شرح سنن أبي داود - كتاب الطهارة (19)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد،

فيقول الإمام أبو داود، في سُننه -رحمه الله تعالى-:

بَابُ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا".

الباب تقدم التعريف به مرارًا، والوضوء معروف، وعُرِّف فيما سبق، وقوله: "ثَلَاثًا ثَلَاثًا" يعني ثلاث مرات، وتكرار الثلاث؛ لإفادة أنَّ كل عضو من أعضاء الوضوء يُغسل ثلاثًا. ولو قيل: باب الوضوء ثلاثًا، دون تكرار لاحتمل أن يكون على المسلم أن يتوضأ ثلاث مرات، لكن ثلاثًا ثلاثًا يعني: لكل عضو ثلاثًا ثلاثًا. وفي الباب الذي يليه: مرتين مرتين. وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام- كما سيأتي في الباب الثالث: باب الوضوء مرة مرة؛ فثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنَّه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، بمعنى أنَّه غسل أعضاء الوضوء كل عضو ثلاث مرات، وجاء عنه أنَّه غسل كل عضو من أعضاء الوضوء مرتين، وجاء عنه أنَّه توضأ مرة مرة، بمعنى: أنَّه غسل كل عضو مرة واحدة، وجاء عنه التفريق، وإن شئت فقل: التلفيق، بمعنى: أنَّه غسل بعض الأعضاء مرة، وبعضها مرتين، وبعضها ثلاثًا في وضوء واحد. وكل هذا ثابت عنه -عليه الصلاة والسلام-.

والإجمال في قوله: "ثَلَاثًا ثَلَاثًا" نُسب إليه -عليه الصلاة والسلام- بالأسانيد الصحيحة من قِبَلِ من وصف وضوءه -عليه الصلاة والسلام- بالإجمال. واستدل بالمجمل من يرى مسح الرأس ثلاثًا، مع أنَّ النصوص المفسِّرة المُبيِّنة لوضوئه -عليه الصلاة والسلام- التي ذكرت الأعضاء، وعدد الغَسَلات، ما ذكرت العدد في مسح الرأس على ما سيأتي. وعلى كل حال الأكثر من أهل العلم على أنَّ الرأس يُمسح مرة واحدة، وبقية الأعضاء تُغسل ثلاثًا، أو مرتين، أو واحدة. كل ذلك جائز، ولكن أكملها وأفضلها الثلاث على ما سيأتي.

ومن استدل بالمجمل أنَّه غسل ثلاثًا ثلاثًا؛ أدخل فيها مسح الرأس بهذا اللفظ المجمل، ولا شك أنَّ النص المُبيِّن المفسر يقضي على المجمل.

 

يقول -رحمه الله تعالى-:

"حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ" وهو ابن مُسرهد بن مُسربل.. إلى آخر النسب الذي ذكرناه سابقًا مما لا يثبته المحققون من أهل العلم على هذه الصيغة المتتابعة، مُسدد بن مسرهد بن مسربل بن معربل بن غرنبل بن أرندل بن سرندل، هذا كله. هذا ذُكر في ترجمته لكن أهل التحقيق من أهل العلم لا يرون ثبوت مثل هذا النسب. أمَّا مسدد بن مسرهد هذا معروف، هذا اسمه واسم أبيه.

"قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ" وهو الوضاح بن عبد الله اليشكري، وكلاهما من رجال الصحيح. مسدد، وأبو عوانة، من رجال الصحيح. الوضاح بن عبد الله اليَشكري من رواة الصحيح، وهو ثقة عند أهل العلم، لكن من في قلبه دَخَل أراد أن يطعن في خبر جاء من طريقه يرد عليه في معتقده، وأهل البدع يتتبعون المتشابه لما في قلوبهم من الزيغ. جاء في بعض كتب التراجم التي لم تحقق، وحصل فيها أخطاء معروفة، قيل عن أبي عوانة، لمَّا سُئل عنه غلام، قال: ذاك وضَّاع. والمسؤول يُبين اسمه، يريد أن يقول: ذاك وضَّاح، اسمه وضَّاح. ولا أحد من أهل العلم يطعن فيه. وإن كتابه أضبط من حفظه، لكنه ثقة، متفقٌ على جلالته، وإمامته. وهو من رجال الصحيح.

هذا الذي التقط هذه الغلطة، وهذا الخطأ المطبعي الذي لا يوجد في الأصول المعتمدة من الكتاب، هذه طريقة أهل الزيغ، وأهل الضلال؛ يتتبعون مثل هذه الألفاظ، ويستمسكون بها، وإن كان ليس فيها مستمسك؛ لأنها خطأ مطبعي، ما هو بخطأ من إمام، أو زلة من عالم، لا. ما يوجد من أهل العلم من رمى أبا عوانة، بالوضع، أو بالكذب، أو حتى بالضعف. لكن تتبع مثل هذه الغلطات هي سمة أهل البدع، وهو يريد بذلك أن يُضغِّف حديثًا صحيحًا ثابثًا يرد عليه معتقده، وقد عُرِف بخلافه في الاعتقاد، وانتمائه إلى مذهب الجهمية، وإن كان من المتأخرين، نسأل الله العافية -.

"قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ" شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، هذه السلسلة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، من السلاسل المشهورة، والتي يُروى فيها عدد من الأحاديث، وهي مما يختلف فيها أهل العلم؛ لخلافهم في عَوْد الضمير في قوله: "عن جده"، هل يعود إلى عمرو؟ فيكون المراد (بالجد) محمد، عمرو بن شعيب بن محمد، ومحمد تابعي؛ فيكون الخبر مرسلًا، أو تكون الأخبار المروية بهذه السلسلة مرسلة. أو يعود الضمير "عن جده"  إلى أقرب مذكور وهو الأب، فيكون المراد (بالجد) عبد الله بن عمرو، وهذا هو الصحيح. وقد صرَّح في مواضع في سُنن النسائي، وغيرها أنَّه قال: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو. وقد ثبت عند أهل العلم سماع شعيب، من جده عبد الله بن عمرو، وهذا قول من يقول: بثبوت ما روي بهذه السلسلة.

وعلى كل حال الخلاف معروف في هذه السلسلة. ورأى بعض المحققين نظرًا لوجود مثل هذا الخلاف، ولكلام يسير في عمرو، قالوا: إنها لا ترتقي إلى الصحة، ولا تنزل عن الحُسن؛ فهي ثابتة، لكن ليس ثبوتها مما يوصلها إلى درجة الصحة؛ فيُحكم عليها بالحُسن.

جاء سلسلة أخرى عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وفيها خلاف أيضًا، والخلاف فيها أشد من الخلاف في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وإن كان بعضهم يقول: إنَّ بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده أقوى من عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ لأنَّ البخاري أثبت حديثًا في جامع الترمذي، سأله عنه أنَّه أصح ما في الباب، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده لا شك أنَّ السلسلة أقوى من تلك، وكون البخاري يقول حديث الطائفي المراد به أصح ما في الباب، لا يعني أنَّه صحيح؛ لأنَّ أهل الحديث، وغيرهم من أهل العلم قد لا يستعملون أفعل التفضيل على بابها.

على كل حال نحن يعنينا الآن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، والتوسط في أمره أن يُقال: ما روي بهذه السلسلة إذا صحَّ السند إلى عمرو، هو من قبيل الحسن، وهو الذي يراه الأئمة الكبار من أهل التحقيق، فلا إشكال حينئذٍ، وإن اختلف في عَوْد الضمير في (جده).

"أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الطُّهُورُ؟" يعني كيف الفعل في التطهر؛ ولذلك قال بـ (ضم الطاء) طُهور، كما يُقال: الوُضوء، بخلاف (الفتح) الطَّهور، والوَضور فإنَّه يُطلق على الماء الذي يُتطهر به، أو يتوضأ به.

"كَيْفَ الطُّهُورُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا" هذا الغَسل ليس من الفرائض، الكف ليست من الفرائض غسلها قبل غسل الوجه، ليس من فرائض الوضوء، وإنَّما هو مما يُندب؛ فتُغسل ثلاثًا، ويتأكد غسلها بالنسبة للقائم من النوم، يتأكد ذلك، وأوجبه بعضهم، وقال بعضهم: إنَّه مندوب، ويتأكد للأمر به، أو بالنهي عن غمس اليد قبل أن تُغسل ثلاثًا. والأصل في الأمر الوجوب، «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء؛ حتى يغسلها ثلاثًا». الأصل الوجوب، لكن من قال بالندب، والسُّنيَّة، قال: إنَّ العلة مظنونة، مشكوك فيها «فإنه لا يدري أين باتت يده»، ويده مقطوع بطهارتها قبل النوم، والظن لا يزيل اليقين؛ فما دامت العلة مظنونة مشكوكًا فيها، فإنَّها لا ترقى إلى التأثيم، ولكنَّ الأصل «فلا يغمس يده» النهي مثل هذا قوي، «حتى يغسلها ثلاثًا»، والخلاف معروف عند أهل العلم.

"فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا" تقدم تحديد الكف وأنَّه إلى المفصل، وإلى الرسغ. وتحديد الوجه طولًا من منابت شعر الرأس إلى الذقن، وعرضًا من الأذن إلى الأذن.

قال: "ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا" هذا هو الفرض بعد غسل الوجه، الفروض المنصوص عليها في آية المائدة {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [سورة المائدة:6]، هذه الفروض. أمَّا غسل الكفين قبل غسل الوجه، فهذا مندوب.

"ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا"، واليد المفروض غسلها في هذا الموضع من أطراف الأصابع إلى المرفقين، ولا يكفي غسل الكفين في بداية الوضوء - غسل المسنون - عن غسلهما المفروض مع الذراعين إلى المرفقين.

"ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ" (الباء) هذه للإلصاق، قال بعضهم: هي للتبعيض كما قالوا في الآية، لكن المُبيِّن فعله - عليه الصلاة والسلام -؛ إذ لم يُنقل عنه ولا مرة واحدة أنَّه اقتصر على بعض الرأس، وإنَّما يمسح رأسه بيديه كلتيهما، يُقبل بهما ويُدبر، يبدأ بهما من مقدم رأسه؛ مما يدل على استيعاب الرأس بالمسح. "ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ" و(الباء) هذه للإلصاق؛ إذ لو حذفت، وقيل: ثم مسح رأسه؛ لاحتمل أن يكون مسحهما بيده من غير ماء، كما يُقال: مسح رأس اليتيم، الذي يمسح رأس اليتيم يبل يديه بالماء، ويمسح رأسه؟ لا، هذه تدل على أنَّ في شيء يُلصق بالرأس، وهو الماء.

"فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْه" السباحتان، وهما السبابتان اللتان تليان الإبهامين في اليدين. سبَّاحة، وهي السبابة؛ لأنَّه يُسبَّح بها، ويُذكر بها، ويُشار بها. ويُقال: سبابة؛ لأنَّه أيضًا يُشار بها عند السب والشتم وعلى طريقتهم، فهي سبَّاحة تستعمل في الخير - وهذا الكثير الغالب، وقد تُستعمل في ضده، وهو السب والشتم، لكن هذه صفتها ولها وضعها.

"فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ" والمراد (أطراف السباحتين)، ولا يُمكن إدخال الأصبعين في الأذنين، إنَّما يُدخل الطرف الممكن إدخاله، كما في قوله -جلَّ وعلا-: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} [سورة نوح:7]. المقصود: أطراف الأصابع؛ ليسدوا هذه الأذان، وهنا أطراف الأصابع؛ ليمسحوا بها داخل الأذنين.

"وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ" الإبهام معروف، ومن الطرائف أنَّ بعضهم قال: إنَّ الإبهام سُمِّي إبهامًا لخفاء اشتقاقه، لا يُعرف مما اشتق، لكن كونه لا يُعرف لا يعني أنَّه ليس له سبب في التسمية. "وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ" ظهور الأذنين مما يلي الرأس، وباطن الأذنين ما فيه الثقب- ثقب الأذن-، والذي يحصل به السماع.

"فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ" هذا بيان لما سبق، "فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ" يحتمل أنَّه بماء أو بغير ماء، لكن العطف يقتضي تكرار العامل، "وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ" يعني: بالإبهام المبلول بالماء، "وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ" أيضًا مسح كما مسح الظاهر، مسح الباطن بالسباحتين.

"ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا" وهذا فرض الرجلين، وهو: الغسل. فرض الرجلين الغسل ولا يكفي المسح كما يقوله بعض الفرق الضالة استدلالًا بقراءة الجر، {امسحوا برؤوسِكم وأرجلِكم}، فتُمسح الرجل كما يُمسح الرأس، وهذا القول ما قال به أحد يُعتد به من أهل العلم، ما قاله أحد يُعتد بقوله من أهل العلم، وإنَّما هو قول الروافض كما هو معلوم، يمسحون، وقد جاء التشديد في غسل الرجلين حتى قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ويل للأعقاب من النار»، وهذا هو القول المعروف المعتمد الذي لا يختلف فيه من يُعتد بقوله من أهل العلم. يعني يُنسب لأبي جعفر، محمد بن جرير الطبري أنَّه قال بالمسح، وفي تفسيره - تفسير محمد بن جرير الطبري- القول بالمسح باعتباره معنى من معاني الغسل؛ ولذلك أورد حديث «ويل للأعقاب من النار» من طرق كثيرة. هل يريد ابن جرير في تفسيره المسح حقيقة المسح الذي هو مجرد إمرار اليد على القدم، من دون استيعاب للقدم، مجرد مسح كما يمسح الرأس، وهو يورد «ويل للأعقاب من النار» من طرق كثيرة، وقد جاء في لغة العرب ما يدل على أنَّ المسح يُطلق ويُراد به الغسل؛ فالمتعين والمتحقق أنَّ الطبري الإمام المعروف ابن جرير لا يقول بالمسح، وإنَّما يقول بالغسل. وإن أورد المسح الذي وأورد عليه شواهد من لغة العرب أنَّه يدل على الغسل. وأمَّا ما نُسِب لمحمد بن جرير الطبري، من القول بالمسح؛ فهو شخص أخر يوافق الإمام في كنيته، واسمه، ونسبته، أبو جعفر محمد بن جرير يختلف معه في الجد، ابن رستم الطبري، من الشيعة. هذا ذكره أهل العلم، ونصَّ على أنَّ المسح هو الفرض بالنسبة للرجلين.

"ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا" يعني كل رجل غسلها ثلاثًا، "ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا الْوُضُوءُ» هذه صفته، يعني السائل يقول: كيف الطُّهور؟ فأجابه -عليه الصلاة والسلام- بالفعل، وقال: «هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ -أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ -».

«فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا» هذا لا شك أنَّه أَسَاءَ وَظَلَمَ؛ لأنَّه زاد على ما شرعه الله - على الثلاث -، وخرج من حيز الاقتداء، والاستنان به - عليه الصلاة والسلام - إلى حيز الابتداع. أمَّا من نقص إن كان عن الثلاث، فقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنَّه توضأ مرتين مرتين، وإذا توضأ مرتين مرتين نقص عن الثلاث أو ما نقص؟ نقص. وإذا توضأ مرة مرة نقص أو ما نقص؟ فهل نقول: إنَّ من نقص عن الثلاث أساء وظلم؟ من أهل العلم من حكم على الزيادة بالشذوذ، وأنَّها ليست ثابتة، هذه الزيادة - الجملة - «فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ».

ومنهم من يقول: أنَّ من زاد لها ما يشهد لها، وأنَّ الزيادة على المشروع لا شك أنَّها إساءة وظلم للنفس. وأمَّا النقص لا شك أنَّها إن كانت عن الثلاث فلا؛ لأنَّ الثنتين، والواحدة ثابتة بالأسانيد الصحيحة في الصحاح والسنن عنه -عليه الصلاة والسلام-؛ فلا تكون هذه إساءة أو ظلم. منهم من يقول: من نقص في غسل الأعضاء، ما استكمل غسل الوجه، أو ما استكمل غسل اليدين، أو ما استكمل غسل الرجلين؛ نقص من استيعاب الأعضاء، فقد أساء وظلم. وهذا الكلام صحيح الذي يقصِّر في غسل الأعضاء ألا يكون مسيئًا؟ بلى، أو نقص عن الواحدة، نقص بعض الأعضاء، بعضها ما غسلها واحدة، نعم، ولو غسل بقية الأعضاء ثلاثًا.

المقصود: أنَّ النقص لفظ محتمل، وحمله على المرتين والواحدة غير متجه، وحينئذٍ يتجه القول بتضعيف هذه الزيادة، وقد قيل به. وأمَّا إذا حُمل النقص على النقص من الأعضاء، بحيث لا يستوعب العضو بالغسل فهذا الكلام متجه، ويُمكن تصحيح اللفظة على هذا الاعتبار.

قلنا إنَّه ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا كما في حديث الباب، وفي غيره من الأحاديث التي وصفت وضوءه -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين وغيرهما. وتوضأ مرتين مرتين. وتوضأ مرة مرة، وقلنا إنَّه توضأ في بعض الأعضاء ثلاثًا، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها واحدة. كل هذا ثابتٌ عنه –عليه الصلاة والسلام-.

لكن إذا شك في العضو، هل غسله مرتين أو ثلاثًا، ماذا يصنع؟

طالب: ...

نعم، يزيد؛ لأنَّه المتيقن؟

طالب: ...

لأنَّه المتيقن، يزيد رابعة؟

طالب: ...

لمَ لا يزيد؟

طالب: ...

نعم، لكن يقول: أنا والله ما أدري، هل غسلت ثنتين أم ثلاثة! إذا شك في صلاته هل صلى ركعتين أو ثلاثًا، قالوا: يبني على الأقل؛ لأنَّه المتيقن، ويزيد ركعة. صح أم لا؟ وإذا قال: أنا ما أدري أنا غسلت وجهي مرتين أو ثلاثًا، نقول: تبني على الأقل؛ لأنَّه المتيقن، وتزيد غسلة، صح؟ هذا مقتضى القاعدة. نعم، هذا مقتضى القاعدة، لكن ألا يوجد فرق بين هذا الباب، وبين الزيادة في الأمور الأخرى مثل الصلاة؟

الصلاة إذا تردد هل صلى ركعتين أو ثلاثًا، قالوا: يبني على الأقل؛ لأنَّه المتيقن، لماذا؟ لأنَّه إن لم يزد دار أمره بين الصحة إن كان العدد كاملاً، أو البطلان إن كان ناقصًا. وهنا الأمر يدور بين سُنَّة وسُنَّة. هم ثلاث أم ثنتان؟ كلها ثابتة، لكن هل ورد نقص ركعة من الصلاة؟ لا، يعني: الشك في الصلاة يعرضها للبُطلان؛ لاحتمال أن تكون بالفعل ناقصة، لكن هنا لو صارت ناقصة، ما غسل ثلاثًا. الواقع أنَّه غسل ثنتين، وأيش يصير؟ نعم، فهنا يدور العمل بين سُنَّة وبدعة. يعني: إن كانت ناقصة فهي سُنَّة، وإن كانت زائدة فهي أيش؟ بدعة، إن غسل أربعًا فبدعة، ابتدع؛ وحينئذٍ يكون المرجح في مثل هذه الحال -وإن كان العلماء يطردون الباب هنا وهناك في الوضوء والصلاة- لكن في الصلاة الأمر خطير، احتمال أن تكون الصلاة باطلة إذا لم يكن العدد كاملًا، وهنا إذا لم يكن العدد كاملًا فالوضوء صحيح وأصاب السُّنَّة، لكن إن كان كاملًا ثم زاد؛ خرج من حيز السُّنَّة إلى البدعة.

ثم قال -رحمه الله-: "بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ" والمراد: مرتين مرتين، مثل: ثلاثًا ثلاثًا، ومرة مرة.

"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ" أبو كريب، ثقة من الثقات. قال: "حَدَّثَنَا زَيْدٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْحُبَابِ- قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَوْبَانَ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ".

 وهذا أيضًا ثابت عنه -عليه الصلاة والسلام- كما توضأ ثلاثًا ثلاثًا، توضأ مرتين مرتين. وما يرد في الرأس في الباب السابق من أنَّه مجمل بُيِّن في الأحاديث الأخرى بأنَّه مسح مرة واحدة يُقال أيضًا هنا، أنَّه غسل الأعضاء مرتين مرتين، ويبقى المسح على أنَّه مرة واحدة كما بُيِّن في الأحاديث التي ثبتت عنه -عليه الصلاة والسلام- في وضوئه، وأنَّه مسح رأسه مرة.

ثم قال: "حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، قال: حَدَّثَنَا زَيْدٌ" يعني: ابن أسلم، "عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ لنا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتُحِبُّونَ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِإِنَاءٍ" يعني: قالوا لا أم نعم؟ قالوا: بلى، أو نعم؛ لأنَّها ليست منفية، لو قال: ألا تحبون، قالوا: بلى، لكن "أَتُحِبُّونَ" قالوا: نعم، بدليل أنَّه "دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَاغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى فَجَمَعَ بِهَا يَدَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ" يعني: تمضمض واستنشق من غرفة واحدة. وثبت في الصحيحين أنَّه فعل ذلك ثلاثًا من كف واحدة، وجاء أيضًا أنَّه تمضمض من كف، واستنشق من كف، والصور سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

"فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ" المضمضة: إدخال الماء في الفم، وإدارته، ثم مجه على خلاف بين أهل اللغة في المج، هل هو من حقيقة المضمضة أو لا؟ بمعنى أنَّه إذا أدخله وأداره، ثم ابتلعه، هل يُقال: تمضمض، أم ما يُقال؟ إذا قلنا إنَّ المج من حقيقة المضمضمة قلنا: ما تمضمض، وإذا قلنا: إنَّه يكفي إدخال الماء، وإدارته في الفم يكفي في تحقيق مسمى المضمضة، قلنا: تمضمض.

"فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ" عرفنا أنَّ المضمضة إدخال الماء في الفم، وإدارته، ثم مجه. "وَاسْتَنْشَقَ" والاستنشاق: جذب الماء إلى داخل الأنف بالنَّفس، "استنشق" أدخله إلى داخل أنفه بالنَّفس، والاستنثار: إخراج الماء من الأنف بالنَّفس أيضًا.

"ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى" غرفة أخرى، "فَجَمَعَ بِهَا يَدَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ" يعني الوجه يُغسل بيد واحدة أو يدين؟ باليدين؛ ليتم استيعابه. "ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى"، ومعلوم أنَّه لا بُد من الإسباغ، ولا بُد من تعميم العضو بالغسل، ولا بُد أن يسيل الماء على العضو ليكون غسلًا، لا مسحًا.

"ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ" نفض الماء من يديه، يعني: ما فيها ماء، لكن فيها بلل، "ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ" لو لم ينفض أذنه لصار غسلًا ما صار مسحًا، إمرار اليد وبها البلل على الرأس يتحقق فيه المسح، ولو بقي الماء في اليد ومرَّ على رأسه صار غسلًا كسائر الأعضاء. "ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ" تقدم الكلام في حديث «الأذنان من الرأس».

"ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً أُخْرَى مِنَ الْمَاءِ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى، وَفِيهَا النَّعْلُ، ثُمَّ مَسَحَهَا بِيَدَيْهِ يَدٍ فَوْقَ الْقَدَمِ وَيَدٍ تَحْتَ النَّعْلِ، ثُمَّ صَنَعَ بِالْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ" الحديث أخرجه البخاري مطولًا ومختصرًا، لكن فيه بالنسبة للرجل "ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً أُخْرَى مِنَ الْمَاءِ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ" فعل ذلك حتى غسلها، يعني: غسل الرجل؛ لأنَّ رواية الباب قد يُفهم منها المسح، أنَّه مجرد رش، لكنه كرر هذا الرش ؛ حتى غسلها، وهذا في البخاري مُحكم، مُبين في الأحاديث الأخرى أنَّ الرجل تُغسل، ولا يكفي مسحها.

"وَفِيهَا النَّعْلُ" والنعل واسعة، يتخللها الماء، ولا يكفي المسح على النعلين؛ لأنَّ النعل غير الخف؛ لأنَّ حقيقة النعل دون الكعبين، والخف مغطٍّ للكعبين، والمسح عليه سيأتي إن شاء الله تعالى، وثابت عنه -عليه الصلاة والسلام-. لكن النعل لا يُمسح عليها. ثم هذه الزيادة "وَفِيهَا النَّعْلُ، ثُمَّ مَسَحَهَا بِيَدَيْهِ يَدٍ فَوْقَ الْقَدَمِ وَيَدٍ تَحْتَ النَّعْلِ" هذه محكوم عليها بالشذوذ. "ثُمَّ صَنَعَ بِالْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ" والحديث كما قلنا مُخرَّج في البخاري، لكن دون الجملة الأخيرة، وفيها الرش وتكرار الرش حتى غسلها، فالحديث لا يحتمل أن يكون دليلًا لمن يقول بالاكتفاء بمسح القدم.

ثم قال -رحمه الله-: [بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً]

قال -رحمه الله-: "حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ" وهو الإمام المعروف، شيخ الأئمة الذي أُشير إليه في الحديث الأول، "قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى" وهو ابن سعيد القطان، "عَنْ سُفْيَانَ" وهو ابن سعيد الثوري، الإمام المعروف، "قال: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَتَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً" وهو طرف من الحديث السابق.

ثم قال -رحمه الله تعال -: "بَابٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ".

جاء في الأحاديث الصحيحة أنَّه يتمضمض ويستنشق من كف واحدة، وفي هذا الباب ما يدل على الفرق بين المضمضة والاستنشاق، فتكون المضمضة من كف، والاستنشاق من كف أخرى.

قال: "حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قال: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ" وهو ابن سليمان، "قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا" وهو ابن أبي سُليم، "يَذْكُرُ عَنْ طَلْحَةَ" بن مُصرِّف، والليث فيه ضعف، "يَذْكُرُ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ" وهذه السلسلة مضعَّفة عند أهل العلم؛ ولذا الحديث ضعيف. "عَنْ جَدِّهِ" كعب بن عمرو، "قَالَ: دَخَلْتُ يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ وَجْهِهِ وَلِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ" يعني: الماء يتقاطر من وجهه ولحيته، وهكذا ينبغي أن يكون الغسل، يكون فيه زيادة ماء تسيل وتتقاطر؛ ولذا جاء في الحديث «إذا توضأ المسلم خرجت خطاياه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء»، مما يدل على أنَّ الماء يُغترف، ويُغسل به العضو حتى يتقاطر منه الماء. "مِنْ وَجْهِهِ وَلِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، فَرَأَيْتُهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ" وما جاء في الصحاح أصح، وأثبت، وآكد مما جاء في هذا الحديث، وهو مُضعَّف. فالأصل، أو السُّنَّة أن تكون المضمضة والاستنشاق من كف واحدة يفعل ذلك ثلاثًا، يأخذ كفًّا فيأخذ منه جزءًا يدخله في فمه، وجزءًا يدخله في أنفه، هذه مرة، ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة. هذه هي السُّنَّة، ولو فعل بما جاء في هذا الحديث، وفصل بين المضمضمة والاستنشاق، فتمضمض من كف، واستنشق من كف أخرى، وثلاثًا ثلاثًا تكون بستة أكُف، أو بثلاثة يعني: للمضمضة والاستنشاق، أو يتمضمض من كف واحدة ثلاثًا، ويستنشق من كف واحدة ثلاثًا في صور ذكرها أهل العلم، وأجازوها، لكن أفضلها أن يتمضمض ويستنشق ثلاثًا ثلاثًا من كف واحدة، يعني: بثلاثة أكف.

قال -رحمه الله-: "بَابٌ فِي الِاسْتِنْثَارِ"

قال: "حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ" وهو القعنبي، من أصحاب مالك، وراوي أحد الموطأت، وهو إمام ثقة. عبد الله بن مسلمة القعنبي، "عَنْ مَالِك" إمام دار الهجرة، نجم السنن، "عَنْ أَبِي الزِّنَادِ" عبد الله بن ذكوان، "عَنِ الْأَعْرَجِ" عبد الرحمن بن هرمز، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرْ»«فَلْيَجْعَلْ» (اللام) لام الأمر والحديث في الصحيحين، متفق عليه. «فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرْ» وبهذا الحديث يستدل من يقول بوجوب الاستنشاق. وسيأتي في حديث لقيط بن صبرة، من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» جاء الأمر به، وجاء أيضًا الأمر بالمضمضة «إذا توضأت فمضمض» ما يستدل به من يقول بوجوب المضمضة والاستنشاق، وهذا قول معروف عند الإمام أحمد، وإسحاق، وجمع من أهل العلم. وقال بعض الأئمة: المضمضة والاستنشاق في الوضوء سُنَّة، ولا تجب؛ لأنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لمن سأله عن الوضوء، قال: «توضأ كما أمرك الله» يعني: في القرآن، والقرآن ليس فيه مضمضمة ولا استنشاق. قالوا: ما دام أحال على ما في القرآن، وليس في القرآن مضمضة ولا استنشاق، مما يدل على أنَّ الأمر مصروف من الوجوب إلى الاستحباب. وهذا الكلام فيه نظر، من وجهين:

الأول: أنَّ المضمضة والاستنشاق داخلة في الوجه، وهو مما أمر الله بغسله.

الأمر الثاني: أنَّ الله أمر بما هو أعم من القرآن، أمر بالقرآن، وأمر بما جاء عن نبيه، أو على لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فالمسلم مأمور بأن يتمضمض ويستنشق لأمر النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو من أمر الله {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [سورة المائدة:92]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور:63].

يقول -عليه الصلاة والسلام-:  «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرْ» فهذا مما أمر الله به؛ فالقول بوجوب الاستنشاق وما جاء فيه أكثر مما جاء في المضمضة، لكن أيضًا ورد في المضمضة ما يدل على الوجوب. الذين قالوا بمثل هذا، وقالوا: إنَّ المضمضة والاستنشاق مما أمر الله به؛ لأنَّهما داخلان في الوجه.

أهل القول الثاني يقولون: لا، الوجه ما تحصل به المواجهة، وهل تحصل المواجهة بالأنف والفم؟ يعني: الإنسان إذا واجه أحدًا يفغر فاه، ويبرز منخريه له! هل هما مما تحصل به المواجهة؟ نعم، هكذا يقولون، وهذا من باب الانتصار للقول، وتبشيع الاستدلال بمثل هذا، لكن هكذا خلقه الله -جلَّ وعلا-، ماذا يفعل بالأنف إذا واجه أحدًا؟ ماذا يفعل به؟

هو لا شك أنَّه داخل في مُسمَّى الوجه، هذا بالنسبة للظاهر لا إشكال فيه، ولا يختلف فيه أحد. والباطن كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فالقول المحقق: إنَّ المضمضة والاستنشاق واجبان من الواجبات، وإن كان وجوبهما ليس مثل وجوب الفروض الأربعة التي لم يختلف فيها أهل العلم.

«فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرْ» بعض الناس في الاستنشاق يشق عليه إدخال الماء في الأنف؛ فتجده ما يُبالغ في هذا، بل مجرد ما يمس أرنبة الأنف، أو يُدخل شيئًا يسيرًا لا يكاد يذكر يقول: إنَّه استنشق، ولا شك أنَّ إدخال الماء في الأنف عند من لم يعتده مؤذٍ، وإذا استعطه، وارتقى إلى دماغه قد يتأذى به، لكن مع ذلك الحق أحق أن يُتبَّع؛ ولذلك قال في الحديث: «وبالغ في الاستنشاق» المسألة مسألة تعود، إذا بالغ فيه، وتعوَّد على ذلك؛ لا يضره، ولا يتأذى به.

ثم قال -رحمه الله-: "حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى" الرازي، الفراء، "قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ" ابن الجراح الإمام المشهور، "قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ" محمد بن عبد الرحمن، وهو كذلك، "عَنْ قَارِظٍ" ابن شيبة الليثي، "عَنْ أَبِي غَطَفَانَ" ابن طريف المُري، "عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اسْتَنْثِرُوا مَرَّتَيْنِ بَالِغَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا»". والاستنثار يُطلق بإزاء الاستنشاق، يُطلق ويُراد به الاستنشاق عند بعضهم. وجاء في كتب اللغة ما يدل عليه. وبعضهم يقول: إنَّ من لازمه الاستنشاق، كيف نستنثر ونحن ما استنشقنا؟ كيف نُخرج الماء من الأنف ونحن ما أدخلناه أصلًا؟ قالوا: من لازم المأمور به فهو مأمور به.

قال: «مَرَّتَيْنِ بَالِغَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا» ما قال ثلاثًا بالغة؛ لأنَّ الثلاث هي الحد، والثنتين قابلة للزيادة إلى الثالثة، أو المبالغة فيها. على كل حال هكذا جاء الخبر، وهو مُخرج أيضًا عند ابن ماجه، وغيره. وعلى كل حال الأمر بالاستنثار والاستنشاق ثبت بأحاديث كثيرة، منها ما في الباب وغيره.

ثم قال بعد ذلك: "حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، فِي آخَرِينَ" يعني: في رجال آخرين من الشيوخ، حدَّثوه، "قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ" من بني المنتفق، وبعضهم يقول: لقيط بن صبرة هو أبو رزين العقيلي، "عَنْ أَبِيهِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ وَافِدَ بَنِي الْمُنْتَفِقِ" يعني: هو الذي يُمثِّلهم، والوافد جمعه وفد، كصاحب وصحب، والوفد قوم يفدون على الملوك، يُمثِّلون مَنْ وراءهم، ويتحدثون باسمهم، وفي الغالب أنَّهم يُختارون من القوم، فالذين يفدون يُمثلون قومهم، لا بُد أن يكونوا ممن اختير ليُمثل من وراءه، فيكون اختيارهم بعناية. ما يُقال: يروح خمسة، يروح عشرة، يروح كذا من غير أن يعينوا.

" كُنْتُ وَافِدَ بَنِي الْمُنْتَفِقِ، أَوْ" شكَّ، "أَوْ فِي وَفْدِ بَنِي الْمُنْتَفِقِ" يعني: ما يدري، نسي، أو نسي من روى عنه هل جاء بمفرده يُمثِّل قومه، أو جاء ضمن الوفد، المجموعة الذين وفدوا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأتوا إليه يُمثلون قومهم.

"أَوْ فِي وَفْدِ بَنِي الْمُنْتَفِقِ" ابن عامر بن عقيل، "إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ نُصَادِفْهُ فِي مَنْزِلِهِ" جاؤوا إلى منزله- عليه الصلاة والسلام- ما وجدوه، قد خرج في حاجة. قالوا: "وَصَادَفْنَا عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ" ما وجدوه، وجدوا عائشة أم المؤمنين، "فَلَمْ نُصَادِفْهُ فِي مَنْزِلِهِ، وَصَادَفْنَا عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَأَمَرَتْ لَنَا بِخَزِيرَةٍ" الخزيرة: لحم يُقطَّع صغارًا ويُغلى - يُطبخ - ثم يوضع عليه شيء من الدقيق، يُسمَّى خزيرة. فإن كان ماءً ودقيق فقط بدون لحم فهو عصيدة، يسمونها عصيدة. وهناك شيء يُسمَّى الحريرة، يعرفها المغاربة، خزيرة وحريرة. بعضهم يقول: الحريرة مثل العصيدة، دقيق بالماء المغلي دون لحم.

"فَأَمَرَتْ لَنَا بِخَزِيرَةٍ فَصُنِعَتْ لَنَا، وَأُتِينَا بِقِنَاعٍ" قناع يقولون له: طبق، وفي عرف بعض الناس يُسمَّى صحنًا. "بِقِنَاعٍ - وَلَمْ يَقُلْ قُتَيْبَةُ: الْقِنَاعَ" في نسخة، ولم يُقم قتيبة: القناع، أي: لم يتلفظ به تلفظًا صحيحًا، هكذا في بعض النُّسخ. "وَالْقِنَاعُ: الطَّبَقُ فِيهِ تَمْرٌ، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «هَلْ أَصَبْتُمْ شَيْئًا؟»" يعني: قُدِّم لكم شيء مما يجب في حق الضيف؟ وعائشة أم المؤمنين، لا يقول قائل: إنَّه إذا طُرق الباب فلم يوجد رب البيت، تفتح المرأة وتقدم للضيوف، وتفعل، لا. هذه عائشة أم المؤمنين، وحقها على المؤمنين عظيم، وصيانة عرضه -عليه الصلاة والسلام- أمر مقرر في نفوس المسلمين، فلا يُقال: إنَّ مثل عائشة سائر النساء، ولا سيما في وقتنا الذي حصل فيه هذا التوسع، وهذا الانفتاح، ولا سيما إذا لم يوجد محرم، «وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما» ونسمع من يكتب، ويثير بعض هذه القضايا ممن في قلبه مرض، يريدون أن ينفتح الناس، ويكون الرجال والنساء سواء. وجدت الرجل بها ونعمت، ما وجدته حتى إنَّ بعضهم يتمنى ألا يجد الرجل، لماذا؟ لأنَّ في قلبه مرضًا. ويتمسك بمثل هذا الحديث، وغيره مما جاء من أمثاله، وعلى كل حال {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب:32]، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب:53]. كل مسلم مطلوب منه الزكاء والطهارة، كل مسلم مطلوب منه {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب:53]، كل مسلم مطلوب منه الطهارة، طُلب من أمهات المؤمنين {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب:53] إذا طُلِب منهن الطهارة؛ فغيرهن من باب أولى.

قال -رحمه الله-: "ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «هَلْ أَصَبْتُمْ شَيْئًا؟ أَوْ أُمِرَ لَكُمْ بِشَيْءٍ؟» قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جُلُوسٌ" (فَبَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ) خبر نحن، (وبينا) كما يُقال، يُقال: (بينما)، ويُقال: (فبينا) بدون (ميم).

"فَبَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جُلُوسٌ، إِذْ دَفَعَ الرَّاعِي غَنَمَهُ إِلَى الْمُرَاحِ". المراح: الذي تأوي إليه الماشية بالليل، هذا هو المُراح بـ (ضم الميم). "وَمَعَهُ سَخْلَةٌ تَيْعَرُ" يعني: صوتها، "سَخْلَةٌ تَيْعَرُ" والسخلة: ولد الشاة، أو العنز حين يولد، فإن زادت قليلًا فهي بهمة، "وَمَعَهُ سَخْلَةٌ تَيْعَرُ" يعني: تصوِّت، صوتها يُقال له: يَعار.

"فَقَالَ: «مَا وَلَّدْتَ يَا فُلَانُ؟»، قَالَ: بَهْمَةً" يعني: أطلق البهمة على السخلة. المقصود: أنَّه يريد أنَّها أنثى، وليست بذكر. "قَالَ: «فَاذْبَحْ لَنَا مَكَانَهَا شَاةً»" رزقنا بهذه السخلة، اذبح مكانها شاة من الغنم التي عندك، "ثُمَّ قَالَ: " لَا تَحْسِبَنَّ وَلَمْ يَقُلْ: لَا تَحْسَبَنَّ"، "لَا تَحْسِبَنَّ" (بكسر السين) "وَلَمْ يَقُلْ: لَا تَحْسَبَنَّ" مع أنَّها صحيحة، وقُرِئ بها، لكن ليبين الراوي أنَّه ضابط لما سمع، فيؤديه على ما سمع. وهي كما يقال: لا تحسِبن، يُقال: لا تحسَبن، وهما لغتان معروفتان عند العرب.

«أَنَّا مِنْ أَجْلِكَ ذَبَحْنَاهَا»، «فَاذْبَحْ لَنَا مَكَانَهَا شَاةً» فقد يُحرج الضيف إذا عرف أنَّه تُكلِّف له، وذُبِح من أجله شاة، فأراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يزول هذا الحرج، وقال له: أنَّا ما ذبحناها من أجلك، بخلاف ما هو معروف ومعمول به عند كثير من الناس، لو تسقط شاة وتنكسر، ويُخشى عليها من الموت، فيذبحها صاحبها، ويدعو لها من جيرانه وأقاربه، ويقول: تفضلوا، أنا ذبحت لكم، هذا عكس ما عندنا، {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [سورة آل عمران:188]. الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: «لَا تَحْسِبَنَّ أَنَّا مِنْ أَجْلِكَ ذَبَحْنَاهَا» هذه قاعدة، وطريقة، ومنهج له -عليه الصلاة والسلام-، أنه عنده مائة رأس، إذا وُلِّد عنده شيء ذبح مكانه من الكبار، ما يريد أن يزيد العدد -عليه الصلاة والسلام-.

«لَنَا غَنَمٌ مِائَةٌ لَا نُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ، فَإِذَا وَلَّدَ الرَّاعِي بَهْمَةً، ذَبَحْنَا مَكَانَهَا شَاةً» هذا من الزهد في الدنيا، لا يريد التكاثر، إنَّما يريد هذا العدد من أجل الحاجة، يذبح منها، ويضيف منها، ويأكل منها، ويتصدق، ويشرب من لبنها، ويُستفاد من درِّها ونسلها، لكن التكاثر لهذه المائة يُمكن بعض الناس يرغب أن تكون ألفًا في يوم من الأيام، والرسول -عليه الصلاة والسلام- طريقته، ومنهجه أنَّه إذا وُلِّد له شيء ذبح مكانه واحدة من كبار، نريد أن لا تزيد.

"«لَا نُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ، فَإِذَا وَلَّدَ الرَّاعِي بَهْمَةً، ذَبَحْنَا مَكَانَهَا شَاةً»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ فِي لِسَانِهَا شَيْئًا -يَعْنِي الْبَذَاءَ-" في اللسان، ترفع الصوت، وتتكلم بألفاظ غير مناسبة. "قَالَ: «فَطَلِّقْهَا إِذًا»" لأنَّ مثل هذه الزوجة متعبة، لكن المسألة مسألة موازنة، هذا الرجل عنده هذه المرأة التي في لسانها بذاءة. قال له الرسول -عليه الصلاة والسلام- طلِّقها، هي تُرزق بشخص يستطيع أن يؤدبها، وأنت تجد امرأة عفيفة اللسان تريحك.

"قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لَهَا صُحْبَةً، وَلِي مِنْهَا وَلَدٌ" يعني: مدة طويلة عندي وأنا صابر ومحتسب عليها، ولي أولاد؛ حينئذٍ تكون المصلحة الراجحة في بقائها، لا في طلاقها. "قَالَ: «فَمُرْهَا»" يعني: مرها أن تكف لسانها، وأن تتأدب، وأدِّبها، وعظها.

"«فَمُرْهَا» يَقُولُ: «عِظْهَا فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ فَسَتَفْعَلْ»" يعني: تمتثل إن كان فيها خير، وإن لم تمتثل فمعناه أنَّه ليس فيها خير، «فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ فَسَتَفْعَلْ» يعني الموعظة مطلوبة، والهجران، والضرب غير المُبرِّح كما جاء في سورة النساء. «وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ» يعني: زوجتك، «وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ» يعني: الزوجة التي تظعن، وترحل مع زوجها أينما حل، تظعن معه وتحل معه أينما حل فهي ظعينة. «وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ كَضَرْبِكَ أُمَيَّتَكَ» أُمَيَّة: تصغير أَمة، لا تضرب زوجتك التي تسمى الظعينة؛ لأنها تظعن وترحل مع زوجها، «كَضَرْبِكَ أُمَيَّتَكَ» هذا نهي عن ضرب النساء الضرب المُبرِّح الذي قد يجرح، وقد يكسر. أمَّا الضرب الذي يؤدب ولا يُبرِّح، ولا يجرح، ولا يكسر فهذا مأمور به إذا لم تمتثل المرأة وتتأدب بالهجر والموعظة. وجاء الأمر بالضرب؛ لأنَّه أدب، تؤدب إذا لم تمتثل بالوعظ وبالهجر في المضجع، إذا لم تمتثل تُضرب، لكنه الضرب الذي لا يضر بها.

«وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ كَضَرْبِكَ أُمَيَّتَكَ» الأُمَيَّة: تصغير أَمة، هل هو مأذون بضربها؟ لا، لكن هذا من باب بيان الواقع، الناس يضربون المماليك، وجاء النهي عن ضربهم، وأذيتهم، والتقصير في نفقتهم، لكنه هذا الواقع -واقع الناس يفعلون ذلك-، وليس معنى هذا أنَّه إقرار للواقع. جاء النهي عن ضرب المماليك، والأمر بالإحسان إليهم، وألا يكلفوا ما لا يطيقون، وأن يطعمهم المالك مما يطعم، ويُلبسهم مما يلبس، كل هذا ورد الشرع به، لكن هذا واقع الناس فيريد الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن يُشبِّه النهي، أو الضرب المنهي عنه بما يقع من بعض الناس بالنسبة لمماليكهم، ولا شك أنَّ المرأة تختلف عن المماليك، فإذا كان المملوك، وهو يُباع ويشترى، إن قصَّر في الخدمة يؤدَّب أدبًا يُليق به، وقد نُهينا عن الضرب؛ فالمرأة من باب أولى.

"فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي، عَنِ الْوُضُوءِ، قَالَ: «أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا»" ، يقول: "أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ، فقَالَ: «أَسْبِغِ الْوُضُوءَ»" مما يدل على أنَّ السائل يعرف الوضوء الظاهر، وإلا لأخبره بالتفصيل؛ لأنَّ هذا وقت البيان، مما يدل على أنَّ النبي-عليه الصلاة والسلام- عرف من حاله أنَّه يعرف أن يتوضأ، لكن يحتاج إلى أمور خفية يُحتاج إلى بيانها، وهي إسباغ الوضوء.

«أَسْبِغِ الْوُضُوءَ» وهو تبليغه مواضعه، «وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ» لأنَّ بعض الأصابع تكون ملتصقة، أو شبه ملتصقة، متراصة تحتاج إلى تخليل. «وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ» بين أصابع اليدين، وكذلك الرجلين من باب أولى، «وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» في رواية السحاب بن القطان: «بالغ في المضمضة والاستنشاق» والعلماء يقيسون المضمضة على الاستنشاق في المبالغة إلا أن يكون صائمًا؛ لأنَّ الأنف منفذ كالفم، يوصل الماء إلى الجوف، فإذا وصل الماء إلى الجوف وهو صائم سواءً كان عن طريق الأنف، وهو منفذ كما هو مشاهد في إيصال الغذاء بالنسبة للمريض عن طريق الأنف، فهو يوصل إلى الجوف، والفم معروف، فعدم ذكره في هذه الرواية لا لأنه لا يوصل إلى الجوف، ولا أنَّه إذا بالغ في المضمضة ووصل إلى الجوف لا يُفطر، وإنَّما مرد ذلك إلى أن الأنف لا يُمكن التحكم فيه مع المبالغة، بخلاف الفم، يُمكن أن يُبالغ في المضمضة ومع ذلك يتحكم في فمه، وما دام وردت الرواية التي تقرن بين المضمضة والاستنشاق في المبالغة إلا أن يكون صائمًا حينئذٍ لا نحتاج إلى القياس.

قال -رحمه الله-: "حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ" العمِّي، "قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ" وهو القطان، "قال: حَدَّثَنَا عبد الملك بْنُ جُرَيْجٍ، قال: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ" الذي تقدم في الإسناد السابق، "عَنْ أَبِيهِ وَافِدِ بَنِي الْمُنْتَفِقِ، أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ" أصل أتيانه إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام-، لكن لمَّا لم يجد، أو لم يجد الوفد الرسول- عليه الصلاة والسلام- قامت عائشة بالواجب، وضيَّفتهم.

"قَالَ: فَلَمْ يَنْشَبْ" يعني: لم نلبث، يعني: طويلًا، "أَنْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَقَلَّعُ يَتَكَفَّأُ" في مشيته -عليه الصلاة والسلام- يعني يمشي بقوة، كأنَّه يقلع رجله من الأرض قلعًا من قوته، ولا يمشي متماوتًا، يمشي متماوتًا كما تفعل النساء، وأهل الترف، إنَّما يتكفأ كأنَّما ينحدر من صبب، "وَقَالَ: عَصِيدَةٌ، مَكَانَ خَزِيرَةٍ" يعني: قدمت لهم عصيدة، يعني ليس فيها لحم "مَكَانَ خَزِيرَةٍ".

قال: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ" هو الزهلي، الإمام المشهور شيخ البخاري، وغير البخاري من الأئمة، "قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ" هو النبيل الضحاك بن مخلد، ثقة معروف، "قال: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ" عبد الملك، "بهذا الحديث" الذي تقدم في الرواية السابقة والتي قبلها، "قَالَ فِيهِ: «إِذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ»" فيه الأمر بالمضمضة مما يدل على وجوبها كوجوب الاستنشاق.

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"