أخذه شديد، وعذابه أليم، ورحمته وسعت كل شيء‏

قول الله -جل وعلا-: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [(13) سورة الرعد] أي أخذ المخالف بقوة، شديد الحول، كما يقول ابن عباس، أو شديد القوة والأخذ والبطش، والتحول من حال إلى حال بالنسبة لمن خالف، فأخذه شديد، وعذابه أليم، ورحمته وسعت كل شيء، فالله -جل وعلا- حينما يذكر مثل هذه الآية لتخويف المخالفين؛ لتخويف المفرطين؛ لتخويف المعاندين، كما أنه إذا ذكر رحمته ومغفرته وسعة رحمته، وأنها وسعت كل شيء يسلي عباده خوفاً من أن يأخذهم اليأس والقنوط، وهكذا نجد كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- مشتملة على النوعين الترغيب والترهيب، الوعد والوعيد؛ ليكون المسلم في حياته دائراً بين الأمرين بين الخوف والرجاء، فإذا تصور المسلم أن الله -جل وعلا- شديد المحال، شديد الحول، شديد القوة، شديد البطش {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [(12) سورة البروج] يحول الحال من حال إلى حال، من حال إلى ضدها، تجد الغني الذي رأى نفسه أنه استغنى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [(6-7) سورة العلق] متى؟ إذا اغتنى؟ لا قد يكون غنياً ولكن لا يطغى {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [(7) سورة العلق] فالإنسان إذا رأى نفسه أنه استغنى فقد طغى، وكذلك إذا عرف نفسه وأنه أصبح عالماً يشار إليه حينئذٍ يستحق إلى قارعة ترده إلى صوابه ورشده، وهكذا في جميع المواقف التي يرى فيها المرء نفسه وأنه بإمكانه أن يستغني عن الله -جل وعلا- فيصل إلى حد الطغيان يحتاج إلى هذا التحويل، فالغني يفتقر، والعالم يقف في موقف يعرّفه نفسه، فالعالم الذي يتكبر على الناس بعلمه هذا إذا سلمنا بأن ما يحمله مثل هذا علم وإلا في الحقيقة ليس بعلم؛ لأن العلم ما نفع، والعلم الذي لا يدل على العمل ولا على التواضع ولا معرفة الإنسان نفسه هذا ليس بعلم؛ لأنه وبال على صاحبه، فلا بد أن يقف فيه موقف يذل فيه، والشواهد ما تحتاج إلى ذكر، والعالم كلما تواضع وخضع لربه وأدرك حقيقة نفسه وأنه ما زال بحاجة ماسة إلى التزود من العلم والعمل هنا يسدد ويوفق، فيحذر الإنسان من التحويل، من تحويل حاله من صحته إلى مرضه، من علمه إلى جهل يسلب العلم، لذا كان بعض السلف يقول: عوقب بنسيان القرآن من أجل نظرة! إذاً ماذا نستحق من العقوبات؟! نسأل الله -جل وعلا- أن يعفو عنا، من أجل نظرة عوقب بنسيان القرآن! فالله -جل وعلا- شديد المحال شديد التحويل للمخالفين من حال إلى ضدها، شديد البطش، شديد القوة، فليحذر العاقل الناصح لنفسه لاسيما من ينتسب إلى العلم وإلى طلبه من مثل هذا التهديد، ولهذا أردف الشيخ -رحمه الله تعالى- هذه الآية بقوله الله -جل وعلا-: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ} [(54) سورة آل عمران] يعني التحويل الذي حصل مكر من الله -جل وعلا- بالعبد؛ يرزقه، ويغدق عليه النعم؛ ثم يرى نفسه أنه استغنى عن ربه وعن غيره فيطغى، ثم يزاد من باب الاستدراج؛ فيزيد في عتوه وطغيانه، يوجد ممن أعطاه الله الأموال من هذه حاله، والله -جل وعلا- يزيده، وإذا كان الإنسان يتقلب في نعم الله ويزاد منها ولا يستعملها فيما يرضي الله -جل وعلا- يجزم أنه يمكر به ويستدرج! ولذا أردف الآية السابقة بقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [(54) سورة آل عمران] مكروا خدعوا غيرهم فمكر الله بهم، مكروا وخدعوا عباد الله، وخادعوا الله -جل وعلا-، فأظهروا للناس خلاف ما يبطنون

{يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} [(9) سورة البقرة] ما يخدعون في الحقيقة إلا أنفسهم، فالله -جل وعلا- الذي يعلم السر وأخفى، وما هو أخفى من السر يخفى عليه ما في قلوبهم؟! {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [(19) سورة غافر] فالمكر والخداع إذا مشى على الخلق فإنه لا يمشي على الخالق وهذا الذي يمكر بالمخلوقين، ويظهر أو تسول له نفسه أن مكره وخديعته تمشي على الناس الله -جل وعلا- يمكر به، والجزاء من جنس العمل {وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [(54) سورة آل عمران]