من كثر كلامه كثر سقطه

هذان الملكان المتلقيان الموكلان بالإنسان أحدهما يكتب الحسنات، والثاني يكتب السيئات {مَا يَلْفِظُ} [(18) سورة ق] الإنسان {مِن قَوْلٍ} [(18) سورة ق] "من قول" نكرة في سياق النفي فتعم كل قول {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} [(18) سورة ق] المكلف ما يلفظ من قول وقول نكرة في سياق النفي فتعم كل قول، ما يؤجر عليه ويثاب عليه، وما يؤاخذ به، وما لا يؤاخذ به، وما لا يؤجر عليه، كل كلام ينطق به، كـ(قمت وقعدت وكذا وكذا) يسجل، وما يؤاخذ به كقول الزور والبهت والقذف وما أشبه ذلك يؤاخذ عليه، وما يؤجر به من تلاوة القرآن، ومن الذكر، وقول الحق، والدعوة إلى الخير هذا أيضاً يكتب، فكل شيء يكتب وهذا قول من أقوال أهل العلم يدل له: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [(18) سورة ق] فهما يكتبان كل شيء، طيب إذا كان الذي عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات فمن الذي يكتب الكلام المباح؟ يعني إذا قال: قمت وقعدت وكذا من الذي يكتب الكلام المباح على هذا القول؟ هل يعد هذا الكلام مما يحفظ له ويثاب عليه فيكتبه الملك الذي عن يمينه أو يكتب في كفة سيئاته فيكتبها الملك الذي عن شماله؟ هو لا هذا ولا هذا، مباح، إلا أنه باعتبار أنه يشغل عما يثاب عليه فهو مذموم به من هذه الحيثية، ثم بعد ذلك يمحى لأنه لا ثواب ولا عقاب، ومنهم من يقول: إنه لا يكتب إلا ما يثاب عليه وما يعاقب به، يعني لو افترضنا أن شيخ من الشيوخ يملي على طلابه يشرح كتاب ووجدنا طالب نبيه لا يكتب إلا ما يفيد، وطالب آخر يكتب كل شيء، لو عطس الشيخ كتب: عطس الشيخ، لو يكح قال: كح الشيخ، ويكتب الكلمة مرتين ثلاث حسب تكرارها في كلام الشيخ أيهما أفضل؟ لا شك أن الذي يقتصر على المفيد بحيث لا يفرط بشيء منه، ويترك ما لا فائدة فيه أصلاً هذا لا شك أنه أكمل، لكن هل يتسنى لكل أحد مثل هذا؛ لأن هذا يعاني منه كثير من الطلاب بعض الطلاب يقول: أنا ما أكتب إلا ما يفيد، ثم بعد ذلك يفرط في فوائد كثيرة، يظنها غير مفيدة وغيره يظنها مفيدة، ولذلك لو استعرضتم كتب الطلاب التي يحضرون بها الدروس لوجدت التفاوت العجيب، تجد هذا الكلام مفيد عند فلان والكلام غير مفيد عند فلان لكنه كتب غيره، وحينئذٍ تعليق الشيخ على الكتاب ينبغي أن ينظر في جميع الكتب الموجودة، ما ينظر إلى تعليق واحد، هذا مجرد استطراد وإلا فالذي عندنا المسألة خلافية، هل يكتب الملكان كل شيء حتى ما لا ثواب فيه ولا عقاب ثم بعد ذلك يمحو الله ما يشاء ويثبت؟ أو يقال: إنه لا يكتب إلا ما يثاب عليه أو يعاقب به لأنه هو محل الجزاء؟ وهما قولان معروفان عند أهل العلم، والآية مخيفة بالنسبة لمن يطلق لسانه بالقيل والقال، من يطلق لسانه بالقيل والقال {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [(18) سورة ق] فعلى الإنسان أن يتحرى، ولذا لما قال معاذ -رضي الله عنه-: "وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟)) أنت مؤاخذ بالكلام، بالقيل والقال، والإنسان الذي عود نفسه على كثرة الكلام لا شك أن من كثر كلامه كثر سقطه، وقد يتحرى في المجلس الأول ولا يقول إلا المباح لكنه قد يضطر بعد ذلك إلى المفضول والفضول من الكلام، ثم إلى المحرم منه، وهذا شيء مشاهد.