سنن الترمذي

تصنيف الكتاب
كشاف الكتاب

جامع أبي عيسى الترمذي أحد الجوامع التي تشتمل على أبواب الدين، وأما إرداف الجامع بـ" الصحيح" فجاء عن بعض أهل العلم " الجامع الصحيح"، لكن فيه تساهل، فهو جامع الترمذي، أو سنن الترمذي.
وقد عني العلماء بجامع الترمذي عناية فائقة لكثرة ما يحويه من أحاديث ومن علوم ومعارف في السنة، ومن تنبيهات اصطلاحية، ونقل لأقوال أهل العلم، وذكر لشواهد الحديث المذكور، يعقب الترمذي على الحديث الذي يرويه بقوله: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان هذه شواهد الحديث، يعنى به الشراح، ويخرجونها. والقصد من إيراد هذه الأسماء، إيجاد شواهد للحديث تدعمه وترقيه؛ لأنه قد يصحح الحديث فيستغرب الناظر كيف قال الترمذي: "حسن صحيح" وفيه انقطاع! لكنه صححه بالنظر لشواهده التي أشار إليها بقوله: " وفي الباب عن فلان وفلان" ولا يلزم أن تكون بلفظ الحديث المذكور، ولا يلزم أن يكون بمعناه أيضاً، وإنما يكون قوله: " في الباب" بمعنى مما يصلح أن يدون ويذكر في الباب، مما هو موافق للحديث وهذا هو الكثير والغالب، وقد يكون مما فيه شيء من المعارضة لتبحث عن هذا الحديث وتطّلع عليه، وتنظر هل يوافق أو يخالف، فالترمذي له مقاصد ومغازٍ في هذه الإشارات لا توجد عند غيره، وهذه من مزايا الكتاب.
وكتابه ( الجامع) أحد الكتب الستة بلا نزاع، على خلافٍ في ترتيبه بين هذه السنن، فمنهم من يقدمه بعد الصحيحين فيكون الثالث، ومنهم من يؤخره ليكون الخامس على خلافٍ بين أهل العلم في ذلك، فمن نظر إلى كثرة فوائده، سواء كان منها ما يتعلق بالحديث وصناعته والكلام على الرواة، وتخريج الأحاديث والإشارة إلى الشواهد، من نظر إلى هذه الفوائد مجتمعة جعله الثالث، ومن نظر إلى نزوله في شرطه، وأن شرطه أضعف من شرط أبي داود والنسائي- حتى إنه خرج لبعض المتروكين- أنزله إلى المنزلة الخامسة، يقول ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول: "كتاب أبي عيسى أحسن الكتب وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيباً وأقلها تكراراً، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب وغير ذلك"، ويقول الدهلوي في (بستان المحدثين): " تصانيف الترمذي كثيرة وأحسنها هذا الجامع الصحيح، بل هو من بعض الوجوه والحيثيات أحسن من جميع كتب الحديث، أولاً: من جهة حسن الترتيب وعدم التكرار، والثاني: من جهة ذكر مذاهب الفقهاء، ووجوه الاستدلال لكل أحدٍ من أهل المذاهب، والثالث: من جهة بيان أنواع الحديث من الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل بالعلل وغير ذلك، والرابع: من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم، ونحوها من الفوائد المتعلقة بعلم الرجال".
في آخر الجامع ذكر الترمذي كتاب العلل، المعروف بالعلل الجامعة وهو مختصر جداً، فيه فوائد جمة، وفيه نفائس، وكتاب العلل الصغير هذا محل عناية جميع من شرح جامع الترمذي، ومن أنفس شروحه (العلل) شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-، وأفرد لأنه لم يوجد غيره، وإلا فالأصل هو تابع لشرح الترمذي للحافظ ابن رجب.
 قال بعضهم عن سنن الترمذي: "هو كافٍ للمجتهد، ومغنٍ للمقلد"، وقال أبو إسماعيل الهروي: "هو عندي أنفع من الصحيحين؛ لأن كل أحدٍ يصل إلى الفائدة منه، وهما لا يصل إليها منهما إلا العالم المتبحر".
ولأهمية هذا الجامع اعتني به من قبل العلماء فشرحوه، فممن شرحه ابن العربي في (عارضة الأحوذي)، وابن سيد الناس في (النفح الشذي) وتكملته للحافظ العراقي ولابنه وللسخاوي، وابن الملقن شرح زوائده على الصحيحين وأبي داود، وابن رجب شرحه أيضاً شرحاً لكنه مع الأسف الشديد مفقود كله، سوى شرح العلل – كما تقدم-، ومن شروحه المختصرة شرح للسيوطي سماه (قوت المغتذي) وحاشية لأبي الحسن السندي، ومن شروحه أيضاً وهو شرح نفيس لمعاصر سمي بـ(تحفة الأحوذي) للمباركفوري.
 وما زال الكتاب محل عناية من أهل العلم، ودرس بدراسات كثيرة مستفيضة منها ما هو في مجلد، ومنها ما هو في مجلدين، ومنها ما هو في ثلاثة، والمقصود أن الكتاب في جملته محط عناية ونظر كثير من الباحثين، وما زال الكتاب بحاجة إلى خدمة، فكتاب الترمذي على وجه الخصوص يوصي أهل العلم من قديم بالعناية بجمع نسخه الموثقة المقروءة على الأئمة، والمتصل إسنادها بالأئمة إلى مؤلفيها، وذلكم لاختلاف أحكامه على الأحاديث بسبب اختلاف النسخ، ولذلك تجد حتى عند النووي ومن قبل النووي يقول: " قال الترمذي: حسن صحيح"، وفي نسخة " صحيح" فقط، وفي حديث يقال: " قال الترمذي: حسن صحيح"، وفي نسخة " حسن "، هذا تباين في الأحكام على الأحاديث، لكن مثل العناية بمثل هذا الأمر إنما نحتاج إليه إذا أردنا أن نقلد الترمذي، أما إذا أردنا أن ننظر في أسانيده ومتونه ونحكم على كل حديث بما يليق به فالأمر أسهل. ابن الصلاح يقول: ينبغي أن تجمع الأصول - فلا يكفي أصل واحد - من كتاب الترمذي وتقابل وتأخذ بما اتفقت عليه هذه النسخ.
كتاب جامع الترمذي طبع مراراً، فطبع في بولاق الطبعة الأولى سنة ألف ومائتين واثنين وتسعين ( 1292هـ) في مجلدين صغيرين، وهذه من أنفس الطبعات وأدقها وأتقنها، وطبع في الهند مراراً، طبعوه الهنود وعلقوا عليه طبعات طيبة، لكن الإشكال أن الطباعات الهندية لا سيما القديمة منها أنها بخط فارسي، فالكلام عربي لكن نوع الخط فارسي، فيشكل على كثير من صغار طلاب العلم، وإلا فهناك طبعات وحواشي كثيرة في الطبعات الهندية.
الشيخ أحمد شاكر رأى أن الكتاب بحاجة ماسة إلى العناية، ويوجد من طبعة بولاق نسخة للشيخ أحمد الرفاعي المالكي، اعتنى بها وقرأها وأقرأها في الأزهر، وعلق عليها، وصحح في مواضع، وضبط بالشكل بحيث صارت نسخته فريدة، فالشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- اعتنى بهذه النسخة، مع أنه قرأ الكتاب على والده الشيخ: محمد شاكر وضبط منه ما ضبط، وفاته بعض الأشياء، لكن مع نسخة الشيخ الرفاعي تكامل الكتاب، ورأى أنه بحاجة ماسة إلى النشر من جديد؛ لأن الحرف القديم (حرف بولاق) لا يناسب كثير من المتعلمين الآن.
كذلك الشيخ أحمد شاكر وقع له مجلد كبير فيه الكتب الستة في مجلد، وهذا المجلد مراجع ومصحح من قبل الشيخ محمد عابد السندي، لما وقعت له هذه النسخة مع وجود نسخ أخرى عنده في مصر من مخطوطات الكتاب ونسخة الشيخ الرفاعي، ونسخته التي قرأها على والده وجدت الأرضية المناسبة لتحقيق الكتاب، فشرع في تحقيقه وطُبع منه بتحقيق الشيخ أحمد شاكر مجلدان فيهما ما يقرب من عشر الكتاب أو يزيد قليلاً عن العشر، ولو صدر الكتاب كاملاً بطريقة الشيخ وتعليقاته لبلغ خمسة عشر مجلداً تقريباً، وتنبيهات الشيخ على فروق النسخ، وتوجيهه لبعض الروايات المتعارضة، وتوثيقه وتضعيفه لبعض الرواة، جميل جداً، والشيخ من أهل الإطلاع الواسع، وتجده يأتي بالفائدة المناسبة لهذا الحديث من كتاب لا يخطر لك على بال، فيأتي بها من كتاب من كتب الأدب أو من كتب التواريخ، وهذه ميزة العالم المتفنن أنه يربط بين العلوم، أما العالم المتخصص ما يستطيع أن يصنع مثل هذا. الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- اعتمد طريقة المتأخرين الذين اقتدوا بالمستشرقين حينما يضعون الأرقام على المتن، ويعلقون على ما يشاءون التعليق عليه بأرقامٍ مماثلة، افتتح الشيخ -رحمه الله تعالى- كتابه وسماه شرحاً وإلا هو أشبه ما يكون بالتحقيق والمقارنة بين النسخ، والتعليقات على الكتاب؛ لكن فيه تعليقات مستفيضة وجيدة. المقدمة التي افتتح الشيخ بها كتابه ضافية، تحدث فيها عن نسخ الترمذي المطبوعة والمخطوطة، ثم أشاد فيها بعمل المستشرقين، ودقته في إثبات فروق النسخ، ونعى وعتب على من تولى وتصدر لنشر الكتب من المسلمين، وأنهم غفلوا عن جوانب مهمة في التحقيق، وهي مقابلة النسخ، واعتماد النسخ المضبوطة المتقنة، وإثبات الفروق بين النسخ في الحواشي، بعد هذه المقدمة الضافية شرع الشيخ -رحمه الله تعالى- بالتعليق والتحقيق وذكر فروق النسخ والتصويبات وتخريج الأحاديث والتراجم لبعض الأعلام، فيشرح بعض الألفاظ، ويصوب ويرجح، ويستطرد في بحث بعض المسائل، حيث يذكر عن المسألة الواحدة أحياناً صفحتين أو ثلاثاً، وهذا جيد بالنسبة للشيخ، كما أنه يبحث بتجرد أيضاً، فيرجح تبعاً للدليل، ولا يميل إلى مذهب من المذاهب، وهذا من مزايا هذا الكتاب. وناقش الشيخ -رحمه الله- مسألة تصحيح الترمذي وهل هو معتبر أو ليس بمعتبر، ولا يخفى أن الترمذي متساهل في التصحيح، نص على ذلك جمع من الأئمة كالذهبي وغيره، لكن الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- يرى أن تصحيح الترمذي معتبر؛ لأن الشيخ أحمد شاكر أكثر تساهلاً منه، فيرى أن تصحيح الترمذي معتبر ومعتمد، وتصحيحه توثيق لرجاله، فالشيخ أحمد عنده سعة في الخطو في توثيق الرجال وتصحيح الأحاديث، وأنا مدون في نسختي أكثر من عشرين راوياَ وثقهم الشيخ أحمد شاكر وعامة أئمة النقد على تضعيفهم، ومع ذلك يصر الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- على أنهم ثقات. والكتاب لو قدر تمامه لكان من أنفع الكتب، ومن أنفع الخدمات لجامع الترمذي لا سيما فيما يتعلق بتصحيح اللفظ، وتصويب الكتاب وتصحيحه؛ لأن نسخ الترمذي سواء كانت المطبوعة أو المخطوطة منذ زمن بعيد فيها تفاوت كبير – كما أسلفنا- لا سيما في أحكام الترمذي على الأحاديث، والشيخ أحمد شاكر جمع نسخ جيدة للكتاب، وقارن بينها ووازن وذكر فروق النسخ، واعتنى بالكتاب عناية فائقة، لكن لم يقدر تمامه.
طُبع الجزء الثالث من الكتاب مع طبعة الشيخ أحمد شاكر بتحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، لكن أين هذا من هذا! محمد فؤاد عبد الباقي بالنسبة للشيخ أحمد شاكر لا شيء، ثم بعد ذلك طُبع الرابع والخامس بتحقيق إبراهيم عطوة عوض، وتحقيقه مجرد نشر، وليس فيه أدنى مظهر من مظاهر العناية، بل فيه أخطاء كثيرة، هذا الذي جعل طبعة الشيخ: أحمد شاكر لا تنتشر؛ لأنها ناقصة، وكمّلت بتكميل غير مناسب، نظير ما يقال في المجموع للنووي، المجموع أتم النووي تسعة مجلدات منه في كلام لا نظير له عند أحد في كتب الفقه، ثم بعد ذلك جاء السبكي وكمّل ثلاثة أجزاء، لكن أين السبكي من النووي! على إمامة السبكي لكن أين هو من النووي! ثم جاء المطيعي وغير المطيعي وكمّل وصارت المسألة لا شيء، فيبقى أن الأصل تحقيق أحمد شاكر في المجلدين أما البقية فإن استفيد من محمد فؤاد عبد الباقي وإلا فما عداه لا شيء.
ثم طُبع الكتاب بعد ذلك بتحقيق وتعليق وترقيم وفهرسة دقيقة لعزة عبيد الدعاس، في حمص في عشرة أجزاء، وهذه الطبعة مخدومة، وعليها تعليقات، لكن لا يظهر أن لهذا المعلق يداً راسخة في الصناعة الحديثية، ولذلك تجد تعليقاته تعليقات فقهاء على كتاب حديثي، واستفيد من هذه الطبعة؛ لأنها كاملة ومفهرسة ومخدومة ومرقمة، استفيد منها بقدر ما فيها من نفع.
 
ثم طبعه بشار عواد في طبعة طيبة يستفاد منها، وهو معروف بالعناية بالتحقيق والخبرة في ذلك، حيث جمع نسخاً واستفاد من التحفة، وطبعته كاملة، ينقصها من الأحاديث ما لم يجده في التحفة بقدر ستين حديثاً، لكن هذه تدرك من طبعات أخرى، فطبعة الشيخ بشار هي أفضل الطبعات الموجودة الآن باعتبار أنها كاملة، وإلا لو كمّلت طبعة الشيخ أحمد شاكر لما داناها شيء، فالمجلدان اللذان طبعهما الشيخ أحمد شاكر ما لهما نظير، وإذا أضيف إليهما تحقيق بشار عواد ضمنّا أن الكتاب صحيح -إن شاء الله -.