شرح ألفية الحديث للحافظ العراقي (49)

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح ألفية الحافظ العراقي (49)

(أدب طالب الحديث)

الشيخ/ عبد الكريم الخضير

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا عن الوليد بن عبد الله بن صياد الذي مر ذكره بالأمس، يقول: قال في (تعجيل المنفعة) هو ثقة أخو عمارة بن عبد الله بن صياد، وقال في سيرة عمارة: هو ابن عبد الله بن صياد الذي قيل فيه: إنه هو الدجال، هذا استشكلناه بالأمس، والاحتمال يعني السن يحتمل.

سم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين، يا ذا الجلال والإكرام.

قال الحافظ -رحمه الله تعالى-:

أدب طالب الحديث:

وَأَخْلِصِ الّنِيَّةَ فِي طَلَبِكَا
وَمَا يُهِمُّ ثُمَّ شُدَّ الرَّحْلاَ

وَاعْمَلْ بِمَا تَسْمَعُ فِي الْفَضَائِلِ
عَلَيْه تَطْويْلاَ بِحَيْثُ يَضْــجُرُ
أَو الْحَيَا  عَنْ طَلَبٍ وَاجْتَنِبِ

مَا تَسْتَفيْدُ عَالِيًا وَنَاِزلاَ
وَمَنْ يَقُلْ إذا كَتَبْتَ قَمِّشِ
فَلَيْسَ مِنْ ذَا وَالْكتَابَ تَمِّمِ
وَإِنْ يَضِقْ حَالٌ عَنِ اسْتِيْعَابهِ
أَوْ قَصَّرَ اسْتَعَانَ ذَا حِفْظٍ فَقَدْ
وَعَلَّمُوْا فِي الأَصْلِ إِمَّا خَطَّا
وَلاَ تَكُنْ مُقْتَصِرًا أَنْ تَسْمَعَا

 

وَجِدَّ وَابْدَأْ بِعَوَاِلي مِصْرِكَا
لِغَيْرِهِ وَلاَ تَسَـاهَلْ حَمْلاَ
وَالشَّيْخَ بَجِّلْهُ وَلاَ تَثَاقَلِ
وَلاَ تَكُنْ يَمْنَعُكَ التَّكَبّر
كَتْمَ السَّمَاعِ فَهْوَ لُؤْمٌ وَاكْتُبِ
لاَ كَثْرَةَ الشُّيُوْخِ صِيْتًا عَاطلاَ
ثُمَّ إذا رَوَيْتَهُ فَفَتِّشِ
سَمَاَعَهُ لاَ تَنْتَخِبه تَنْدَمِ
لِعَارِفٍ أَجَادَ فِي انْتِخَابهِ
كَانَ مِنَ الحُفَّاظِ مَنْ لَهُ يُعدْ
أَوْ هَمْزَتَيْنِ أَوْ بِصَادٍ أَوْ طَا
وَكَتْبَهُ مِنْ دُوْن فَهْم نَفَعَا

 

وَاقْرَأْ كِتَابًا فِي عُلُوْمِ الأَثَرِ
وَبِالصَّحِيْحَيْنِ ابْدَأَنْ ثُمَّ السُّنَنْ
بِمَا اقْتَضَتْهُ حَاجَةٌ مِنْ مُسْنَدِ
وَعِلَلٍ وَخَيْرُهَا لأَِحْمَدَا
مِنْ خَيْرِهَا الْكَبِيْرُ لِلْجُعْفِيِّ
وَكُتُبِ الْمُؤْتَلِفِ الْمَشْهُوْرِ
وَاحْفَظْهُ بِالتَّدْرِيْجِ ثُمَّ ذَاكِرِ
إذا تَأَهَّلْتَ إلى التَّأْلِيْفِ
طَرِيْقَتَانِ جَمْعُهُ أبوابَا
وَجَمْعُهُ مُعَلَّلًا كَمَا فَعَلْ
وَجَمَعُوْا أبوابًا أو شُيُوخًَا أو
كَراهَةَ الْجَمْعِ لِذِي تَقْصِيْرِ

 

كَابْنِ الصَّلاَحِ أَوْ كَذَا الْمُخْتَصَرِ
وَالْبَيْهَقِيْ ضَبْطًَا وَفَهْمًَا ثُمَّ ثَنْ
أَحْمَدَ وَالْمُوَطَّأِ الْمُمَهَّدِ
وَالدَّارَقُطْنِي وَالتَّوَارِيْخُ غَدَا
وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيْلُ لِلرَّازِيِّ
وَالأَكْمَلُ الإِْكْمَالُ لِلأَمِيْرِ
بِهِ وَالاتْقَانَ  اصْحَبَنْ وَبَادِرِ
تَمْهَرْ وَتُذْكَرْ وَهْوَ في التَّصْنِيْفِ
أَوْ مُسْنَدًَا تُفْرِدُهُ صِحَابَا
يَعْقُوْبُ أَعْلَى رُتْبَةً وَمَا كَمَلْ
تَرَاجُمًَا أَوْ طُرُقًَا وَقَدْ رَأَوْا
كَذَاكَ الاخْرَاجُ بِلاَ تَحْرِيْرِ

      

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول الناظم -رحمه الله تعالى-:

أدب طالب الحديث.

لما انتهى من ذكر الآداب المتعلقة بالمحدث ثنى بذكر آداب طالب الحديث، قدم آداب المحدث لما ذكرناه سابقًا من أن المحدث أقدم في الوجود من الطالب، ولولا المحدث لما وجد الطالب، وإن كان المحدث من جهة أخرى كان طالبًا، ثم صار محدثًا، فتقديم هذا له وجه، وتقديم ذاك له وجه، لكن البداءة بالكبير أولى، حديث: ((كبّر كبّر)) والغالب أن المحدث أكبر من طالب الحديث، فيذكر ما يتعلق به، وهناك أمور مشتركة بين المحدث وطالب الحديث.

مضى ما يتعلق بالمحدث، والآن نقرأ ما نظمه الشيخ -رحمه الله تعالى- في هذا الباب، فقال:

وأخلص النية في طلبكا

 

وجدّ................

أخلص النية، الإخلاص مضى في آداب المحدث، وهذا قاسم مشترك لجميع من يتعبد لله -جل وعلا- بأي عبادة يتقرب بها إلى الله -جل وعلا-؛ لأنه شرط القبول، الإخلاص، يعني مع المتابعة لا بد منه، أي عمل لا إخلاص فيه لا قيمة له، ((إنما الأعمال بالنيات)) والذي يطلب الحديث لغير الله -كما يقول أهل العلم-: "من طلب الحديث لغير الله مُكر به" لا بد أن يطلبه مخلصًا لله -جل وعلا-؛ لأن الحديث وسائر العلوم الشرعية المتعلقة بالوحيين من أمور الآخرة المحضة -كما يقول أهل العلم- التي لا تقبل التشريك، فلا بد فيها من الإخلاص الذي هو شرط القبول، وهذا مما يشترك فيه طالب الحديث مع المحدث.

"وجد" لا بد من الجد؛ لأن العلم متين، ولا يكمل له إلا الفحول من الرجال الذكور، والإناث قد يوجد فيهن من تُكمل لهذا، بل وُجد على مر التاريخ محدثات، لكن الغالب أنه لا يكمل له إلا الفحول من الرجال الذين هم أهل الجد والعزم وعدم التراخي والتفريط.

ومع الأسف أننا نجد من ينتسب لهذا العلم وتجده يأخذه على التراخي، على التيسير، يعني لا يجد فيه؛ لأن الحديث هذا بحر محيط لا ساحل له، يعني من اليسير جدًّا أن يتخصص الإنسان في أي علم من العلوم، ويحيط بأطرافه، ويدرك جملة صالحة منه تعينه على تحصيل بقيته، أما هذا العلم فدون تحصيله خرط القتاد؛ لأنه يحتاج إلى عمر مديد، يحتاج إلى جد واجتهاد وإخلاص، وصدق لجأ إلى الله -جل وعلا- مع المتابعة، مع ما ركب في الإنسان من حفظ وفهم، الآن لو الإنسان يفني عمره في صحيح البخاري فقط، انتهى عمره ما انتهى من صحيح البخاري، يعني إذا أراد أن يدرس صحيح البخاري على الوجه الذي يرجى أن يتقنه إتقانًا تامًّا، ويكون مرجعًا فيه ما يمكن، على صحيح البخاري ما يقرب من مائة شرح، كيف يحيط الإنسان بهذه الشروح؟ يعني شرح واحد قراءة سرد يحتاج إلى سنتين، سرد دون وقوف عند مسائله، يحتاج إلى سنتين، يعني إذا كان فتح الباري بهذه المثابة، والكرماني يحتاج إلى نصف سنة مثلًا، وعمدة القارئ تحتاج إلى مثل فتح الباري إلى سنتين، وإرشاد الساري يحتاج إلى سنة وهكذا كم؟ العمر لا شك أنه قصير بالنسبة لهذا العلم، هذا كتاب واحد، ثم إذا انتقل إلى مسلم، وعليه من الشروح ما عليه، وفيها إعواز كبير يحتاج إلى مراجعات، إلى كتب تعينه على فهم صحيح مسلم، فماذا عن بقية السنن؟ وماذا عن المسند، البحر المحيط الذي فيه أكثر من ثلاثين ألف حديث؟ ماذا عن سنن البيهقي؟ لو أن الإنسان تفرغ لسنن البيهقي ما أنجزه، تحتاج إلى وقت طويل وهكذا.

ولذا يركز أهل العلم على الجد، العلوم الأخرى يمكن أن تؤخذ لبعض الوقت، لكن هذا العلم لا يمكن أن يؤخذ إلا بجميع الوقت، كل الوقت لا بد أن يستغرق فيه، وما يعين على فهمه وحفظه، كان الناس يحفظون مئات الألوف من الأحاديث، أحمد بن حنبل سبعمائة ألف حديث، أبو داود استخرج السنن من خمسمائة ألف حديث، وفلان وفلان، جمع غفير من أهل العلم بهذه المثابة، لماذا؟ لأنهم أخذوه بالتراخي؟ أخذوه بالتساهل؟ أبدًا، جدوا في طلبه، وأخبارهم شاهدة على ذلك، والبخاري يحفظ من الصحيح مائة ألف حديث، ومن غيره مائتي ألف حديث، يعني الآن الآلات الحاسبة التي أدخل فيها جميع ما وجد من الأحاديث أكبر برنامج فيه خمسمائة ألف بالتكرار، يعني الإمام أحمد أكثر منه حفظًا، فهذا العلم يحتاج إلى جد، يعني إذا كان القرآن يمكن حفظه في سنة لطالب العلم المتوسط الحافظة يمكن حفظه في سنة، وإلا وجد من يحفظه في ثلاثة أشهر، بل وجد من حفظه...، الزهري في شهر حفظ القرآن، فالسنة متى تحفظ؟ وكان الحفظ للسنة ميئوسًا منه، حتى كان العلماء من قرون وهم يتوارثون كتبًا مختصرة مجردة، يتدرجون فيها، يقفون فيها إلى حد، ولا يتطاولون إلى الكتب الأصلية المسندة إلى حفظها، والآن بدأت بوارق الأمل في عودة الحفظ للسنة، ووجد من يحفظ، يعني وجد، هم يقولون: حفظ الصحيحين المقصود بذلك من غير تكرار ولا أسانيد، يبدءون بأحدهما ويضيفون إليه زوائد الآخر، ثم السنن تباعًا، ثم المسند، ثم نسمع من يحفظ الآن زوائد البيهقي، وهذه بشارة عظمى، ومن سنها لا يحرم أجرها وأجر من عمل بها، نرجو له ذلك -إن شاء الله تعالى-، ومع ذلك يوصى طالب العلم بالجد والاجتهاد، يعني لو إنسان أمسك بجامع الأصول وحفظه يحتاج إلى عمر مديد، مع أن جامع الأصول فيه شيء من الخلل، فلا بد من حفظ الأصول من الأصول على ما سيأتي:

"وبالصحيحين ابدأن" إن شاء الله نشرح هذا غدًا بإذن الله، ويحتاج إلى مزيد من العناية، مثل هذا الموضوع؛ لأن كثير من طلاب العلم يتخبط في الحفظ؛ لأن الآن -ولله الحمد- فُتح الباب، وسلكت الجادة، وكان طلاب العلم يحفظون الأربعين ثم العمدة ثم البلوغ، كثير منهم يقف إلى هذا الحد، يعني يندر من يتطاول على المنتقى، وأما بقية كتب الأحكام فلا تُعرف إلا في عصور متأخرة، الإلمام والمحرر وغيرهما، تقريب الأسانيد وغيره هذا ما يعرف عند كثير من طلاب العلم إلى وقت قريب، الآن -ولله الحمد- والبوادر ظهرت والنتائج ملموسة الآن، وليست على مستوى بلد معين، إنما هذا عم في جميع بلدان المسلمين، وهذه بادرة خير -ولله الحمد- كون طالب العلم لديه رصيد من النصوص فلا شك أنها يفزع إليها عند الاختلاف، عند الاختلاف إنما يرد إلى الله ورسوله، فإذا كان طالب العلم ليس عنده شيء مما يفزع إليه من النصوص كيف يصل إلى الأقوال الراجحة، ويعرف المرجوح من الراجح، ما يستطيع، لكن هذا يحتاج إلى جد، كما قال الناظم -رحمه الله-:

....................

 

وجد وابدأ بعوالي مصركا

"وابدأ بعوالي مصركا" يعني ابدأ بعلماء بلدك، واحرص على الأسانيد العالية عندهم، وخذ من كل عالم ما لا يوجد عند غيره، يعني تبدأ بالأكبر، بالأعلم، ثم تأخذ عنه العلم، ثم تزيد عليه على ما أخذت عنده مما عند غيره من أهل العلم إلى أن تأتي على جميع علماء بلدك، ثم بعد ذلك تبدأ بالرحلة.

يقول:

.................

 

........وابدأ بعوالي مصركا

لأنه من تضييع الوقت أن ترحل لطلب العلم، وفي بلدك من يقوم بهذه المهمة؛ لأن الرحلة لذاتها ليست مطلوبة، الرحلة سفر، والسفر مشقة، والمشقة لذاتها لا تطلب شرعًا أبدًا، إلا أن تأتي لتحقيق غاية، لتحقيق عبادة ما تأتي إلا بمشقة، الحج يلزم منه مشقة، المشقة ((أجركِ على قدر نصبكِ)) لكن لو أراد الإنسان المشقة التي لا تحقق غاية هذا لا يؤجر عليها.

......................

 

........وابدأ بعوالي مصركا

يعني بلدك، "وما يهم" يعني الأهم فالأهم، "بالمهم المهم ابدأ لتدركه" كما في المنظومة الميمية: "وبالمهم المهم ابدأ لتدركه"، وهذا هو طالب العلم الموفق الذي يرجى له الفلاح في هذا العلم، يبدأ بالمهم فالمهم، يبدأ بالأهم؛ ولذلك قال:

"وبالصحيحين ابدأن" على ما سيأتي، ومع الأسف أنه يوجد طلاب علم نهمتهم في الغرائب، تجده يخفى عليه ما في الصحيحين، ما في البخاري، وتجده في زاوية يحفظ جزء بيبي، أو جزء الألف دينار، أو زوائد مسند الفردوس، وهو ما يعرف الصحيحين، هذا خذلان هذا، وهذا لن يفلح في الغالب.

"ثم شُد الرحلا" الرحلة سنة من سنن أهل هذا العلم، الحديث، رحلوا، رحل منهم من رحل مدة شهر يقطع الفيافي والقفار من أجل حديث واحد، جابر بن عبد الله رحل إلى عبد الله بن أنيس من أجل حديث، وغيره وغيره، وفي ذلك مصنف للخطيب البغدادي اسمه: (الرحلة في طلب الحديث) من سنن أهل هذا الفن يرحلون إلى العصور المتأخرين، إذا أخذ ما عند علماء بلده انتقل إلى غيره، ويحرص على العلماء الذين هم أهل تحقيق وتدقيق؛ لأن منهم من يرحل من أجل قدم السماع أو علو الإسناد، وإن كان هذا المرحول إليه عاميًّا لا يفقه شيئًا، إنما عنده إجازات اختصرت له بعض الرواة، فصارت لديه أسانيد عالية، نعم أهل العلم يقصدون مثل هذا، لكن الأهم من هذا معرفة محتوى الأحاديث ومضمونها، وما تدل عليه؛ لأنه فرق بين شيخ عنده أسانيد، يعني وجد في القرن الثامن والتاسع والسابع أيضًا شيوخ عوام، لا يقرءون ولا يكتبون، ولا يعلقون بكلمة إنما تيسرت لهم حضروا دروس ومجالس حديثية في أوائل أعمارهم في الخامسة في السادسة من العمر، وأجيزوا بهذا الكتاب، ثم لما تقدم بهم السن ومات أقرانهم احتاج الناس إلى ما عندهم، تكون أسانيدهم عالية، لكن ما الفائدة أن تقرأ الكتاب، أو يُقرأ الكتاب وأنت تسمع، أو تجاز بهذا الكتاب عن شخص لا يعلق بكلمة، يعني الآن موجود من أهل العلم وعنده القدرة والأهلية للشرح والتعليق ومع ذلك يقتصر على سماع الكتب، مسند أحمد يُقرأ في عشرين يومًا مثلًا، سنن أبي داود في عشرة أيام، سنن كذا في..، إلى أن وجد من يُقرئ الكتب الستة في شهر، كل هذا إحياء لسنة سابقة، هذا موجود في السابق، لكن أهم من ذلك العلم لما يطلب؟ إنما يطلب للعمل، ومجرد الإكثار من الإجازات والرواية صار هدفًا ومقصدًا، يعني وهذا موجود في السابق، يعني موجود في القرن السابع والثامن والتاسع إلى يومنا هذا، لكن همة أهل العلم الراسخين في العلم غير هذا؛ لأن العلم إنما يطلب للعمل، ولا يتم العمل بمثل هذه القراءات، عندي بدلًا من أن يُقرأ المسند في شهر نفقه مائة حديث بدل ثلاثين ألف حديث، ونعرف ما فيها من أحكام، وكيف نتعامل معها إذا عارضت أو عورضت أفضل من قراءة المسند كامل؛ لأن هذه الثمرة من قراءة الحديث.

"ثم شُد الرحلا" لغيره، يعني لغير بلدك، "ولا تساهل حملًا" لأن بعض الناس إذا شد الرحل ولحقته المشقة ووصل إلى بلد حصل له فيه شدة ومشقة، وكل شيء يشكل عليه، النوم فيه إشكال، والأكل فيه إعواز، احتاج أن يرجع إلى بلده في أقرب فرصة، ثم يترتب على ذلك أن يتساهل في الحمل، قد يحمل العلم أو يسمع ما يقرئ وهو نائم -وهو ناعس-، لماذا؟ ما الذي اضطره إلى ذلك؟ الاستعجال؛ لأن ظرف البلد الذي يعيش فيه لا يناسبه "ولا تساهل حملًا" لأنه إذا تساهل في الحمل قدح فيه، وتركت الرواية عنه، فصار سببًا في تعطيل العمل بهذا الحديث.

واعمل بما تسمع في الفضائلِ

 

.................

نعم هذه هي الثمرة من العلم، الثمرة من العلم العمل، وإلا ما الفائدة من علم بلا عمل؟ ما الفائدة أن تزرع زرعًا لا ينتج؟ قد يستعمل الزرع من أجل الظل، ومن أجل استمتاع بمرآه، لكن علم بلا عمل هذا وبال على صاحبه، لا يخرج منه الإنسان كفافًا.

واعمل بما تسمع في الفضائلِ

 

...................

من أهل العلم من يقول: أدوا زكاة العلم بالعمل، حتى قال بعضهم بالنسبة للفضائل: أن تعمل من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث، هذا بالنسبة للفضائل والمتسحبات لا بأس، لك ذلك، أما الفرائض التي أوجب الله عليك العمل بها هذه لا يجوز أن تفرط بحديث واحد، بل كل ما سمعت مما فيه إيجاب أو تحريم عليك أن تفعل الواجب، وتترك المحرم، ولا تنتقِ تقول: والله أهل الحديث يقولون: الزكاة، لا، الزكاة من القدر الزائد على الواجب والمحرم.

واعمل بما تسمع في الفضائلِ

 

 

...............

ولا شك أن العمل من أقوى وسائل تثبيت العلم، الذي يسمع العلم ولا يعمل به ينساه، لكن إذا عمل به خلاص يثبت عنده هذا العلم؛ لأنه ملازم له.

...................

 

والشيخ بجله ولا تثاقلِ

"والشيخ بجله" يعني عظمه، واحترمه ووقره يعني بحدود ما يطلب له شرعًا؛ لفضله عليك في تعليمك، ولسنه يحترم ويقدر ويعظم بقدر ما تبيحه الشريعة، وما زاد على ذلك من غلو أو إطراء أو رفع له فوق منزلته فضلًا عن صرف شيء من حقوق الرب -جل وعلا- له أو لمثله، هذا كله لا يجوز، والنبي -عليه الصلاة والسلام- نهى عن الإطراء، قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)) ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) ونرى جمعًا من المسلمين في مصنفاتهم وفي أفعالهم وأقوالهم يوجد الغلو، والإطراء والمدح الذي لا يجوز شرعًا، لمن يحسنون به الظن، بل يصرف له شيء من حقوق الرب -جل وعلا-، يستغاث به وينادى من دون الله، ويدعى من دونه، وفي المقابل إذا كان غير موافق له تجده -نسأل الله السلامة والعافية- يغمطه حقه، ويذمه، ويسبه بغير حق، على المسلم أن يكون معتدلًا منصفًا مع الموافق والمخالف، عليه أن ينصف.

.......................
عليه تطويلًا بحيث يضجرُ

 

 

والشيخ بجله ولا تثاقلِ
.....................

نعم على طالب العلم أن لا يضجر الشيخ، كما أن على الشيخ أن يبذل، تعلم ليعمل ويعلم، وإلا ما الفائدة ممن يتعلم ولا يعمل، أو يتعلم ولا يعلم، عليه أن يبذل، وإذا سئل عليه أن يجيب، لكن يبقى أنه بشر، ينتابه ما ينتاب غيره من البشر، فإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إنما أنا بشر أغضب كما تغضبون)) فكيف بمن دونه؟ الذي خُلقه القرآن يقول هذا الكلام فكيف بمن دونه؟ تجد طالب العلم –بعضهم- مُصرّ إلا أن تجاب كل أسئلته، يا أخي خلِّ سؤالك بالتوقيت، اليوم سؤال وبكرة سؤال، وبعد ذلك يصر، وأحيانًا الشيخ يحتاج ما يحتاجه غيره، تجده جالسًا في الدرس، ثم بعد الدرس يحتاج إلى أسئلة، نعم عليه أن يصبر، وعليه أن يبذل ويعلم، ويجيب على الأسئلة، لكن أيضًا المقابل كل إنسان له ما يخصه من خطاب الشرع، المعلم له ما يخصه، عليه أن يبذل، وأيضًا عليه أن يجيب، و((من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار)) لكن يبقى أن أيضًا الطرف الآخر مخاطب بنصوص أخرى؛ لأن الإضجار يدعو الشيخ إلى الملل، وأحيانًا إلى الترك، ويفرح إذا حان وقت تعطيل الدروس، أو إذا طرأ له سفر، يعني ما يأتي إلى الدروس وهو منشرح الصدر، ويعطي الطلاب ما عنده براحة، أحيانًا تجده يُغضب إما قبل الدرس وإلا بعده ثم بعد ذلك يحرم الطلاب مما عنده من علم، فلا بد من احترام المدرس، وملاحظة شعوره، أحيانًا يحتاج إلى دورة، ويمسك عند الباب، أو يكون الجو حارًّا وبعد صلاة الظهر ويمسك بالشمس، هذا ليس مناسبًا إطلاقًا.

الآن لو أن الإنسان ذهب إلى طبيب يريد أن يعالج شيئًا في بدنه هل يستطيع أن يغضبه؟ أو يتلمس رضاه بكل أسلوب يستطيعه؟

طالب: يتلمس.

هذا الحاصل نعم، تجده يخاطبه برفق ويلين، يضفي عليه من الألقاب والمدائح كله من أجل هذا الداء عله أن يشفى على يديه، فكيف بأدواء القلوب، وتعليم العلم الموصل إلى رضا الرب -جل وعلا-، وعلى كل حال مثلما قلنا: كل إنسان له ما يخصه من خطاب الشرع، فالمعلم عليه أن يعلم، وعليه أن يجيب على الأسئلة، لكن بحيث لا يتضرر، ولا يتضرر من يمونه، بعض الناس يحرج الشيخ ويأخذ أوقاته، ويأخذ شيئًا من وقت أهله، وأهله لهم عليه حق، نعم يوجد نماذج في القديم والحديث ممن جعل وقته لله -جل وعلا-، ويصرفه كله لطلاب العلم ونفعهم، هذا لا شك أنه أجره عند الله -جل وعلا- عظيم، لكن يبقى أنه ما هو الناس على منزلة واحدة، يعني بعض الناس، أو بعض أهل العلم وصل إلى مرحلة يتلذذ فيها بالنشر والتعليم، بالفتوى، ورأينا منهم من هو في المستشفى ومع ذلك يجيب، وبيده كتاب يحرره ويراجعه، وفتاوى يجيب عليها، وعنده أحد يقرأ عليه، هذا وصل إلى مرحلة يتلذذ فيها بالعلم.

وشاركنا بعض المشايخ في الدورات يعني الفرق كبير، نسأل الله العفو والمسامحة، يعني ما عندنا نحن إلا الدرس الذي هو ساعة لا تزيد ولا تنقص، ما عندنا غيره، تجده درس بعد الفجر، ثم بعد ذلك يستلمونه الإخوان يودونه دائرة إما عسكرية وإلا مدنية يلقي عليهم محاضرة، وتجده يمسكونه في محل فيه تليفون يجيب على أسئلة السائلين بعد أن يعلن عن هذا الهاتف وأن الشيخ عليه..، ثم بعد ذلك الظهر ينتقل إلى مسجد آخر، ثم دعوة يجيب فيها على أسئلة طلاب العلم وهكذا نهاره، يعني موجود الآن، وممن مضى يعني، الأمثلة موجودة، لكن كيف يُحمل الناس كلهم على هذا المستوى؟ هذا ليس بصحيح، من وصل إلى مرحلة التلذذ هذا نعمة من الله -جل وعلا-، ومنحة إلهية أن يمضي أنفاسه كلها في العلم والتعلم، لكن من لا يزال في مرحلة المجاهدة كيف تكلفه ما لا يطيق؟! ولذلك قال:

......................
عليه تطويلًا بحيث يضجرُ

 

...........ولا تثاقلِ
.....................

وذكر عن بعض المحدثين أنه من أحسن الناس خلقًا، فما زال به الطلاب حتى صار من أسوأ الناس خلقًا، صحيح بشر، تجد الشيخ جالسًا في المسجد يقرأ القرآن، يقرأ نصيبه أو حزبه من القرآن ثم يجئ الطالب يبغي يسأل، انتظر يا أخي إلى أن ينتهي من القراءة، إذا كنت تعرف عادة الشيخ أنه يطول ويفوت عليك شيئًا وأنت وراءك دوام وهو جالس ما عنده دوام، شوف لك وقتًا آخر، وبعضهم يتندر بالمجالس يقول لي الشيخ: مشغول وهو يقرأ، يعني ما في برنامجهم قراءة القرآن شغل! يعني هذا موجود وسمعناه، يعني ما هو بافتراض، الشيخ يقول: مشغول وهو جالس يقرأ، والله المستعان.

.........................
عليه تطويلًا بحيث يضجرُ
أو الحيا عن طلبٍ.........

 

...............ولا تثاقلِ
ولا تكن يمنعك التكبرُ
.......................

لا يمنعك التكبر ولا الحياء عن طلب العلم، بعض طلاب العلم يريد أن يسأل عنده إشكال، يريد أن يسأل عنه، بس يخشى أنه إذا سأل إما أن يراه الشيخ أو أحد من الحضور يقول: هذا السؤال يعني ما...، قد يظن به أن مستواه أرفع من هذا السؤال فيترك، يتكبر ويترك هذا السؤال، أو يستحي من الشيخ، أو من الحاضرين "لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر" كما في البخاري عن مجاهد، يحرم؛ لأنه لن يسأل ما دام متكبرًا أو مستحيًا، ومفتاح العلم السؤال.

أو الحيا عن طلب واجتنبِ

 

كتم السماع فهو لؤم واكتبِ

يعني بعض الطلاب إذا تيسرت له فرصة أن يقرأ على شيخ، أو كتاب مثلًا من الكتب التي تعني جميع طلاب العلم قد يكتمها، إذا قيل له: هل تعرف شيخًا يقرأ الكتاب الفلاني؟ وهو يقرأ عليه في الكتاب الفلاني، قال: لا، لا ما فيه أحد، نعم ما فيه أحد، لماذا؟ يتفرد به، ثم بعد مدة يقول: أنا عندي شيء لا يوجد عند غيره، وهو القراءة على فلان، يكتم السماع، ويبخل بالكتب، لا يعيرها لمحتاج إليها، ولا يطلع عليها أحدًا، بعض الناس الكتب عزيزة على قلبه، وعنده نوعيات من الكتب تتأثر بالاستعمال، إما مخطوطات، أو كتب قديمة أو شيء من هذا، وبذل فيها ما بذل من مال وجهد، ثم يأتي طالب علم لا يعرف يتعامل مع الكتب، وحصل هذا يعني أعرنا بعض الطلاب كتبًا ما خلصناه إلا بالفؤوس، لصق بعضها على بعض، يتعشى ويتغدى وهي بين يديه، صحيح، يعني مثل هذا لو جُحد عنه كتاب، جاء شخص عنده كتاب مخطوط وفيه خرم مقدار ثلاثة أسطر، وذهب إلى شيخ قال: أنا أريد نسختك من أجل أن أسدد هذا الخرم، قال: ما عندي الكتاب لكن اترك كتابك لعلي أستظهر هذه الأسطر الثلاثة، ترك الكتاب لما جاء من الغد إذا بالثلاثة مكتوبة بقلم الشيخ، يعني من نسخته، لكن الشيخ يبخل بكتبه، وبعض الكتب يعني له مبرر كون الإنسان يبخل بها، لا سيما من بعض من لا يحسن التعامل معها، يعني تعطيه كتابًا، تعيره كتابًا، وهذا حصل يعني من نفائس الكتب من سنن البيهقي أو تهذيب التهذيب أو غيره من الطبعات الهندية التي ما تحمل الاستعمال، ثم يأتيك وهو ثاني الورقة هكذا تشيلها تطيح بيدك، هذا يعار هذا؟! أو الكتب التي طبعت قديمًا بمصر حيث لو بغيت تقرأ لا بد تطفي المروحة؛ لأنه لو فتحت الورقة انقطعت، قد يقول قائل: ما الذي يدعو إلى اقتناء مثل هذه الكتب التي تحصل مداراتها أكثر من مداراة العين والوالدين، صحيح؛ لأنه بدل من أن تقتني سنن البيهقي وتتعامل معه معاملة وأنت وجل، شوف لك نسخة مصورة واستعملها على كيفك، وخطط وقوس على ما تريد، وألوان وأرقام، هذا صحيح، لكن المسألة تحتاج إلى نظر بروية وعقل، بعض المصورات تفاجأ أن هذه الصفحة بيضاء، تفاجأ أن هذه الملزمة غير موجودة أصلًا، وإلا ما فيه فرق بين المطبوع والمصور، نعم هناك من له عناية بهذا الأمر، وصارت المسألة مسألة هواية، وليت الإنسان يخرج منها سالمًا لا له ولا عليه، لكن مع ذلك قد يوجد المبرر عن جحد بعض الكتب عن بعض الطلاب الذين لا يحسنون التعامل معها.

.............. واجتنبِ
ما تستفيد عاليًا ونازلًا

 

كتم السماع فهو لؤم واكتبِ
......................

اكتب كل شيء، "واكتب *** ما تستفيد عاليًا ونازلًا" ما تقول: والله أنا ما أنا بكاتب إلا العالي، النازل ما يسوى من يكتبه، لا، قد تحتاج إلى هذا النازل فلا تجده في مروياتك، اكتب كل شيء، والبخاري وهو مضرب المثل في كتب السنة، فيه العوالي الثلاثيات وفيه النازل، فيه تساعي، مما يتساوى فيه البخاري مع الحافظ العراقي، وبينهم كم قرن؟ يعني مائتين وستة وخمسين، وهذا ثمانمائة وستة، خمسة قرون ونصف، بينهم خمسمائة وخمسين سنة في الوفاة، هل يقال: إن البخاري كتب هذا عبثًا؟ لا.

...................
ما تستفيد عاليًا ونازلًا

 

.................واكتبِ
لا كثرة الشيوخ صيتًا عاطلًا

 

 

يعني أنت تهتم بالمروي؛ لأنك بصدد طلب علم الحديث، ولست بصدد طلب كثرة الشيوخ، لا يكون همك كثرة الشيوخ؛ لأنه وجد من طلاب العلم من يهتم بكثرة الشيوخ ليقال: روى عن مائة شيخ، مائتي شيخ، ثلاثمائة شيخ، أربعمائة، ألف شيخ، حتى وجد من ذكر أنه قرأ على ثلاثة آلاف وخمسمائة شيخ، هذا لو جلس عند كل شيخ يومًا احتاج إلى عشر سنين، بمعنى كل شيخ يوم واحد يحتاج إلى عشر سنين، ما الذي دعاه إلى هذا؟ إنما هو مجرد الكثرة لذات الكثرة.

"لا كثرة الشيوخ صيتًا" يعني تبغي وترجو من وراء ذلك "صيتًا عاطلًا" خاليًا عن الفائدة المرجوة، العلماء لهم فهارس، ولهم أثبات، فهارس للشيوخ موجودة، وبعضهم يروي عن مائة، وبعضهم مائتين، إلى أن وجد من يروي عن ألف، نعم إذا دعت الحاجة إلى ذلك، واستوعبت أحاديث شيوخ بلدك، ثم المهم فالمهم على ما تقدم، ودعتك الحاجة، أو وجد أحاديث لا توجد إلا عند فلان، لا مانع.

ومن يقل إذا كتبت قمشِ
فليس من ذا..........

 

ثم إذا رويته ففتشِ
................

لما قال: ما تستفيد عاليًا يعني اكتب كل شيء؟ يقول: "ومن يقل" يعني أبا حاتم الرازي يقول: "إذا كتبت فقمش، وإذا رويت ففتش" أو إذا حدثت ففتش، وما شرح المراد من هذا، واختلف في المراد -بين أهل العلم- اختلافًا كبيرًا، لكن السياق يدل على أنه عند الكتابة اكتب كل شيء، وإذا أردت أن تحدث أو تروي ففتش عن الصحيح والضعيف، فحدث بما يستحق التحديث، واترك ما يشغل مما لا يفيد؛ لأن الأحاديث فيها الصحيح وفيها الضعيف، وفيها الأصل في الباب، وفيها المكرر، وفيها إذا كتبت قمش، اكتب كل شيء، وإن كان يعني لفظة: (قمش) يمكن قد يفهم منها غير ذلك، لكن هذا السياق، يعني مثل الرواية، اكتب كل ما تستفيد عاليًا ونازلًا، هذا في التحمل، في الأداء فتش، وهذا يظهر جليًا من الشروط في الراوي؛ لأنهم في حال التحمل لا يشترطون شيئًا، يعني تأخذ عن كل أحد في التحمل، لكن إذا أردت أن تحدث فلا بد أن تتوافر الشروط، وصححوا تحمل الكافر كما تقدم، صححوا تحمل الفاسق، صححوا تحمل الصبي، لكن عند الأداء يبحث عن الشروط، تطبق الشروط فلا تصح الرواية عن كافر ولا فاسق ولا صبي، ولا متساهل في الحمل، ولا...، شروط كثيرة، ولا مغفل، الشروط كثيرة في هذا.

ومن يقل إذا كتبت قمشِ
فليس من ذا...........

 

ثم إذا رويته ففتشِ
...................

"فليس من ذا" يعني ليس من هذا الذي يذكره المؤلف.

فليس من ذا والكتاب تممِ

 

سماعه لا تنتخبه تندمِ

يقول: معك كتاب من مرويات فلان، لا تنتخب لا تقول: أقرأ من كل باب حديثًا، لا، اقرأ الكتاب من أوله إلى آخره؛ لأنك إذا انتخبت ثم احتجت إلى حديث مما تركت وليست لك به رواية عن هذا الشيخ ندمت على ذلك، ومثل هذا من يختصر الكتب، الذي يختصر الكتب قد يترك شيئًا وهو بأمس الحاجة إليه، قد يكون المتروك أهم مما ذُكر؛ ولذا يوصى طلاب العلم أن يعنوا بالأصول لا بالمختصرات، الأصول التي وضعها مؤلفوها على ما أرادوا يهتم بها طالب العلم، وكم من طالب علم اقتصر على المختصرات فجهل في الكتاب الأصلي ما هو أهم مما ذكره المختصِر؛ لان المختصِر من وجهة نظره، يبقي المهم من وجهة نظره، قد يوافق على هذه الوجهة وقد لا يوافق.

تقول: إذا كان الاختصار بحذف الأسانيد فقط؟ الأسانيد من أهم المهمات، وأولى ما يعنى به طالب العلم، في غاية الأهمية لطالب العلم، نعم قد لا تهم طالب علم غير شرعي، طبيب وإلا مهندس وإلا لا عناية له بالعلم الشرعي، نقول: ما فيه داع يقول: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، هذا يحتاج إلى حذف هذه الأسانيد والتكرار؛ لأنها لا تعنيه، لكن لها أهمية كبرى بالنسبة لطالب العلم، الأسانيد والتكرار أيضًا، كم حصل من الخلل في مسند أحمد لما رتبه الساعاتي وحذف التكرار وحذف الأسانيد، صارت فائدته ضعيفة جدًّا، لكن لو أبقاه كما هو ورتبه وأبقاه، كما فعل ابن عروة في الكواكب الدراري نفع الله به نفعًا عظيمًا؛ لأنك تحتاج إلى شاهد لهذا الحديث حذفه، تحتاج إلى متابع لهذا الراوي حذفه، كيف تصل إلى حقيقة الأمر؟ طالب العلم الشرعي لا بد له من الأسانيد، ولا بد له من التكرار، وكم فرع العالم وطالب العلم بزيادة لفظة في متن حذف في المختصرات، يمر علينا أشياء في مختصر البخاري، حقيقةً المختصرات ضيعت كثيرًا من العلم على طلاب العلم، والعناية بها لا شك أنه خلل في التحصيل.

يبقى أنه مثلما أشرنا مرارًا، وهذا لا يظن أنه تعارض، أنا أقول: من أعظم وسائل العلم اختصار الكتب، هو يختصر بنفسه، بدل من أن تقتصر على اختصار الزبيدي (التجريد الصريح)، أو اختصار الألباني -رحم الله الجميع- أو غيرهم، اختصر أنت، امسك البخاري واختصر، لن تحذف شيئًا إلا بعد أن استقر في نفسك أنه يمكن الاستغناء عنه، وأنت في هذا النظر وهذا التأمل هل يمكن الاستغناء عنه أو لا يمكن؟ حفظته، فإذا اختصرته أنت صار علمك بما حذفت كعلمك بما أثبت، أما إذا اختصره غيرك ما الفائدة؟ خلاص ما تدري عن شيء أنت، ما تدري يمكن حذف أهم المواضع حذفه، وترك الأقل، يعني مثال واحد، حديث الرقاق في صحيح البخاري مائتي حديث في مائة وخمسين ترجمة، تراجم فقه البخاري، استنباطات البخاري يدعمها بالأحاديث المعلقة، يدعمها بأقوال الصحابة والتابعين التي قد لا توجد عند غيره، يترجم على هذا الحديث ويكرره في مواضع، ثم جاء المختصر واقتصر على عشرة أحاديث، هل تخرج بتصور تام من خلال عشرة أحاديث عن الباب كاملاً؟ ما يمكن، مستحيل، مشلول العمل، لكن عذره أن هذه الأحاديث تقدمت في أبواب أخرى، وما يدريك أن هذا الحديث الذي أنت بأمس الحاجة إليه في كتاب الرقاق تقدم في كتاب العلم أو في كتاب الوضوء، ما يصلح هذا أبدًا.

وأقول: من أعظم وسائل التحصيل لطالب العلم أن يختصر الكتب بنفسه؛ لأنها تثبت بالمعاناة، يعني تفسير ابن كثير يمله كثير من طلاب العلم، حدثنا قال: حدثنا، ثم بعد ذلك سياق آخر، ثم طريق آخر، وبعدين؟ فرحوا بالمختصرات وضاع عليهم شيء كثير، شوف الآن يأتينا: "وبالصحيحين ابدأن" لكن ترى بداية الدرس إن صيفت ما لحقت على شيء، بداية الدرس القادم "بالصحيحين ابدأن" نشرح ذلك -إن شاء الله-، لكن إن تأخرت ترى يفوتك.

طالب:.......

إيه جزاك الله خيرًا.

يقول:

...........والكتاب تممِ

 

سماعه لا تنتخبه تندمِ

ترى الشيوخ أحيانًا يؤدبون الطلاب، وهم ما يدرون عن ظروفهم، ما يدرون ما لهم إلا الظاهر، في طالب تزوج -ملازم لشيخ من المشايخ- تزوج، في صبيحة ليلة الزواج الدرس بعد صلاة الفجر، تأخر حتى غلب على ظنه أنه وصل إلى باقي واحد أو اثنين من الطلاب الذين يقرءون؛ لأن الطريقة يحضر أكثر من ثلاثين طالبًا، ثم يقرأ هذا، ثم هذا، ثم هذا.. إلى آخره، يعني بعد ساعتين يصلك الدور، جاء قبل نهاية الطلاب وجلس بالأخير، يوم جاء دوره قال الشيخ: اقرأ، قرأ، من الغد تصور الزواج البارحة ترى ما هي...، من الغد كذلك خلاه يقرأ، يوم وصله الدور في اليوم الثالث قام وخلاه؛ لأنه تأخر، الشيخ ما يدري عن ظرفه، أو يدري، لكن قد يكون في نفس طالب العلم شيء من هذا، لكنه بعد ذلك ما تأخر صار يصلي في نفس المسجد، نعم، فليس هدف الشيخ حينما يتكلم على طالب من الطلاب، أو يوجه طالب أنه يريد أن يحط من قدره بقدر ما هو حثه على التبكير والتحصيل لا يفوته شيء، بعض الناس يقصد بعض الشيوخ يقول: لعلي أسمع الكلمة التي فيها نجاتي، وما يدريك، والله المستعان.

"لا تنتخبه تندم" تقدم في كتابة الحديث أن تصغير الحرف العلماء حذروا ونهوا عن تدقيق الحروف وتصغيرها، قالوا: اكتب بحرف واضح وجلي يُرى، إلا في حالات يعني لأن تدقيق الحرف يخونك إذا ضعف البصر، لكن استثنوا من ذلك بعض الحالات: ضيق الورق مثلًا، وضيق ذات اليد، يعني الورق غير موجود، أو للحمل في الأسفار، بدل من أن تكتب الكتاب في مجلدات تكتبه في مجلد واحد، هذه أعذار مقبولة، وهنا الانتخاب

........................
وإن يضق حال عن استيعابه

 

...........لا تنتخبه تندمِ
..........

أنت ما عندك ورق يستوعب الكتاب كاملاً، تريد أن تأخذ الأهم من هذا الكتاب، مثل هذا له وجه.

وإن يضق حال عن استيعابه

 

لعارف أجاد في انتخابه

لا بد أن يكون المنتخب عارفًا، يعني يحسن الانتخاب، ولا يتسنى هذا لكل أحد؛ لأنه بعضهم يسلك طريقة ويأخذ أول حديث في الباب، ويسمي هذا اختصار، قد يكون الحديث الثاني من... أحاديث الباب، "أو قصر" يعني عن هذه المرتبة، أراد أن ينتخب وقصر ما يعرف، ما يحسن الانتخاب، "استعان ذا حفظ فقد" فقد استعان يعني بذي حفظ، استعان ذا حفظ، استعان به يعني منصوب على نزع الخافض.

.........استعان ذا حفظ 

 

كان من الحفاظ من له يُعد

من الحفاظ من له يُعد الانتخاب، يُنتخب له وهو من الحفاظ، إما لضيق وقته، أو لكون المنتخب أمهر منه في كيفية الانتخاب.

وعلّموا في الأصل إما خطا

 

أو همزتين أو بصاد أو طا

يعني كيف يذكر العلامة؟ ما يلزم أن ينسخ إلى كتاب آخر، يختصر ويُبقي، الآن عندك تفسير ابن كثير طويل تحتاج في قراءته إلى مدة طويلة، وأردت أن تنتخب منه فكيف تصنع؟ وأنت تشق عليك الكتابة، تقول: والله ما أنا بناسخ الكتاب يمكن يطلع في مجلد كبير، الآن تنتخب منه بالتقويس، الآن المتأخرون يستعملون الأقواس، أو بالتحويق، أو بنصف دائرة، على ما مضى في كتابة الحديث وضبطه، واترك الكتاب كاملًا، عندك الأصلي موجود وعندك المختصر، وقد يُستعمل لا سيما في الكتب المطبوعة الحديثة التي تكثر في الأسواق، ويسهل التعامل معها بالألوان، المقطع الذي تريده لونه بلون لا يخفي الحروف، ويكون أيضًا بارز قليلا، هذه طريقة في الانتخاب والاختصار مع بقاء الأصل، وهنا إذا بقي الأصل "وعلموا في الأصل" يعني إذا كنت ما أنت بناسخ المنتخب، تبقي الأصل عندك وتنتخب منه ما تحتاج إليه فيما بعد، يعني عند المراجعة، يعني مثل ما ذكرنا في استعمال الألوان في جرد المطولات، أنتم تذكرون هذا، استعمال الألوان في جرد المطولات، هؤلاء العلماء علموا في الأصل إما خطًّا، يعني تضع عليه خطًّا، تضع على ما تريد خطًّا، وهذا الأصل في الخط أنه فوق الكلام لا تحته، يعني طريقة أهل العلم من المتقدمين يضعون الخط فوق الكلام الذي يراد انتخابه، والمخطوطات كلها شاهدة على هذا، أما وضع الخط تحت الكلمة أو الكلام المطلوب هذا صنيع المستشرقين، وشفنا مطبوعاتهم، نعم هذا موجود.

وعلّموا في الأصل إما خطا

 

أو همزتين.............

يضعون على أول ما تريد همزة، وفي آخره همزة، "أو بصادٍ" صاد مثل الضبة، تذكر طرف الصاد وتمدها على ما تريد انتخابه، أو بدل الصاد طاء، تضع عليها شولة "أو بصادٍ أو طا".

ولا تكن مقتصرًا أن تسمعا  

 

وكتبه من دون فهم نفعا

"ولا تكن مقتصرًا أن تسمعا" يعني لا يكن حظك وهمك من رواية الحديث مجرد السماع، يعني مثلما أشرنا سابقًا أن منهم من يقرأ الكتاب أو يسمع الكتاب أو يحضر درسًا في كتاب، وهو مجرد سرد، وذكرنا مرارًا أنه وضع دورات لقراءة الكتب الستة في شهر، هذه مجرد سماع، لا يحصل فيها تعليق ولا بكلمة واحدة، ما يمكن الوقت ما يستوعب لا تعليق ولا تصحيح ولا بيان خطأ ولا شيء.

ولا تكن مقتصرًا أن تسمعا

 

وكتبه من دون فهم نفعا

"من دون فهم نفعا" يعني من دون فهم نافع ينفعك، مجرد كتابة تنسخ كتب تصير وراقًا، يعني مجرد زيادة نسخة في البلد، أو مجرد سماع بدون فهم هذا لا ينفع، إنما المقصود الفهم؛ لأنك إذا لم تفهم لا تستطيع أن تعمل بما لا تفهم، العمل بالعلم لا بد من فهمه قبل العمل به، فلا بد من الفهم، ولا يقتصر على السماع المجرد ولا على الكتابة دون فهم؛ لأن العمل لا يتسنى إلا بعد الفهم.

واقرأ كتابًا في علوم الأثرِ

 

كابن الصلاح أو كذا المختصرِ

في علوم الأثر يعني في مصطلح الحديث، يسمونه علم الأثر، أو مصطلح الحديث أو أصول الحديث، أو علوم الحديث.

واقرأ كتابًا في علوم الأثرِ

 

كابن الصلاح...........

يعني كمقدمة ابن الصلاح، كعلوم الحديث لابن الصلاح، "أو كذا المختصر" المختصر هذه الألفية، حيث يقول:

لخصت فيها ابن الصلاح أجمعه

 

وزدتها علمًا تراه موضعه

فهي مختصر لابن الصلاح، وكلامه يشمل المختصرات المنظومة والمنثورة، يعني المختصر من ابن الصلاح، وهو في الغالب، وقد بين ذلك في شرحه أنه يريد ألفيته؛ لأنها ملخصة من ابن الصلاح، يعني كما قال في مقدمتها:

لخصت فيها ابن الصلاح أجمعه

 

وزدتها علمًا تراه موضعه

فهو يغري بقراءة كتاب علوم الحديث لابن الصلاح، أو هذه الألفية؛ لأن بعض الناس من يرجح النظم، وبعضهم يرجح النثر، من يرجح النظم يُعنى بهذه الألفية، من يرجح النثر يُعنى بابن الصلاح، والتدرج في قراءة هذا العلم ودراسته تجدونه في المقدمة، مقدمة الألفية التي وضعتها، شوفوا من صفحة كم؟

هذه، في الورقتين من صفحة خمسة إلى ثمانية، هذا فيه التدرج في دراسة هذا العلم.

قلت: وكنت أنصح الطلاب المبتدئين بالبداءة بكتاب (نخبة الفكر) للحافظ ابن حجر؛ لأنه متن متين، وشامل مختصر، حاوٍ لكثير مما يحتاجه الطالب في هذه المرحلة، على أن يقرأه على أحد الشيوخ المتقنين الذين يحسنون التعامل مع الطلاب في هذه السن، ويقرأ ما كُتب عليها من شروح وحواش، ويسمع ما سجل عليها من دروس، ويكثر في هذه المرحلة مع ذلك من حفظ المتون المجردة كالأربعين والعمدة والبلوغ وغيرها، ولا مانع أن يتمرن فيبدأ بتخريج بعض الأحاديث تخريجًا مختصرًا تحت نظر وإشراف أستاذ متمكن يوجهه ويسدده، ثم بعد ذلك يرتقي إلى ما يناسب الطبقة الثانية، والكتاب المرشح عندي هو كتاب: (اختصار علوم الحديث) للحافظ ابن كثير، ويصنع فيه نظير ما صنع في النخبة بقراءة الشروح والحواشي، وسماع الأشرطة والسؤال عما يشكل، وفي هذه المرحلة يبدأ بحفظ المتون بأسانيدها، ويحرص على حفظ السلاسل المشهورة التي يروى بواسطتها كثير من الأحاديث، ومع ذلك يستمر في التخريج، ويكثر منه، وينظر في الأسانيد من خلال كتب الرجال المختصرة كالتقريب والكاشف والخلاصة ونحوها، ويعرض عمله على شيخ معروف من شيوخ الفن، ويكون عمله من تخريج ودراسة للتمرين لا للنشر كما يفعله بعض الطلاب الذين تعجلوا النتائج ثم ندموا على ذلك.

ثم يرتقي الطالب إلى المرحلة التي تليها والكتاب المرشح لهذه الطبقة هو: (ألفية العراقي) الشهيرة التي نظم فيها الحافظ العراقي علوم الحديث ابن الصلاح، وزاد عليه ما يحتاجه طالب العلم مما أغفله ابن الصلاح، وهذه الألفية كتب لها القبول... إلى آخره.

الكلام مفصل هناك، والسيوطي في ألفيته قال:

واقرأ كتابًا تدري منه الاصطلاح

 

كهذه..................

يعني ألفيته "أو أصلها" يعني ألفية العراقي لأنها أصل ألفية السيوطي.

.........................

 

كهذه أو أصلها وابن الصلاح

فألفية العراقي هي الأصل لألفية السيوطي.

يقول:

واقرأ كتابًا تدري منه الاصطلاح

 

كهذه أو أصلها وابن الصلاح

ولذلك تجد الشطر الكامل -شطر البيت كاملًا- في مواضع كثيرة مأخوذ من ألفية العراقي بحروفه، ثم يكمله السيوطي، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"