الدارقطني حضر مجلس الإملاء عند الشيخ إسماعيل الصفار، الدارقطني ينسخ معه كتاب آخر، وينسخ كتابه، والشيخ إسماعيل الصفار يحدث، فلما مضى وقت، قال شخص مجاور للدارقطني: أنت ما غير ضيقت علينا؛ معك كتاب ثاني انتقل إلى ما كان آخر، ما يصح سماعك بهذه الطريقة، فكيف تتعب نفسك..؟! قال: فهمي يختلف عن فهمك، وحفظي يختلف عن حفظك، كم قرأ الشيخ من حديث؟ يسأله الدارقطني، كم قرأ الشيخ من حديث؟ قال: والله ما أدري، قال الدار قطني: قرأ ثمانية عشر حديثاً، فسردها بمتونها، وأسانيدها على ترتيبها، وهو ينسخ، أقول هبات من الله -جل وعلا-، ونعم لكن هنئياً لمن استغلها فيما ينفع، وأما الذي لا يستغلها فيما ينفع فكم من هذا النوع، من نوع الدار قطني موجود في أسواق المسلمين في بيعهم، وشرائهم، عباقرة، ومع ذلك ما استفادوا، استغلوا هذا الذكاء، استغلوا هذا الفهم، استغلوا هذا الحفظ فيما لا ينفع، وقد يستغل فيما يضر، وقد يستغل فيما يضر، وأنا أعرف أناساً زاملونا، أناساً عرفناهم من قرب، تجدهم أحفظ الناس لما لا ينفع، والنكت، والطرائف، وإلا حفظ هفوات، وسقطات بعض الناس، إذا زل فلان بكلمة، أو بجملة، أو بشيء حفظت عليه، ما تنسى أبد الآبدين من قبل بعض الناس، وإذا فتح كتاب من كتب العلم ما استفاد، والله المستعان، فهذه المواهب، وهذه النعم سواءٌ منها ما يتعلق بالحفظ، أو ما يتعلق بالفهم، هذه نعم إذا لم تستغل فيما ينفع؛ فهي وابل على صاحبها، وابل على صاحبها.
ومن أحفظ الناس المعري، أبو العلاء المعري، وهو معروف من الزنادقة المعروفين، حتى قال ابن الجوزي في "المنتظم": زنادقة الإسلام ثلاثة: المعري، وابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، حافظة، شيء لا يخطر على البال، يعني نقش، كأنه يقرأ من كتاب، وهو أعمى، وضبط لما يمر به، ولو كان منذ أزمان متطاولة، وذكر الصفدي في "نكت الهميان" عنه أنه في سفر في أرض فيها شجر، فضربته شجرة، وهو على البعير، أعمى هو ما يرى، ضربته شجرة، وبعد عشرين سنة مر بالمكان على نفس موضع الشجرة، فطأطأ رأسه، فقيل له لماذا؟ قال: في شجرة ضربتني قبل عشرين سنة، قالوا: ما في شجر، قال: أحفروا إن ما وجدتم الأصول، والعروق، فأنا أنا لا أفهم، وبالفعل لما حفروا وجدوا بنفس المكان، وتجد بعض المبصرين يسقط في الحفرة مراراً، ويعثر في بعض الأمور من طلوع، ونزول، وحصى، وما أشبه ذلك، وأيضاً يعود له مرة ثانية، وثالثة.
ويحدثنا واحد من الشيوخ المبصرين يقول: صحبت فلاناً، هذا –أيضاً- شيخ درسنا، وهو كفيف لا يصبر، يقول: صحبته خمس سنين نتردد على المعهد العلمي طلاباً، وفي طريقنا صخرة، فما قلت له في يوم من الأيام: ارفع رجلك، مجرد ما يصل الصخرة يرفع رجله، وأنا وقعت فيها مراراً، فمسألة الحفظ، والفهم، والرسوخ في هذا الباب لا شك أنها موهبة، ونعمة من نعم الله -جل علا-، فعلى من وهبها أن يستغلها، ولا يضيع الفرصة، لا يدع الفرصة تفوت.