شرح كتاب الإيمان من صحيح مسلم (30)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد، فيقول الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- في الحديث الذي بدأنا به في درس الأمس: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ) وهو العدني، "قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) وهو ابن عيينة، "عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقاص عن أبيه، "قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَسْمًا) يعني على أصحابه مما يأتيه من الغنائم والصدقات، "فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِ فُلَانًا) جاء في بعض الطرق تسميته: جُعيل. "أعط فلانًا فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوْ مُسْلِمٌ» أَقُولُهَا ثَلَاثًا، وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ ثَلَاثًا).

 سعد بن أبي وقاص الصحابي الجليل المشهود له بالجنة، وهو من العشرة، يشهد لهذا الصحابي بأنه مؤمن ثلاث مرات، ويرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا بأن يقول: مسلم، لا يشهد له بأمر خفي، وأمر قد يخفى عليه بعض أجزائه، بل يشهد عليه بما يظهر منه وهو الإسلام، وفي هذا دليل لجمهور أهل العلم من أهل السنة والجماعة الذين يفرقون بين الإيمان والإسلام، كما هنا، يفرقون بين الإيمان والإسلام، وهذا قول جمهور أهل السنة والجماعة، ومنهم من يقول: الإسلام هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام، ولا فرق، وممن يقول بهذا الإمام البخاري ومحمد بن نصر المروزي، وجاءت نصوص تطلق الإسلام ويشمل الإيمان، وأخرى تطلق الإيمان ويشمل الإسلام؛ ولهذا قال العلماء: إنهما إذا اجتمعا افترقا، فيكون لكل واحد منهما حقيقته، فيكون الإيمان شيئًا والإسلام شيئًا آخر، وإن كان هناك قاسم مشترك لا بد أن يوجد فيمن أسلم، ويوجد فيمن آمن، أو قيل: إنه مسلم، أو قيل: إنه مؤمن، فيفترق إذا اجتمعا، ذكر الإسلام والإيمان في سياق واحد يكون للإيمان حقيقته وحده، وللإسلام كذلك، وإذا افترقا اجتمعا فإذا ذُكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإذا ذُكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام.

 "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أو مسلم» أقولها ثلاثًا، ويرددها علي ثلاثًا، «أَوْ مُسْلِمٌ») سعد حريص على هذا الرجل الذي يعلم منه ما يعلم؛ لأنه قال: "إني لأراه مؤمنًا) يعني أعلمه مؤمنًا، فيمنعني ما أعلم عنه، هو متيقن بما حكم له به، والرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يرده إلى الأمر الواضح الظاهر، فيحكم به، وما عداه يبقى بينه وبين الله -جَلَّ وعَلا-.

"ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ») أي لا تظن أن الذين أعطيتهم هذا العطاء أحب إلي من هذا الرجل، "«إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه؛ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ») يعطي الرجل وهو مفضول؛ مخافة أن يكبه الله في النار، فيعطيه من باب التأليف والتثبيت؛ لأن هذا الأقل إسلامًا أو أقل إيمانًا لو لم يُعط احتمال أن يرتد، فيُثبت بما يُعطى من المال، وذلك يوكَل أمره، إلى ما عنده من إيمان قوي، لا يُخاف عليه شيء من ذلك.

ثم قال: "حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) في كلام لأهل العلم في سند الحديث هل يرويه سفيان عن الزهري أو بينهما واسطة، وقد ذُكرت الواسطة في بعض الطرق، ويكون هذا مما استدركه الدارقطني على الإمام مسلم، لكن لا يمنع أن يكون سفيان رواه مرة عن الزهري بغير واسطة كما هنا، ومرة رواه عنه بواسطة، فالراوي يروي عن شخص عن شخص، يروي عن شخص عن شيخه، ثم يلقى هذا شيخ الشيخ فيروي عنه مباشرة، ما فيه ما يمنع، ولذلك نظائر؛ ولذا الاستدراك في غير محله، يعني كونهم يستدركون على الإمام مسلم أنه روى هذا الحديث من طريق سفيان عن الزهري بدون واسطة، وقد ثبت أنه رواه عنه بواسطة، نقول: وثبت عنه أنه رواه عنه بغير واسطة، وهذا أمر عادي أن تروي عن شخص يُحدثك عن غيره، ثم تلقى هذا الغير فتتحمل عنه الحديث بغير واسطة، تأخذ عنه مباشرة.

"حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) وهو الدورقي، "قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ) ابن شهاب الزهري المذكور في السند السابق، "قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْطَى رَهْطًا) الرهط من العشرة فما دون، الجماعة من العشرة فما دون، "وَسَعْدٌ جَالِسٌ) وقلنا: إن هذه رواية البخاري، يعني موافقة لرواية البخاري، وفيها ما يُسمى بأسلوب التجريد، ما قال سعد: وأنا جالس، قال: "وسعد جالس)، فكأنه جرَّد من نفسه رجلًا سماه سعدًا وتحدث عنه، والمراد هو.

"وسعد جالس فِيهِمْ) والواو واو الحال، "قَالَ سَعْدٌ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ)، "وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ) يعني أنا أقدمه على غيره، وأنا معجب به أكثر من غيره، "فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟) ما لك عن فلان لم تُعطه مثل غيره؟ "فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا) "لأَراه) أي لأَعلمه، وليست بالضم لأُراه أظنه؛ لا، هو جازم بهذا، "فوالله إني لأَراه مؤمنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوْ مُسْلِمًا»، قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ) العلم جزم يقين، وهو جازم بما يقول، "ثم غلبني ما أعلم منه، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوْ مُسْلِمًا»، قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَوْ مُسْلِمًا، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ؛ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ») في هذا عدم الجزم لأحد على الإيمان والأمور الخفية، بل يحكم بما يراه، والإيمان منه شعب ظاهرة وشعب خفية، فلا تحكم إلا بما ترى.

قال: "حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ-، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ) ابن كيسان، "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ) صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: حدثني عامر بن سعد، هؤلاء الثلاثة كلهم تابعيون، ففي الإسناد ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وهذا كثير في الأسانيد، وقد جاء أربعة من التابعين في سند واحد يروي بعضهم عن بعض، كما أنه جاء خمسة من التابعين، وهذا قليل جدًّا، وأقل منه بل هو نادر أن يوجد ستة من التابعين في سند واحد يروي بعضهم عن بعض، قد جاء الستة في حديث يتعلق بسورة الإخلاص، خرجه النسائي في سننه في أطول إسناد في الدنيا كما قال العلماء، وأفرده الخطيب البغدادي في جزء مفرد، حديث الستة من التابعين يروي بعضهم عن بعض.

 "قال: حدثني عامر بن سعد، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، وَزَادَ: فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَارَرْتُهُ) والسر في مثل هذا مطلوب؛ لأنه قد يقول له: أعطِ فلانًا علنًا بين الناس الذين أُعطوا وهذا الشخص موجود فيهم، فيقول ما يقول مما يقتضي رده، فيقع في نفسه ما يقع، فإذا كان سرًّا انتفى هذا المحظور، "فساررتُه فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟) أي ما الذي صرفك عن فلان؟

"وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ هَذَا)، "يُحدث هذا) يعني في هذا الحديث، قال: "فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي، ثُمَّ قَالَ: «أَقِتَالًا أَيْ سَعْدُ؟») يعني هي أخذ باليد؟ قلت لك ما قلت مرة، مرتين مما يقتضي أنني لن أعطي هذا الشخص، ثم تعود ثانية؟! المسألة قتال؟ يعني أخذ باليد، "«أقتالًا أي سعد؟») يعني يا سعد "«إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ») سعد من العشرة المشهود لهم بالجنة، وهذا الرجل شهد له سعد بالإيمان، وقول النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «أو مسلم» لا يقتضي أنه لا ينطبق عليه لفظ الإيمان، وإنما هذا الكلام موجه لسعد أن لا يتسرع ويتعجل بالحكم فيما يرى هو، وهو من يخاطب؟

يعني لو يخاطب واحدًا ثانيًا مثل سعد كان فيه مجال للأخذ والرد، لكنه يكلم الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- الذي لا ينطق عن الهوى، فينبغي أن يكف، وليس في هذا قدح لسعد؛ لأن شفاعة الأخيار لأهل الخير مطلوبة، لكن لا يكرر ثلاث مرات، يرده مرتين ويكرر ثالثة؟ ليست المسألة أخذًا باليد، "«أقتالًا أي سعد؟ إني لأعطي الرجل») ثم ذكر التعليل.

ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- في باب "زِيَادَةِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِتَظَاهُرِ الْأَدِلَّةِ)، هذا العنوان مفاده أنك إذا سمعت خبرًا من شخص على حسب ميزان هذا الناقل وهذا الشخص في الجرح والتعديل، يعني إذا كنت سمعته من ثقة تعلم صحة هذا الخبر، ويغلب عن ظنك أنه صحيح؛ لأنه ليس بمعصوم في الجملة، ثم بعد ذلك إذا سمعته من آخر زادت الطمأنينة، ثم سمعته من ثالث ثقة زادت الطمأنينة حتى يصل إلى حد اليقين. هذه الترجمة أورد فيها الإمام النووي حديث: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» -عليهما الصلاة والسلام-.

قال: "وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبي، "قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله بن وهب إمام أهل مصر، "قال: أَخْبَرَنِي يُونُسُ) وهو ابن يزيد الأيلي، "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) ابن عوف، "وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ») الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» الخليل- عليه السلام-، "«صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]») إبراهيم -عليهِ السَّلامُ- لما قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} هذا الكلام ليس ناشئًا عن شك، والله -جَلَّ وعَلا- يقول له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} مؤمن ومصدق وجازم، ولا تردد عندي، ولكن: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.

 هل في مقابل هذه الطمأنينة لو لم يحصل ما طلب شيئًا من التردد أو الشك، الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قال: «نحن أحق بالشك من إلى إبراهيم»؛ لئلا يفهم أحد أن إبراهيم لما طلب أن يُريه الله كيف يحيي الموتى، قد يقول قائل: إن إبراهيم شاكّ، {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. "قَالَ: «وَيَرْحَمُ اللهُ») الآن الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»؛ ليقطع ويجتث أي شيء يجول في الخاطر أن إبراهيم شك، فمحمد -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لم يشك، ومع تواضعه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قال: أنا أحق بالشك من إبراهيم، إذا كان أحد يظن أن إبراهيم شك فأنا أحق بالشك منه، مع أن إبراهيم -عليهِ السَّلامُ- لم يشك، ومحمد -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أبعد عن الشك، وهو أفضل من إبراهيم وغير إبراهيم.

على كل حال هذه مبالغة من النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- في نفي الشك عن إبراهيم الخليل. "قال) عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "«وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ») {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، لما جاء الضيوف الكرام من الملائكة همَّ بهم قوم لوط ليفعلوا بهم ما كانوا يفعلونه في الذكران، فلوط -عليهِ السَّلامُ- خاف؛ لأنه ما يعرفهم، خاف أن يصلوا إليهم، وقاوم الفجرة، فقال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} دفعتكم ولا تصلون إلى هؤلاء الضيوف الكرام، {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} يعني لو أن لي عشيرة تعينني على دفعكم؟ لكن ليس لي عشيرة. فالرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: "«يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد») ما هو؟ هو الله -جَلَّ وعَلا- {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، يعني أنا عجزت عن دفعكم فليس لي بي قوة على دفعكم، وليس لي عشيرة، ركن أستند إليه يعينني على دفعكم، فالنبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قال: "«يرحم الله لوطًا»)، ذهل لوط وغفل عن الركن الأشد، وهو الله -سُبحانه وتعالى-: "«يرحم الله لوطًا وقد كان يأوي إلى ركن شديد») وهو الله -جَلَّ وعَلا-.

 ثم قال: "«وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ») من الداعي؟ داعي الملك الذي دعا يوسف إلى الخروج من السجن والحضور عند الملك. يوسف لما جاءه رسول الملك ليخرج من السجن ويقابل الملك قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50]، كم لبث؟ لبث سبع سنين، لبث في السجن سبع سنين، ثم جاءه الداعي المأمور؛ ليخرج من السجن. عموم الناس لما يُحكم لهم بالإفراج يبادرون بالخروج من السجن؛ لئلا يطرأ ما يطرأ من تغيُّر رأي الملك، أو المبادرة عمومًا بالخروج من محل الضيق إلى السعة مطلب للناس كلهم. يوسف قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}، ما قال يوسف -عليهِ السَّلامُ- احتمال إذا رجع إلى ربه وهو الملك أن يُلغي قرار الإفراج، ويرجع إلى السجن، ويمكث فيه ما يمكث، {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: 50] من أجل ماذا؟

أن تظهر براءته عند الخاص والعام، ولا سيما عند الملك الذي القضية مع امرأته، يخرج وبراءته وساحته بريئة مثل الشمس عند الملك وغير الملك، {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}، «ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي» الداعي هذا الذي قال له وطلب منه الخروج من السجن.

"وَحَدَّثَنِي بِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ)، "وحدثني به إن شاء الله)، "إن شاء الله) فيها شيء من التردد؛ ولذا قالوا: هذا ليس بأصل، وإنما هو متابع أو شاهد للحديث الذي قبله، ويتجاوزون في المتابعات والشواهد ما لا يتساهلون بمثله في الأصول، وإذا قال: إن "إن شاء الله) تحقيق، وليست بتعليق كانت كالاستثناء في الإيمان عند من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، يكون من باب التحقيق لا من باب التعليق، ولكن الشراح قالوا: إن هذا لأنه ليس بأصل في الباب يُعتمد عليه ما فيه غيره، لكنه متابع، فيُغتفر فيه ما لا يُغتفر في الأصول.

"عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، قال: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ) ابنه، جويرية بن أسماء، يعني عن عمه جويرية بن أسماء، محمد بن أسماء الضبعي أخو جويرية بن أسماء، وجويرية وأسماء من الأسماء المشتركة، وهي في الإناث أكثر، لكن هذا الحاصل: جويرية بن أسماء، فهو من الأسماء المشتركة، ولكنه في الإناث أكثر، لكن هذا الواقع، أبوه سماه أسماء، وهو سمى ولده جويرية، وفي الأسماء في العرب أسماء يعني تتعجب من التسمية بها على حسب فهمنا وعاداتنا وعرفنا، ويوجد في أسماء البادية ما هو مثل هذا أو أشد، إلى الآن موجود. "حدثنا جويرية، عَنْ مَالِكٍ) الإمام مالك، "عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَأَبَا عُبَيْدٍ) واسمه سعد بن عبيد الله المدني، سعد بن عبيد المدني، "وأبا عبيد، أَخْبَرَاهُ)، "سعيد بن المسيب وأبا عبيد أخبراه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ِ وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ: «{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]»، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى جَازَهَا) {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، "حتى جازها) يعني فرغ منها.

ثم قال: "حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ -يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ-، قال: حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ) عبد الله بن عبيد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، ما علاقته بالإمام مالك؟ عبد الله بن عبيد الله بن أويس بن أبي مالك بن أبي عامر الأصبحي، ومالك بن أنس ابن أبي عامر، "عَنِ الزُّهْرِيِّ، كَرِوَايَةِ مَالِكٍ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ: ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَنْجَزَهَا) يعني أتمها.

ثم قال الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- فيما ترجم عليه النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: "بَابُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَنَسْخِ الْمِلَلِ بِمِلَّتِهِ).

قال: "حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قال: حَدَّثَنَا لَيْثٌ) وهو ابن سعد، "عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) المقبري، "عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ») أي لا أحد من الأنبياء "«إِلَّا قَدِ اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ») ما فيه نبي يأتي بدون آيات وعلامات ومعجزات من أجل أن يُصدَّق، "«ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر») يعني عنده معجزات من أجل أن يُصدق، ومعجزة كل نبي من الأنبياء تناسب وقته وعصره، قالوا: السحر كثير في بني إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى، القوم الذين أرسل إليهم موسى، فأتى بما يناسب هذه العادات التي عندهم، فأعطي الحية: {حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه: 20]، وأعطي اليد إذا أدخلها في جيبه تخرج بيضاء، حتى يقال: السحرة لما جمعهم فرعون وجاءوا بسحرهم لما رأوا الحية أسلموا؛ لأنه ليس هذا من نوع السحر، ولا يعرفون مثل هذا، فآمن البشر على هذه الآية والبينة والعلامة والمعجزة التي أُعطيها موسى -عليهِ السَّلامُ-.

قالوا: في عهد عيسى -عليهِ السَّلامُ- الطب منتشر، فأعطي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما أشبه ذلك، نظر ما شاع عندهم من الطب؛ ليعلموا أن هذا الذي جاء به عيسى لا يماثله ولا يقاربه ولا يدانيه ما عندهم من طب.

"«وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ») وحي، النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بُعث في قوم البلاغة والفصاحة، فجاء بالقرآن الوحي الذي عجزوا عن مضاهاته ومعارضته وأذعنوا له، وصرحوا بذلك، وطُلب منهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله وعجزوا عن ذلك.

"«وإنما كان الذي أوتيه وحيًا أوحى اللهُ إليَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ») لماذا؟ لأن معجزات الأنبياء مرتبطة بهم، فإذا مات النبي انتهت معجزته. لكن المعجزة العظمى القرآن هل انتهت بموت النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أو استمرت إلى قيام الساعة؟ استمرت حتى يُرفع القرآن من المصاحف والصدور؛ وذلكم لأن رسالته باقية وعامة وشاملة إلى قيام الساعة. "«فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة»).

قال: "حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا يُونُسَ، حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، "حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو) لماذا أتى بالواو؟ لأن عَمرًا أخبر ابن وهب بمجموعة أحاديث، بعدة أحاديث ليس هذا أولها، فحذف مجموعة من الأحاديث التي حدثه بها، وذكر واحدًا من بينها، فعطفه على المحذوف، يعني لو كان أول حديث أو ما حدثه غيره قال: أخبرني عمرو، لكن هو حدثه بعدة أحاديث، فابن وهب اقتصر على هذا الجزء من الأحاديث أو على هذا الحديث أو على هذه الجملة، واختصار الأحاديث جائز عند أهل العلم بالشرط المعروف عندهم: ألا يكون المحذوف أو المذكور متعلقًا بالمحذوف، يعني له علاقة بالمحذوف لا يُفهم إلا بذكره، فلا بد أن يؤتى به كاملًا، فأما إذا كان يُفهم من دون بقية الجمل فلا مانع من حذفها اختصارًا، ويُقتصر على المطلوب.

 "وأخبرني عمرو، أَنَّ أَبَا يُونُسَ، حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ») فيه إثبات اليد لله -جَلَّ وعَلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، وبعض الشراح ممن لا يُثبت اليد لله -جَلَّ وعَلا- يقول: «والذي نفسي بيده» روحي في تصرفه، ما فيه أحد روحه ليس في تصرف الله -جَلَّ وعَلا-، لكن إذا قال ذلك فرارًا من إثبات الصفة رُد عليه وقيل: ليس بصحيح، وإذا كان ممن يثبت الصفة فلا أحد روحه في تصرف غير الله -جَلَّ وعَلا-.

"«والذي نفس محمد بيده، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ»)، «لا يسمع بي أحد» نكرة في سياق النفي فتعم كل أحد، "«مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»)، والأمة شامل لأمة الإجابة وأمة الدعوة؛ ولذلك قال: "«يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ»)، هؤلاء من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين هم أمة الدعوة. "«ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»)، اليهود والنصارى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1]، {كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، الذي لا يؤمن بمحمد -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- كافر ولو آمن بغيره من الأنبياء. «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»؛ لأنه كافر، الذي لا يؤمن بمحمد -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- كافر، ولو كان تابعًا لديانة منسوخة كاليهودية والنصرانية.

قال: "حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قال: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ) يحيى بن يحيى التميمي؛ لأنه يلتبس بيحيى بن يحيى الليثي راوي الموطأ عن الإمام مالك، "قال: أخبرنا هشيم) ابن بشير الواسطي، "عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ) ابن مسلم بن حيان، وقد يقال: ابن حَي؛ لأنهم يختصرون الاسم: حيان، ابن حي، يكثر نقل أقواله لا سيما الفقهية صالح بن حي. هشيم بن بشير الواسطي معروف أنه مدلس، وروى عن صالح بعن، والمدلس من المدلسين من لا تُقبل روايته حتى يصرح بالتحديث، لكن عنعنات المدلسين في الصحيحين محمولة على الاتصال، وأنهم سمعوها ممن رووها عنهم.

"صالح بن صالح الْهَمْدَانِيِّ) عندنا هَمْداني، وعندنا هَمَذاني، هَمْدان قبيلة، وهَمَذان بلد، وكل ما في صحيح مسلم: هَمداني، ما فيه ولا واحدة همذاني. "الهَمْداني عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شراحيل، "قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ سَأَلَ الشَّعْبِيَّ)، "عن الشعبي قال: رأيت رجلًا من أهل خراسان سأل الشعبي) وهذا فيه نوع تجريد؛ لأن الشعبي هو الذي يروي القصة، فيقول: سأل الشعبي، أعطى رهطًا وسعد جالس، وسعد هو الذي يتكلم، والشعبي هو الذي يتكلم. "سأل الشعبي) هذا إذا كان قائله: "رأيت) هو الشعبي، وإن كان قائله: "رأيت) هو صالح بن حي، فيكون "عن) هذه ليست صيغة الأداء؛ لأن عن تأتي لا بمعنى الرواية. إذا كان رآه يسأله ما يحتاج إلى أن يرويه عنه، يكون الشعبي يُحدثه به وقد رآه بنفسه. مثل ما جاء أنه خرج عن فلان، نسيت اسمه، أنه خرج عليه خوارج فقتلوه، عن فلان أنه خرج عليه خوارج فقتلوه. هو يروي عنه؟ يمكن أن يروي عنه؟

طالب: .......

يروي عنه أنه خرج عليه خوارج فقتلوه؟

طالب: .......

فتكون المراد بعن فلان: عن قصة فلان، وإلا إذا قتله الخوارج كيف يُروى عنه؟

"قال: رأيت رجلًا من أهل خراسان سأل الشعبي، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، إِنَّ مَنْ قِبَلَنَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَهُوَ كَالرَّاكِبِ بَدَنَتَهُ) يعني إذا أهداها للبيت أو أوقفها في سبيل الله للجهاد ثم يركبها، ففيه نوع رجوع فيما أهداه. "فهو كالراكب بدنته، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ) عامر "بْنُ أَبِي مُوسَى) الأشعري، "عَنْ أَبِيهِ) أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ») يهودي أو نصراني، يهودي آمن بموسى وعمل بشريعته، ثم بُعث محمد -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- فآمن به، رجل نصراني آمن بعيسى وعمل بشريعته ثم بُعث محمد -صلى الله عليه وسلم- فآمن به. "«رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، فَلَهُ أَجْرَانِ») أجر الإيمان بنبيه، وأجر الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، "«وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ تَعَالَى وَحَقَّ سَيِّدِهِ») الحر يؤدي حقًّا واحدًا، وهو حق الله -جَلَّ وعَلا-، والعبد عليه حق الله- جَلَّ وعَلا- إضافة إلى حق سيده، "«فَلَهُ») أيضًا "«أَجْرَانِ») أجر لأدائه لحق الله -جَلَّ وعَلا- وأجر لأدائه لحق سيده، "«فله أجران، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَاهَا») «فغذَاها» بالتخفيف، ما يقال: غذَّاها، «فغَذَاها»، وجاء في الحديث القدسي: «وغُذِي بالحرام». "«فَغَذَاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا») يعني أحسن إليها أولًا وآخرًا، "«كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا»).

 الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، "«ثم أعتقها وتزوجها فَلَهُ أَجْرَانِ») أجر الإحسان في البداية، وأجر العتق. «فله أجران» يعني أفضل أن يُعتقها، يحسن إليها ويعتقها ويتزوجها، أو يتركها حرة بعد عتقها لتختار من تشاء من الرجال؟ في الحديث: «له أجران»؛ لأنه لا يدري ما يحصل لها بعد العتق، قد تضيع، قد يحصل لها ما يحصل، لكنه ضمن حياتها أولًا وآخرًا.

"ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ لِلْخُرَاسَانِيِّ: خُذْ هَذَا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ شَيْءٍ) بغير بدل، مجانًا، "فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ) حديث واحد يُرحل إليه إلى المدينة! الخطيب البغدادي له كتاب الرحلة في طلب الحديث، ورحل جابر إلى عبد الله بن أنيس وهو بالشام؛ من أجل حديث واحد، من المدينة، من أجل حديث واحد يرحل الإنسان وهو لا تظنون أنه على طائرة بساعة أو سيارة بساعتين، ثلاث، خمس، لا، على الإبل، شهر كامل، من أجل حديث واحد! وأنتم بين أيديكم الكتب، وبين أيديكم الوسائل والكتب، في وقتهم الأحاديث مكتوبة على الجلود وعلى الصخور وعلى الحصى، ومكتوبة على جريد النخل، يعني تصور أن صحيح مسلم كم يجيء من جلد لو كُتب عليه، لو كُتب على جلود؟ يحتاج إلى عوامل وحوامل إذا انتقلت من مكان لمكان لتحمله، ممكن يحتاج إلى عشرة أبعرة، عشرة بعارير تشيله، الأربعون النووية لو كُتبت على حصى كيف تحمله؟

هذه نِعم تيسرت لنا، لم تتيسر لمن قبلنا، يعني الورق هذا ما وُجد إلا في عهد هارون الرشيد، وقبله يكتبون على الحصى وعلى الجلود وعلى عُسب النخل. "فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة) ونحن تيسرت أمورنا، والكتب تُطبع على أفضل وجه وعلى أحجام توضع في الجيب بدلًا من أن تُحمل على بعير، ووسائل الاتصال والمواصلات أيضًا، الآن كنا إذا أردنا أن نُخرج حديثًا أو نتأكد من اسم راوٍ ما فيه شيء إلى أن نعود إلى البيوت، ونبحث في الكتب، الآن هذه الجوالات التي في جيبك وتطلع كل شيء، أليس صحيحًا؟

نعم. تصور نفسك معك الأربعون النووية مكتوبة على حصى، هو مطبوع في ثلاث ورقات، شف النعمة، نِعم تحتاج إلى شكر. لكن مع ذلك ظروفهم التي سمعتهم يحفظ الواحد منهم مليون حديث، الإمام أحمد سبعمائة ألف حديث، أكثر من جميع البرامج الموجودة، وأبو داود خمسمائة ألف حديث، وفلان وفلان، الأئمة يحفظون، لماذا؟ لأننا اتكلنا أو اعتمدنا على هذه التسهيلات، فصرنا ما نتحمل شيئًا، والله المستعان.

"يرحل فيما دون هذا إلى المدينة، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، ح، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، قال: حَدَّثَني أَبِي، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كُلُّهُمْ عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ)، والله أعلم.

هذا يقول: ما رأيكم في المكتبة الإلكترونية بديلًا عن الورقية، حيث إن بعض أجهزة التخزين- يقول: الهارديسك- تستوعب أكثر من مائة ألف كتاب في شتى الفنون والعلوم، وأيضًا توجد أجهزة بحجم الكتاب الآيباد وغيره سهلة التنقل والتصفح؟

يعني مثل هذه الأمور في أوقات الضيق ما عندك وقت تراجع الكتب، تروح المكتبة تقلب الكتب، هذه مقبولة، أو في سفر، بدلًا من أن تحمل الكراتين مثل ما نفعل، تحمل لك جهازًا.

العلم الشرعي عمدته ومعوله على النصوص: قال الله، قال الرسول، هذا الأصل، ثم بعد ذلك يُعنى طالب العلم بما يعين على فهم كلام الله وكلام رسوله. هذه العلوم إن لم تُحفظ ما تثبت، والقرآن بالذات الذي لا يُروى بالمعنى لا بد أن يُحفظ بحروفه، ما ينفع فيه الاجتهاد، والحفظ لا بد فيه من معاناة وحفر في الذهن وترديد وتكرار، يعني كان الناس في أول الأمر عمدتهم على الحفظ، وجاء النهي عن الكتابة في حديث أبي سعيد: «لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن»، والحديث في الصحيح، «ومن كتب شيئًا سوى القرآن فليمحه»؛ لماذا؟ لأنهم لو اعتمدوا على الكتابة ضعف الحفظ، ثم بعد ذلك الكتابة صارت ضروية، تعلم الناس الكتابة، وكثر العلم، فصار كل شيء، كان أول الأمر العلم بالتدريج يُحفظ بالتدريج، والناس عندهم حافظة وقرائح ولا اعتمدوا على غير الحفظ فينسوا، هذا شيء أدركتموه، لما كانت الهواتف، بعض الناس ما يكتب، يسمع رقم الجوال ويحفظه وخلاص، ما يحتاج إلى دليل، ثم بعد ذلك صاروا يكتبون، ثم اعتمدوا على نسخه في جوالاتهم، فصار ما يحفظ الإنسان ولا رقم أمه؛ لأنه خزن وانتهى فاعتمد عليه.

بعد ذلك جاء الإذن بالكتابة: «اكتبوا لأبي شاه»، وأُذن بالكتابة، وأجمع عليها، ما فيها إشكال، فصار الناس يكتبون، وكتابة العلم أو أي شيء تكتبه أفضل من أن تقرأه عشر مرات بدون كتابة؛ لأن الكتابة تثبت العلم، ولذلك ضعيف الحفظ يُوصى بالكتابة، تريد أن تحفظ خمس آيات، حافظتك ضعيفة، أو تحفظ حديثًا أو حديثين اكتبهم ورددهم في كتابتك، فيثبت الحفظ بهذه الطريقة. مشى الناس على هذا، يكتبون ويحفظون، وبقي الحفظ، استمر إلى أن جاءت الطباعة، فبدلًا من أن يجلس طالب العلم ينسخ الكتاب وهو ينسخ الكتاب ويتأمل في حروفه وأسطره ويضع القلم ويشيل هذه الآية أو الحديث أو الكلمة أو كذا، يَثبت ينظر إليه نظر عناية؛ لئلا يخطئ فيثبت مع الكتابة، جاءت المطابع، وصار يُطبع الكتاب من مجلد، مجلدين، عشرة، عشرين مجلدًا، ويشتريه طالب العلم، يرصه في المكتبة، ثم ماذا؟ ما النتيجة؟ لا شيء، لأن العلم كان بالكتابة تدريجيًّا مثل الحفظ أو قريب من الحفظ. أما بالطباعة ما فيه تدريج، أحيانًا الواحد يشتري مكتبة فيها ألوف مؤلفة من المجلدات، كيف يحفظ؟

على كل حال نقول: الطباعة إذا استُغلت واستفاد منها طالب العلم، وراجع هذه الكتب، وصارت ديدنه استفاد منها فائدة كبيرة، ولا نقول: إنها الكتابة ومثل الحفظ السابق. ولذلك ظهر أثرها في ضعف الحفظ إلى حد يجعل بعض طلاب العلم لا يحفظ إلا القليل النادر، ولذا أفتى بعض شيوخ الأزهر بتحريم طباعة الكتب الشرعية؛ للأثر السلبي على العلم. ثم بعد ذلك فرضت نفسها، وصار الناس يتداولونها من غير نكير، ثم جاءت الطامة الكبرى: هذه الآلات التي تجعل طالب العلم يحمل عشرة آلاف مجلد في جيبه، لكن النتيجة، أو في جهاز...

"