كتاب الطهارة من المنتقى - (03)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- بعدما ذكر في المقدمة المصادر التي اعتمد عليها وخرج أحاديث كتابه منها، قال: (وذكرت في ضمن ذلك يسيرًا من آثار الصحابة رضي الله عنهم).

(وذكرت في ضمن ذلك) في أثناء ذكره للأحاديث وفي ثنايا ذكر الروايات أو بعد ذكر الروايات المرفوعة في الباب يذكر في ضمن ذلك يسيرًا يعني عدد قليل ليس بكثير من آثار الصحابة -رضي الله عنه-، والصحابة أولى من يعتنى بما أُثر عنهم من أقوال وأفعال؛ لأن العلماء يختلفون في قول الصحابي هل يحتج به كالمرفوع أو لا يحتج به أصلاً وهو كغيره من آحاد الأمة الذين لم تثبت لهم العصمة؟ مسألة خلافية بين أهل العلم، منهم من يقول يُحتج بهم مطلقًا لأنهم أعرف الناس بما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنهم عاصروا التنزيل وعايشوا الرسول -عليه الصلاة والسلام- وحفظوا عنه وفهموا عنه ما لم يفهمه غيرهم فهم أولى من غيرهم، فيحتج بأقوالهم فيما لم يرد فيه نص -عليه الصلاة والسلام- عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وهذا القول معروف عند أهل العلم ومقرر عند كثير منهم، شريطة ألا يتعارض مع ما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- وألا يُخالف من قبل صحابي آخر لا سيما إذا كان ممن هو أولى منه في قدم الصحبة وملازمة النبي -عليه الصلاة والسلام- والفضل كالخلفاء ونحوهم هؤلاء لا يُقدم قول غيرهم عليهم، وألا يكون الصحابي معروفًا بالتلقي عن أهل الكتاب، فإذا كان معروفًا بالتلقي عن أهل الكتاب وشك فيما نقله أنه قد يكون مأخوذًا من أهل الكتاب مما يعرف بالإسرائيليات فإنه يعتنى بقوله ويحتج به لا يُعارض من قبل صحابي آخر ومن باب أولى أن لا يُعارض بآية أو حديث، هذا قول وهو معروف عند أهل العلم، والقول الثاني أنهم لا يُحتجوا بأقوالهم مطلقًا والحجة فيما جاء عن الله وعن رسوله فحسب. ما جاء عن الصحابة منه ما يظهر أنه اجتهاد محض من قوله، ومنه ما يحتمل أنه تلقاه عن بني إسرائيل، ومنه ما لا يدرك بالرأي ولم يُعرف الصحابة بالأخذ من الإسرائيليات فهذا عند جمع من أهل العلم وعند الجمهور له حكم الرفع كأنه نقله عن النبي -عليه الصلاة والسلام- كالغيبات، الصحابي لا يقول برأي. وأما إذا قال الصحابي: من السنة أو كنا نفعل أو كنا نقول، قول الصحابي: من السنة أو نحو أُمرنا، لو قال الصحابي: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا، قول الصحابي: من السنة أو نحو أُمرنا له حكم الرفع ولو قاله بعد النبي بأعصر على الصحيح وهو قول الأكثر. لو قال الصحابي من السنة ما يريد إلا سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- كما صرح به بعضهم بعض الصحابة ولا يريدون بذلك إلا سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، والمسألة مبسوطة في كتب علوم الحديث. والمقصود أن المؤلف -رحمه الله- ذكر من أقوال الصحابة ما يتوجه القول بحجيته أو يورده لبيان الاحتمال الراجح في النص، إذا كان النص المرفوع للنبي -عليه الصلاة والسلام- يحتمل أكثر من وجه فيأتي بقول الصحابي مرجحًا أحد الاحتمالات، ومعروف عند أهل العلم أن الترجيح لا يشترط له ما يشترط في الأصل، لذا قرر ابن القيم -رحمه الله- في تحفة المودود أن العلماء قد يرجحون أحد الاحتمالات في النص بالضعيف، ذكر هذا ابن القيم مع أنه لا يحتج بالضعيف أصلاً ولا يبني عليه حكمًا من الأحكام.

(ورتبت الأحاديث في هذا الكتاب على ترتيب فقهاء أهل زماننا).

الفقهاء في المذاهب لهم ترتيب متفق عليه في الجملة، يعني كل مذهب يختص بتقديم أو تأخير بعض الأبواب، ولكن في الجملة متفقون على تقديم الصلاة وتقديم شروطها عليها من الطهارة وما يتعلق بها، يقدمون العبادات ثم المعاملات ثم الأنكحة والمسمى بالأحوال الشخصية ثم الحدود والقصاص وما يتبعه، الأبواب الأربعة أو الأركان الأربعة على هذا الترتيب عندهم: العبادات ثم المعاملات ثم الأنكحة ثم بعد ذلك الحدود، أربعة أركان. المؤلف باعتباره فقيهًا من الفقهاء من فقهاء الحنابلة رتب كتابه كما نص عليه: (ورتبت الأحاديث في هذا الكتاب على ترتيب فقهاء أهل زماننا).

ولذا لو تقابل المنتقى بالمحرر كتابه الفقهي وجدت الترتيب واحد، تقابله بأي كتاب من كتب أهل العلم من أهل الفقه، لكن قد يكون هناك تفاوت يسير في الترتيب بين الفقهاء في الفقهاء في المذاهب الأربعة، يعني تجد عند الشافعية تقديم أبواب وتأخير أبواب، الجهاد مثلاً من أهل العلم من يجعله في العبادات يجعله قبل البيوع ومنهم من يؤخره ويجعله بعد الحدود وهكذا، ومثلها أبواب أخرى في المذاهب كالحنفية والمالكية ومن قارن بين أربعة كتب من كتب المذاهب الأربعة وجد هذه الفروق.

(على ترتيب فقهاء أهل زماننا لتسهل على مبتغيها).

على طالبها الذي يريدها، ولذلك معرفة التقاسيم والأنواع عند أهل العلم تريح طالب العلم وتسهل عليه البحث عما يريد، هذا إذا كان الطالب له خبرة ودربة وتردد على هذه الكتب فالأمر يسير جدًّا عليه، وأما من بعد عنها واشتغل بغيرها وأراد مراجعتها هذا لا يدرك؛ ولذا يقول أهل العلم: فلان فقيه بالفعل، أيش معنى هذا؟ فقيه بالفعل المسائل متقررة في صدره بأدلتها ويعرف مظانها وإذا سئل أجاب، هذا فقيه بالفعل، وعندهم ما يسمى فقيه بالقوة القريبة من الفعل إذا سألته ما أجابك لكن في مدة يسيرة وزمن يسير جدًّا يفتيك لأنه يعرف مظان الكتب، فإذا قلت له ومعك أو معه كتاب فقهي أبي المسألة الفلانية قالك هاه ويطلع عليه يقف عليه يقدم صفحة ولَّا يؤخر صفحة ما فيه إشكال لا بد من هذا، لكن الذي تسأله عن الطهارة ويأتيك من آخر الكتاب يجيب لك ما يقرب من الفهارس هذا فقيه بالقوة أو بالفعل؟ هذا لا هذا ولا هذا، ما يدري عن شيء، تسأله عن الإقرار ويفتح لك أول الكتاب هذا ليس بفقيه أصلاً بالقوة فضلاً عن الفعل هذا ليس بفقيه وليست لديه خبرة ولا دربة ويصعب عليه مراجعة المسائل إلا أن يبدأ من جديد ويراجع الكتب وينظر فيها ويدرسها؛ ولذا قال: (ورتبت الأحاديث في هذا الكتاب على ترتيب فقهاء زماننا لتسهل على مبتغيها).

الكتب في الفقه وفي الحديث وفي غيرها من العلوم مرتبة، في العقائد تجد بغيتك بسهولة إذا كان لديك خبرة ومعاناة لهذه الكتب، البخاري مرتب مسلم مرتب وبقية الكتب كلها مرتبة، بقي كتاب واحد لم يرتب، المسند قد تقول غير مرتب؟ مرتب على الصحابة، اللي يعرف ترتيب الصحابة من المكثرين والمقلين وغيرهم سهل عليه، لكن مثل الأنواع والتقاسيم لابن حبان يصعب على الطالب أن يراجعه قبل ترتيبه لأنه رُتب من قبل ابن هاه؟

طالب: بلبان.

إي نعم ابن بلبان، رُتب وسهل، لكن قبل على ترتيب المؤلف -رحمه الله- وله هدف أن الطالب إذا أراد حديثًا أن يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره.

طالب: لا يستطاع العلم براحة الجسم.

إي ما يستطاع العلم براحة الجسم، ومع هذا وعلى ترتيبها وتقريبها تحتاج إلى شيء من المعاناة لأن بينها تفاوت في الترتيب وإن كان يسيرًا إلا أنه متعب لكثير من طلاب العلم لا سيما في زماننا، ولذلك كثير منهم يحتاج إلى الفهارس ويحتاج إلى الحواسب، وهذا ليس من مصلحة طالب العلم؛ لأن طالب العلم إذا بحث عن مسألة وتعب في تحصيلها كم يمر عليه من مسألة ويبحث عن مسألته التي يريدها، يمر عليه مسائل كثيرة، وبعض هذه المسائل أكثر فائدة له مما يبحث عنه، فهو يبحث ويقلب وتثبت المسائل عنده متعددة ومتنوعة، لكن إذا جاء بالحاسب وضرب زر وطلع له كل ما يريد وانتهى بسرعة ما مر ولا على مسألة واحدة مما لا يريده، هذا ليس من مصلحة طالب العلم.

(لتسهل على مبتغيها).

التسهيل والتيسير مطلوب لكن بقدر.

يقول: (وترجمت لها أبوابًا ببعض ما دلت عليه من الفوائد).

الأحاديث قد يكون في الحديث الواحد فوائد متعددة، لكن أظهر هذه الفوائد وأقواها يجعل ترجمة للحديث ثم ينبه على ما عداها إذا كان شرح أو يتركه للدارس والشارح.

(ببعض ما دلت عليه).

النص قد يستنبط منه فوائد كثيرة عشر عشرين أو أكثر، فأقوى هذه الفوائد وأظهر هذه الفوائد يترجم به، وقد يستنبط منه فائدة قد يقول الطالب وأيش الفائدة، هاه، يترجم كما قال البخاري: باب قول الرجل ما صلينا، هاه، كقول عمر: ما صلينا في غزوة الخندق فقال الرسول: «والله أنا ما صليتها»، يعني فاتتهم الصلاة ما صلوا، قول الرجل ما صلينا، قد يقول القائل: وأيش فيه قول الرجل ما صلينا؟ كره بعض أهل العلم قول ما صليت، هو بالفعل ما صلى، استيقظ من النوم والشمس طالعة قال ما صليت الفجر، فيه شيء؟ كرهه بعض أهل العلم أن يقول: ما صليت. المقصود أن هناك استنباطات في غاية الدقة والبعد، وهناك استنباطات ظاهرة وما يذكرها أهل العلم: باب الصلاة على الحصير، والصلاة على الحصير لا يشك أحد في جوازها لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى على حصير: «وعمدت إلى حصير» يقول أنس «قد اسود من طول ما لُبس، فنضحته بالماء وصلى عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-»، كره بعض أهل العلم الصلاة على الحصير، فترجم البخاري لهذه الترجمة: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] لمجرد المشابهة بالاسم، هناك دلالات أصلية وهناك دلالات فرعية يسمونها أيش؟ الدلالة الأصلية الذي يساق الخبر من أجلها، والدلالات الفرعية التي قد يستنبطها بعض أهل العلم نصرة لرأيه وإن كانت في الأصل الخبر ما سيق من أجلها، والشاطبي هذه الدلالات الفرعية يقول ليست بحجة أصلاً لأن الخبر ما سيق من أجلها، يعني مثل حديث: «إنما مثلكم ومثل من قبلكم من الأمم كمثل من استأجر أجيرًا إلى الزوال بدينار، ثم استأجر أجيرًا إلى وقت العصر بدينار، ثم استأجر أجيرًا إلى غروب الشمس بدينارين»، الأجير الأول مثل اليهود والأجير الثاني مثل النصارى والثالث مثل المسلمين، فاحتج أهل الكتاب فقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل أجرًا، ما يستنبط منه واضح، لكن كون الحنفية يستدلون به على أن وقت صلاة الظهر ينتهي بمصير ظل كل شيء مثليه لأن العصر أقصر من الظهر وإذا قلنا ظل كل شيء مثله صار أطول، وهم يقولون: «نحن أكثر عملاً» فعمل اليهود في المثل أكثر من عمل النصارى، الحديث سيق لبيان الأوقات؟ هم يقولون ذلك، فهذه الدلالة التي يقصدها الشاطبي بأنها لا يلتفت إليها ولا يُحتج بها، ومثلها كثير لو الوقت ....... معنا كتاب متى ينتهي؟ الله المستعان.

ثم قال: (ونسأل الله العظيم أن يوفقنا للصواب ويعصمنا من كل خطأ وزلل إنه جواد كريم).

(ونسأل الله العظيم أن يوفقنا للصواب) نسأل الله العظيم أن يوفقنا للصواب.

(ويعصمنا من كل خطأ وزلل).

معروف أن العصمة لأنبياء الله، فالمقصود أن يجنبنا هذا الخطأ والزلل، فمثل هذا الدعاء بالعصمة التي هي في الأصل عصمة الأنبياء هذا من الاعتداء في الدعاء، أن يجعلك الله مثل الأنبياء ما تخطئ هذا لا شك أنه اعتداء في الدعاء، لكن بقدر الإمكان وبقدر المستطاع وعصمة مناسبة لآحاد الناس مثلما تقول إذا خرجت من المسجد: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم، ما هي بعصمة مطلقة من كل شيء.

(من كل خطأ وزلل إنه جواد كريم).

رؤوف رحيم لطيف بعباده، والله المستعان.

ثم قال -رحمه الله-: (كتاب الطهارة).

كتاب الطهارة، الكتاب مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابة وكَتبًا، والأصل في هذه المادة الجمع، يقال: تَكتب بنو فلان إذا اجتمعوا، وجماعة الخير يقال لها كتيبة، ومنه الكتاب الذي يراد به اسم المفعول المكتوب كما هنا لاجتماع الكلمات والحروف، هو في محيط المادة، والمراد هنا المكتوب الجامع لمسائل الطهارة.

والطهارة مصدر طهُر يطهُر طهارة، وهي النظافة والنزاهة عن الأقذار، ويقصد بها ما يشمل إزالة النجاسة لأنها طهارة، وإزالة عموم ما يُستقذر فهو تطهير للمكان، على مراتب وعلى مراحل، وهل تكون من الحدث وهو الوصف الحكمي الذي يتلبث به الشخص، وصف حكمي لأن الإنسان إذا خرج منه شيء غير نجس وانتقض وضوؤه فيقال لوضوئه طهارة وهي إزالة للوصف الحكمي الذي لحقه من ضد الطهارة؛ لأن الطهارة تكون ضد الحدث وتكون ضد النجس.

والحدث يشمل الحدث الأكبر مما يوجب الغسل، والأصغر مما يوجب الوضوء، ورفعه أو رفعهما بالماء وهو الأصل أو بالتيمم الذي يقوم مقامه عند عدمه حقيقة أو حكمًا.

(أبواب المياه).

الأبواب جمع باب، وهو في الأصل في المحسوسات ما يُدخل معه ويخرج منه، هذا الباب الذي هو مفرد الأبواب، المفرد باب والجمع أبواب وقد يجمع على بِيبان، كلمة دارجة عند الناس ولكن العشماوي في شرح الآجرومية نص على أنه يُجمع على بِيبان مثلما نقول، ما نقول بِيبان؟ إي.

الباب فرع عن الكتاب كما هنا، ويتفرع عن الباب فصول، أليس هذا هو الترتيب عند أهل العلم: كتاب، باب، فصل. وتحت الفصل مسائل، هذا العرف عند أهل العلم، لكن البخاري الأبواب هي المعتبرة عنده، كتاب ثم أبواب لا حصر لها، وما يذكر فصول ولا... على كل حال هذا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.

(أبواب المياه).

المياه جمع ماء، والماء اسم جنس، اللفظ يقل على القليل والكثير، فما الحاجة لجمعه؟ هاه؟

طالب: .......

باعتبار تعدد أنواعه، مياه، وقد يُجمع على أمواه، من يحفظ شاهد؟

طالب: .......

يقول الشاعر يتحدث عن الخليفة في وقته وأنه عنده الاستعداد التام لحفظ ما ولاه الله عليه وهو مستعد استعداد كامل لأعدائه، يقول: تَطلبهم على الأمواه حتى تَخوف أن يفتشه السحاب. المبالغة، وإلا يمكن يصير وراء جدار عدو ولا يدري عنهم. البراري والقفار هذه مفروغ منها. تطلبهم على الأمواه، في الأنهار والبحار و... حتى تخوف أن يفتشه السحاب. لا شك هذه مبالغة، وإلا هو بشر مسكين إن ما أعانه الله على أعدائه لن يستطيع أن يصنع شيئًا.

قال -رحمه الله تعالى- في الحديث الأول: (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله»).

عن أبي هريرة: كما هو معلوم جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره أروي، والأصل أنه يروي بوسائط حتى يصل إلى أبي هريرة، لكنهم حذفوا هذه الوسائط للتيسير والاختصار في هذه المختصرات. هل نستطيع أن نقول هذا معلق؟ عن أبي هريرة معلق؟ لأن المعلق ما حُذف من مبادئ إسناده راو أو أكثر ولو إلى آخره، وإن يكن أول الإسناد حُذف مع صيغة الجزم فتعليقًا عُرف، هذا في الكتب الأصلية المسندة وإلا هذا ما يروي بذاته، ما يروي بواسطة المؤلفين القدامى الذين أشار إليهم في المقدمة، فلا يقال مثل هذا معلق، أروي عن أبي هريرة، يعني بالسند المعروف الذي ذُكر في الأصل الذي نقل منه.

(عن أبي هريرة).

أبو هريرة اختلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولاً، والذي رجحه أهل العلم كابن عبد البر وغيره أنه عبد الرحمن بن صخر الدوسي حافظ الإسلام وراوية الأمة، توفي سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين -رحمه الله تعالى عنه وأرضاه-.

(قال: «سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»).

هذا الرجل قيل في اسمه أنه عبد الله، وقيل: عبيد الله، وقيل: عبيد، والسمعاني في الأنساب قال: اسمه العَرَكِي، ووهم في ذلك، العركي وصف وهو قائد السفينة، وُصف بأنه الملاح وكذلك قائد السفينة. على كل حال مثل هذا الصنيع: «سأل رجل» أن يقال له مبهم، وجاء تعيينه في بعض الروايات بأنه عبد الله وفي بعضها أنه عبيد الله وبعضها عبيد وما أشبه ذلك، تعيين المبهم عند أهل العلم أُلفت فيه المؤلفات، قد يقول قائل وأيش مصلحتنا أن نعرف اسم الرجل؟ دراسة المبهمات لها فوائد كثيرة ذكرها أهل العلم، وتعرف بجمع الطرق طرق الحديث مرة يُبهم فيها هذه الرواية ويبين في روايات أخرى، والفائدة كبيرة جدًّا من معرفة المبهمات ولذا عني بها أهل العلم، إذا عرفت الرجل عرفت تاريخ الحديث، إذا عرفته وعرفت متى أسلم ومتى مات وهل أسلم قبل فلان الذي روى حديثًا يعارض أو بعده، أمور كثيرة جدًّا، هذا في المتون أما في الأسانيد فالحاجة إليها أشد لأنك ما تعرف مرتبته ....... صحيح، ثقة ولَّا ضعيف حتى تعرف اسمه؛ لأنه إذا كان مبهمًا فهو في دائرة الجهالة ما لم يوصف، عن رجل صحب النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا ما يضره لأن الصحابة كلهم عدول، لكن إذا جاء في أثناء الإسناد رجل أو امرأة هذا ما تدري هو ثقة ولَّا ضعيف حتى تعرف اسمه وما قاله أهل العلم فيه.

(«سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»).

هكذا ينبغي أن يكون المسلم حريصًا على أمور دينه، يسأل عما يحتاج إليه، ومع الأسف كثير من المسلمين لا سيما في العصور المتأخرة قد يصلي سنين عددًا وصلاته لا تصح ولا تجزئ، وقد يكون بجواره من أهل العلم من يصحح له صلاته، ولكن الأمر سهل، لكن خله يعرف عن هذه التجارة أنها مربحة أو غير مربحة إن عرف بنفسه ولَّا سأل الناس هذا يهتم له، ويوجد الخير ويوجد الحرص من كثير من المسلمين ولله الحمد، فمثل هذا يعتنى به الذي تحتاج إليه في دينك أهم مما تحتاج إليه في دنياك، ولا أحد يقول لك أهمل الدنيا ولا تلتفت إليها، الله -جل وعلا- يقول: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، لكن الدين رأس المال وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد إلى آخر الحديث المعروف، فتسأل عما يهمك في دينك لأنه قد تتعبد بعبادة غير صحيحة ولا مجزئة ولا مسقطة للطلب، فتسأل.

(«سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله»).

سأل، صيغة السؤال: يا رسول الله.

(«إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء»).

جاء الحديث بسياقات متعددة مطولة ومختصرة، واللفظ الذي معنا متوسط.

(«فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء»).

وهذا السؤال كما يصلح لمن يركب البحر يصلح لمن يركب البر، إذا حمل القليل من الماء واحتاج إليه في الشرب والطبخ والأكل وما أشبه ذلك وحان وقت الصلاة ينطبق عليهم هذا، إن توضئوا به عطشوا وإن شربوه فاتهم الوضوء.

(«إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء»).

جاء النهي عن ركوب البحر من حديث ابن عمر عند أبي داود وغيره: «لا تركبوا البحر؛ فإن تحت البحر نارًا وتحت النار ماء...» وإلى آخره، وهو حديث مجمع على ضعفه، ولذلك لا يؤثر على هذا الحكم، وجاء النهي عن ركوب البحر إلا لحاج أو معتمر وهو كذلك ضعيف، فيبقى على غلبة الظن إن كانت غلبة الظن الهلاك فلا يجوز أن يفرط الإنسان في نفسه لا سيما عند اضطرابه وكثرة الرياح والأمواج. ابن جبير في رحلته لما وصل إلى سواحل الشام بعد قفوله من حجه، ركب البحر متوجهًا إلى الأندلس، وستة أشهر تضطرب بهم الأمواج ما وصل إلى ما يريد، وفي ليلة ريح أعادتهم إلى الشام! خطر، لكن مع ذلك مع الصناعات المتينة القوية الآن عُملت احتياطات كبيرة، ومع ذلك يبقى الإنسان تحت الخطر ولو على فراشه. المقصود أن النهي عن ركوب البحر إنما يتجه إذا شُك في الوضع أو غلب على الظن، وإلا في بادئ الرأي البحر أقرب إلى السلامة من الجو، لكن الحمد لله وُجدت هذه الضمانات الصناعية التي تجعل الأمر نادرًا، والنادر لا حكم له.

(«ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا»).

لأن الوضوء لا بد منه، شرط من شروط الصلاة.

(«فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟»).

لأنهم شكوا في صحة الوضوء بماء البحر أولاً للنهي عنه، والوضوء قربة ولا يُتقرب بما نُهي عنه إن صح أنهم اعتمدوا ذلك والحديث كما قلنا ضعيف باتفاق الحفاظ، أو لما رأوه من تغير أوصافه، الطعم متغير واللون متغير والرائحة متغيرة، قد يكون فيه من حيواناته العدد الكبير قد مات فيه وتغيرت الرائحة. على كل حال هم شكوا فيه ورأوه مخالفًا لما نزل من السماء في بعض الأوصاف، فسألوا النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أفنتوضأ بماء البحر؟».

(«فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته»).

ما قال: نعم يعني توضئوا به، فأجابهم بما هو أعم وأشمل؛ لأنه لو قال نعم لحملوه على الضرورة في مثل هذه الحالة، فأجابهم بكل ما يحتاجون إليه في معيشتهم وفي عبادتهم، فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»، أجابهم بأكثر مما سألوا عنه، وعند أهل العلم يشترط أن يكون الجواب مطابقًا للسؤال، وهنا ما توجد المطابقة، وأجابوا عن هذا أن المطابقة اشتراطها لئلا ينقص الجواب عما يحتاجه السائل لا أن يزيد عليه، الزيادة في مثل هذا لا سيما إذا تبين للمسؤول أن السائل بحاجة إلى ما نُبه إليه، هو بحاجته إلى الطعام «الحل ميتته» مثل حاجته إلى الوضوء ولكن هذا في باب وذاك في باب.

«هو الطهور ماؤه»، تعريف الجزأين يدل على، تعريف المبتدأ والخبر يدل على أيش؟ الحصر، إذا قلت: الشاعر زيد معناه ما فيه غيره، هنا: «هو الطهور ماؤه» المبتدأ والخبر كلاهما معارف، فتعريف الجزأين يدل على الحصر. «هو الطهور» يعني لا غيره، هذا الأصل في الحصر، وحصر المسند على المسند إليه سببه الشك الذي حصل للسائل وإرادة رفع هذا الشك بجميع احتمالاته، لما حُصرت الطهارة فيه لرفع هذا الشك وجميع الاحتمالات التي تتسرب إليه. «الحل ميتته»، ماؤه طهور، والطهور كما سيأتي في الأحاديث اللاحقة هو عند أهل العلم: الطاهر في نفسه المطهر لغيره، والاختلاف في المذاهب معروف عن التقسيم تقسيم الماء إلى طهور وطاهر ونجس، أو إلى طهور ونجس، أو طاهر ونجس يشمل الطهور. معروف المذهب عند الحنابلة والشافعية التقسيم إلى ثلاثة أقسام، وعند المالكية قسمان، وعند الحنفية ما يوافق الحنابلة لكن بتقاسيم أخرى وتفاريع أخرى. المقصود أن الغزالي في إحياء علوم الدين تمنى أن لو كان مذهب الشافعي مثل مذهب مالك، الماء قسمان وفقط؛ لأنه ترتب على التقاسيم الثلاثة تفاريع متعبة في التنظير وفي التطبيق، كما سيأتي الإشارة إلى بعضها، والله المستعان. تمنى فقيه خذ بقول مالك في هذا، لكن لا خلاص التزم المذهب يلتزم، ليس بمجتهد مطلق.

«فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هو الطهور ماؤه»، هو يعني البحر المسؤول عنه، «الحل ميتته» يعني ما مات في البحر مما لا يعيش إلا فيه، الذي لا يعيش إلا فيه يسمى ميتة بحر، الذي يعيش في البر والبحر له جانبان وحينئذٍ يُغلب جانب الحظر الذي هو البر، ولا ينطبق عليه ما جاء في الحديث من كل وجه، فيغلب جانب البر فلا تحل الميتة ولو عاش أحيانًا في البحر وعاش في البر كما هو مقرر عند أهل العلم.

هل كل ما مات في البحر مما لا يعيش إلا فيه حلال؟ مقتضى الحديث نعم، لكن ما جاء تحريم نظيره في البر، كلب البحر، خنزير البحر، إنسان البحر، وغير ذلك مما جاءت النصوص والأدلة على تحريمه مما هو من حيوانات البر. أولاً ميتة البحر المنصوص: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، ميتة البحر مستثناة بلا شك، وهي مورد الحديث، لكن جاء تحريم لحم الخنزير، خنزير البر هو المقصود قطعًا، وقال بعضهم إن النص يشمل بعمومه خنزير البحر، فتعارض عندنا عموم تحريم لحم الخنزير وعموم حل ميتة البحر التي يدخل فيها خنزير البحر وكلب البحر وهكذا. على كل حال المسألة خلافية بين أهل العلم، ولكن المرجح أن كل ما مات في البحر مما لا يعيش إلا فيه فهو حلال لعموم النص.

«أفنتوضأ بماء البحر...»، الحنفية يحرمون الطافي مما مات في البحر ولو كان لا يعيش إلا فيه، مات في البحر وطفا وقذفه البحر يقولون مثل هذا لا يحل، ولكن عموم الحديث يشمله، والصحابة -رضوان الله عليهم- لما قذف لهم البحر ما يسمى بالعنبر وأكلوا منه، جميعهم وعدتهم أكثر من ثلاثمائة أكلوا منه وحملوا معهم إلى المدينة شيئًا منه وأمر أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً أن يجلسوا في قُحف عينه فوسعهم، هذا طافٍ قذفه البحر إلى الساحل، ففيه دليل على جواز ذلك.

كم باقي؟

طالب: .......

(رواه الخمسة).

عرفنا الخمسة... الله أكبر الله أكبر.