العلم متِين ولا يَكمُلُ لهُ إلا الفُحُول من الرِّجال الذُّكُور، والإناث قد يُوجد فيهنّ من تكمُل لهذا؛ بل وُجِد على مرِّ التَّاريخ مُحدِّثات؛ لكن الغالب أنَّهُ لا يكمُلُ لهُ إلاَّ الفُحُول من الرِّجال الذِّين هُم أهل الجِدّ والعَزم وعَدَم التَّراخي والتَّفريط، ومع الأسف أنَّنا نجد من ينتسب لهذا العلم وتَجِدُهُ يأخُذُهُ على التَّراخي! على التَّيْسِير، يعني لا يَجِد فيه، الحديث بحرٌ مُحيط لا سَاحلَ لهُ، يعني من اليسير جدًّا أنْ يَتَخَصَّص الإنْسَانْ في أيِّ علم من العُلُوم ويُحِيط بأطْرَافِهِ، ويُدْرِك جُملةً صالحةً منهُ تُعينُهُ على تحصيل بقيَّته، أما هذا العلم فدُون تَحْصِيلِهِ خرطُ القتاد! لأنَّهُ يحتاج إلى عُمُر مديد، ويحتاج إلى جدّ واجتهاد وإخلاص، صدق لجأ إلى الله -جلَّ وعلا- مع المُتابعة، مع ما رُكِّبَ في الإنسان منْ حِفْظٍ وفَهْم، الآن لو الإنسان يُفْنِي عُمُرهُ في صحيح البُخاري فقط؛ انتهى عُمُرهُ ما انتهى من صحيح البُخاري! يعني إذا أراد أنْ يَدْرُس صحيح البُخاري على الوجه الذِّي يُرْجَى أنْ يتقنهُ اتْقَاناً تامًّا ويكُون مرْجِع فيهِ، ما يُمكِنْ، على صحيح البُخاري ما يقرُبُ من مائة شرح! كيف يُحيط الإنسان بهذهِ الشُّرُوح؟! يعني شرح واحد قِراءة سَرْد يحتاج إلى سَنَتينْ! سَرْد، دُون الوُقُوف عند مسائِلِهِ يحتاج إلى سَنتين! يعني إذا كان فتح الباري بهذهِ المَثَابة، والكرماني يحتاج إلى نِصف سنة مثلاً، وعُمدة القاري تحتاج مثل فتح الباري إلى سنتين، وإرشاد السَّاري يحتاج إلى سنة وهكذا، العُمر لا شكّ أنَّهُ قصير بالنِّسبة لهذا العلم، هذا كتاب واحد، ثُمَّ إذا انتقل إلى مُسْلِم وعليهِ من الشُّرُوح ما عليهِ، وفيها إعْوَازٌ كبير يحتاج إلى مُراجعات إلى كُتُب تُعينُهُ على فهم صحيح مُسْلِم، فماذا عن بقيَّة السُّنن؟! وماذا عن المُسْنَد البحر المُحيط الذِّي فيهِ أكثر من ثلاثين ألف حديث؟! ماذا عن سُنن البيهقي؟! لو أنَّ الإنسان تَفَرَّغ لسُنن البيهقي ما أنْجَزَها، تحتاج إلى وقتٍ طويل وهكذا، ولِذا يُرَكِّز أهلُ العِلْم على الجِدّ، العُلُوم الأُخْرَى يُمْكِنْ أنْ تُؤْخَذْ ببعضِ الوقت؛ لكن هذا العِلْم لا يُمْكِنْ أنْ يؤْخَذْ إلاَّ بِجميعِ الوقت! كُلّ الوقت لا بُد أن يستغرق فيهِ، وما يُعينه على فَهْمِهِ وحِفْظِهِ، كانَ النَّاس يَحْفَظُونْ مئات الأُلُوف من الأحاديث، أحمد بن حنبل سبعمائة ألف حديث، أبُو داود اسْتَخْرَجَ السُّنن من خمسمائة ألف حديث! وفُلان وفُلان، جمعٌ غفير من أهلِ العلم بهذهِ المَثَابة، لماذا؟! لأنَّهُم أَخَذُوهُ بالتَّراخي؟! أَخَذُوهُ بالتَّسَاهُل؟! أبداً، جَدُّوا في طَلَبِهِ، وأَخْبَارُهُم شاهِدَة على ذلك، والبُخاري يحفظ من الصَّحيح مائة ألف حديث ومن غيرِهِ مائتي ألف حديث! يعني الآن الآلات الحاسِبة التِّي اُدْخِل فيها جميع ما وُجِد من الأحاديث أكبر برنامج فيهِ خمسمائة ألف بالتكرار، يعني الإمام أحمد أكثر منها يحفظ! فهذا العِلْم يحتاج إلى جِدّ، يعني إذا كان القُرآن يُمْكِن حِفْظُهُ في سنة لِطالب علم مُتوسِّط الحافظة يُمْكِن حِفْظُهُ في سنة؛ وإلاَّ وُجِد منْ يَحْفَظُهُ في ثلاثة أشهُر! بل وُجد من حفِظ، الزُّهري في شهر حَفِظَ القُرآن، فالسُّنَّة متى تُحْفَظْ؟! وكان الحِفْظُ للسُّنَّة مَيْؤُساً منهُ حتَّى كان العُلماء من قُرُون وهُم يَتَوارثُون كُتب مُختصرة مُجرَّدة يَتَدرَّجُون فيها، يَقِفُون فيها إلى حدّ، ولا يَتَطَاوَلُونَ إلى الكُتب الأصليَّة المُسْنَدَة إلى حِفْظها، والآن بَدَأَتْ بَوَارِقُ الأَمَلْ في عودة الحِفْظ للسُّنَّة، وَوُجِدْ منْ يَحْفَظ، يقولُون حِفْظ الصَّحيحين، المقصُود بذلك منْ غير تكرار ولا أسانيد، يَبْدَؤُون بأحدهما ويُضيفُون إليهِ زوائِد الآخر، ثُمَّ السُّنن اتِّباعاً، ثُمَّ المُسْنَد، نسمع من يَحْفَظ الآن زوائِد البيهقي! وهذهِ بِشَارة عُظْمَى، ومنْ سَنَّها لا يُحْرَم أجرُها وأجْر من عَمِلَ بها، نرْجُو لهُ ذلك ـ إنْ شاء الله تعالى ـ، ومع ذلك يُوصى طالبُ العلم بالجِدّ والاجتهاد، يعني لو الإنْسَان أمْسَك بجامع الأُصُول وحَفِظَهُ؛ لاحتاج إلى عُمر مديد، مع أنَّ جامع الأُصُول فيهِ شيء من الخلل، فلا بُد من حِفْظ الأُصُول من الأُصُول، كثير من طُلاَّب العلم يَتَخَبَّط في الحِفْظ؛ لأنَّ الآن -ولله الحمد- فُتِح الباب، وسُلِكَت الجَادَّة، وكان طُلاَّب العلم يَحْفَظُون الأربعين، ثُمَّ العُمدة، ثُمَّ البُلُوغ، وكثيرٌ منهم يقف إلى هذا الحَدّ! يعني يَنْدُر منْ يَتَطَاوَلْ على المُنْتَقَى! وأمَّا بقيَّة كُتب الأحكام فلا تُعْرَفْ! إلاَّ في عُصُورٍ مُتأخِّرة! الإلْمَام، والمُحرَّر، وتقريب الأسانيد وغيرهم هذا ما يُعرف عند كثير من طُلاَّب العلم إلى وقتٍ قريب، الآن ـ ولله الحمد ـ البَوَادِر ظَهَرَتْ، والنَّتائج مَلْمُوسة الآن وليسَ على مُسْتَوى بَلَدٍ مُعيَّن؛ إنَّما هذا عَمّ في جميع بُلْدَانِ المُسْلِمين، وهذهِ بَادِرة خير ـ ولله الحمد ـ كون طالب العلم يكُون لديْهِ رصيد من النُّصُوص بلا شكَّ أنَّها يُفْزَع إليها عند الاختِلافْ، الاخْتِلاف إنَّما يُرد إلى الله ورسُولِهِ، فإذا كان طالب العلم ليس عندَهُ شيء مِمَّا يُفْزَع إليه من النُّصُوص؛ كيف يَصِل إلى الأقوال الرَّاجِحة، ويَعْرِفْ المَرْجُوحْ من الرَّاجِح ما يستطيع!؛ لكنَّ هذا يحتاج إلى جِدّ.