شرح العقيدة الواسطية (35)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (فصل): ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت: فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر وبنعيمه؛ فأما الفتنة: فإن الناس يفتنون في قبورهم. فيقال للرجل: «من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيُثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فيقول المؤمن: الله ربي والإسلام ديني ومحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيي، وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيضرب بمرْزَبَّة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق» ثم بعد هذه الفتنة: إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق وتنصب الموازين فتوزن فيها أعمال العباد { فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٢ وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فِي جَهَنَّمَ خَٰلِدُونَ ١٠٣ }: ١٠٢ - ١٠٣. وتنشر الدواوين -وهي صحائف الأعمال- فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، كما قال -سبحانه وتعالى-: { كُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا ١٣ ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا ١٤ } الإسراء: ١٣ - ١٤. ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار: فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: فصل، ومن الإيمان باليوم الآخر، الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، أحد أركان الإيمان الستة التي لا يصح إلا بها ولو تخلف واحد منها ما نفع، جاء تفسير الإيمان بأركانه في حديث جبريل حينما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» هذه أركان الإيمان، وأشار إليها الشيخ -رحمه الله تعالى- في صدر الكتاب -في مقدمة الكتاب- ثم أخذ يتحدث عنها تفصيلاً، وبعضها أدخله في بعض.

على كل حال هذا هو ركن من أركان الإيمان شرع الشيخ يتحدث عنه بما يناسب المختصر، وإلا فالموضوع فيه كتب، فيه مطوّلات، وفيه مختصرات، وهو موضوع كبير يحتاج إلى وقت طويل، لكن الشيخ أجمل الكلام فيه في حدود صفحة أو صفحة ونصف، نتكلم عليها بقدر الحاجة.

يقول -رحمه الله تعالى-: ومن الإيمان باليوم الآخر، معلوم أن من الإيمان بالله: الإيمان باليوم الآخر، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت وهو الإيمان بالغيب؛ لأن الإيمان بالمشاهد سهل، لكن المدح على الإيمان بالغيب، هذه الغيبيات التي جاءت بها النصوص الصحيحة الصريحة لا مندوحة عن الإيمان بها والإقرار بها، خلافًا للمبتدعة الذين يتأولونها، لماذا؟ لأن عقولهم لا تحتملها، وتأتي أقوالهم ضمن المسائل اللاحقة في هذا الفصل.

من الإيمان بالله: الإيمان باليوم الآخر، وهو ركن من أركان الإيمان بالله، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت، فكل ما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- لا مندوحة عن اعتقاده والجزم به من غير تردد ولا شك ولا ارتياب فيؤمن بفتنة القبر، فتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه؛ أما الفتنة هي السؤال، والعذاب والنعيم؛ العذاب للمخالف والنعيم للمؤمن على ما سيأتي، فيؤمن بفتنة القبر «إنكم تفتنون في قبوركم» وأمرنا النبي -عليه الصلاة والسلام- أن نستعيذ ونتعوذ بالله -جلَّ وعلا- من فتنة القبر في كل صلاة، والاستعاذة بالله من أربع بعد الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- في التشهد سنة عند عامة  أهل العلم، وإن جاء الأمر بها فالأمر «فليتعوذ بالله من أربع» الأمر عند جمهور أهل العلم للندب، وأوجبها بعضهم حتى إن طاوسًا كما في صحيح مسلم أمر ولده أن يعيد الصلاة لما لم يستعذ بالله من أربع، فهذا معلوم لدى الخاص والعام، ومقتضى الأمر بالاستعاذة بالله من عذاب القبر أن يقر به كل من يستعيذ بالله منه، يعني من لازم الاستعاذة بالله منه الإقرار به، فالذين ينكرون عذاب القبر كالمعتزلة مثلاً، هل يستعيذون بالله من أربع كما جاء في الأمر في الأحاديث الصحيحة؟ هل يتصور أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر، وهم لا يعترفون به؟ إذًا ما موقفهم من الأمر بالاستعاذة بالله من أربع، جوابهم عن مثل هذا الحديث أنه يقولون حديث يتضمن عقيدة؛ لأن عذاب القبر عقيدة، والعقائد لا تثبت بأخبار الآحاد؛ لأنها ليست قطعية، فجوابهم عن هذا الحديث على قاعدتهم المردودة.

ممكن يعني إذا كانوا قعدوا أن العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد، فيسهل عليهم أن يقولوا: إن هذا مما ثبت بخبر الواحد، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن، والعقائد لا بد لها من القطع، لكن ثبت عذاب القبر بالقرآن بالدليل القطعي في مثل قول الله -جلَّ وعلا-: {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًّا} متى؟ يوم القيامة والا في القبر؟ في القبر؛ لأنه قال: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} فدل على أن النار التي يعرضون عليها غدوًا وعشيًّا إنما هي في القبر، كيف يجيب المعتزلة عن مثل هذه الآية؟ وهي قطعية عندهم، هي قطعية الثبوت ودلالتها على عذاب القبر {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًّا ويوم تقوم الساعة} يعني هل هذا عطف الشيء على نفسه؟ أو العطف يقتضي المغايرة؟

العطف يقتضي المغايرة حتى هم يقرون بهذا، لكنه الخذلان -نسأل الله السلامة والعافية- وقد جيء بمعتزلي ليصلى عليه قد مات، وقد جيء بمعتزلي ليصلى عليه قد مات، وأدرج في أكفانه وقدم للصلاة عليه، فالمعتزلة يعرفون بعضهم يعرف بعض، فطلبوا من أهل السنة أن يصلوا عليه، وألحوا على واحد، فكان من دعائه، الأصل في صلاة الجنازة أنه يدعى للميت، أنه يدعى للميت، والصلاة شفاعة، فكان من دعائه: اللهم إن فلانًا إن عبدك فلان هذا لا يقر بعذاب القبر فأذقه إياه، ما يحتاج أن يقال مثل هذا الكلام، ما يحتاج أن يقال مثل هذا الكلام، لكن حصل هذا.

طالب: ..............

الموقف ما يقتضي مثل هذا؛ لأن هذه وفاة، إما أن تصلي عليها أو اتركه، المقصود أن المعتزلة لا يقرون بعذاب القبر، والسبب في ذلك أن العقول لا تحتمله، وأنه لو نُبش المقبور ما شوهد هذا العذاب، وجميع ما جاء في عذاب القبر وما يحصل للمقبور لا يشاهد، يقولون: ننبش قبر كافر ما نراه يعذب، ننبش قبر مرتاب شاك ما نجد أثر للمرزبة التي يضرب بها ولا نجد أضلاعه قد اختلفت، حتى أن منهم من قال: يوضع مادة للاختبار ثم ينبش بعد ذلك، وضعوا مادة زئبق على ميت ليختبره، هل هو صحيح أنه يأتيه الملكان فيقعدانه؟ لأن الزئبق ما يثبت، معروف وأسرع المواد في الحركة فنبشوه بعد ذلك ووجدوا الزئبق في مكانه، لكن هل بمثل هذه الأمور ترد النصوص الصحيحة الصريحة؟ ترد بمثل هذا؟ هذه أمور لا يحتملها العقل، والقدرة الإلهية فوق ذلك كله، هذه أمور غيبية، كثير مما يكون بعد الموت لا يحتمله عقل، يعني كيف يحتمل العقل أيضًا العذاب في النار؟ {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها} وهكذا إلى ما لا نهاية..، وإذا حُكِّم العقل لم يثبت أمام شيء في أمور من أمور الدنيا لا يحتملها العقل، هل تنفى بمجرد عدم احتمال العقل، العقل قائد سائق والا مسوق؟ يجب أن يكون مسوقًا، العقل لا شك أن الشرع جعله مناط التكليف، لكن مع ذلك القائد هو النص، والعقل السليم لا يخالف النقل الصحيح، لكن أين العقول السيلمة والفطر المستقيمة التي لم تتغير، ولو كانت العقول سليمة والفطر مستقيمة ما حكِّم العقل في الشرع؛ لأن العقل ضعيف، ومثل هؤلاء يبتلون بالمضحكات، حتى أن ممن يعد من الكبار -كبار الفلاسفة- الذين يزعمون أنهم أهل العقل وأهل الحكمة، يخلو في غرفة وقد فتح للقط فتحة من تحت الباب، يدخل القط ويخرج، يستفيد منه يأكل إما فأر أو شبهه ويأكل باقي الطعام، فلما ولدت الهرة فتح لولدها فتحة أخرى، فقيل له: الفتحة اللي تأخذ الأم ما تأخذ البنت، يزعمون أنهم كبار يزعمون أنهم هم أهل العقول وأن من سواهم دراويش، ما يفهمون فيبتلون بالمضحكات، وكل من كان الشرع قائده فهو المسدد وهو الموفق؛ لأنه يأوي إلى قاعدة متينة لا خلل فيها ولا اضطراب، وأما العقل فالعقول متفاوتة {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} كل إنسان يقول: إن رأيه هو الصواب، وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن عشرة من النصارى اجتمعوا لبحث مسألة يقول: فصدروا عن أحد عشر قولاً، أكثر من عددها، فالأقوال المنضبطة هي التي عمدتها ومعولها على النص، وإذا فتح المجال للاحتمالات العقلية المجردة فإن الإنسان لن يصل إلى نتيجة؛ ولذلك كانت نهايتهم الحيرة، كانت النهاية بالنسبة لهم الحيرة، ويتمنون أن ماتوا على عقائد عوام المسلمين وعلى عقيدة العجائز.

فلا بد أن يؤمن بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه فتنة القبر؛ فأما الفتنة هذه الفاء التفريعية، وأما التفصيلية فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، ذكر الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في أهوال القبور، الحافظ ابن رجب ذكر في كتاب له اسمه "أهوال القبور" قصصًا تدل على عذاب القبر، هناك رؤى ومنامات وقصص، يقول بعضهم نسي الفأس فنبش القبر، فإذا بيديه ورجليه قد غلتا إلى عنقه، وأدخلا في حلْقة الفأس، ذكروا من هذا الشيء الكثير، لكن لسنا بحاجة إلى مثل هذه الأخبار، لسنا بحاجة، عندنا نصوص صحيحة ثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا نتردد ولا نشك ولا نرتاب، هناك أشياء تذكر للاعتماد وهناك أشياء تذكر للاعتضاد، يعني ما يعول عليها ولا يعتمد عليها مثلما ذكر شيخ الإسلام بالنسبة للأخبار الضعيفة، وما يذكر عن بني إسرائيل، وما يذكر عن حوادث العالم، وما يذكر من الوقائع المشاهدة، هذه لا يعتمد عليها ولا يعول عليها في تقرير مسائل علمية، وإنما تذكر للاعتضاد ما فيها إشكال، يعني مجرد ذكر لا إشكال فيه، اللهم إلا إذا أدى الذكر إلى تعلق الناس بها، إلى تعلق الناس بها، بحيث لا يؤثر فيهم إلا مثلها، فإذا ذكرت النصوص ما تأثروا مثل هذه يعرض عنها، ومعول القصاص في القديم والحديث على مثل هذه الأمور، تجدهم يذكرون الناس بها، وكم سمعنا أن شخصًا رأى شخصًا يحتضر، وهو ممن يشرب الدخان، فانقلب وجهه عن القبلة أو صار وجهه أسود أو ما أشبه ذلك، نقول: هذه الأمور إذا ذكرت تبعًا بعد ذكر النصوص وتعظيم النصوص في نفوس الناس الله -جلَّ وعلا- يقول لنبيه: {فذكر بالقرآن} فذكر بالقرآن ومن أراد كيفية التذكير بالقرآن فليقرأ أوَّل الفوائد لابن القيم، كيف يذكَّر المؤمن بالقرآن؟ كلام نفيس لا يوجد عند غيره فيما أعلم.

وتجد الناس يتعلقون بأمور القرآن يسمع ويتلى، ومع ذلك لا يحرك ساكنًا، فإذا ذكر قصة والا منام والا رؤيا والا شيء تأثر الناس، لا شك أن هذا خلل في الاتباع، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأ القرآن في صلاته ولصدره أزيز كأزيز المِرجل، وبكى لما سمع قراءة ابن مسعود، وتأثر لما سمع قراءة أبي موسى وهكذا، يسمع طالب العلم -مع الأسف- ما يذكر ما يصح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا يتأثر، فإذا سمع قصة أو حادثة تأثر، تجد القرآن يتلى في كل ليلة من ليالي رمضان فيندر أن تجد من يتأثر به ويبكي، ثم إذا جاء دعاء الختم تأهب الناس للبكاء قبل أن يحضروا إلى المسجد، تجدهم قبل الشروع في الصلاة متأهبين، ولا شك أن هذا خلل ينبغي أن يذكر الإنسان بالقرآن، والحسن البصري يقول: تفقد قلبك في ثلاثة مواطن: في الصلاة، في قراءة القرآن، وفي الذكر، يقول: إن وجدته وإلا فاعلم أن الباب مغلق، نحن ما نتأثر يعني يقرأ القرآن والإنسان عله يتذكر قصة أو حادثة وهو يصلي، ما يتأثر بالقرآن الذي يتلى فلعله يبكي أو يتباكى، لكن هذا كله لا ينفع؛ لأنه إنما بكى من غير خشية الله، والفقهاء ينصون على أنه إن بكى في القرآن أو انتحب من غير خشية الله فالصلاة باطلة، لكن أحيانًا يكون البكاء مما ينبغي البكاء منه لكنه في غير القرآن، يعني ذكرنا مثال -وهذا واقع- يعني شخص يصلي في الدور الثاني من المسجد الحرام وهو مطل على المطاف، والإمام يقرأ آيات مؤثرة بالفعل، وبعض الناس يبكي منها، وهذا الشخص الذي يطل على المطاف يتذكر الحشر والناس يموج بعضم في بعض، والناس يطوفون، وهذا داخل وهذا طالع والصحن مليان مزدحم فيبكي من هذا المنظر وهذا المشهد يؤجر على هذا والا ما يؤجر؟ هذا تشريك في العبادة، تشريك في العبادة، لكن هل هذا التشريك مما يغتفر ويحمد أو هو مما يذم؟ يعني أقرب ما يكون إلى فعل عمر أنه كان يجهز الجيوش وهو في الصلاة، يعني يفكر في الجيوش عمل طاعة عمل خير، يعني تشريك عبادة في عبادة، لكن الأولى أن يلتفت إلى ما هو بصدده، وإن كان الأصل فيه مشروع، فيذكر الإنسان بالقرآن ولا يلتفت إلى هذه القصص إلا للاعتضاد، يعني لا للاعتماد؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- عن أناس في القرن السابع والسادس والخامس أنهم فرقة من الفرق يتوبون الناس، يتوبون العصاة بأناشيد، والعصاة إنما يتوبون ويقفون بالنصوص بما قال الله وقال رسوله، فلا شك أن مثل هذا مخالف لهدي النبي -عليه الصلاة والسلام- والله المستعان.

فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ يمتحنون في قبورهم؛ إذا دفن الميت وأدبر عنه أهله، وإنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان منكران، بمعنى أنه لم ير مثلهما، ينكر صورتهما، أحدهما جاءت تسميته بأنه المنكر والثاني النكير، والحديث الوارد فيهما قابل للتحسين وإن ضعفه بعضهم، باعتبار أن الملائكة كرام على الله -جلَّ وعلا- فكيف يوصفون بهذه الأوصاف، والنكارة معروف أنها نسبية، النكارة نسبية، كل ما يعرفه الإنسان ينكره ويستنكره، المقصود أنه يأتيه هذان الملكان فيقعدانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ من ربك؟ كما جاء في حديث البراء وغيره مما يشهد له، المؤمن الموقن يقول: ربي الله، وإذا قيل له: ما دينك؟ قال: ديني الإسلام، وإذا قيل له: من نبيك؟ قال: نبيي محمد -صلى الله عليه وسلم-، هذا بالنسبة للمؤمن الموقن المصدق في الدنيا. وأما الشاك أو المرتاب المنافق فيسأل هذه الأسئلة فلا يستطيع جوابًا لا يستطيع جوابًا، هل لأنه لا يعرف الجواب في الدنيا؟ قد يكون من أعلم الناس، وقد يكون ممن يدرس العقائد، فالوضع مخيف، ما هي مسألة تحتاج إلى مذاكرة تقول: أردد حتى أحفظ، المسألة توفيق من الله -جلَّ وعلا-، قد يدرس كتب العلم وعنده شك وارتياب فلا يوفق للجواب، الشاك أو المرتاب فيقول: هاه، يريد أن يتذكر شيئًا كان يقوله في الدنيا، كان يسمع الناس يقولونه، وقرأه في كتب أهل العلم، ومع ذلك هاه هاه، كأنه يستثبت أو يطلب أو يستنجد الجواب، لكن لا جواب، لا أدري، طيب كان يقول هذا الكلام فيردد مع المؤذن ويقول: لا إله إلا الله مع الناس، لكنه يأتي بما يناقضها، يقول: لا إله إلا الله، ويطوف على قبر أو يذبح لغير الله -جلَّ وعلا-، هذه لا تنفع، وهذا يدل على أنه قد يقول: لا إله إلا الله ولم يقر الإيمان في قلبه بل بلسانه، كما كان المنافقون يفعلون -نسأل الله العافية-.

يقول الشيخ -رحمه الله-: فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، الذين آمنوا هم أهل الثبات، هم أهل الثبات؛ لأنهم اعتمدوا وعولوا على نصوص ثابتة لا تتغير ولا تتبدل في الدنيا ثابتون، {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} طيلة الحياة ثابتون ثبتهم الله -جلَّ وعلا-، وعند الممات وعند السؤال، وليكن طالب العلم على خوف دائم ووجل؛ لأنه جاء في الحديث الصحيح -حديث ابن مسعود وغيره-: «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» -نسأل الله العافية- بعمل أهل أهل الجنة، والأول بعمل أهل النار فيدخلها، والأعمال بالخواتيم، لكن من عَبَد الله -جلَّ وعلا- صادقًا مخلصًا قلبه سليم من الدخائل فإنه يثبَّت، {يثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} جاء في بعض الروايات قيد «ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس» والثاني «يعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس»، ولكن من تصرف سلف هذه الأمة ومن واقعهم يدل على أنهم لم يقيدوا المطلق بالقيد ومع وجود هذا القيد فإن الإنسان لا يضمن؛ لأنه إن ضمن فقد زكى نفسه وقد نُهي عن ذلك، فيبقى خائفًا وجِلاً يحسِّن الظن بربه، لكن يسيء الظن بنفسه وبعمله فيحرص على الإخلاص.

فيقول المؤمن: ربي الله والإسلام ديني ومحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيي، وأما المرتاب الشاك فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيضرب بمِرْزَبَة من حديد، مِطْرَقَة كبيرة، وقد تبدل الميم همزة إِرْزَبَّة ويطلق الناس العامة مازالوا يقولون مِرْزَبَّة إلى الآن، وهم يطلقونها وهي تشبه العصا الغليظة، محددة الطرفين تكسر بها الصخور، بعض الجهات يسميها هِيْب، موجود في حول أطراف الرياض يسمونها بالهِيْب، على كل حال المرزبَّة والإرزبَّة هذه مازال مستعملاً ومتصورًا، والضرب بها هي تكسر الصخور، والمقصودة التي تكسر الصخور هذه المحسوسة مع أنها لا نسبة لها مما..، لا نسبة لها، بالنسبة لما يضرب به الشاك أو المرتاب؛ لأن هذا تقريبي أو المشاركة في الاسم فقط؛ لأنه كما جاء عن ابن عباس «ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء»، ويُخطئ من يرسم بعض الصور لما جاء في النصوص من أمور الآخرة؛ لأن هذا تهوين من شأنها، هذا تهوين من شأنها والله المستعان.

فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصَعِق، يعني: مات؛ لأنه لا يحتمل هذا الأمر، وقد جاء في الحديث الصحيح: «لولا أن تَدَافَنُوا لأسمعتكم» في بعض الروايات: «لولا ألا تَدَافَنُوا لأسمعتكم»، ولولا أن تدافنوا يدفن بعضكم بعضًا من كثرة الأموات؛ لسماع المعذبين في قبورهم، ولولا ألا تدافنوا أيضًا لكثرة الأموات، كثرة بحيث لا يستطاع أن يدفن كل من مات؛ لعدم القدرة على ذلك، قال: ولو سمعها الإنسان لصَعِق، وفي بعض الروايات: «إلا الثقلين» فيشمل المكلفين، والحكمة من عدم سماع المكلفين ما نُص عليه بأنه لو سمعها لصعق، وأيضًا عدم سماعها؛ لأن الامتحان بها في حال كونها غيبًا، أما إذا كانت في عالم الشهادة فلا امتحان بها، فلا امتحان بها إذا وصلت إلى عالم الشهادة، يعني الكلام على المؤمن الذي يجيب، وأيضًا الشاك أو المنافق المرتاب الذي لا يجيب، طيب عندك بين أو من تمام القسمة شخص مسلم مرتكب لمعاصي، وآخر غير شاك ولا مرتاب، لكنه كافر غير متردد جازم بكفره؛ لأن المرتاب المنافق فماذا عن الكافر وماذا عن المسلم العاصي؟ جاء تعذيب بعض العصاة والتنصيص عليهم في الأحاديث الصحيحة؛ مر النبي -عليه الصلاة والسلام- بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه أو لا يستبرئ أو لا يستتر من بوله»، فهم يعذبون في قبورهم، لكن لا يعذب عذاب المرتاب المسلم العاصي يعذب في قبره، لكنه لا يعذب عذاب المرتاب، كما أن الكافر غير المرتاب في كفره يعني قيل: إنه من باب أولى.

طالب: .............

وإيش لون؟

طالب: .............

إيه هذا الكلام حتى الجواب يشمل هذا، هل يُسأل العاصي أو لا يسأل؟ يعني إذا سئل المؤمن فمن باب أولى العاصي، فإذا سئل هل يجيب أو لا يجيب؟ على حسب ما يقِرُ في قلبه؛ إن كان موقنًا بأن الله ربه، وأن محمدًا نبيه، وأن الإسلام دينه يجيب؛ لأنه داخل في الموقن، من يسأل هذه الأسئلة؟ هل كل من مات يسأل؟ جاء في الشهيد، وجاء أيضًا في المرابط أنه يؤمَن الفتَّان، هذا بالنسبة للشهيد وبالنسبة للمرابط، وهل نقول: إن الأنبياء والصديقين من باب أولى؛ لأنهم أعلى منزلة أو نقول: إن النصوص عامة، أما بالنسبة للأنبياء الذين يسأل عنهم ما هو بيُسألون، يُسأل عنهم، من نبيك؟ فالمتجه أنهم لا يُسألون، المتجه أنهم لا يُسألون، لكن يبقى من عداهم ممن لم ينص على أنه لا يسأل مثل هذا يدخل في عموم النصوص.

فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق، مات ما يحتمل، ثم بعد هذا السؤال، كما قال الشيخ -رحمه الله تعالى-، ثم بعد هذه الفتنة والخلاف في الأجوبة ينقسمون إلى قسمين منهم المنعم ومنهم المعذب إما نعيم وإما عذاب، إما نعيم وإما عذاب، إلى أن تقوم القيامة الكبرى، المؤمن الذي يجيب ربي الله والإسلام ديني ومحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيي، مثل هذا يفسح له في قبره، ويفتح له باب إلى الجنة، ويأتيه من روحها ونعيمها، وقبره يكون عليه روضة من رياض الجنة، وأما الآخر فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويعذب إلى أن تقوم القيامة الكبرى، القيامة الكبرى: البعث، بعث الناس من قبورهم، ووصفها بالكبرى يدل على أن لها قسيمًا هي القيامة الصغرى، والقيامة الصغرى نعم الموت، موت كل إنسان بحسبه «من مات قامت قيامته» وإذا مات الإنسان كلهم بالنفخ في الصور هذه أيضًا قيامة، لكن القيامة الكبرى هي نفخة البعث {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} هذا يجر إلى سؤال يعني: هل النعيم على الجسد أو على الروح، والعذاب على الجسد أو على الروح؟ أو عليهما معا؟ لأنه قد يقول قائل: مات فلان التقي الصالح، ثم نبش قبره لغرض من الأغراض فإذا به قد أكله الدود، هل هذا في نعيم وقد أكله الدود؟ وكافر لا تأكله الأرض من هو؟ نعم كيف؟ نعم الذي يتجلجل الذي خُسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، هذا لا تأكله الأرض، السؤال هل العذاب على البدن أو على الروح أو عليهما؟

أما في الدنيا فلا شك أن العذاب على البدن، والروح تتألم تبعا له، لكن الأثر كله على البدن، وأما بالنسبة للبرزخ نعم العكس، الروح هي التي تتعذب والبدن تبع لها، وفي القيامة عليهما معًا، فقد يكون البدن متحللاً منتنًا يأكله الدود، والدود يدخل من أذنه ويخرج من عينه، وهو في نعيم دائم؛ لأن من لا تأكله الأرض ممن حرم الله على الأرض أن تأكله هم الأنبياء والشهداء، الروح ما تفنى الروح لا تفنى:

ثمانية حكم البقاء يعمها     .

 

من الخلق والباقون في حيز العدم .

هي العرش والكرسي نار وجنة    .

 

وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

الإنسان الأصل فيه، لكن جاء في النصوص ما يدل على الثقلين «إلا الثقلين»، مكلفين، من استوت حسناته وسيئاته، وهذا إنما يكون بعد في الوزن، فماذا عنه في القبر؟ هي الأمور التي يعذب عليها في قبره منصوص عليها حتى خصَّ بعضهم عذاب القبر الحديث فيه «وإن عامة عذاب القبر عليهم» يعني على البول وعلى النميمة، فهل العامة الغالب أو الكل؟ مسألة خلافية بين أهل العلم؛ فمن قال: إن عصاة الموحدين لا يعذبون في القبور إلا من ارتكب هذين الذنبين العظيمين، قال: لا يعذبون، ومن قال: إن عامة يعني أكثر فقد يعذب على غيرهما، والله أعلم. هذا شيء ما تدركه العقول وهذه أمور يقتصر فيها على موارد النصوص فقط، وليس للإنسان أن يسترسل بدون قائد، بدون نص.

طالب: ..............

معروف إيه لا تأكله، ذكرنا هذا، لا تأكل الأرض جسده، الشهيد ما تأكله الأرض، والله -جلَّ وعلا- حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء، هذا ذكرناه سابقًا. وِدنا يا إخوان أنا مقرر أننا ننهي الكتاب في نهاية الفصل، فما ودنا نتوسع أكثر من هذا.

يقول: ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد؛ لأن الأجساد التي تحللت، التي تفرقت، التي تمزقت، ومنها من مات في البر، ومنها من مات في البحر، ومنهم من أكلته السباع، هؤلاء يمطرون أربعين، يقول أبو هريرة: «لا أدري أربعين يومًا أو أربعين سنة» بماء يشبه ماء الرجال، فينبتون تنشق عنهم الأرض، وأول من تنشق عنه الأرض النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-، ويقول في الحديث الصحيح: «فإذا موسى آخذ بقائمة العرش»، وفي رواية باطش، يعني: آخذ بقوة، مستمسك، «فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور»؟ يعني ما صُعِق، المقصود أن الناس بعد هذه الفتنة تعاد، وبعد القيامة الكبرى تعاد الأرواح إلى الأجساد، فالأجساد تعاد، فتعاد إليها الأرواح وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون.

تقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه {ويوم تقوم الساعة} تقوم القيامة الكبرى، تقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والنصوص في هذه كثيرة متظاهرة، وأجمع عليها المسلمون، يعني القيامة الكبرى، الذي ينكرها منكر للبعث، منكر لركن من أركان الإيمان، كافر نسأل الله السلامة والعافية-، بل ثبوتها بالإجماع، وكيف ينكر قيام الناس من قبورهم؟ ويتم مع ذلك الجزاء والحساب الذي هو نتيجة التكليف، يعني كون الناس يكلفون بالأوامر والنواهي توجب عليهم الواجبات، تحرم عليهم المحرمات، ثم بعد ذلك لا يجازَون أو يجازَون بدون بعث، كل هذا لا ينفع، إنما يتم البعث تقوم القيامة الكبرى، ثم بعد ذلك يجازون بأعمالهم؛ فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، يقول الكافر: {من بعثنا من مرقدنا} فيجاب -يجيبه المؤمن- {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} هذا وعد؛ لأن الأول لا يقر والثاني يقر، مصدق مؤمن.

فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين {يوم يقوم الناس لرب العالمين} في سورة المطففين، فعلى الإنسان أن يتقي أهوال هذا اليوم العظيم {يوم يقوم الناس لرب العالمين} من قبورهم حفاة عراة غرلا، حفاة غير منتعلين ولا في أرجلهم ما يقيهم، وعراة ليس عليهم ما يستر العورات، غرلاً جمع أغرل وهو الأقْلَف، الغُرْلة القَلَفَة التي تُزال بالختان، التي تزال بالختان، فيرد عليه كل ما أخذ منه، أو كل ما سقط منه، أو كل ما فقده بعد تمام صحته وعافيته.

يقول الشيخ -رحمه الله تعالى-: فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، وتدنو منهم الشمس قدر ميل، ولا يُدرى ما الميل أميل المسافة؟ أم ميل المكحلة؟ ولو قدر أنه ميل المسافة، فالأمر عظيم والهول شديد؛ لأنها مع بعدها آلاف أو ملايين الأميال محرقة ومؤذية قاتلة أحيانًا، فكيف إذا دنت بمقدار ميل؟ تدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق، يجلمهم العرق؛ لأن الحرارة تسبب العرق، لكن هذا العرق على قدر الأعمال؛ فمنهم من يلجمه العرق، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من العرق إلى حقويه، ومنهم من هو إلى ركبتيه، ومنهم من هو إلى كعبيه، ولا داعي لأن يقال: إن هذه المقاييس مختلفة، فكيف يعمم الجميع بحكم مختلف، ولا حاجة بنا إلى أن نقول: إن النظائر تُضم إلى بعضها، فالذين يلجمهم العرق في مكان، والذين العرق يصل إلى حقويهم في مكان واحد، والذين إلى ركبهم في مكان واحد، والذين إلى أكعابهم في مكان، لسنا بحاجة إلى هذه التفاصيل، بل علينا أن نسلَّم لماذا؟ لأننا لا نحتاج إلى مثل هذا التفصيل إلا إذا تصورنا أن ما يقع في الآخرة نظير ما يقع في الدنيا، نحتاج إلى مثل هذا التفصيل، وإذا قلنا: إن ما يقع في الآخرة شيء لا يخطر على البال ولا تطيقه العقول ولا تدركه إلا ما نُص عليه، لسنا بحاجة إلى مثل هذا التفصيل.

ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد، قد يقول قائل: إن الشمس محرقة مع بعدها، ومازال الناس يحرقون بها، المواد القابلة للاشتعال تأتي إلى مرآة إما عاكسة أو مكبرة فتضعها على خرقة أو على ورقة فتسلطها عليها تحرقها، وبعض الناس يحصل عنده الحريق في بيته وهو لا يعلم سبب ما فيه شيء محرق، الكهرب ما تأثر، ولا فيه غاز، ولا فيه شيء تجد زجاجًا عاكسًا عكس ضوء الشمس إلى هذا المكان الذي احترق، وقد يتسبب في ذلك بعض شياطين الجن فيحرقون وحصل، هذه عقوبات تحصل لبعض بني آدم، المقصود أن النار محرقة مع بعدها، فلماذا لا يحترقون إذا قربت؟ نقول: إنما بعثوا للبقاء لا للفناء، ومع ذلك يحصل لهم من الأهوال ويبقون معه؛ ليتم مراد الله -جلَّ وعلا-.

ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين، تنصب الموازين؛ الموازين جمع هكذا جاءت في أكثر النصوص {فمن ثقلت موازينه} فمن خفت موازينه، وجاء في الأحاديث الإفراد في القرآن {ونضع الموازين القسط} وفي السُّنة «ما وضع في الميزان أثقل من حسن الخلق»، ونصوص كثيرة جاءت بالإفراد، لكن الأكثر منها المجيء بالموازين بالجمع، فهل هو ميزان واحد أو موازين متعددة، أو لكل أمة ميزان يختص بها؟ لأن الجزاء يختلف، هذه الأمة جزاؤها أعظم من الأمم السابقة كما جاء في حديث «إنما مثلكم ومثل من قبلكم كمن استأجر أجيرا» إلى آخره، دليل على أن جزاء هذه الأمة أعظم من غيرها من الأمم، فلكل أمة ميزان، أو لكل صنف ميزان، أو لكل شخص ميزان.

قوله: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} الآن موازين جمع في مقابل مفرد أو في مقابل جمع موازينه، ما قال: موازينهم يعني المفرد هذا مقابل الجمع موازين، موازينه الآن مقابلة جمع بمفرد، لو كانت مقابلة جمع بجمع لقلنا: القسمة تقتضي الإفراد، يعني لكل واحد ميزان. فمن ثقلت موازينهم يعني لكل واحد ميزان؛ لأن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة، أفراد آحاد فيكون لكل واحد ميزانه، لكن الآن مفرد يقابله جمع، لكن ماذا عن قوله: {فأولئك هم المفلحون} ما قال: هو المفلح، الآن الآية فيها إشكال؟ يعني لو اطردت الآية فقال: فمن ثقلت موازينه فأولئك هو المفلح، أو فمن ثقلت موازينهم فأولئك هم المفلحون، يعني هل هذا خلل في النظم؟ لا، لماذا؟ لأن مَن يعاد عليها الضمير بالإفراد ويعاد عليها الضمير بالجمع، يعاد عليها الضمير بالإفراد باعتبار لفظها، ويعاد عليها الضمير بالجمع باعتبار معناها، فعاد عليها الضمير باعتبار اللفظ، ثم عاد عليها الضمير بالجمع باعتبار المعنى، فلا إشكال، وتبقى المسألة خلافية: هل لكل شخص ميزان أو لكل صنف ميزان أو لكل أمة ميزان؟

وعلى كل حال مثل هذا التفصيل يحتاج إلى وقت، له كتبه، الكتب التي تحدثت عن الآخرة كالتذكرة للقرطبي، وهو من أفضل ما كُتب، والبحور الزاخرة للسفَّاريني، كتب كثيرة كتبت في الموضوع مطولة ومختصرة.

{فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون} الجمع قالوا جُمع باعتبار الموزون لا باعتبار الميزان عند من يقول: إن الميزان واحد، يقول: جمعت الموازين باعتبار الموزون، كأنه قال: فمن ثقلت حسناته المتعددة، ومن خفت حسناته المتعددة، ويلزم من ثِقل الموازين من ثقل الحسنات خفة..، المقابل السيئات؛ لأن الوزن للأعمال الحسنة في كفة والسيئة في كفة، فإذا ثقلت ورجحت الحسنات طاشت السيئات والعكس.

{ومن خفت موازينه}، خفت موازينه يعني: خفت حسناته التي وضعت في الميزان {فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون} فالذي يوزن العمل، الذي يوزن العمل، وقد يوزن الشخص؛ يعني ابن مسعود لما رقي على الشجرة -شجرة الأراك- وأراد أن يقطع منها تعجب الصحابة من دقة ساقيه، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إنها لأثقل في الميزان من كذا»، «ويؤتى بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة» يدل على أن صاحب العمل قد يوزن، لكن ليس كل الناس يوزنون، والأصل أن الوزن للعمل؛ لأنه هو الذي يترتب عليه الجزاء، لكن قد يوزن صاحب العمل، من ثقلت موازينه، يعني رجحت حسناته على سيئاته، هؤلاء هم المفلحون، والفلاح كلمة جامعة تجمع الخير كله، تجمع أطراف الخير بخلاف الشقاء.

{ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون}، يقول أهل العلم: قد خاب وخسر من فاقت آحاده عشراته، يعني: من فاقت آحاده عشراته، إذا كان لا يجزى بالسيئة إلا سيئة واحدة، ويجزى بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، لا شك أن من ترجح هذه السيئات مع عدم المضاعفة على الحسنات مع المضاعفات الكثيرة السبعمائة، لا شك أن هذا خسران، {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} ما هي مسألة خسارة أموال تعوَّض أو لا تعوَّض، الخسارة الحقيقية خسارة الدين التي يتبعها خسارة النفس والأهل {فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون}.

ثم بعد هذا يقول الشيخ -رحمه الله تعالى-: وتُنشر الدواوين، وهي صحائف الأعمال، تُنشر الدواوين التي فيها المكتوب الذي كتبه المَلَكان، الذي يكتب الحسنات والذي يكتب السيئات في كتاب {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}، بدقة، يحسب كل شيء، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، يكتب كل شيء، تكتب الحسنات وتكتب السيئات، والخلاف فيما لا إثم فيه ولا أجر، هل يكتب أو لا يكتب؟ من أهل العلم من يقول: يكتب كل شيء، حتى ما لا ثواب فيه ولا عقاب عليه يكتب، ثم بعد ذلك يهدر، ومنهم من يقول: لا يكتب إلا ما يثاب عليه؛ ليوضع في كفة الحسنات، وما يعاقب عليه؛ ليوضع في كفة السيئات.

وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، فيأتي الإنسان بالسجلات من الحسنات والسجلات من السيئات، وهناك البطاقة وحديث البطاقة معروف، تنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال؛ فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، الذي يأخذ كتابه بيمينه هذا هو الناجي الذي ثقلت موازينه، وأما الذي يأخذ كتابه بشماله فهو الذي خفت موازينه، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، أو من وراء ظهره هل هذا قسم أو قسيم؟ يعني هل هم ثلاثة إذا قلنا: قسيم صاروا ثلاثة، صار منهم من يأخذ الكتاب باليمين، ومنهم من يأخذ الكتاب بالشمال، ومنهم من يأخذ الكتاب من وراء ظهره، يعني هل هما قسمان أو ثلاثة؟ قسمان ما فيه ثالث، لكن الآخذ الكتاب بالشمال لا شك أنه يأخذه بيده، الشمال اليسرى التي توضع وتُلوى من وراء ظهره، كما قال -سبحانه وتعالى- {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، الطائر هذا عبارة عن العمل الذي يتطير به ويتشاءم منه أو يتفاءل به، فإن كان حسنا يتفاءل به كما يصور له بصورة الشاب الحسن الذي يأتي وجهه بالخير، كما أن العمل السيء يتشاءم به صاحبه؛ لأنه يصوَّر له صورة رجل قبيح المنظر فيقول له: من أنت؟ الذي وجهك لا يأتي بالخير، فهو من هذه الحيثية سمي طائر {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورًا} مفتوح لا يحتاج إلى تقليب وإلى عناء وإلى تعب {ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا} وفي هذا في كونه منشورًا لا شك أنه زيادة سرور بالنسبة لصاحب العمل الصالح وزيادة حزن وكآبة بالنسبة لصاحب العمل السيء لصاحب السيئات؛ لأنه أوّل ما يواجه به عمله، فينظر إلى هذه الأعمال السيئة فيزداد حزنه وكآبته، والآخر صاحب الأعمال الصالحة يجدها منشورة مستقبلاً بها لا يحتاج إلى تفتيش، يعني هذا في الأمور المحسوسة، في الأمور المحسوسة واضح، يعني إذا ذهبت إلى مدرستك لتنظر إلى النتيجة فوجدت النتيجة أنت مع الأوائل، على الباب منشور، على باب المدرسة، تفرح والا ما تفرح؟ افترض أن اسمك سقط من الناسخ أو من الآلة، ثم بحثوا في الأدراج وفي السجلات أنت في هذه المدة وإيش وضعك؟ مبسوط والا محزون؟ نعم، لكن الذي جاء بالحسنات تجده منشورًا، يعني مثال تقريبي ولا نسبة لهذا مع هذا، فالشخص الذي راسب بجميع المواد يجده منشورًا أيضًا على الباب، يفرح والا يحزن؟ يفرح أن اسمه يسقط من الكشف؛ لأن فيه احتمال إذا سقط أنه مثلاً يصير ناجحًا بالمواد أو بعض المواد، لكن يجده منشورًا أمامه؛ ليزداد حزنه، ولا شك أن مثل هذا فيه مما يفرح المؤمن ويسره ويبادر بفرحه وسروره، وبالعكس صاحب السيئات التي رجحت على حسناته.

{اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا} أبدا النتيجة اطلع عليها بنفسك، يعني لو أخبر بها ما  اطمأن، ما يطمئن؛ ولذلك لو أن الإنسان يزعم أو يظن أنه أجاب في الامتحان ثم يطلع اسمه راسب، ثم يقال له: هذه كراستك، راجع هذا أنموذج الإجابة الصحيح وراجع، خذ كراستك، {كفى بنفسك اليوم}، حاسب نفسك، ما يبقى له أدنى عذر {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} حاسب نفسك، كتابك منشور، وانظر في حسناتك وسيئاتك تنكر منها شيء؟ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده، وهذا للدرس القادم -إن شاء الله تعالى-.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"