كيف يوازن الأئمة المتقدمون بين الرواة، هم ليسوا بحاجة إلى هذه المراتب؛ لأنها محفوظة لديهم، معروفة، الألفاظ معروفة، والكلام في الرواة معروف؛ فليسوا بحاجة إلى هذه المراتب، إنما هذه المراتب احتيج إليها لما انطوى عصر الرواية الذي يحد بالثلاثمائة، والرواة يكاد يكون الكلام فيهم استقر؛ لأنه قد يقول قائل مثلًا: كتب النحو، أو كتب أصول الفقه كلها حادثة ما يوجد في عصر السلف منها، كتب علوم الحديث، يعني أول كتاب أُلف في علوم الحديث على جهة الاستقلال: "المحدث الفاصل"، وهذا متأخر يعني في القرن الرابع، فهل معنى هذا أن هذا محدث لا يوجد في أصل السلف؟ نقول: لا، الحاجة دعت إلى الكتابة فيه، وكان قواعد محفوظة في الصدور عند أهل العلم، يعني كغيره من العلوم، كانت القواعد محفوظة، يعني في أول الأمر ما يحتاجون لكتب عربية، هم عرب أقحاح، ثم لما اختلطوا بالناس، ورأوا أن الحاجة داعية إلى التصنيف في العربية ما قصروا ألفوا، ورأوا الناس بحاجة إلى أن يكتب لهم في مبادئ العلوم، وفي علوم الآلة التي يحتاج إليها، كتبوا ما قصروا؛ لأنه قد يقول قائل: ابن أبي حاتم سنة ثلاثمائة، وزيادة، وهل علم الحديث ضائع قبل أن يكتب ابن أبي حاتم ما كتب؟ لا، لكن الحاجة دعت في عصره إلى أن يكتب فكتب "والشيخ" يعني ابن الصلاح "زاد" عليه، زاد عليه في الألفاظ لا في المراتب، عند ابن أبي حاتم المراتب أربع، التعديل أربع، والجرح أربع، ابن الصلاح أبقاها كما هي، أربع، وأربع، لكنه زاد ألفاظًا، ما زاد مراتب "والشيخ زاد فيهما" يعني في الجرح، والتعديل ألفاظًا من كلام الأئمة "فيهما وزدت"، يقول الحافظ العراقي: "وزدت" يعني أنا عليهما:
................................... |
| ما في كلام أهله وجدت |
ما في كلام من أئمة أهله يعني أئمة الحديث وجدت من الألفاظ في ذلك، ثم بدأ في مراتب التعديل.
فأرفع "فأرفع التعديل" يعني أرفع مراتب التعديل ما أتى عنده هنا "ما كررته" يعني:
.................................... |
| كثقة ثبت ولو أعدته |
فقلت: ثقة ثقة، هذا بالنسبة له، هذه هي المرتبة الأولى عند الناظم، وعند الذهبي، ما كرر فيه لفظ التعديل:
................................... |
| كثقة ثبت ولو أعدته |
يعني قلت: ثقة ثقة، أو ثبت ثبت، هذه المرتبة هي الأولى عنده؛ لأن المراتب خمس، وهي مما زادها على ابن أبي حاتم، وابن الصلاح، هي المزيدة، المزيدة عند ابن حجر، ومن يقول بقوله، مرتبة قبل هذه لتكون المراتب ست، ما أتى بأفعل التفضيل: أوثق الناس، أصدق الناس، ما جاء بأفعل التفضيل، وفي حكمها إليه المنتهى في التثبت، هذا ما زاده الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها، وأما التقريب فجعل المرتبة الأولى للصحابة، المرتبة الأولى من مراتب التعديل الصحبة، يعني إذا أثبت الصحبة فمجرد هذا اللفظ أفضل من: إليه المنتهى في التثبت؛ لأن الصحابة كلهم عدول لا يبحث عن عدالتهم.
فأرفع التعديل ما كررته |
| كثقة ثبت ولو أعدته |
هذه المرتبة الأولى عند الناظم، وهي الثانية عند ابن حجر، ثم يليه ما هو المرتبة الأولى عند ابن أبي حاتم، وابن الصلاح، والثانية عند الناظم، والذهبي والثالثة عند ابن حجر.
ثم يليه ثقة أو ثبت أو |
| ................................... |
يعني بمفرد:
................................... |
| متقن أو حجة أو إذا عزوا |
نسبوا يعني الأئمة "الحفظ أو ضبطًا لعدل" الحفظ، أو ضبطًا لعدل، إذا قالوا: عدل حافظ، أو عدل ضابط، هل هذا من هذه المرتبة، أو التي قبلها؟ من المكرر، أو من غير المكرر؟ إذا قالوا: عدل حافظ، أو عدل ضابط؛ مكرر، أو غير مكرر؟ نعم؟ غير مكرر؛ لأننا إذا قلنا: عدل ضابط يساوي ثقة، لفظ واحد؛ لأن الثقة هو العدل الضابط،
................................... الحفظ أو ضبطًا لعدل ويلي |
| .................. أو إذا عزوا ................................... |
هذه المرتبة، وهي الثانية عند ابن أبي حاتم، وابن الصلاح، الثالثة عند الناظم، والرابعة عند ابن حجر، ويلي هذه المرتبة "ليس به بأس" أو لا بأس به "صدوق وصل" وصل بكسر اللام مما لم يذكره ابن الصلاح "بذاك" أي بما ذكر في هذه المرتبة التي هي الرابعة عند ابن حجر "مأمونًا خيارًا وتلا" هذه المرتبة خامسة وهي "محله الصدق رووا عنه" محله الصدق يعني هذه عند الناظم، وعند الذهبي "رووا عنه إلى" أو يعني أو "إلى الصدق ما هو" يعني ببعيد "إلى الصدق ما هو" ببعيد "كذا شيخ وسط أو وسط فحسب" أي بدون شيخ "أو شيخ فقط" أي بدون وسط.
وصالح الحديث أو مقارِبه |
| ................................... |
هذه إن شئت أن تفتح الراء، أو تكسرها على أن تفعل بالثانية عكس ما فعلت بالأولى:
وصالح الحديث أو مقارَبه |
| جيده حسنه مقارِبه |
يعني وكذا صالح الحديث يلحق بهذه المرتبة، وهذه عند ابن أبي حاتم، وابن الصلاح الرابعة، وهي الخامسة عند الناظم، بتردد، والسادسة عند ابن حجر:
وصالح الحديث أو مقارِبه |
| ................................... |
أي الحديث بكسر الراء، يعني يقارب حديثه حديث غيره، يقاربه أي يقارب حديثه حديث غيره،
................................... |
| جيده حسنه مقاربه |
يعني جيد الحديث، إذا قال: فلان جيد الحديث، قيل: فلان حسن الحديث مقاربه، بفتح الراء أي يقارب حديثه حديث غيره، الأولى اسم فاعل، يعني حديثه يقارب حديث الناس، والثانية اسم مفعول أي حديث الناس يقارب حديثه.
صويلح صدوق إن شاء الله |
| ................................... |
يعني أو صويلح، أو صدوق -إن شاء الله-،
................................... |
| أرجو بأن ليس به بأس عراه |
أو أرجو بأن لا بأس به، ليس به بأس، وعراه أي غشيه، هذه هي المراتب، والحكم في أهلها أنه مما قبل صدوق، ما قبل صدوق يعني المراتب الأربع عند ابن حجر، هذه يحتج بأهلها ابتداءً، ولا يحتاج فيهم إلى من يشهد له، ما دون مرتبة صدوق يكتب حديثهم للاعتبار؛ فيحتاجون إلى متابع، وأما صدوق ففيه الخلاف الذي أشرنا إليه سابقًا، فابن أبي حاتم يرى أن الصدوق لا يحتج به، وهو ينقل ذلك عن أبيه، هو رأي أبي حاتم أن الصدوق لا يحتج به، سئل عن فلان؟ قال: صدوق، قيل: أتحتج به؟ قال: لا، وما ذلكم إلا لأن صدوق لا تشعر بشريطة الضبط، وهذا ما يرجحه السخاوي، صدوق لا تشعر بشريطة الضبط، فما أدري أنه في هذا الدرس فصلناها، أو في غيره، أظن في درس ابن ماجه، أذكر أنه ذكرناها، نعم؟
طالب:......
كيف؟
طالب:......
طيب، نحتاج إلى التفصيل في صدوق؟
طالب:......
نعم؟
طالب:......
صدوق ذكرنا أن أبا حاتم، وابن أبي حاتم، والسخاوي قالوا: صدوق لا يحتج به؛ لأنه لا يشعر بشريطة الضبط، كيف لا يشعر بشريطة الضبط، وصدوق فعول صيغة مبالغة؟، قالوا: نعم، ولو كان فيه مبالغة ما يشعر بشريطة الضبط، وأنا أوردت مثالًا يؤيد كلامهم، وقلت: إنه في يوم مناسبة، إما عيد، أو عزاء، أو شيء من هذا مما يكثر فيه الوارد على شخص ما، فيطرق الباب، فيقول لولده: انظر من في الباب، فيأتيه فيقول: فلان، فيقول: ائذن له، ثم يكون الكلام مطابق للواقع، ثم يأتي يطرق ثانية، وثالثة، وعاشرة، ومائة، ومائتين، وفي كل مرة يقول: افتح، وانظر من، ويأتي يقول، يأتيه فيقول له: فلان بالباب، يكون كلامه مطابقًا، يعني إذا صدق في يوم مائة مرة؛ يستحق أن يوصف بأنه صدوق، يعني مبالغة لكن من الغد، سأله أبوه قال: من جاءنا بالأمس؟ فيعد من المائة واحد، اثنين، ثلاثة عشرة، وينسى الباقي، هذا ضابط، وإلا غير ضابط، نعم؟ غير ضابط، شريطة الضبط متخلفة، يعني الصدق نعم موجود صادق، ما خالف الواقع، ولا وقع الخطأ في كلامه، لكن الضبط غير ضابط، هذه حجة من يرى أن الصدوق لا يحتج به استقلالًا، بل لا بد له من متابع، وشاهد يشهد له.
أما حجة من يرى الاحتجاج به استقلالًا، وأنه يحتج به، وإن لم يكن في منزلة الثقة حجته يقول: إن عدول أهل العلم من صادق إلى صدوق، التي هي صيغة مبالغة ليس من فراغ، ولا عبث، هم ما عدلوا إلى صيغة المبالغة إلا لأن الكذب لا يقع في كلامه، لا الكذب المتعمد، ولا الكذب غير المتعمد الذي هو الخطأ، فملازمته للصدق، ومطابقة كلامه للواقع في غالب أحواله يدل على أنه عنده ضبط، إذ لو لم يكن عنده ضبط لوقع الخطأ في كلامه، ولما استحق الوصف بصيغة المبالغة، ظاهر، وإلا ليس بظاهر؟ نعم؟
طالب:......
أقول: عدولهم من صادق إلى صدوق يدل على أن الخطأ والكذب لا يقع في كلامه، فمادام الخطأ والكذب لا يقع في كلامه، كلامه مطابق للواقع كما تدل عليه صيغة المبالغة، والعدول من صادق إلى صدوق، فيكون حينئذٍ كلامه مطابقًا للواقع، فلا يقع الكذب في كلامه مما يخالف الواقع لا عمدًا، ولا سهوًا، وبهذا يكون ضابطًا، وبهذا يحتج من يقول: إنه يُحتج به، يحتج به.
وابن حجر في كتابه "التقريب" -وهو يرى الاحتجاج بالصدوق- كيَّف حال الراوي على هذا التصور، الحافظ ابن حجر قد يأتي بلفظ يعطيه الراوي لم يُسبق إليه، يعني ابتدعه، أو عرف عن الراوي ما لم يعرفه الغير، لا، هو أخذ من أقوال أهل العلم، ونزل هذا الراوي هذه المنزلة، واستحضر أن الصدوق يحتج به، فمن يُحتج به ممن دون الثقة، وفوق الضعيف أعطاه هذا اللفظ صدوق؛ لأنه قبل حكمه، قبل حديثه، حكم عليه بقبول الروايات، يعني لو تنظر في ترجمة راوٍ قيل فيه: صدوق، ما تجد في كلام الأئمة التي تزيد على العشرة –أحيانًا- كلمة صدوق، من أين جاء بها ابن حجر؟ من نظره في مجموع أقوالهم، وفي مرويات هذا الرجل أن مرويات هذا الرجل في دائرة القبول إلا أنها ليست في القبول في الدرجة العليا، ولا تنزل عن درجة القبول، وهو يحتج بالصدوق، إذن يوضع في هذه المرتبة، فهو كيَّف الرواة، ما كيَّف الألفاظ، كيَّف الرواة على هذا اللفظ، مستصحبًا الحكم الأصلي الذي استقر عنده، ظاهر أم لا؟ لأنك تجد مثلًا في كتابه مئات قيل فيهم صدوق، وترجع إلى تراجمهم ما تجد أهل العلم قالوا فيه صدوق، وابن حجر متأخر ما عاصر الرواة، من أين جاء بهذه الأحكام؟ ابتكرها من عنده؟ لا، هو نظر في الألفاظ التي قيلت في هذا الرجل التي بواسطة هذه الأقوال المجموعة، ومن خلال قواعد الجرح والتعديل؛ رأى أن منزلة هذا الراوي..، لو افترضنا أن الرواة رقم: واحد، اثنين، ثلاثة، رقم واحد ثقة، رقم اثنين حسن الحديث، ورقم الثلاثة ضعيف الحديث، فرأى أن هذا الراوي يقبل حديثه لكن مثله ليس مثل قبول الثقات الضابطين المتقنين، لا، ولا يرد حديثه، يعني هو في دائرة القبول، إذن يتوسط في أمره، وكذلك إذا اختلف أهل العلم في راوٍ من الرواة، ولم يستطع الناظر الترجيح بين هذه الأقوال، منهم من يوثقه، ومنهم من يضعفه، تبغي راجح من هذا ما تستطيع، إذن أعطه المرتبة المتوسطة وهي صدوق، كما إذا اختلفوا في حديث، وأنت من أهل النظر، اختلفوا في حديث بعضهم صححه، وبعضهم ضعفه، ولم تستطع الترجيح إذن تعطه المرتبة الوسط الذي هو الحسن.
................................... بذاك مأمونًا خيارًا وتلا |
| ...................... وصل ................................... |
وهي محله:
................................... الصدق ما هو كذا شيخ وسط |
| محله الصدق ورووا عنه إلى ................................... |
يعني من يقبل صدوق، وصدوق أرفع من "محله الصدق، ورووا عنه" وشيخ وسط، أو وسط، أو شيخ فقط، هذه دون صدوق.
"وصالح الحديث"
صالح الحديث أو مقارِبه |
| جيده حسنه مقارَبه |
يجعلون هذه المراتب ملحقة بالصدوق، وإن كانت دونها، فهذه كلها تحتاج إلى متابع عند من يرد الصدوق، ويقبل حديثه، ويكون من قبيل الحسن عند من يقبل الصدوق.
صويلح صدوق إن شاء الله وابن معين قال: من أقول: لا |
| أرجو بأن ليس به بأس عراه بأس به فثقة ونقلا |
الإمام يحيى بن معين سوى بين ثقة، ولا بأس به، مع أن لا بأس به من مرتبة متأخرة، من المرتبة الرابعة عند ابن حجر، نعم، مثل صدوق، وثقة في المرتبة التي قبلها من الثالثة، وسوى بينهما ابن معين يقول:
وابن معين قال: من أقول: لا |
| بأس به فثقة ............... |
هذا اصطلاح خاص، فإذا جاءنا في سند من قال فيه ابن معين: لا بأس به، يعني ثقة، ومن أقول فيه: ضعيف، فليس بثقة "ونقلا" مما يؤيد أن ثقة أرفع من "لا بأس به"، عند الأئمة قاطبة أن ثقة أرفع من "لا بأس به"، لكن ابن معين يسوي بينهما.
"ونقلا أن ابن مهدي" الإمام عبد الرحمن بن مهدي لما روى عن أبي خلدة خالد بن دينار التميمي، سُئل عنه "أجاب من سأل" وهو عمرو بن علي الفلاس "أثقةً كان أبو خلدة؟" روى عنه، فقيل له: أثقة كان أبو خلدة؟ أجابه بقوله: "بل"
كان صدوقًا خيِّرًا مأمونًا |
| ................................... |
يعني صدوق، أروي عنه، وهو صدوق، خيِّرًا مأمونًا، يعني وكان خيرًا، وروي خيارًا، وكان مأمونًا –أيضًا-.
................................... |
| الثقة الثوري لو تعونا |
لما قيل له: أكان أبو خلدة ثقة؟ قال: لا، أبو خلدة صدوق، خيَّر، مأمون، لكن الثقة شعبة، وسفيان، فدل على أن الثقة عنده أرفع من لا بأس به، وأرفع –أيضًا- من صدوق، وأرفع من مأمون، وخيِّر.
................................... |
| الثقة الثوري لو تعونا |
أي: لو كنتم تعون، يعني تفهمون مراتب الرواة، ومواقع الاستعمال؛ ما سألتم عن ذلك "وربما وصف" يعني ابن مهدي –أيضًا- "ذا الصدق" أي: الصدوق الذي "وُسِم ضعفًا" يعني الذي قيل فيه صدوق ربما وهم، أو سيء الحفظ "ضعفًا بصالح الحديث" المنحط عن مرتبة "ليس به بأس"، "إذ يَسِم" أي حين يعلم على الرواة بما تتميز به مراتبهم "وربما وصف" يعني ابن مهدي "ذا الصدق وُسِم ضعفًا" يعني أضيف إلى كلمة "صدوق" ما ينزله، لو قيل: صدوق؛ ربما وهم، صدوق له أوهام، قد يسِمُه بأنه صالح الحديث، يعني وهذه المرتبة منحطة عن الوصف بأنه "لا بأس به" أو "صدوق" من غير وصف آخر، نعم.
مراتب التجريح
وأسوأ التجريح كذاب يضع |
| يكذب وضاع ودجال وضع |
بعد أن أنهى الكلام على مراتب التعديل أردفها مراتب التجريح، وهي كسابقتها عند ابن أبي حاتم، وابن الصلاح أربع، وخمس عند الذهبي والعراقي، وست عند ابن حجر في التقريب، وكذلك السخاوي والسيوطي.
قال -رحمه الله-:
وأسوأ التجريح كذاب يضع |
| ................................... |
كذاب بصيغة المبالغة، يضع الحديث، "يكذب، وضاع" يعني إذا قيل في الراوي: كذاب، أو يضع الحديث، أو يكذب، أو وضاع، أو قيل فيه: "دجال" أو "وضع" ولو قيل: وضع حديثًا، هذه هي المرتبة الأولى عند الناظم، وكلها تدل على أن الراوي يضع الحديث، ويكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، وما يرويه فهو موضوع، أي: مكذوب، وقبل هذه المرتبة عند ابن حجر ما جاء بـ "أفعل" التفضيل كالسابقة، كمرتبة التعديل "أكذب الناس"، "إليه المنتهى في الكذب"، "وبعدها" أي بعد هذه المرتبة ثانية عنده، أي عند الناظم، وثالثة بالنسبة لترتيب ابن حجر:
وبعدها متهم بالكذب |
| ................................... |
إذا قيل: فلان متهم بالكذب، أو بالوضع، وفلان "ساقط"، وفلان "هالك فاجتنب" يعني الرواية عنه، وفلان "ذاهب"، أو فلان ذاهب الحديث، أو فلان "متروك"، أو متروك الحديث، أو تركوه "أو فيه نظر"، وفلان "سكتوا عنه"، أو "به لا يعتبر" عند أهل الحديث، وفلان "ليس بالثقة"، أو غير ثقة، أو غير مأمون، ثم مرتبة رابعة عند ابن حجر، وهي عنده ثالثة "رُدَّا" البناء للمفعول، والألف للإطلاق "حديثُه"، أو ردوا حديثه، أو مردود الحديث، و"كذا" فلان "ضعيف جدًّا"، "واهٍ" إذا قالوا: فلان "واهٍ بمرة" أي جزمًا؛ لأنه تردد، وفلان "همُ" يعني المحدثين، هم يعني المحدثين "قد طرحوا حديثه"، وفلان "ارم به مطَّرح" يعني أو مطرح، أو، فمثل هذا لا يكتب حديثه؛ لأنه مطَّرح.
ليس بشيء لا يساوي شيئًا |
| ................................... |
يعني ما ذكر إلى هذا الحد، يعني ما ذكر من المراتب إلى نهاية هذا الشطر، هؤلاء وجودهم مثل عدهم، يعني لا يكتب حديثهم لا لاختبار، ولا لاعتبار، ولا لشيء، فضلًا عن الاستشهاد، أو الاعتضاد، فضلًا عن الاحتجاج، هؤلاء وجود أحاديثهم مثل عدمها.
ثم بعد ذلك:
................................... بمنكر الحديث أو مضطربه |
| ثم ضعيف وكذا إن جيئا ................................... |
"وكذا إن جيئا" في وصف الراوي بأنه منكر الحديث، أو حديثه منكر، أو له ما يُنكر، أو له مناكير، "أو مضطربه" أي الحديث، أو "واه"، وفلان "ضعفوه" أو "لا يحتج به"، هذه المرتبة يعني ثم ضعيف، وتكون خامسة عند ابن حجر، وهي رابعة عند الناظم "وبعدها" وهي السادسة عند ابن حجر، والخامسة عند الناظم:
وبعدها فيه مقال ضعف |
| ................................... |
"فيه مقال" أو أدنى مقال "ضُعِّف" بالتشديد مبني للمفعول، وفلان "فيه ضعف"، أو في حديثه ضعف، أو فلان "تنكر" منه مرة "وتعرف" منه مرة أخرى؛ لكونه –أحيانًا- يأتي بما يعرف، و-أحيانًا- يأتي بما ينكر.
"ليس بذاك" يعني فلان ليس بذاك، يعني ليس بذاك القوي، أو ليس "بالمتين"، أو ليس "بالقوي"، الأولى: ليس بذاك القوي، أو ليس بذاك، أو ليس بالمتين، أو ليس بالقوي، أو ليس "بحجة"، أو ليس "بعمدة"، أو ليس بأمون، أو ليس "بالمرضي"، ليس بالمرضي، فمثل هذا لا يحتج به استقلالًا، وإنما يكتب حديثه للاعتبار، وكذا إذا قالوا: فلان مجهول، أو فيه جهالة، أو "للضعف ما هو" يعني ما هو ببعيد، أو "فيه خلف" يعني فيه خلاف، أو "طعنوا فيه"، أو مطعون فيه، "كذا سيء حفظ لين" يعني لين الحديث، أو فيه لين، "تكلموا فيه"، أو سكتوا عنه، هذه الألفاظ أخف من الألفاظ التي قبل:
ليس بشيء لا يساوي شيئًا |
| ثم ضعيف ................. |
إلى آخره، هذه تختلف حكمها عما قبلها، المراتب التي قبلها، التي هي الأربع عند ابن حجر لا يلتفت إليها، ولا يكتب حديثهم، لا للاحتجاج، ولا للاستشهاد، ولا للاعتبار، ولا للاختبار.
أما من بعد ذا شيئًا فإنه كما قال الناظم:
................ وكل من ذكر |
| من بعد شيئًا بحديثه اعتبر |
يعني أن الحكم في هذه المراتب الأربع الأولى لا يحتج بأحد منهم، ولا يستشهد به، ولا يعتبر به، ولا يكتب حديثه "وكل من ذكر من بعد شيئًا" يعني من قوله: "لا يساوي شيئًا" "بحديثه اعتبر"؛ لإشعاريه بصلاحية المتصف بمضمونها لذلك، يعني من اتصف بمضمونها ضعيف ينجبر، لكن ضعيف جدًّا لا ينجبر، معروف عند أهل العلم ترقية الأحاديث بالطرق، بالشواهد، بالمتابعات، فمنها ما يقبل الانجبار، ومنها ما لا يقبل الانجبار، فما كان ضعفه شديدًا هذا لا يقبل الانجبار، وما كان ضعفه ليس بشديد، فإنه يجبر بعضه ببعض، وترتقي إلى مرتبة الحسن لغيره، وذكرنا فيما تقدم أن الترقية هل يمكن أن تكون بدرجة واحدة فقط -كما هو قول الأكثر-؟ أو بدرجتين؟ بمعنى أن الضعيف القابل للانجبار إذا وجد له طرق تشده، وترقيه؛ هل نقول: إنه حسن لغيره؟ لأنها هي المرتبة التي تلي الضعيف، فنكون رقيناه درجة واحدة، أو يرقى درجتين حسب قوة هذه الشواهد، وهذه المتابعات، وهذه الطرق، ابن كثير يرى أنه لا مانع أن يقال: صحيح، إذا كان له من الطرق ما يرقيه إلى درجة الصحيح، لا سيما أننا وجدنا طريقًا رقاه إلى الحسن لغيره، وإن وجدنا طريقًا حسنًا لغيره، أو طريقًا حسنًا مع هذا الحسن لغيره، بعد ذلك رقيناه إلى صحيح لغيره، وقد نجد الشاهد، أو المتابع في الصحيح في أحد الصحيحين في صحيح البخاري، أو مسلم، وهنا لا ينبغي التردد في أنه يقال فيه: صحيح.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يعني ضاق الوقت على مسألة العنعنة، وإلا كنا نود أن نأخذ بعض المسائل المتعلقة بها، لكن مادام ضاق الوقت، والمسألة فيها كتب، ونحيل الإخوان على كتاب "السَّنَن الأبْيَن، والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن" في كلام طيب جدًّا في هذه المسألة.
"الكتابة ما هي بواضحة، ليعرف الكاتب أن لنا جدولًا فيه سبعة دروس في الأسبوع على مدار العام، إلا في الإجازات نتفرغ للدورات، فيه سبعة دروس، ويتخلل الأسابيع محاضرات، ولقاءات في مناطق متعددة، لكن كأن السائل يريد أن نبدأ بكتاب كتاب، يريد أن تكون هذه السبعة الدروس في كتاب واحد؛ لينتهي خلال سنة، أو سنتين، ثم يشرع في كتاب ثان، هذه لا شك أنها طريقة مجدية ونافعة، ومجربة عند كثير من المشايخ، وقطعوا شوطًا كبيرًا، يعني خلال عشرين سنة أنجزوا عشرة كتب، عشرين كتابًا من الكتب الطويلة، بينما طريقة التشتيت والتفتيت التي موجودة الآن في جداول عامة المشايخ قد يمكث في كتاب خمس عشرة سنة ما انتهى، تفسير القرطبي الآن لنا أربعة عشر سنة ما انتهى، وكتب كثيرة بهذه الطريقة، لكن كيف نصنع بالكتب التي أنجزنا النصف، والتي أنجزنا الثلثين، والتي أنجزنا الثلث، وما أشبه ذلك؟ هل نقول: خلاص توقف هذه الكتب، ونشرع في التدريس من جديد كتابًا كتابًا؟ هل هذا مناسب، ويوقف الكتب التي أمضينا فيها ما أمضينا من العمر، وتابَعَنا فيها من تابع من الطلاب؟ حتى أنه يوجد بعض الطلاب الذين يحضرون القرطبي منذ أربعة عشر عامًا إلى الآن، ماذا يصنع بهؤلاء لو وقف التفسير، وقلنا: نشرع من أول يوم في الدراسة بتفسير خاص، وخلال سنتين درس يومي في التفسير، وخلال سنتين ينتهي القرآن؟ ثم بعد ذلك نبدأ بالبخاري، وخلال سنتين ينتهي البخاري، هذه طريقة ما في شك أنها مشجعة، والطالب المغترب الذي جاء إلى الرياض للدراسة في أربع سنوات يكفيه أن يحمل كتابين كاملين، ولو ما درس غير هذين الكتابين، بدلًا من أن يقرأ، أو يحضر دروس نتف من هذا الكتاب، ونتف من هذا الكتاب، ومن أول هذا الكتاب، ومن أثناء هذا الكتاب، ومن آخر هذا الكتاب.
أنا أقول: الموازنة لا بد منها، لكن ما عذرنا أمام الإخوان الذين يحضرون من سنين متطاولة، هل يرضون أننا نلغي الجدول ونبدأ من جديد؟ يعني بدأنا بمثل هذه الطريقة بداءة جزئية، ولا أفلحنا، بدأنا بالموطأ، ألغينا البخاري، وقلنا: نبدأ بالموطأ؛ لأنه يعني ينتهي بسرعة، والآن نبغي نكمل ثلاث سنوات ما انتهى الموطأ، يعني أخذنا الثلثين فقط، فالمسألة تحتاج إلى إعادة نظر، والاقتراح الذي يذكره الأخ إن كان مراده أننا نلغي الجدول إلغاءً تامًّا، ونبدأ بالكتب كتابًا كتابًا، ولا ندخل معه غيره، لكن قد ينتهي بعض الطلاب، وهو ما سمع متنًا في فن آخر، والإلحاح كثير على الإكثار من الكتب، يعني واحد يطلب كتاب التوحيد، وواحد يطلب السفارينية، وواحد يطلب كتابًا في أصول الفقه، وثاني يطلب في كتاب في كذا في النحو، طلبات كثيرة، وكون الطالب يسمع من سائر العلوم، ولو كانت كتب غير كاملة هذا له وجه، والله المستعان، والوفاء برغبات الناس كلهم أمر متعذر.
ذكرنا في مناسبات كثيرة أن طريقة المشارقة أنهم لا يجعلون للقرآن وقتًا مستقلًا، وإنما يتعلمونه مع بقية العلوم، فتجد الطالب في بداية الطلب يحفظ المفصل مثلًا، مع كتب المبتدئين، كتب الطبقة الأولى، ثم يترقى إلى حفظ قدر ثان من القرآن، مع كتب الطبقة الثانية، ثم هكذا يترقى، وأما طريقة المغاربة فهم يخصصون أول الوقت لحفظ القرآن، ولا يدخلون معه غيره، يتفرغون لحفظ القرآن ولا يتعلمون من العلم شيئًا حتى إذا ضمنوا حفظ القرآن تعلموا العلوم الأخرى، ولا شك أن مثل هذا يضمن للطالب حفظ القرآن، يضمن له حفظ القرآن، والحفظ في الصغر لا شك أنه أضمن، وأبقى، أبقى في الذاكرة، فالمسألة مثل ما سمعنا، المغاربة يقولون: تبدأ بحفظ القرآن قبل أن تدخل عليه شيئًا من العلوم، والمشارقة يحفظون القرآن تدريجيًا مع العلوم الأخرى؛ ولذا تجدون في المشارقة من لا يحفظ القرآن؛ لأنه تساهل في حفظ القرآن من أول الأمر، ثم كثرت عليه العلوم، وتزاحمت عليه المشاغل، ثم لم يستطع أن يتم حفظ القرآن، بينما المغاربة كما ذكر ذلك ابن خلدون عنهم أنهم يضمون حفظ القرآن، ثم يبدءون بالعلوم الأخرى، فإذا حصل نقص، أو انشغال يكون على حساب العلوم الأخرى، لا على حساب القرآن؛ لأن الإنسان ما يضمن المستقبل، وما يعرض له من الشواغل والصوارف، قد يبتلى بأمر لا يستطيع معه متابعة التعلم، فيكون حينئذٍ ضمن حفظ القرآن، فعلى طالب العلم أن يحرص عليه قبل كل شيء، وإذا كان ممن تقدمت به السن، والآن في المرحلة الجامعية، ووقت الطلب يفوت، وهناك دروس يمكن أن لا تعوض في المستقبل، فيحرص على حضورها، ويخصص لحفظ القرآن وقتًا، يخصص لحفظ القرآن وقتًا كافيًا، ولو خصص له ما بعد صلاة الصبح إلى انتشار الشمس هذا يكفيه، بسنة واحدة ينهي القرآن، ومع ذلك يحضر الدروس في آخر النهار، ويحافظ عليها، ويكون قد جمع بين الطريقتين.
والله هذه أمور لا بد من التنبيه عليها، ولو وضع فيها محاضرة مستقلة، ومع أنه يوجد -ولله الحمد- في آداب طالب العلم أشرطة كثيرة.
أنا عندي من هذه الكتب شيء كثير من مؤلفات المعاصرين، عندي شيء كثير، لكنني لا وقت عندي بحيث أطالعها، إنما أكتفي بكتب المتقدمين، وما فيه –والله- وقت، وإلا قد يكون بعض الكتب متعوبًا عليها، وفيها فوائد قد تقرِّب علوم المتقدمين.
لهم علينا الدعاء، أن الله -جل وعلا- يكشف عنهم ما أصابهم، وأن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته.
لا، ضمان الربح لا يجوز، وإنما مثل هذه الشركة خاضعة للربح والخسارة.
الكتب وحدها لا تكفي، بل لا بد من المثول بين يدي الشيوخ، لا بد من أن يجلس على شيخ يتعلم من طريقته، وهديه، وسمته، ويتعلم كيفية تصرفه مع النصوص، ثم بعد ذلك يستقل بالقراءة.
كل شيء مضبوط عند أهل العلم، وأخطاء وأوهام بعض الصحابة وما رد به بعضهم على بعض مضبوط، ومتقن -ولله الحمد-، ومحرر، والإجابة للزركشي فيما استدركته عائشة على الصحابة يعطينا شيئًا من هذا، وفي كتب السنة من المبثوث والمنثور في ثناياها ما يدلنا على أن هذا الصحابي ضبط هذا الحديث، أو أخطأ فيه، كحديث ابن عباس في زواج النبي -عليه الصلاة والسلام- من ميمونة، وهو حلال، يعني ما ضبطه.
لا شك أن التفسير ما أعطي حقه ولا نصيبه، ولا علوم القرآن ولا القراءات، الناس همتهم في الغالب إلى الأحكام العملية، وهذه في الفقه والحديث، ومنهم من يتجه إلى دراسة العقيدة، وهذا كله طيب، ولا ينكر على شخص أن يعنى بالعقيدة، أو بالسنة، أو بالفقه، أو غيرها من العلوم، لكن العناية بكتاب الله -جل وعلا- ينبغي أن تكون أكثر، والتفسير لا شك أنه مهضوم مظلوم، يعني إن وجد دروس في التفسير ففي قراءة، قراءة في كتاب، وتعليق عليه، أما تفسير بمعنى كلمة تفسير ينشئه العالم كما ينشئ شرحًا لمتن من المتون، هذا قَلّ أن يوجد، والناس بأمس الحاجة إليه، فعلى من يستطيع ذلك أن يهتم به.
يقوم بعض الأخوة بالاتصال بي في أوقات غير مناسبة على الجوال، أو الهاتف الثابت سواءٌ في العمل، أو المنزل، فهل عدم الجواب فيه شيء عليَّ، وأنا أعلم أنه قد يكون لهم مصالح في الاتصال؟ وأحيانًا أكون مع أهلي وأولادي، ومنشغل معهم في المنزل، فهل أرد درءًا للشبهات، وظنهم بي عدم الاهتمام بهم، وعدم الرد عليهم؟
على كل حال الأصل أن ترد؛ لئلا يظن بك، ومن أجل أن تقضي حاجة المحتاج، لكن إذا كنت مشغولًا، فأمرك أهم من أمر غيرك، وهذا على حسب الشغل، وحسب الفراغ، واتصل مرة شخص في الساعة الواحدة والنصف، يعني ما هو مناسب الوقت، فرفع السماعة واحد من الأولاد، وقال له: يا أخي أنت تدري كم الساعة؟ قال: اسمع ظرفي واحكم، أنا طلقت الزوجة، وهي الآن في الطلق، يعني احتمال بعد ربع ساعة تخرج من العدة، فلا أستطيع مراجعاتها، فهل لي مراجعة، وإلا ما لي مراجعة؟ يعني ظروف الناس تتفاوت، وتختلف، يعني لو ترك هذا إلى الصبح خلاص فاتت زوجته، إذا ولدت خرجت من العدة، فهذا معذور.
من آذى طبعًا قُتل شرعًا، إذا كان يؤذي نعم.
على كل حال اختصار علوم ابن الصلاح للحافظ ابن كثير أتى بمقاصده، وفي الألفية ما لا يوجد في علوم الحديث، ثانيًا، وفي علوم الحديث أشياء مكررة تقبل الاختصار.
ثانيًا: بالنسبة لحفظ الأسانيد والمتون لا شك أن هذا هو الأفضل، ولكن لا يلزم محدِّث أن يحدث من حفظه، وهناك كثير من المحدثين الأعلام باعترافهم بأنفسهم أنهم ما حفظوا شيئًا.
كيف يكونون محدثين أعلامًا، وهم ما حفظوا، قد يحفظون، ويحدثون من الكتب، التحديث من كتاب معروف، ولا شك أن مثل هذا أضبط.
ويقول: حتى اعترفوا بأنفسهم أنهم ما حفظوا شيئًا، حتى ما حفظوا القرآن الكريم.
على كل حال هناك ما يسمى بحفظ الكتاب، ولا شك أن حفظ الصدر أولى، وهو الأصل، إن لم يتيسر، فحفظ الكتاب، وبعض الناس يمتاز بالفهم، وفي حفظه ضعف، وبعض الناس يمتاز بالحفظ، وفي فهمه ضعف، وذكرنا عن الجلالين المحلي، والسيوطي، وقلنا: إن المحلي قيل في ترجمته: إن ذهنه وفهمه يثقب الماس، يعني عنده فهم دقيق جدًّا، وحفظه ضعيف جدًّا، فمثل هذا إذا شرح من كتاب يفيد، لكن إذا شرح من حفظه خلَّط، فهذا لا بد أن يعتمد على كتاب، وهناك الضبط الذي يسمى ضبط الكتاب، وبعض الناس -ما شاء الله- أوتي حفظًا قويًّا لكن فهمه أقل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وقل أن يجمع الله لنوادر من الناس بين الأمرين، تجد أنه لا بد أن يكون شيء على حساب شيء، ونظير ذلك أننا نوصي الطلاب بالحفظ كثيرًا، وبمراجعة الشروح كثيرًا، الحفظ ليكون لديه مخزون يحل معه حيثما حل، ومراجعة الشروح تولد لديه ملكة لفهم السنة، لكن كل واحد على حساب الثاني، إن انشغل بالحفظ ما تمكن من مداومة النظر في الشروح، إن أدام النظر في الشروح، وكل كتاب يحتاج إلى سنة، أو سنتين صار على حساب الحفظ، كل شيء له ضريبة، فإما أن يهتم بهذا، أو بهذا، أو يسدد ويقارب فيحفظ ما يحتاج إلى حفظه، ويراجع ما يحتاج مراجعته، فمثل هذا الذي يقول: إن بعضهم الذي لا يحفظ القرآن من أهل الحديث نادر جدًّا، ونبهوا عليه في ترجمة ابن أبي شيبة لا يحفظ القرآن، فكونهم ما نبهوا إلا على هذا الحافظ الإمام في السنة يدل على أن من عداه يحفظ.
الشيخ الألباني -رحمة الله عليه- في مجموع جمع له من علم الشيخ الألباني في مجلد كبير، جمعه شخص مصري، فلان بن فلان الشيخ، نعم ذكر أن الشيخ قدم لصلاة الصبح في يوم الجمعة، فقال: أردت أن أقرأ سورة السجدة، ما أسعفتني، ما استطعت، فقرأت من الكهف، فلما وقفت على رأس آية سجدوا، يظنون أنها سورة السجدة، وهذا يأتي به أن الناس يربون أحيانًا على الغفلة، وهو مجرد التقليد من غير نظر فيما يُقرأ، فكون الشيخ يعني قدم لصلاة الفجر يوم الجمعة، وما أسعفه حفظ سورة السجدة، لا يعني أن الشيخ معصوم، ويحفظ كل شيء، ويعرف كل شيء، الشيخ يعني يكفيه أنه خلال ستين سنة لا نظير له في علم السنة، ولو قيل: إنه هو المجدد في هذا العلم، بل لا منازع في كونه هو المجدد لهذا الفن، لا منازع لكونه هو المجدد، لكن لا يعني أنه معصوم، يحفظ كل شيء، بل لو يقال: إن من طلاب العلم من هو أقوى منه حافظة ما هو ببعيد، يعني الآن يشتغلون في زوائد المستدرك، والبيهقي؛ هل يقال: إن الألباني، أو حتى الشيخ ابن باز، أو غيره يحفظون هذه الكتب؟ ما يظن بهم هذا، لكن يكفيهم أنهم أئمة، عملوا على الجادة، وربوا طلابًا، وخدموا العلم -لا سيما علم السنة-، ولا يفترض في الإنسان أنه إمام في كل باب، أما قوله: "إن هذا كثير في المحدثين" ليس بكثير، والحفظ هو العلم.
ومثلوا لمن علمه محفوظ، أو علمه مكتوب بمن زاده التمر، أو زاده البر، من زاده التمر متى ما أراد يأخذ من هذا التمر ويأكل، ما يحتاج إلى أن يقف، وهو سائر في طريقه، وينصب القدر على الأثافي، ويوجد النار، ويجهز الطعام، لا، ما يحتاج، يأخذ، ويأكل من الإناء إذا كان زاده تمرًا، هذا الحفظ، لكن إن كان زاده البر؛ ماذا يصنع؟ يحتاج إلى تنقية، وقبل ذلك يحتاج إلى زراعة، ثم بعد ذلك تخليص من الشوائب، ثم بعد ذلك طحن، ثم بعد ذلك عجن، ثم بعد ذلك نار يوقد عليها، ثم بعد ذلك..، يعني مراحل، وهذا مثل من علمه في الكتب، يحتاج إلى أن يذهب إلى المكتبة، ويحتاج إلى أن يبحث عن المظنة، ويحتاج إلى أن يقلب في هذه المظنة، يحتاج إلى أن ينظر في أكثر من مظنة، ثم يستخرج المسألة، فهذه تحتاج إلى معاناة، ولا شك أن الحفظ لمن وفقه الله إليه من أول الأمر؛ لأن بعض الناس عنده حافظة لكن ما وجد من يدله على الطريق، يعني بعض الناس في الدراسة النظامية تجده الأول على دفعته، وعنده حافظة قوية، لكن ما وجد من يدله، ثم إذا تخرج من الجامعة، وأراد أن يطلب العلم من أبوابه، وجد أنه أمضى من عمره ثلاثًا وعشرين سنة ما حفظ شيئًا إلا هذه المقررات، فإما أن يتابع من بعد منزلته التي حصل، وهي الجامعة, ويقول: أنا خلاص، أنا طالب علم منته، خريج جامعة، وترتيبه الأول، وقد يكون بعد واصل الدراسة، وصار دكتورًا، وقد يصل إلى دكتور، وهو يعيش أو يموج في صحراء ما وصل إلى الطريق، وهذا ملاحظ، لكن من الناس من وفق بمدرس من المتوسط، يعني من طلاب المعهد عندهم مدرس، حريص على الطلاب، ويدلهم على الطريقة، ويحفظهم متون الطبقة الأولى، ثم يعلمهم كيف يرجعون، وكيف يحضرون دروس فلان، أو فلان.. إلى أن يسلكوا الطريق، هؤلاء لا يلبثون –بإذن الله- إلا سنوات يسيرة إلا أن يكونوا علماء.
يعني مثل ما جاء في جنان البيوت، لا، هذا لا يصح فيه شيء.
هذا يسأل يقول: نحن مجموعة نعمل في منطقة تبعد عن محل إقامتنا مائتين وخمسين كيلو، نمكث في عملنا من صبيحة يوم الأحد حتى مساء يوم الخميس، نرجع إلى محل إقامتنا الأصلية، هذه حالنا كل أسبوع، ولا ندري متى ينتهي عملنا ونرجع إلى منطقتنا، علمًا بأننا مقيمين في مسكن صحي خاص بالعمل، وبه جميع وسائل الراحة من مأكل، ومشرب، ومنام، سؤالي هل نقصر الصلاة في فترة إقامتنا؟
أما في مقامهم، وبلدهم الذين هم ينسبون إليه، وهم مقيمون فيه، فهم لا يجوز لهم أن يجمعوا، ولا أن يقصروا، ولا يترخصوا برخص السفر، الذي يرجعون إليه في نهاية كل أسبوع؛ لأنه هو بلد الإقامة بالنسبة لهم، ولا يمكن أن يسموا لا شرعًا، ولا عرفًا بأنهم مسافرون في هذا البلد الذي هو محل إقامتهم.
وأما بالنسبة لمحل العمل الذي يقيمون فيه أكثر من أربعة أيام، ويسمعون فيه النداء، ويسكنون في مسكن على ما ذكروا مريح، وصحي، المقصود أنهم يمكثون فيه أكثر من أربعة أيام، هذا حكمهم حكم الإقامة عند أكثر أهل العلم، وإذا سمعوا النداء لزمهم الإجابة، فلا يجوز لهم أن يجمعوا، ولا أن يقصروا الصلاة، لا في محل إقامتهم، ولا في محل عملهم.
نقول: مثل هذا أجره على الله، وقد دل هؤلاء على هذا إن كان فيه فائدة، سواءٌ كان من دروسنا، أو دروس غيرنا، فالذي يدل على الهدى له مثل أجر فاعله، والله -جل وعلا- يدخل في السهم الواحد -كما جاء في الحديث الصحيح- ثلاثة، فكل على خير، فهذا الذي ينقل هذه الدروس، سواءٌ كانت دروسنا، أو غيرها من دروس أهل العلم مما فيه نفع أجره على الله، وله أجره الكامل -إن شاء الله-، وهذا أمر معروف ومقرر، كمن رتب لهذه الدورة، وأعان عليها، وهيأ الأسباب لقيامها، أو غيرها من دورات المشايخ، لا شك أنه شريك في الأجر.
غير واضح الكلام. الأمة تلقت كتاب البخاري وكتاب مسلم بالقبول، حتى أفتى بعض العلماء بأن لو أن رجلًا طلق امرأته أن ما في الصحيحين صحيح فإن امرأته لا تبين منه ولا تطلق، وتلقاهم بلا شك، تلقتهما الأمة بالقبول، وهناك أحرف يسيرة تكلم عليها بعض الحفاظ، كالدارقطني وغيره، لكن الصواب في الغالب مع الشيخين، وأما العصمة فلرسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
الذي ينشأ يعيش في بلاد الكفار يصير كافرًا، لا، هذا ليس بصحيح، قد يعيش المسلم من يولد إلى أن يموت في بلاد الكفار، ولا يستطيع الهجرة، ويعذر في ذلك، ويعيش مسلمًا، ويموت مسلمًا، وإن استطاع الهجرة، ولم يهاجر أثم، وهو مسلم.
ومن ينشأ في بلاد المسلمين يصبح مسلمًا، إن كان كافرًا مجرد عيشه في بلاد المسلمين، ولم يرد الله له الهداية لا يصير مسلمًا، فهذا الكلام ليس بصحيح لا طردًا، ولا عكسًا.
الإسماعيلية بدعتهم مغلظة، فلا يجوز الزواج منهم.
يقول: وهل لمن أفتى بجوازه وجه بحيث أنه قد وجد من الفضلاء من أفتى بذلك، وقال: إن من يؤمن برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- خير ممن لا يؤمن بها، وقد أباح الله الزواج من أهل الكتاب، وهم لا يؤمنون بها، والإسماعيلية يؤمنون بها؟
زواج الكتابية بالنص، وزواج المشركة بالنص تحريمه، وسواءً مشرك شركًا أصليًّا، أو عن ردّة، وارتكاب مكفر، والله المستعان.
على كل حال قد يوجد في عوامهم كما يقول شيخ الإسلام من هو على التوحيد؛ لأنه جاهل، من هو على التوحيد، وعلى كل حال السني عليه أن يتزوج مثله سنية، ولا يتزوج امرأة مبتدعة قد تدعوه إلى بدعتها، ويتأثر بها لا سيما إن أعجبته، وفتن بها كما حصل لعمران بن حطَّان، عمران بن حطان تزوج امرأة خارجية، وكان على الجادة؛ ليدعوها، ويحصل على أجر دعوتها!ّ كما يزعم، وكما يقوله كثير من الإخوان الآن، يقول: الدين يحصل بالدعوة، لكن الجمال كيف يحصل؟ فيدعو هذه المرأة التي دعاه إلى نكاحها الجمال، ثم بعد ذلك نأخذ أجر دعوتها، ثم لا يلبث أن تدعوه، فيستجيب، وقد دعت امرأة عمران بن حطان دعته إلى بدعة الخوارج، فاستجاب، وأثر المرأة على الرجل لا ينكر، كما أن أثر الرجل إذا وفق على المرأة لا ينكر –أيضًا-.
هو موصوف بأنه الإمام الأعظم، أما رأيه في مسألة الإيمان فهو قول مرجوح ومردود، وكلام الأئمة عليه معروف، ويبقى أنه إمام مجتهد، إن أصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وأما كونه في ضعفه شيء فلا شك أن في حفظه شيء في حكمه شيء، وبذلك رمي بسوء الحفظ، ويبقى أنه في باب النظر والاستنباط إمام، لو قيل: إنه لا نظير له في هذا الشأن ما بعُد، يبقى أنه إمام، وقد يكون الإمام في باب من أبواب الدين إمامته ظاهرة، وفي أبواب أخرى تنزل مرتبته، تقل مرتبته، الناس في هذه البلاد وفي كثير من بلدان المسلمين يقرءون على قراءة عاصم، وعاصم فيه كلام في حفظه، حتى أنه طعن من قبل بعض الطوائف كالرافضة، وقالوا: كيف يقرئ على قراءة شخص رُمَي بسوء الحفظ، وضعف في الحديث؟ نقول: هو في القراءة إمام، والقرآن يسهل يضبطه، وقد يسر ضبطه، يعني لو اتجه شخص إلى القرآن، ما يخلط معه غيره، اتجهت همته إلى القرآن، ضبطه وأتقنه، وإن كان في بقية العلوم التي لم يلقها بالًا فيه ما فيه، فأبو حنيفة في الفقه إمام، في الاستنباط، في قوة الاستنباط، في قوة النظر إمام، لكن يبقى أن حفظه فيه ما فيه، ومثل هذا كررناه قريبًا، أن الإنسان قد يفتح له باب، ويغلق عليه أبواب، فهو إمام فيما فتح به عليه، وفي غيره يبقى أنه مثل سائر الناس، وعاصم إمام في القراءة، ولا ينكر أن يكون إمامًا ضابطًا متقنًا، بل هذا هو الواقع، وقدوة في هذا الشأن، يعني لو أن الإنسان ضعيف الحفظ، ثم بعد ذلك يوجد، يوجد الآن في الأئمة، أئمة المساجد من يقرأ القرآن كاملًا كالفاتحة ما يخطئ ولا خطأ، يوجد، لكن لو تقول له: سمع لي عمدة الأحكام، أخطأ في أولها، ولو درسها سنين؛ لأنه ما وضع نفسه لهذا الأمر، إنما وضع اهتمامه للقرآن، وقل العكس مثلًا، يعني قد يحفظ الإنسان علوم الدنيا كلها، ويكون في أبواب أخرى ضعيف، فالإنسان حسب ما يتجه، وحسب ما يفتح الله له من الأبواب، فإذا فتح له باب صار إمامًا فيه، وإن كان غير إمام في غيره، تجد مثلًا من يتجه إلى الطب، يحفظ من كتب الطب الشيء الكثير باللغات، ويتقنها، ويضبطها، لكن لو تقول له: احفظ المفصل ما استطاع، أو تقول له: احفظ الأربعين النووية ما استطاع، لماذا؟ لأنه فتح له في هذا الباب، واتجه إليه، وأعطاه همته فأنتج، ونجح فيه، لكن في غيره مما لم يهتم به مثل اهتمامه بهذا ما يفلح فيه إلا حسب اجتهاده.
ما يلزم يا أخي، مثل هؤلاء الذين لم تبلغهم الدعوة المرجح عند أهل العلم أن حكمهم كفار، لكن هل يعذرون بجهلهم؟ وحينئذ لا يدخلون الجنة؛ لأنهم ليسوا بمسلمين، وإنما يمتحنون، يمتحنون كأهل الفترة، كما قرر ذلك ابن القيم في طريق الهجرتين، يخرج لهم لهبًا من نار، ويمتحنون؛ فإن دخلوا فيه على ما ذكروا إلى آخر ما..، على السائل أن يرجع إلى طريق الهجرتين، أما كلامه ليس بصحيح، هؤلاء الكفار أن الله يعفو عنهم، الكافر حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، لكن هل يعذر باعتبار أنه لم يبلغه شيء، ثم يمتحن بعد ذلك؟ أو لا يعذر؟ المسألة خلاف بين أهل العلم، من أهل العلم من يرى أن لا أحد يعذر، خلاص بعد نزول القرآن لا عذر.
هذا كلام خطير، هذا كلام صدر عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ويحكم على شخص أنه في النار، ونقول: لا، هذه معاندة، وهذه مكابرة، مادام ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا كلام لأحد، وأما قوله: ((النساء ناقصات عقل ودين))، فلا يمكن أن يؤتى بامرأة تساوي الرجال، والنظر إلى المجموع لا إلى الأفراد، النظر إلى المجموع، مقابلة مجموع النساء بمجموع الرجال، إذا قارنا مجموع النساء بمجموع الرجال؛ وجدنا هذا النقص ظاهرًا، أما لو قارنا امرأة متميزة برجل غير متميز؛ قد يوجد امرأة أفضل من كثير من الرجال، وكمل من الرجال كثير، ومن النساء قليل، والله المستعان.
فيها انقطاع، لكن أهل العلم احتملوا مثل هذا الانقطاع، وخرجوها في كتبهم.
يقول لي أحد الدعاة: إنه يجب علي أن أتبع عالمًا معينًا، وأتبعه بكل شيء؛ لأني لست بطالب علم، هل هذا الكلام صحيح، أم الصحيح أن أتبع العلماء الموثوقين، وإن اختلفوا أخذت بالأقرب للدليل، أو الأغلب منهم، أو الأحوط، وهل صحيح أن الناس في السعودية يقلدون المذهب الحنبلي، يقول: إنه يجب علي أن أتبع أحد المذاهب؟
العامي فرضه التقليد، لا بد أن يقلد عالمًا تبرأ الذمة بتقليده، وفرضه سؤال أهل العلم، كما قال الله -جل وعلا-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(43) سورة النحل]، ولا يلزم أن يقلد شخصًا واحدًا، إنما إذا قلد من تبرأ الذمة بتقليده برأت ذمته على أن لا يكون في ذلك متبعًا لهواه، متتبعًا للرخص، فيأخذ من قول كل عالم أسهل ما يقول به، هنا يضيع، وحينئذ يخرج من الدين، قد يخرج من الدين، وهو لا يشعر، ويقول أهل العلم: "من تتبع الرخص فقد تزندق"، على كل حال إذا شاع في الناس أن هذا الشخص من أهل العلم الذين تبرأ الذمة بتقليدهم، وأنه عرف بالتحري، والتثبت فقلده في جميع ما يقول من غير نظر إلى دليل تبرأ ذمته -إن شاء الله تعالى-.
يقول: وإن اختلفوا أخذت بالأقرب للدليل.
كيف تعرف الأقرب للدليل، وأنت لست بطالب علم، أو الأغلب منهم، أو الأحوط؟ على كل حال تنصل من اتباع هواك، وإذا قلدت من تبرأ الذمة بتقليده، واستفاض في الناس علمه، وفضله، وعرف بتحريه، وورعه بالعلم، والديانة، والورع، فإنه حينئذٍ تبرأ ذمتك -إن شاء الله-.
يقول: وهل صحيح أن الناس في السعودية يقلدون المذهب الحنبلي؟
نعم كان الناس على المذهب جارين عليه، ماشين على المذهب، لكن لما وجد من يعمل بالدليل، ويعمل بالراجح من الأقوال؛ تبعه الناس، ووثقوا بعلمه، فخف تمسك الناس بمذهب، وكثير من الناس الآن لا يعرف أن هناك شيء اسمه المذهب، إنما يقلدون العلماء المعاصرين الذين اتفقت ألسنة الناس على مدحهم.
أنا ما أظنه تردد، بالنسبة للتعليق والحواشي، أما بالنسبة لفتح المغيث، فمراد السخاوي شيخه ابن حجر، هذا ما فيه إشكال، أما في التعليق ما أذكر أنه، إلا أظن مرة، أو مرتين أنقل عن الشيخ ابن باز فقط، يعني مقرونًا باسمه ما هو مع إبهام، أما في أصل الكتاب في فتح المغيث للسخاوي فالمراد بقوله: شيخنا، ابن حجر.
على حسب الخلاف في الخمر؛ هل هو طاهر أو نجس؟ فالذي يقول بنجاسته، وهم الأكثر يقول: الكحول في حكمه، نجسة لا يجوز التطيب بها، والذي يقول: إنها طاهرة، فالحكم واحد، والمتجه يعني قول الجمهور، وإن كان دليله لا ينهض على ما استدل به عليه.
الفرق من التسمية ظاهر، الفرق من كلامك يظهر، فإن أهل الحديث هم الذين يروونه، ويعملون به، ويستنبطون منه، ويعتمدون عليه اعتمادًا كليًّا، ولا يعني هذا أنهم لا يأخذون بالأقيسة، ولا يستعملون آراءهم للتوفيق بين النصوص، لكن الغالب عليهم الصبغة الحديثية، وعكسهم أهل الرأي، فإن اعتمادهم على الأقيسة والآراء والقواعد يظهر في مذاهبهم، وأقوالهم أكثر من اعتمادهم على النص.
الجمع الاجتهاد يتغير.