السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن هذا الموضوع الذي اختاره الإخوة عنواناً لهذا الدرس يحتاج إلى محاضرات، بل إلى وقت؛ لأن كل فن يحتاج إلى وقت مستقل -من فنون العلم-، سواء كان العلم الشرعي، أو ما يعين على فهم العلم الشرعي، لكن في هذا الدرس نُلِمُّ بأطرافه -إن شاء الله تعالى- ، ونذكر -بإذن الله جل وعلا- ما لعله أن يفيد السامع، وإن كان قد تقدم لقاءات كثيرة في هذا الشأن، وسُجِّلت، والأشرطة موجودة، ولكنها متشعبة تحتاج إلى أن تلتقط من عدة لقاءات.
المقدمة:
في هذه الساعة نبدأ بمقدمة لبداية التأليف والتصنيف.
في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يكن هناك كتب مصنفة ولا مؤلفة، حتى القرآن لم يكن مجموعاً في مصحف، بل كان محفوظاً في الصدور، ومكتوباً كتابات متفرقة، والخشية مأمونة في ذلك الوقت مع وجوده -عليه الصلاة والسلام- في أن يختلط هذا القرآن بغيره، وفي أن يضيع منه شيء؛ لأن الله -جل وعلا- تكفل بحفظه.
لما فتحت البلدان ووجدت بوادر للاختلاف على أصل الأصول وهو القرآن، بادر الصحابة -رضوان الله عليهم- بجمعه، فجُمع في عهد أبي بكر جمعاً مبدئياً، ثم جمع الجمع النهائي في عهد عثمان -رضي الله تعالى عنه- ، وكَتَبَ منه نسخاً أربع، أو خمس، وأرسلها إلى الأمصار، واعتمدها الناس، ومازالت بأيدي الناس إلى يومنا هذا، وهذا برهان على حفظ القرآن الذي تكّفل الله بحفظه من الزيادة والنقصان، حتى ذكر البيهقي في دلائل النبوة: عن يهودي دعاه القاضي يحيى ابن أكثم إلى الإسلام، فلم يُسْلِم، لم يسلم لما دعاه القاضي يحيى ابن أكثم، وبعد ذلك، بعد مرور سنة كاملة جاء ليعلن إسلامه على يدي القاضي يحيى ابن أكثم، فسأله عن السبب في هذا التأخر؟ فذكر له: أنه عمد إلى التوراة فكتب منها نسخاً حَرَّفَ فيها وغير وبدل، ثم ذهب بها إلى سوق اليهود، فتخطفوها من يده، واشتروها، وقرؤوها، وعملوا بما فيها، ثم صنع مثل ذلك في الإنجيل، -قدم وأخر وزاد ونقص وحرف-، ثم بعد ذلك عرضه على النصارى، فاشتروه، واعتمدوه، ثم بعد ذلك عَمِدَ إلى القرآن الكريم فغير فيه تغييرات يسيرة جداً لا تكاد تُلْحَظ، فجاء به إلى سوق المسلمين -سوق الوراقين- من المسلمين، فمن نظر فيه رماه في وجهه، ثم بعد ذلك أعلن إسلامه، وذكر القصة ليحيى بن أكثم.
فلما حج يحيى بن أكثم التقى سفيان بن عيينة، واجتمع به، وذكر له القصة، فقال: هذه القصة شاهدها في القرآن، فالله -جل وعلا- تكفل بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر]، لا يستطيع أحد، ولا يجرؤ أن يزيد أو ينقص، وأما بالنسبة للتوراة والإنجيل، فقد استحفظوا عليها، ووكل حفظهما إليهم، فلم يحفظوا، فوقع ما وقع من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، هذا الكتاب المحفوظ بين الدفتين هو أصل الأصول بالنسبة لهذا الأمة، وفي فلكه تدور جميع الكتب، بما في ذلك السنة؛ لأنها مفسرة للقرآن ومبينة له وموضحة للقرآن.
نعم! فيها أحكام زائدة على ما جاء في القرآن وتستقل بتشريع بعض الأحكام، وهي من الوحي كما قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*ِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3-4) سورة النجم].
تدوين السنة:
بالنسبة لتدوين السنة، جاء في حديث أبي سعيد عند مسلم: ((لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب شيئاً غير القرآن فليمحه))، ومع ذلكم كان من الصحابة من يكتب، فمنهم من حمل هذا الأمر أو هذا النهي على الكراهة، الأمر على الكراهة، يعني خلاف الأولى، يعني اعتنوا بالقرآن ولا تخلطوا معه غيره، ومنهم من حمل هذا النهي على ما إذا خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن بأن تكتب السنة مع القرآن في صحيفة واحدة فيتجه النهي حينئذٍ، ومنهم من حمله على ما إذا اعتمد الناس على الكتابة وتركوا الحفظ.؟
والواقع يشهد بهذا، أن من اعتمد على ما يكتب فإن الحافظة عنده تضعف إلى أن تذهب، فالذي يكتب ما يحتاج إليه، يعتمد على هذا المكتوب، ثم إذا تذكر شيئاً منه لم يذكره، بينما من لم يكتب وانتبه لما يُذْكر وما يُقال لا شك أنه يحفظه، والناس متفاوتون في الحفظ قوة وضعفاً.
بعد هذا أُمن المحظور، فأمر عمر بن عبد العزيز بكتابة السنة؛ خشية أن تضيع بموت الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهذا هو بداية التدوين الرسمي للسنة، وأما قبل ذلك فهو تدوين شخصي ككتابة عبد الله بن عمرو بن العاص، في قوله عليه الصلاة والسلام: ((اكتبوا لأبي شاه)) هذا أمر بالكتابة لكنه نادر، ويبقى أن الضبط والكتابة للقرآن، ولم يكتب غيره خشية أن يختلط به.
وما خيف منه من الاعتماد على الكتابة وضياع الحفظ هو الحاصل، فالناس قبل أن يكتبوا يحفظون، والتدرج الزمني الذي حصل يشهد بهذا، فكان الصحابة يحفظون السنة، ثم بعد ذلك جاء بعدهم التابعون وهم حفاظ، ثم بعد ذلك بدأ التدوين وما زال الحفظ في الأمة حتى وجد من الأئمة من يحفظ سبعمائة ألف حديث أكثر من الحواسب، أكثر مما جمع في الحواسب بكثير، ثم انتشرت الكتابة وما زال الأمر يضعف، -أعني مسألة الحفظ؛ حفظ الصدر-، وإن كان حفظ الكتاب الذي هو عنوان وبرهان لحفظ هذا الدين ما زال مستمراً.
ولم يفت على الأمة شيء، ولم يضع من دينها وعلمها شيء بمجموعها، استمر الأمر على ذلك والحافظة عند الناس تضعف اعتماداً على هذه الكتب، ونظراً لكثرتها وتنوعها وتشعبها.
تدوين الكتب:
في أول الأمر كتبت السنة، ثم كتبت الآثار عن الصحابة والتابعين، ثم دونت أقوال الرجال، وصار لها أثر على حفظ السنة.
دونت العلوم وصنفت الكتب فمنها الغايات ومنها الوسائل، ومنها ما يتوصل به إلى المطلوب، ويكون مطلوباً لا لذاته، ثم بعد ذلكم جاءت المطابع، فصارت الكتب متيسرة أكثر مما كان عليه الأمر قبل، تيسر الحصول على الكتاب بعد المطابع.
في السابق قبل وجود هذه المطابع، إذا احتجت إلى كتاب: إما أن تستعيره وتحرص على قراءته والفراغ منه وتعيده إلى صاحبه، أو تنسخ الكتاب، وكتابة الكتاب ونسخه أفضل من قراءته عشر مرات، ويستفيد الطالب بهذه الكتابة كما أنه يستفيد إذا استعار الكتاب؛ لأن يوماً من الأيام لا بد أن يُرد على صاحبه، بخلاف ما إذا اقتناه الإنسان، والاقتناء غير متيسر للسواد الأعظم من طلاب العلم، يصعب على طلاب العلم اقتناء الكتب قبل وجود هذه المطابع، فأوجدت هذه المطابع، وهي بقدر ما هي نعمة من نعم الله -جل وعلا- إلا أن لها من الأثر على الحفظ ودراسة هذه الكتب ما يشاهده كل أحد.
في أول الأمر، في بداية الطباعة أفتى بعض شيوخ الأزهر بتحريم طباعة الكتب الشرعية، وأجازوا طباعة كتب التواريخ والأدب واللغة وما أشبهها، ولا شك أن هذه -لا سيما في أول الأمر- نظرة طبيعية؛ لأن هذه الكتب توجد ريبة في قلوب العلماء؛ لأنهم يعرفون من آثارها ما يعرفون، فإذا كان الأمر قبل الكتابة الاعتماد كله على الحفظ، ثم بعد ذلك لما انتشرت الكتابة صار الاعتماد على الكتابة، والكتابة تحتاج إلى معاناة، وبالمعاناة يثبت العلم، ثم بعد الطباعة ما الذي حصل؟ حصل أن طالب العلم يجمع من الكتب أضعاف ما كان عند شيوخه، ومع ذلكم لا يعرف عنها شيئاً.
يعني طالب العلم الحريص المجتهد الذي إذا اشترى الكتاب قرأ المقدمة وصار عنده تصور عن الكتاب، أما أن يُقرأ الكتاب من أوله إلى آخره، -مع كثرة المطبوعات- لا شك أن دونه خرط القتاد.
ثم استمر الأمر بعد الطباعة إلى أن ظهرت هذه الحواسب، هذه الحواسب التي يسرت كثيراً على المتعلمين، وبضغطة زر في ثواني تحصل على ما تريد، لكن القاعدة: أن ما أخذ بسهولة يفقد بسهولة.
يعني تضغط زر وتستخرج ما تريد من النصوص من الكتاب، من السنة، بالطرق بالأسانيد، تستخرج ما تريد من أقوال أهل العلم بسهولة، لكن ما الذي يثبت من هذا العلم الذي يؤخذ بسهولة، إذا فقد الكهرباء عاد طالب العلم عامياً، نعم هذا هو الواقع؛ لأن العلم متين يحتاج إلى معاناة، ويحتاج إلى حفر في القلوب، ما يحتاج أن يمر مرور السراب، ومثلنا لذلك: بمن يمشي على رجليه بشارع من الشوارع، وهذا الشارع فيه محلات تجارية، وينظر في هذه العناوين الموضوعة على هذه المحلات، إذا انتهى من الشارع يكون قد حفظ شيئاً كثيراً، وعرف ما في هذا الشارع من المحلات، لكن إذا مر بهذا الشارع بسيارة، هل يحفظ منها شيء؟ أو يعرف المحلات؟ ما يعرف شيء.
فالذي يمر بسرعة لا شك أنه لا يثبت في القلب منه شيء، وقد يقول قائل: إذا كان الأمر كذلك، فهل نكتب الكتب ولا نعتمد على الطباعة؟
نقول: لا يا أخي؛ الآن الطباعة فرضت نفسها، وهل نترك هذه الحواسب؟
نقول: لا يا أخي.
إذاً كيف يتفق هذا مع ما ذكرت؟
نقول: الكتب يقتنى منها ما يحتاج إليه؛ لأن كثرة التصانيف -كما قال ابن خلدون- مشغلة عن التحصيل.
وأما بالنسبة لهذه الحواسب فلا يعتمد عليها، ولا يعول عليها في بناء طالب علم أبداً، فطالب العلم لا يعتمد عليها البتة في بناءه العلمي، إنما يتعلم على الجادة على طريقة من سبق بحفظ المتون، ومجالسة الشيوخ وملازمتهم، وبمطالعة الشروح والحواشي، ثم بعد ذلك يستفيد من هذه الآلات، إذا أراد أن يخرج حديث يخرجه بنفسه من الكتب، وإن استطاع أن يخدم نفسه بنفسه دون الفهارس فهو أولى.
قد يقول قائل: إن في هذا إضاعة وقت؟ نقول: نعم فيه إضاعة وقت، لكن وقت في سبيل من؟ في سبيل التحصيل، وأنت تريد حديثاً من الأحاديث -في طريقك إلى الوقوف على هذا الحديث- تمر بأحاديث كثيرة، أنت قد تكون بحاجة إليها أشد من الحديث الذي تنشده وتطلبه.
إذا أردت أن تقف على مسألة من مسائل العلم، وتوصلت إليها بنفسك، ما توصلت إلا بعد أن مررت على مسائل كثيرة.
كثير من الناس من طلاب العلم مع الأسف يقول: الناس في عصر السرعة، وتعدو هذا الكلام وتخطوه، الآن بلحظة تأخذ ما تريد؟ فنقول: نعم بلحظه، لكن ما النتيجة؟
إذا أردت تخريج حديث فاتعب عليه، ويش المانع أن تتعب على الحديث؟
إتعب على جمعه -جمع طرقه وألفاظه-، وقد تقف على عشرين طريقاً بنفسك، ثم بعد ذلك لا مانع من أن ترجع إلى هذه الآلات فتختبر العمل، علك أن تقف على طرق لم تقف عليها بنفسك، وحينئذ تثبت هذه الطرق التي أخذتها من الآلات في قلبك؛ لأنها قدر زائد على ما جمعت، تتشوف إليه.
فهذه يستفاد منها في اختبار العمل، يستفاد منها –أيضاً- عند ضيق الوقت، إذا ضاق الوقت عندك خطبة جمعة، وما بقي إلا ربع ساعة، وأنت محتاج إلى حديث ما تدري ماذا قال فيه أهل العلم؟ لا مانع من أن تطلع على درجته من خلال هذه الآلات، أما أن تعول عليها في مبتدأ أمرك فلا.
فلا بد أن يكون طلب العلم على الجادة، وأن يتعب في تحصيله، وأن يسلك السبل والطرق التي سلكها من تقدم، لنحصل على ما حصلوا عليه، ولذلكم مع هذه التيسيرات وهذه التسهيلات، كم في الأمة من الحفاظ؟ -أعني حفاظ السنة- وإن كانت البوادر -ولله الحمد- قد ظهرت وتبشر بخير، وبعثت آمال، وكانت الطريقة عند أهل العلم حفظ المختصرات الصغيرة اليسيرة، مثل: الأربعين، ثم العمدة، ثم البلوغ. ومن يتطاول على المنتقى فضلاً عن أن يحفظ الكتب المسندة؟ لكن مع ذلك الآمال -ولله الحمد- وجدت، ففي الشباب من يحفظ آلاف الأحاديث، وهذا يبشر بخير، لكن لا يكفي هذا، لا يكفي أبداً، بل لا بد من معرفة الفقه، والاستنباط من هذه الأحاديث، ومعرفة ثبوت هذه الأحاديث من عدم ثبوتها، فلا بد أن نتحقق من ثبوتها بمعرفة الأسانيد والطرق؛ لأن الإخوان يحفظون أحاديث مجردة بدون تكرار، لكن لا بد من التكرار، لا بد من الأسانيد، لا بد من النظر في المتون.
قد يقول قائل: إنهم في هذه المرحلة في مرحلة تخزين، تخزين للمتون؟
نعم صحيح، لكن لا بد أن يعود إلى هذا العلم مرة أخرى ليتفقه فيه على طريقة شرحناها مراراً، وإن كان الآن بدأنا ندخل في السنة، والأصل أن نتحدث عن القرآن.
كيفية التفقه في السنة؟
ذكرناها مراراً، وهي سهلة وميسورة، لكنها تحتاج إلى وقت، وتحتاج إلى معاناة، وتحتاج إلى تعب، باختصار:
تأتي إلى البخاري، وتجعله المحور والأساس الذي تدور عليه، وهذه مرحلة لاحقة بعد حفظ المتون المعتبرة عند أهل العلم في الفنون، وعلى حسب الترتيب الطبقي لمستويات الطلاب.
تأتي إلى الحديث الأول في البخاري، وتجد الإمام البخاري خرجه في سبعة مواضع، تنظر في هذه المواضع كلها، وتنظر بم ترجم البخاري على هذا الحديث في هذه المواضع، وتقارن بين الأسانيد في المواضع السبعة، هل هي متطابقة؟ مختلفة؟ هل زاد البخاري في هذا الموضع على الموضع الآخر؟ هل تغير بعض الرواة؟ هل تغيرت صيغ الأداء؟ كل هذا مؤثر في فهم السنة، وفي تحصيل هذا العلم العظيم.
إذا انتهيت من المواضع، تنظر في مطابقة الحديث للترجمة التي وضعها البخاري عنواناً لهذا الحديث، وتربط هذا الحديث بترجمته، وتنظر في أقوال السلف من الصحابة والتابعين التي يذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- تحت هذه الترجمة؛ لأنها خير معين على فهم الحديث.
وإذا نظرت في المواضع السبعة على هذه الطريقة، تكشف لك أمور، لا تتكشف لك إذا اقتصرت على موضع واحد كما هو شأن المختصرات؛ لأنه أحياناً يختصر البخاري، وأحياناً يبسط، أحياناً تجد كلمة تفتح لك آفاق في فهم هذا الحديث، وكم حصل من الخبط بالنسبة للشروح والخلط التي لا يُعنى مؤلفوها بالنظر في أطراف الحديث، ثم إذا أنت انتهيت من هذه المواضع تنظر إلى حديث في صحيح مسلم بطرقه وألفاظه، وبما ترجم عليه الشراح؛ لأن مسلماً لم يترجم الكتاب.
ثم بعد ذلك تنظر في سنن أبي داوود ثم في الترمذي والحديث مخرج عند الجماعة، بهذه الطريقة يكون لديك التصور كامل للحديث، وبهذه الطريقة تتفقه في السنة ويكون عندك فقه الحديث على طريقة أهل الحديث.
كيف تقرأ القرآن؟ وكيف تفهم القرآن؟
لأنه لابد من أن نبدأ بأصل الأصول.
القرآن محفوظ بين الدفتين؛ فلذلك لا تتعب في مسألة ثبوته كالسنة، ولا في جمع طرقه، ولا غير ذلك، تقرأ القرآن على الوجه المأمور به، وهذا يكون بعد الحفظ إن تيسر؛ لأن ما يأتي الحفظ، الحفظ ما يتيسر لكل الناس -مع أن الله جل وعلا قد يسر القرآن- {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(17) سورة القمر].
القرآن ميسر -ولله الحمد-، فيكون هذا بعد الحفظ، تنظر في المصحف، وتقرأ فيه على الطريقة المأمور بها بالتدبر والترتيل، وأنت تنظر في كلماته، ما يُشكل عليك من هذه الكلمات تدونه في كراس، الذي يشكل عليك من كلماته تدونه في كراس، وهذا يسميه أهل العلم غريب القرآن، ومن أفضل ما كتب في غريب القرآن: كتاب صغير اسمه: نزهة القلوب لابن عُزيز السجستاني: كتاب مختصر في غريب القرآن أثنى عليه أهل العلم كثيراً من المتقدمين والمتأخرين.
المنهجية في التفسير:
ويكون بيد طالب العلم المبتدئ بعض التفاسير الموثوقة المختصرة جداً؛ لأن كثرة التفاريع تُذهب عليه الوقت دون فائدة؛ لأنه لا يستوعب، ومن أنفع ما يرجع إليه طالب العلم المبتدئ في فهم القرآن، في فهم ألفاظ القرآن؛ لأن الألفاظ لا بد أن تفهم، والمعاني أيضاً لا بد أن تفهم.
في فهم القرآن، في فهم ألفاظه يكون بيد طالب العلم "توفيق الرحمن لدروس القرآن: للشيخ فيصل المبارك" هذا التفسير على اختصاره هو مختصر جداً، مختصر من ابن جرير والبغوي وابن كثير، وهو على منهج السلف -مختصر جداً- فجعل القرآن على ثلاثمائة وخمسين درس بقدر أيام السنة، وأيضاً يستفاد في فهم معاني القرآن من تفسير الشيخ ابن سعدي -رحم الله الجميع-، هذه التفاسير المختصرة تجعل طالب العلم لا يتشتت، فيرجع في غريب القرآن إلى السجستاني، ويرجع -أيضاً- إلى تفسير الشيخ فيصل بن مبارك، ويرجع أيضاً إلى تفسير ابن سعدي في هذه المرحلة، ومع ذلك يفيد من كتب علوم القرآن: يستفيد من كتب علوم القرآن، وكتب علوم القرآن التي ألفت على طريقة المتون تفيد طالب العلم في مرحلته الأولى منها "رسالة للسيوطي" جيدة في هذا الباب، وكذلك منظومة "الزمزمي": هي نضم لهذه الرسالة، والرسالة مأخوذة -مستلة- من كتاب للسيوطي اسمه: "النقاية".
وهذه الكتب موجودة ومتداولة ومشروحة، لها شروح مسجلة ومطبوعة –أيضاً- فيفاد منها، ومع ذلك يحتاج إلى فهم المشكل من معاني القرآن.
ولابن قتيبة كتاب اسمه: "تأويل المشكل"، لكن أنا عندي أن مشكل القرآن يؤجل إلى المرحلة الثانية، يكفي أن نفهم ونعنى بألفاظ القرآن بحيث لا يشكل علينا لفظ، وأما المشكل والاستنباط من القرآن واستخراج درر القرآن وعجائب القرآن هذه مرحلة لاحقة، تلي هذه المرحلة.
فإذا أكمل القرآن على هذه الطريقة -حفظ القرآن- ونظر في ألفاظه ورجع في ما يشكل عليه إلى كتب الغريب، غريب القرآن، وهذه التفاسير المختصرة إذا أنهى القرآن على هذه الطريقة لا شك أنه يخرج بفائدة عظيمة، وقد يطلب العلم سنين عديدة، ثم تسأله عن لفظة غريبة في القرآن فلا يجد الجواب، لكن إذا عنى به من أول الأمر سهل عليه.
بعد هذا إذا تعدى هذه المرحلة يعنى بتفسير الإمام الحافظ ابن كثير- تفسير ابن كثير- ويكون مع ذلك نظر في العلوم الأخرى على ما سيأتي، تفسير ابن كثير، كثير من الناس يقول: قرأت تفسير ابن كثير لما انتهيت ما عندي شيء، نقول إذا كانت الحافظة لا تسعفك فاختصر التفسير، اختصره بنفسك، تفسير ابن كثير له مختصرات موجودة ومتداولة ومتعددة؟ نقول: يا أخي لا تعتمد ولا تعول على المختصرات؛ لأن العلم إنما يثبت بالمعاناة فاختصر تفسير ابن كثير؛ لأنك الآن عندك شيء من الأهلية، عنده أرضية -كما يقولون-، فإذا اختصرت تفسير ابن كثير وعرضته على من تثق بعلمه وسدد لك هذا المختصر بعد الرجوع إلى أصله، لا شك أنك إذا انتهيت عندك رصيد كبير مما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من الأحاديث والآثار والتوجيهات للأقوال والاستنباط والفقه.
إذا ارتفعت درجة وأردت أن تنظر وتجمع بين التفسير بالأثر الذي عليه المعول والتفسير بالرأي -كتب التفسير التي تعنى بالصناعة اللفظية- فتجمع بين تفسير البغوي بعد ابن كثير أو الطبري مع تفسير أبي السعود لعنايته بالمباحث البلاغية، وتفسير أبي حيان لعنايته بالمباحث النحوية والصرفية، وغيرهما من التفاسير.
لكن قد يقول قائل: العمر لا يستوعب إذا كان هذا فن واحد ونحتاج إلى هذه الكتب؟ نقول: نعم، تحتاج إلى هذه الكتب، وبعض طلاب العلم قد تتقدم به السن ويتسلم المناصب، ويسود على غيره ويتصدر لتعليم الناس وإرشاد الناس ووعظهم وتوجيههم ولو تسأله هل قرأت تفسيراً كاملاً؟ يقول لك: ما قرأت تفسيراً كاملاً.
فإذا اختصر تفسير ابن كثير وانتهى منه ثم اِرتقى إلى البغوي والطبري ثم نظر في كتب التفاسير الأخرى المتنوعة الفنون ممن يعنى بالعلوم الأخرى المعينة على فهم القرآن كفروع علوم اللغة من نحو وصرف ومعاني وبيان وبديع وإعجاز وغير ذلك.
وأيضاً: ينظر في كتب أحكام القرآن، كتب أحكام القرآن موجودة -مع الأسف أنها موجودة على المذاهب عدا المذهب الحنبلي- الآن المتداول بين الناس، فتجد أحكام القرآن لابن العربي على مذهب مالك، إلكيا الطبري الراسي على مذهب الشافعي، الجصاص على مذهب أبي حنيفة.
لا مانع أن يتخذ على طالب العلم آلية تعينه على فهم هذه الكتب فينظر في آيات الأحكام ويراجع لها هذا الكتب، ويثبت المذاهب الثلاثة من هذه الكتب، ثم بعد ذلك يأتي بالمذهب الحنبلي من كتب الفقه الحنبلي فيسدد هذا النقص.
وإذا انتهى من هذه الكتب الثلاثة، المسألة ما هي بمسألة سواليف أو مسألة استرخاء، يقول: والله أنا عندي روحات وجيَّات وأسفار ورحلات وهو بيقرأ هذه الكتب، ما يمكن، فلا بد أن يقتطع من عمره سنين حتى يثبت العلم في قلبه، وإلا لو كان العلم بهذه السهولة كان كل الناس علماء؛ لأننا نرى رفعة العلماء في الدنيا فضلاً عن الآخرة، كان كل الناس علماء، وفي أسواق المسلمين من يفوق في الفهم والحفظ والذكاء كثير ممن ينتسب إلى العلم، كان هؤلاء علماء، لكن دون تحصيله هذا التعب الشديد، فنحتاج إلى أن نعتكف لقراءة هذه الكتب، فإذا نظرنا في هذه الكتب على هذه الطريقة وجمعنا بين أقوال أهل العلم، مذهب أبي حنيقة نأخذه من الجصاص، مذهب مالك نأخذه من ابن العربي، مذهب الشافعي نأخذه من إلكيا الطبري، والمذهب الحنبلي نأخذه من المغني إيش المانع؟ ما الذي يمنع؟ نراجع هذه المسائل في المغني ونضيف حقل رابع للمذهب الحنبلي، إذا انتهيت من هذه الكتب.
قد يقول قائل: إنه مع الجد تحتاج إلى سنة! طيب سنة، وبعدين؟ ويش أنت عجلان عليه؛ لأننا نمضي عشرات السنين ما صنعنا شيء، فبعد ذلك إذا تأهل فينظر في الكتب التي فيها فائدة، وفيها شوب بدعة؛ لأنها فيها فوائد، لكن مع ذلك يمنع من النظر فيها في المرحلة الأولى والثانية والثالثة وجود هذه البدع، فعندك مثلاً تفسير الزمخشري فيه من الفوائد اللغوية والبلاغية والبيانية قد لا يوجد في غيره مثله، ونعرف أنه معتزلي وشبهه استخرجها أهل العلم بالمناقيش، ومع ذلك لا تنظر فيه مجرداً، انظر فيه مع حواشيه، والأمنية قائمة في أن يتصدى أهل السنة وأهل الخبرة، أهل الاختصاص في العقيدة، وأهل الذهن الحاضر الوقاد لهذه الكتب فيعلق على ما فيها من مخالفات؛ لأننا قد نجد من يعلق على الزمخشري ويبين اعتزالياته، لكن هو متلبس ببدعة أخرى، فكون هذه الكتب لا ينظر فيها من قبل أهل السنة، وقد يدور ذكرها على بعض الألسنة ونجد –مثلاً- في تفسير ابن كثير: نقول عن الزمخشري، نقول عن الرازي، فطالب العلم إذا قرأ في هذه النقول استهواه ما نقله الحافظ ابن كثير عن هذه الكتب إلى الرجوع إلى هذه الكتب، لكن لا يمكن أن يجرؤ طالب علم إلى القراءة في مثل تفسير الرازي؛ لأنه خطر على طالب العلم، خطر، ولذا المرجو والمطلوب من أهل التحقيق من أهل العلم الذين عندهم خبرة ومعرفة بهذه الأمور أن يعلقوا على هذه الكتب، فيستفاد منها ويتقى شرها.
إذا انتهينا من هذه الطريقة -قرأنا كتب التفسير بهذه الطريقة- نخرج بفائدة عظيمة، هذه الكتب مطولات قد يقول طالب: أنا لا أستطيع أن أستوعب هذه المطولات، وهذه الطريقة تصلح لكتب التفسير وكتب الحديث وغيرها من الكتب.
يكون معك أقلام أربعة أو خمسة بألوان، وأنت تنظر في تفسير القرطبي –مثلاً-: وهو أطول تفسير في أحكام القرآن، وفيه من الفوائد شيء كثير، لكنه على مذهب الأشاعرة.
وأيضاً فيه من الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة شيءٌ كثير؛ لأنه ليس من أهل الصناعة، تقرأ في تفسير القرطبي –مثلاً- وعندك الأقلام الملونة، والمسألة مسألة جرد قراءة؛ لأن الكتاب من عشرين مجلد، إذا أردت أن تقف عند كل مسألة ما تنتهي، تأخذ القلم الأحمر وتقول: قف، عند مبحث تريد حفظه؛ لأن بعض المباحث يمر عليك في هذا التفسير أوفي غيره لا بد أن تحفظه؛ مثل هذا لا يمكن أن يمر ثانية، هذا تستفيد منه في كل العلوم ينير لك طريقك، بعض التوجيهات في بعض الكتب هذه يفتح الله -جل وعلا- بها على هذا المؤلف بحيث لا توجد عند غيره، فمثل هذه اكتب: قف -بقلم أحمر-، وفي طرة الكتاب تقول: اللون الأحمر -مثلاً- صفحة كذا.
يأتيك مسألة صعبت عليك وتريد أن تراجعها لتفهمها الأخضر: قف.
تذكر الاصطلاح في طرة الكتاب: الأحمر لما يراد حفظه، الأخضر لما يراد مراجعته، تحتاج تراجع على شان تفهم، إذا ما فهمت بنفسك راجع أهل العلم يحلون لك هذا الإشكال، وجدت مقطعاً أعجبك أسلوبه وتريد أن تستفيد منه في إنشاءك، وفي إلقاءك وفي تعليمك فتأتي بالقلم الأسود وتقول: قف؛ لتعود إليه مرة ثانية، فتنقله إلى مذكرتك، وهكذا.
بهذه الطريقة في سائر الكتب المطولة يستفيد طالب العلم؛ لأن هذه المطولات لا يمكن أن تعامل معاملة متون، فتفهم كل شيء فيها؛ ما يمكن؛ لأن أهل العلم لما صنفوا المصنفات وجعلوا منها المختصرات؛ لتحفظ، وجعلوا منها المطولات؛ لتُفْهِم ويستفاد منها، ويستعان بها على فهم هذه المختصرات.
أنواع الكتب عند أهل العلم:
فالكتب عند أهل العلم على أنواع: منها المتون، ومنها الشروح، ومنها الحواشي، ومنها النكت، -وبعض الطلاب يسمع النكت على كتاب كذا، يظنه الأخبار الطريفة المضحكة، ليس الأمر كذلك، بل هي المسائل المشكلة-، هي المسائل المشكلة: يعني ليست حاشية تتعرض لكل شيء، وإنما هي في مسائل دون مسائل، هذه المطولات تقرأ بهذه الطريقة، وانتهينا من التفسير، نأتي إلى الحديث.
المنهجية في الحديث:
الحديث يُبدأ فيه بالأربعين النووية؛ لأن ابن عباس يقول: الرباني هو الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، يبدأ بصغار العلم قبل كباره؛ فتبدأ من العتبة الأولى لهذا السلم الذي ترتقيه لنيل هذه المطالب.
تبدأ بالأربعين النووية وهي أحاديث جوامع من كلم النبي -صلى الله عليه وسلم- فتحفظ الأربعين وتراجع عليها الشروح الموثوقة من قبل أهل العلم، المختصرة أيضاً.
ثم تقرأ في العمدة، في العرضة الأولى تقرأ كتاباً ميسراً على العمدة؛ لأن العمدة أُلف فيها، أو في شرحها كثير، فتقرأ عليها شرحاً مبسطاً، يعني في بداية الأمر لو قرأ الإنسان شرح الشيخ عبد الله بن بسام (تيسير العلام) ينفعه ويستفيد منه، وسهل جداً كتاب شبه مدرسي، ثم بعد ذلك يقرأ على العمدة شرح ابن دقيق العيد؟ نقول: لا، يؤجل شرح ابن دقيق العيد إلى أن يقرأ كتب أخرى؛ لأن شرح ابن دقيق العيد في غاية الصعوبة.
ومن استطاع أن يتعامل مع شرح ابن دقيق العيد ويخرج منه بحيث لا يشكل عليه شيء فهذا تعلم السباحة، فليقرأ أي كتاب من شروح السنة، بعد هذا يقرأ، يحفظ البلوغ ويقرأ في شروحه ويجمع بين سبل السلام وتوضيح الأحكام للشيخ عبد الله البسام -إذا جمع بينهما استفاد فائدة عظيمة-؛ لأن شرح الصنعاني شرح متين يمكن أن يربى عليه طالب علم بخلاف الشروح التي أشبه بالمذكرات التي لايستشكل منها شيء، هذه لا يربى عليها طالب العلم، لكنه ينتفع منها وفيها فوائد، وفيها ما يعين طالب العلم، فإذا قرأ بلوغ المرام -لأنه مخدوم-، وقرأ معه في الوقت نفسه المحرر لابن عبد الهادي، وقارن بين الكتابين، ونظر في زوائد هذا، وزوائد هذا، واستخرج الزوائد على الكتابين، ونظر في أحكام ابن حجر، وابن عبد الهادي وقارن بينهما، وبحث؛ ليصل إلى القول الصائب من هذين القولين مع مراجعته للشروح، بعد ذلك يتأهل للكتب المسندة الكبرى، يقرأ في البخاري، في مسلم، في بقية الكتب الستة، ويراجع على كل كتاب منها شرح.
وإن أراد أن تكون قراءته للشروح سرداً وجرداً؛ لأن الفائدة من قراءة المطولات -مثل: شروح البخاري- تولد عند طالب العلم ملكة يستطيع بواسطتها أن يتعامل مع الأحاديث، لأنه ليس كل الأحاديث مشروحة، إذا سمعت حديث مباشرة ترجع إلى شرحه فترى كلام أهل العلم له، أنت في يوم من الأيام سوف تقف على حديث لم يشرح، وإذا نظرت في الشروح، وجردت على كل كتاب شرح أو أكثر من شرح، فإنك حينئذ تتولد لديك هذه الملكة، ويفتح عليك بعض الأمور التي لا توجد في هذه الكتب، وهذا مجرب، لكن قد يقول قائل: إذا بدأت بالبخاري، كيف أقرأ بفتح الباري؟ وكم يحتاج فتح الباري من المدة لكي أنتهي منه؟.
نقول: يا أخي فتح الباري، لا شك أن فيه صعوبة مثل: لحم الجمل بالنسبة للصبي، فيه وعورة بالنسبة لطالب العلم، نقول اقرأ قبله كما يقول أهل العلم: "الكوامخ والجوارش مشهيات"، اقرأ الكرماني مثلاً: الكرماني فيه طرائف وفيه لطائف تشد طالب العلم.
حقيقة من بدأ بهذا الكتاب لا يتمالك أن يتركه حتى ينهيه، ويقرأه بالطريقة التي ذكرناها عندما يقرأ تفسير القرطبي بالأقلام الأربعة بالطريقة السابقة.
فإذا قرأ الكرماني انفتحت نفسه للقراءة، وتعود على القراءة؛ لأن طالب العلم أول ما يبدأ بالقراءة، القراءة لاشك أنها تحتاج إلى معاناة وتحتاج إلى صبر، تحتاج إلى حبس نفس، فإذا قرأ يقرأ في أول الأمر في اليوم ساعة، ثم بعد من الغد النفس تجره وتسحبه إلى القراءة، لا سيما إذا بدأ بمثل هذا الكتاب، فإذا قرأ الكرماني فيه الطرائف، وفيه الغرائب، وفيه العجائب بالنسبة للرواة، وفيه استنباطات، فيه أشياء، وعليه ملاحظات وأوهام.
الذي يستشكله يضع عليه من الخطوط ما قدمناه سابقاً، ويراجع عليه ماذا قال ابن حجر: هل وافق الكرماني أو ما وافق؟
ثم بعد الكرماني يقرأ في شرح النووي على مسلم، وهو أيضاً من المشهيات، وفيه ما في شرح الكرماني، وإن كان الكرماني قد يذكر في ترجمة راوي ويطيل فيها بخلاف غيره من الشروح، يذكر في ترجمة هذا الراوي أطرف ما ذكر في ترجمته، وما يستغرب من ترجمة هذا الراوي، سواء كانت في علمه، في عبادته في زهده، في أخباره العجيبة التي ذكرت عنه، فالكرماني، والنووي لاشك أنهما ييسران القراءة على طالب العلم.
بعد ذلك إذا قرأ في هذين الكتابين لا مانع أن يقرأ في فتح الباري، ويجد النفس قد انفتحت لقراءته، وفتح الباري إذا خصص له وقت يحتاج إلى سنتين بالطريقة السابقة بالأقلام، وش المانع أن تفهم البخاري ويرسخ في ذهنك صحيح البخاري بمعانيه ولا يشكل عليك شيء بسنتين؟ يعني متكاثر على البخاري سنتين؛ لأن بعض الطلاب يستعجل الفائدة، ثم بعد ذلك تنبيه أريد أن أنبه له الإخوة: أنه لا بد أن يكون شيء على حساب شيء، فإذا استرسل الإنسان وراء الشروح التي تحتاج إلى مدد متطاولة لا شك أنها سوف تكون على حساب المتون، وقد يغفل الطالب إذا بدأ بالشروح على هذه الطريقة عن أهم المهمات: عن القرآن، مراجعة القرآن، وتلاوة القرآن.
فنقول: لا بد أن يقتطع للقرآن جزء يفرضه من وقته من سنام وقته لا من فضوله، جالس في انتظار، ولا عند إشارة ولا في مستوصف، ولا شيء يفتح المصحف، لا، إنما يفرض للقرآن إن استطاع أن يقوم قبل صلاة الفجر ويقرأ حزبه من القرآن هذا أفضل -بلا شك-، وأحضر لقلبه، إن كان لا يستطيع فبعد صلاة الفجر إلى انتشار الشمس ينتهي من حزبه؛ لأنه في خضم هذا الكم الهائل من المقروءات وما يخطط له طالب العلم من الإطلاع عليه قد يغفل عن القرآن، نعم الأوقات المفضولة: أوقات الاستجمام لا مانع أن يقرأ طالب العلم في كتاب تاريخ -مثلاً- للاستجمام وللاعتبار؛ لأن كتب التواريخ فيها العبرة، وكذلك ينظر في كتب الأدب فيها متعة، وقد يحتاج إليها طالب العلم، ومرَّ بنا في علوم القرآن، وعلوم السنة ما كان مفتاحه في كتب الأدب، ولو أن الوقت يستوعب لذكرت أمثلة.
الحديث الذي نتحدث عنه عبارة عن متون وأسانيد وفقه واستنباط من هذه المتون؛ فالأسانيد وسيلة لإثبات هذه المتون، والغاية العظمى هو الاستنباط الذي على ضوءه يكون العمل، فإذا قرأنا في هذه الشروح ورأينا كيف استنبط أهل العلم من هذه الأحاديث، الأذهان تتفتق ويكون لديها الاستعداد للاستنباط والمزيد منه؛ لأن طالب العلم ليس مثل الآلة، هذه الآلات لا تزيد ولا تنقص خزن فيها تجد لا أكثر ولا أقل، لكن طالب العلم وهبه الله -جل وعلا- هذا العقل الذي به يستطيع النظر والموازنة فينظر فيما قاله، يرجع إذا قلنا يقرأ في فتح الباري ووجد صاحب الفتح ينتقد الكرماني يُدون هذا النقد على شرح الكرماني الذي سبق أن قرأه.
ثم بعد ذلك أريد أن ننبه إلى أن كل شرح من الشروح له مزيته وله خصيصته.
فشرح الخطابي الذي هو أقدم الشروح واسمه "أعلام الحديث" أو "أعلام السنن" لا شك أن مؤلفه إمام، وفتح المجال لغيره واعتمدوا عليه، لكن فيه قصور وعواز شديد.
شرح الكرماني فيه مثل ذلك من القصور ما يسدد من الكتب التي جاءت بعده لكنه -قلنا إنه- يفتح الشهية، وفيه فوائد ولطائف وطرائف، وفيه أوهام.
إذا قرأ في شرح النووي، ثم فتح الباري استفاد الفائدة العظمى، ثم بعد ذلك هناك كتب لا يستغنى عنها، فإذا كانت خصيصة فتح الباري تكمن في إحاطة الحافظ ابن حجر في الأحاديث التي يشرحها بجميع أطرافها فإن لغيره من المزايا ما لا يوجد فيه.
شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- شرح فيه نفس السلف، شرح معتمد اعتماد كلي على أقوال السلف، وهو أيضاً مجرد من أقوال الخلف وتعقيداتهم.
العيني: يفيد طالب العلم في الناحية اللغوية والناحية الفقهية؛ لأنه يطيل أيما إطالة في المسائل اللغوية، ويطيل أيضاً في الفقه والاستنباط إلا أنه فقيه حنفي، قد يكون مدلول على خلاف ما يريد وخلاف ما يقرر، فعلى هذا يستفاد منه أصل المسألة، وأما تقرير الحكم فالحَكَم هو النص.
شرح القسطلاني المسمى "إرشاد الساري" شرح لا يستغنى عنه, لا يستغني عنه طالب علم، لا سيما الذي يريد أن يفهم البخاري؛ لأن البخاري مروي بروايات متعددة، روى البخاري عن صاحبه، الصحيح رواه عن مؤلفه ما يقرب من مائة ألف راوي، والبخاري وهو كغيره من كتب المتقدمين في كل رواية يزيد المؤلف وينقص ويغير.
فإرشاد الساري ميزته في بيان هذه الروايات، الحافظ ابن حجر اعتمد على رواية أبي ذر وأشار إلى ما عداها، إرشاد الساري لا، أشار إلى جميع ما وقف عليه من الروايات وهذه ميزة له، وهو مفيد من هذه الحيثية على اختصاره، وهو في الجملة كأنه زبدة لفتح الباري وعمدة القاري، فيستفاد منه، ويستفاد لمعرفة ثبوت الخبر من كتب علوم الحديث، وعلوم الحديث مشتملة على أنواع: كل نوع يستفاد منه في ما يخصه، فمنها ما يتعلق بالأسانيد، ومنها ما يتعلق بالمتون، منها ما يتعلق بالظاهر، ومنها ما يتعلق بالباطن: كالعلل، فيستفاد من كتب علوم الحديث، وكتب العلل في إثبات الأخبار وعدم إثباتها.
المنهجية في العقيدة:
كتب العقائد: يتدرج فيها طالب العلم بدءً من مؤلفات الإمام المجدد -رحمه الله تعالى- الأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، وكشف الشبهات، ثم كتاب التوحيد، ثم الواسطية، ثم الحموية، والطحاوية، والتدمرية على هذه الطريقة، على هذا التسلسل يمسك المتن الطالب ويحفظ، ويراجع في أول الأمر شرح مختصر يحل له بعض الإشكالات، ثم يراجع ما هو أطول منه على ما تقدم في كيفية دراسة التفاسير وشروح الأحاديث.
فإذا قرأ هذه المتون، مؤلفات الشيخ الإمام المجدد الأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، وكشف الشبهات، التوحيد، الواسطية، الحموية، التدمرية، والطحاوية، عاد أيهما يُقَدِم على الآخر؟ لا شك أن الحموية أسهل من التدمرية، لكن التدمرية لا بد منها، يقرأ بعد ذلك أو قبل التدمرية والطحاوية، لو قرأ في سلم الوصول مثلاً وفي عقيدة السفاريني وراجع عليها الشروح، وفي هذين الكتابين وغيرهما من الكتب ككتاب التوحيد يختصر الشروح، قد يقول قائل: أنا أقرأ شروح التوحيد ثم بعد ذلك إذا انتهيت الفائدة موجودة لكنها أقل مما توقعت، نقول: اختصر..اختصر فتح المجيد ويش المانع، اختصر تيسير العزيز الحميد، أنقل زوائد هذا على هذا؛ لأنه العلم بالتقليب وبالمعاناة هذه وكثرة التعب يثبت.
فعندك سلم الوصول أبيات قليلة شرحت في ألف وثلاثمائة صفحة ما المانع أن تختصر هذا الكتاب بثلاثمائة صفحة فقط ويرسخ عندك الكتاب تحفظ المنظومة وبعد ذلك يرسخ عندك معاني هذه الأبيات، وقل مثل هذا في منظومة السفاريني في عقيدته "الدرة المضية" مع شرحها "لوائح الأنهار البهية، أو لوامع الأنوار"؛ لأنه في طبعته الأولى طبعة المنار سموه "لوائح"، وفي الطبعة الثانية "لوامع"، فالاختصار أنا عندي في غاية الأهمية لطالب العلم، ولا يختصر هذا بنية النشر على أنه مؤلف له جديد ينشره بين الناس، لا، أول من يستفيد منه نفس المختصر هذا، ولذا يقول الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: وإذا عزم لي تمامه فأول من يفيد منه أنا، صحيح المؤلف أول من يستفيد من كتابه لا على أن ينشره للناس، ولا مانع أنه إذا تأهل بعد ذلك وعرضه على أهل العلم والخبرة والاختصاص أن يقدمه للناس يستفيدون منه.
فعندي مسألة الاختصار خير معين للتحصيل، بل إذا قلت أنها من أقرب الطرق -لا سيما لمتوسط الحافظة-، أما قوي الحافظة هذا إذا قرأ ما عنده مشكلة، إذا قرأ الكتب من الناس - وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء - إذا قرأ مرة واحدة استوعب الكتاب، بعض الناس إذا قرأ مرتين انتهى، بعض الناس يقرأ مئة مرة ما يستوعب الكتاب، مثل هذا لا بد له أن يعاني ويتعب على الكتاب، والاختصار من أفضل الوسائل، وذكرنا هذا بالنسبة لتفسير ابن كثير، ونذكره في مثل هذه الكتب، ونذكره في شروح كتب الأصول مثلاً؛ لأن كثيراً من طلاب يقول مثلاً أنا أعاني، عجزت ما مسكت شي، أو كتب النحو، نقول: تقرأ الورقات، تحفظ الورقات وتقرأ وتسمع شروح الورقات فتستفيد، فتتأهل للمرحلة التي بعدها، والمرحلة التي بعدها يكون فيها الاختصار، تأتي إلى مختصر التحرير، قد لا تفهم المختصر؛ لأنه صعب، كَلّ، أو تأتي إلى مختصر الروضة للطوفي، ثم بعد ذلك هذان الكتابان مشروحان بشرحين مبسوطين، فشرح مختصر التحرير اسمه "الكوكب المنير" ، هذا في أربعة مجلدات، والمختصر في صفحات يسيرة، ما المانع في أن تنظر في هذا الشرح، وتنظر في المتن مسألة، مسألة، وماذا قال الشارح، تحاول أن تفهم هذا الشرح، تعيده مرتين ثلاث، فتصوغه بأسلوبك، بدل ما هو بثلاث صفحات أربع صفحات، تصوغه بأسطر، فإذا انتهيت من الكتاب المكون من أربعة مجلدات، تكون قد اختصرته في مائتي صفحة أو ثلاثمائة صفحة، بهذا يثبت العلم، وينحفر في الذهن، وقل مثل هذا في مختصر الروضة، شرح مختصر الروضة للمؤلف نفسه، والشرح من أنفس الكتب في هذا الباب، ما تستطيع أن تستوعب ألف وسبعمائة صفحة من القطع الكبير، لكن إذا اختصرت وأنتهيت من هذا الاختصار تستوعب. ولا بد أن ننبه إلى أن من استطال الطريق لن يحصل علم.
لا بد أن يطول الطريق؛ لأن العلم لا بد أن يطلب من التمييز إلى الموت إلى الوفاة، فأنت إذا حفظت المتون، وقرأت في الشروح المختصرة قبل ذلك بعد الحفظ، ثم بعد ذلك تختصر الشروح المطولة.
كتب العقائد التي ذكرناها على هذا الترتيب وهذا التسلسل إذا انتهيت منها أنت مؤهل لأن تقرأ أي كتاب في العقائد، نعم إذا يكن لديك معرفة بعلم الكلام، يبقى عندك إشكالات في مثل منهاج السنة، وفي مثل درء تعارض العقل والنقل، وفي مثل نقض التأسيس، نقول: يا طالب العلم، لا تكلف نفسك بفهم كل شيء يقوله شيخ الإسلام في هذه الكتب الثلاثة؛ لأنها تعوقك عما هو أهم منها، يعني في شرح السنة عندك في المجلد الأول أو الثاني ما يقرب من ثلاثمائة صفحة أشبه ما تكون بالطلاسم، إلا شخص عنده دربه بعلم الكلام، وله معاناة في هذا الفن، وقل مثل هذا درء تعارض العقل والنقل مملوء من هذه المباحث، فما تفهمه أعد النظر فيه وكرره، والذي لا تفهمه إمرار، ولا يلزم أن تقف عليه؛ لأن من الكبار من يمر هذه المباحث، بل إذا علم عليها علامة الصعوبة، بالقلم المعين لهذه المباحث، وليكن بيده قلم خامس، بلون خامس، يضع عليه علامة أن هذا لا يرجع إليه.
وعلم الكلام كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "المنطق علم غث، كلحم جمل، على رأس جبل، لا يحتاجه الذكي، ولا يفيد منه الغبي"، نعم يحتاجه من يريد أن يرد على الفلاسفة وعلماء الكلام، يفيد منه، لكن كم تحتاج الأمة إلى مثل هؤلاء علشان نقول لطلاب العلم: كلكم اقرءوا في هذا، ويصير هذا على حساب المقاصد التي هي علوم الكتاب والسنة.
السواد الأعظم من طلاب العلم لا يحتاجونه، وكتب شيخ الإسلام وكتب ابن القيم لايستغني عنها طالب علم، كتب منها ما لا يمكن تصنيفه تحت عنوان، أو تحت فن من الفنون، فإذا تدرج طالب العلم في الفنون قد يغفل عن هذه المهمات، وهو بحاجة إلى هذه الكتب التي تعالج أدواء القلوب، فإذا مشى على الترتيب المعروف لتحصيل العلم الذي يتعلق بعلم الجوارح متى يرجع إلى هذه الكتب التي تعالج أمراض القلوب؟ متى يقرأ الجواب الكافي -مثلاً- لابن القيم؟ متى يقرأ في حادي الأرواح؟ متى يقرأ في مدارج السالكين؟ متى يقرأ في إغاثة اللهفان؟ متى يقرأ -وهو بأمس الحاجة- إلى إعلام الموقعين، أو زاد المعاد؟.
لا بد أن يقتطع لها جزءاً من وقته، وقل مثل هذا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتكون بجواره الأقلام التي ذكرناها لتتم الاستفادة.
المنهجية في الفقه:
كتب الفقه يحتاج فيها إلى التدرج، ولا نحتاج أن نطيل فيها؛ لأن الشيخ عبد القادر بن بدران ذكر طريقة للتفقه مفيدة:
أولاً: التدرج لا بد منه؛ فيقرأ الطالب في أول الأمر مثل آداب المشي إلى الصلاة مع شروطها للشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ثم يقرأ في عمدة الفقه للإمام الموفق، ثم بعد ذلك يقرأ في الدليل والزاد وما بعد ذلك على طريقة تكون هذه الكتب في المرحلة الثالثة عناصر بحث، خطة بحث، يعني في المرحلة الأولى طريقة الشيخ عبد القادر ابن بدران نافعة والمرحلة الثانية، يحفظ المتن، ويجتمع مع مجموعة متقاربين في السن والفهم، ثم بعد ذلك كل واحد من هؤلاء الطلاب يشرح القدر المحدد بنفسه من غير رجوع إلى الشروح، ثم بعد ذلك إذا اجتمعوا يقرأ كل واحد شرحه، ويتناقشون، يقول: أنا فهمت كذا، والثاني يقول: لا أنا فهمت في هذه الجملة كذا، فإذا انتهوا من قراءة ما عندهم يقرؤون الشرح - شرح الكتاب- ، ويصححون أخطاءهم، فإذا صححت هذه الأخطاء لن تعود إلى القلب مرة ثانية، ثم يرجعون إلى الحواشي، ثم بعد ذلك يحضرون الدرس عند الشيخ، يصير عندهم الآن استعداد تام لما يزيده الشيخ على ما في الكتب، يتفقه الطالب بهذه الطريقة، في المرحلة الثالثة وهو حينئذ يقرأ الزاد، -زاد المستنقع- ووضع له أساس كتاب أو اثنين، يقرأ الزاد على أساس أنه عناصر بحث خطة بحث، لا على أنه دستور لا يحاد عنه، لا، هذا كلام البشر؛ فتمسك المسألة الأولى ثم تبحث لها عن دليل وتعليل لهذه المسألة، من وافق المؤلف على هذا من أتباع المذهب؟ من خالفه؟ من وافقه من المذاهب الأخرى؟ ومن خالفه؟ وننظر في أدلة الجميع، ونأخذ بالقول الراجح، يعني طالب العلم إذا انتهى من "زاد المستقنع" على هذه الطريقة فقيه، ينتهي فقيه بدون تردد، هذا إذا كان لديه فقه نفس؛ لأن ما كل واحد يعاني العلم يكون عالم، فقد يطلب العلم سنين ولا يحصل علم، ولكن إذا مسك الجادة من أولها، ومعه من الإخلاص ما يعتمد عليه مما يكون سبباً إلى توفيقه، ومعه حرص واجتهاد، وعنده من يستشيره من أهل العلم ممن يثق بعلمه، -بإذن الله- يحصل، وإلا فلا يلزم لكل من طلب العلم يكون عالم، ويكفي من لم يقدر الله له شيئاً من العلم، يكفيه أن يكون قد سلك الطريق ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له فيه طريقاً إلى الجنة)) يكفيه هذا، المتفقه على هذه الطريقة، قد يقول قائل: هل نحفظ كتب الفقه؟
إذا كانت الحافظة قوية وتسعف، لا شك أن كلام أهل العلم مفيد، نحن نسمع من يفتي ويتصدر للإفتاء تجد بعض الناس عنده محفوظ من كلام أهل العلم، كلامه متين ورزين، وبعض الناس ما عنده حفظ تجده أقرب ما يكون إلى الإنشاء، وهذا عند تفريغ الكلام وطبعه، لا تقبله الأسماع -الذي ليس لديه رصيد من كلام أهل العلم-.
انتهينا من التفسير والحديث والعقائد والفقه.
المنهجية في اللغة:
طالب العلم بأمس الحاجة إلى اللغة؛ لأن القرآن عربي، والرسول -عليه الصلاة والسلام- عربي، ولا يفهم الكتاب والسنة إلا بلغة العرب، علوم اللغة متفرعة، تصل إلى اثني عشر فرعاً، لكن أكثر ما يحتاج إليه: النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والوضع والاشتقاق، ومتن اللغة، وفقه اللغة، هذا أكثر ما يحتاج إليها، ليأخذ طالب العلم من كل فن من هذه الفنون مختصر؛ فيبدأ بالآجرومية فيحفظها ويقرأ عليها الشروح المطبوعة، يحضر فيها الدروس.
قراءة الكتب يا إخوان لا تغني عن حضور الدروس، يعني هذا لا بد أن نؤكد عليه، لا بد من الحضور عند المشايخ، ويقول أهل العلم قديماً: من كان علمه من كتابه صار خطؤه أكثر من صوابه.
إذا حضر الدروس وسمع من المشايخ، وقرأ الشروح، وسمع ما سجل على هذا الكتاب من أشرطة يفيد فائدة عظيمة، لبنة أولى في هذا الفن، ثم بعد ذلك القطر -قطر الندى-، أو الملحة بشروحها، ثم بعد ذلك يتأهل للنظر في ألفية ابن مالك، فإذا قرأ هذه الكتب، قد يقول قائل: أنا والله حفظت الألفية، لكن ما ثبت في ذهني من شروحها شيء؟ نقول: عليك تمسك الشروح، شرح ابن عقيل مثلاً تصوغه بأسلوبك، شرح ابن هشام مثل شرح مختصر التحرير صعب، فأنت إذا فهمته وصغته بأسلوبك فهمت، لو تطلع إلى ما فوق ذلك من شروح الأشموني، مع حاشية الصبان، وتختصره في أربع مجلدات تختصره في مجلد واحد تستفيد فائدة عظيمة.
المنهجية في علوم الحديث:
وأما ما يتعلق بعلوم الحديث فقد كررناها مراراً، وكتبت في مقدمة بعض الكتب، يرجع إليها طالب العلم.
المنهجية في الصرف:
بقي عندنا الصرف، فإذا تدرجنا في النحو الآجرومية، القطر، الألفية، وفيها مباحث صرفية، يقرأ قبل الألفية مما يعينه على فهم المباحث الصرفية الشافية لابن الحاجب، ولها شأن عند أهل العلم، وهي مشروحة، لكن مع الأسف أنه قد لا يجد شيخ يعينه على فهمها، ولا مانع من أن يجتمع ثُلة من طلاب العلم يذكرون حاجتهم إلى شرح هذا الكتاب إلى شخص متخصص، ويحتسب لهم بدرس، وعليها شروح وموجودة ومطبوعة.
المنهجية في البلاغة:
المعاني والبيان والبديع، هذه يقوم بها، التلخيص، تلخيص المفتاح مع شروحه، ويقرأ المطولات في كل علم من العلوم على الطريقة التي أبديناها سابقاً في التفاسير المطولة، بالأقلام، والمذكرات.
المنهجية في قراءة ملح العلم من تاريخ وأدب:
وهناك علوم يستهين بها كثير من طلاب العلم، وكثير منها لا شك أنه ليس من متين العلم، بل هي من ملحه، ككتب التاريخ مثلاً، كتب التاريخ، إذا قرأ الطالب في كتب التاريخ لا شك أنها فيها شيء من المتعة والاستجمام؛ لأنك إذا انتقلت من أصول الفقه إلى النحو، ورجعت إلى التفاسير، عدت إلى كتب شروح الحديث، لا شك أن الذهن يحتاج إلى شيء من الاستجمام فيحصل الاستجمام بكتب التواريخ، وكتب الأدب.
كتب التواريخ إضافة إلى الاستجمام فيها العظة والاعتبار؛ لأن السنن الإلهية واحدة لا تتغير؛ فالأسباب التي أهلك بسببها الأمم يهلك فيها غيرهم، السنن لا تتغير ولا تتبدل، ولم يستثنى من ذلك إلا قوم يونس، وأما من عداهم إذا توافرت الأسباب حقت الكلمة.
فما عما لو قرأنا في تاريخ ابن كثير -رحمه الله- في الأمم الماضية واللاحقة، في الأمم التي قبل الإسلام، والدول التي جاءت بعد الإسلام، لوجدنا أن كثيراً من بلدان المسلمين يحذو حذو تلك الأمم التي حقت عليها الكلمة، وحصل ما حصل في بعض البلدان من الأسباب ما حصل، والنتائج حصل فيها ما حصل، في العصر الذي نعيشه، وما أشبه الليلة بالبارحة، وإذا كنا نقرأ قصص القرآن في الأمم الماضية على أنها للتسلية، فنحن إذاً لسنا على الصراط، ضللنا إذن "، مضى القوم ولم يرد به سوانا" {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [(111) سورة يوسف]، فلا بد أن نعتبر وندكر.
يعني لو قرأنا في المجلد السادس مثلاً من نفح الطيب في تاريخ الأندلس، الإنسان يضع يده على قلبه، ويسأل الله السلامة، وأن يدفع عن المسلمين ما يستحقونه من عذاب، لا بد من القراءة في هذه الكتب لما ذكرنا، يقرأ في كتب الأدب، وفيها أيضاً من المتعة ما فيها، وهي أكثر إن لم نقل مثل كتب التاريخ من المتعة ما فيها، وفيها أيضاً: ثروة لغوية يستطيع العالم أو طالب العلم أن يبين عما في نفسه بواسطتها، فالعلماء يقرؤون هذه الكتب، وإن كان في كثير منها شيء مما لا يقبله الذوق، ذوق الرجل العادي فضلاً عن عالم ومتعلم، شيء يستحيى من ذكره، لكن لا بد من قرائتها، ووجدنا من أهل العلم من يقرأ، ووقع في أيدينا من كتب الأدب المطولة ما عليه اسم بعض كبار أهل العلم والورع، وعليها تعليقات لهم، فدل على أنهم يقرؤون في هذه الكتب، لكن ليس معنى هذا أن يكون على حساب علوم الكتاب والسنة، لا، هذه يستفاد منها متعة واستجمام، وشيء يتحدث به العالم حينما يشرح لطلابه، ويذكر نكتة من هذه الكتب يريح الطلاب فيها، ويجعلهم يتقبلون ما عنده، فإذا لم يكن في الدرس طرفة، لا شك أن الطالب يمل، وما يشاهد في بعض الدروس من نوم بعض الطلاب إلا لأنها ماشية على وتيرة واحدة؛ فالخروج إلى مثل هذه الكتب والإفادة منها، وإفادة الطلاب، وإلقاء مثل هذه العلوم عليهم، لا شك أنه ينشط الطلاب "والأمور بمقاصدها".
ويستعمل في هذه الكتب المطولة ما ذكرناه من الأقلام، وكتب التواريخ كثيرة جداً، فيها مطولات ومن أنفعها لطالب العلم: الكامل لابن الأثير، وصياغته للأحداث لا نظير لها، البداية والنهاية للإمام الحافظ ابن كثير وفيه أيضاً لفتات له -رحمه الله-، وتنبيهات لا توجد في غيره.
فعلى سبيل المثال: لما ترجم لابن الراوندي (ملحد)، ذكر عنه ما يستحق من الألفاظ، ثم قال: ترجم له ابن خلكان في وفيات الأعيان، وأشاد به وأطال في ترجمته كعادته في معاملة الأدباء، وبخس العلماء، ولم يذكر عنه ما عرف عنه من زندقة، وكأن الكلب ما أكل له شيئاً من العجين.
يعني ما كأن الأمر يعنيه، مع أن العالم أو المتعلم هذه وظيفته، هذه وظيفة العالم بيان الحق من الباطل، فإذا عاملنا ابن الراوندي مثل ما نعامل أئمة الإسلام، وأضفنا عليه من الثناء والمدح، ولو في فنه، مثل ما يضاف إلى علماء المسلمين، كيف يفرق طالب العلم.
الحافظ ابن كثير له تنبيهات مهمة جداً، وله أيضاً عناية بالتراجم، أكثر من ابن الأثير، وأيضاً يفيد طالب العلم من تاريخ ابن خلدون، وفيه تحليل للأحداث، ولا شك أن هذا يفتح آفاق لطالب العلم، يحلل بها الأحداث المماثلة بدلاً من أن يتخبط كما يتخبط الناس الآن، -مع الأسف- حتى بعض طلاب العلم يخرجون في وسائل الإعلام، ثم بعد ذلك يتحدثون عن بعض القضايا المعاصرة، كأنهم صحفيون، توقعات كلها، ما كأنهم يأوون ويرجعون إلى نصوص، فطالب العلم بحاجة إلى قراءة كتب التواريخ والأدب.
هناك كتب الأدب متفاوتة، فيها المسف، وفيها النزيه إلى حدٍ ما، فـ"زهر الآداب للحصري" نظيف إلى حدٍ ما، وأيضاً نزهة المجالس وأنس المجالس لا بن عبد البر كتاب نفيس، هذا في كتب أدب الدرس، أما في كتب أدب النفس فعلى طالب العلم أن يعنى بها عناية فائقة، كالآداب الشرعية لابن مفلح، منظومة الآداب مع شروحها لابن عبد القوي، هذه في غاية الأهمية لطالب العلم، المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية للشيخ حافظ حكمي، أيضاً في غاية الأهمية لطالب العلم؛ فطالب العلم عليه أن يُعنى بهذه الكتب، ويستفيد منها من أدب النفس ما لا يجده في غيرها من الكتب.
والطريقة لقراءة هذه الكتب على ما ذكرنا، المقطع الذي يحتاج إلى حفظه يعلم عليه بعلامة ما يراد حفظه، والمقطع الذي يراد فهمه وإعادة النظر فيه كذلك، والذي يراد نقله كذلك.. إلى آخر ما ذكرنا، والكتب كثيرة لا يمكن أن تنتهي، والعلم دربه طويل لا يمكن أن يقطع بمرحلة أو مراحل، فعلى طالب العلم أن يوطن نفسه على هذا، وحينئذ إذا صاحب ذلك الإخلاص، والجد فإن طالب العلم حينئذٍ يوفق ويسدد.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.