الموقظة في علم مصطلح الحديث (01)

 

"عفا الله عنك.

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم.

والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه.

رب زدني علمًا، ووفق يا كريم.

أما بعد:

قال الشيخ الإمام العالم العلامة الرحلة المحقق بحر الفوائد ومعدن الفرائد، عمدة الحفاظ والمحدثين وعدة الأئمة المحققين وآخر المجتهدين، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الدمشقي، رحمه الله، ونفعنا بعلومه وجميع المسلمين."

هذا ليس من كلام المؤلف، وإنما هو من كلام من يروي الكتاب عنه، ولذلك يثني عليه، ويذكره بأوصافه، وإلا فالأصل أن المؤلف لا يقول مثل هذا الكلام. وفي آداب طالب الحديث يقول: ينبغي لطالب الحديث أن يثني على شيخه، وهذا موجود في أثناء الأسانيد عند أهل العلم: حدثني وهو أصدق البشر، حدثني فلان وهو كذا، المقصود يثنون عليهم، والذي يؤكد عليه أن الشيخ بحاجة إلى الدعاء أكثر من حاجته إلى الثناء، لكن إذا اجتمع الثناء لاسيما بعد وفاة الشيخ وأمن الفتنة عليه وتغريره أو التغرير به، لا بأس يقول: قال الشيخ الإمام العالم العلامة، وتجدون مثل هذه الأوصاف تمتهن في هذه الأوقات، وتطلق على بعض طلاب العلم فضلاً عمن ينتسب إلى العلم ممن لم يستحق اسم عالم فضلاً عن كونه يوصف بهذه المبالغات العلامة، هذه حقيقة امتهنت، ففي الحديث الصحيح: «أمرنا أن ننزل الناس منازلهم»، لا تقول لطالب علم: عالم، ولا لعالم لا يستحق المبالغة: علامة، ولا إمام ولا شيء، أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونجد بعض الشباب إذا سمع من شيخ كلامًا يعجبه ولو كان في منزلة دون يرفعه حتى يبلغ به السهى، هذا ليس بصحيح، هذا تغرير بالشخص، تغرير له، وغش له، فالمدح بالثناء الكاذب، وغره بالثناء الكاذب هذا لا شك أنه يضره ولا ينفعه، ويضر غيره، على كل حال علينا أن نعتدل في أقوالنا وأحكامنا وأفعالنا، وننزل الناس منازلهم امتثالاً للحديث الصحيح.

 قال الشيخ الإمام العالم العلامة الرُّحْلة، الرُّحْلة بالضم، وقد تفتح الحاء كما هو الأصل رُحَلة، هُمَزة ولُمَزة، هذا الأصل، فالهمزة من يهمز، وبعضهم يقول: إن التسكين؛ للتفريق بين من يستحق اسم الفاعل وبين من يستحق اسم المفعول، فإذا قلنا: رُحْلة فهو اسم مفعول يعني مرحول إليه، كما إذا قلنا: ضُحْكة يعني مضحوك عليه، وضُحَكة يعني يضحك على الناس ويسخر منهم كهُمَزة ولُمَزة يهمز ويلمز، فرُحَلة يرحل إلى أهل العلم ويكثر من الرحلة، وأما رُحْلة فهو الذي يُرْحَل إليه ابتغاء ما عنده من علم، يعني يستحق أن تُشَدّ إليه الرحال. الرُّحْلة المحقق، الذهبي محقق وليس بمجرد نقال، ليس بمجرد نقال، إنما يحقق ويحرر ويدقق، وهو من أهل الاستقراء التام عند أهل العلم، وهو الذي دعاه، وهو الذي أهله لهذا التحرير وهذا التحقيق.

 بحر الفوائد لا شك أن الذهبي باطلاعه الواسع ومعرفته وخبرته من بحور العلم لاسيما ما يتعلق بعلم الحديث والتواريخ وما أشبهها. ومعدن الفرائد يتفرد بفوائد لا توجد عند غيره. وعمدة الحفاظ والمحدثين وعدة الأئمة المحققين وآخر المجتهدين على كل حال هذه أمور اجتهادية يقولها ولا يراد حقيقتها، لا تراد حقيقتها؛ لأن الحكم بأن هذا آخر، وما يدريك أن الله يقيض لهذه الأمة بعد هذا الذي زعمت أنه آخر من يأتي بعده ممن هو أفضل منه. وآخر المجتهدين شمس الدين شاعت الألقاب في العصور التي بعد عصور السلف، شمس الدين، تقي الدين، ناصر الدين، إلى آخره بعد عصور السلف، أما في عصر السلف فما تعرف هذه الألقاب قال أحمد بن حنبل، قال مالك، ما فيه، على البلاطة، سادة، وما يضيرهم هذا، والذي لا يرفعه الله لا يرتفع مهما قلت، {مَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [سورة الحـج:18] ما فيه فائدة ترفعه أو ما ترفعه. على كل حال المؤلف يستحق هذا الثناء، لكن الإشكال في أن تطلق على أناس لا يستحقون.

 شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الدمشقي، رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلومه وجميع المسلمين، هذا الكلام من كلام من يروي الكتاب عن المؤلف، وقد يذكره بعض النساخ كالتقدمة للكتاب؛ لأن الكتاب وضع على غير مقدمة، إنما هي مجرد فوائد منثورة وتعريفات لعلوم الحديث، يحتاجها طلاب العلم، ويستفاد منها، والكتاب في الجملة مفيد، ويرى بعضهم أنه مختصر من الاقتراح لابن دقيق العيد.

"عفا الله عنك.

الحديث الصحيح هو ما دار على عدل متقن واتصل سنده، فإن كان مرسلاً ففي الاحتجاج به اختلاف، وزاد أهل الحديث سلامته من الشذوذ والعلة، وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيرًا من العلل يأبونها، فالمجمع على صحته إذًا المتصل السالم من الشذوذ والعلة، وأن يكون رواته ذوي ضبط وعدالة وعدم تدليس، فأعلى مراتب المجمع عليه مالك عن نافع عن ابن عمر، أو منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله، أو الزهري عن سالم أبيه، أو أبوالزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، ثم بعده معمر عن همام عن أبي هريرة، أو ابن أبي عُروبة.."

عَروبة

"أو ابن أبي عَروبة عن قتادة عن أنس، أو ابن جريج عن عطاء عن جابر وأمثاله، ثم بعده في المرتبة الليث وزهير عن أبي الزبير عن جابر، أو سماك عن عكرمة عن ابن عباس، أو أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء، أو العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ونحو ذلك من أفراد البخاري أو مسلم".

يقول المؤلف- رحمه الله تعالى- في النوع الأول من أنواع الحديث أو علوم الحديث الذي هو الصحيح؛ لأن أهل الحديث قسموا الأحاديث إلى ثلاثة أقسام: الصحيح والحسن والضعيف.

وأهل هذا الشأن قسموا السنن

 

إلى صحيح وضعيف وحسن

بدأ بالأول وهو الصحيح؛ لأنه الأقوى، فالصحيح فعيل من الصحة ضد السقم، فالذي يقابل الصحيح في المحسوسات المريض والمكسور كالسليم، ويقابله أيضًا الضعيف في المعنويات كالحديث، وسيأتي بيان هذا في الضعيف إن شاء الله تعالى، فالصحيح عنده بل عند غيره أيضًا ما دار على عدل متقن واتصل سنده، يعني ما رواه عدل متقن يعني ضابط، ما رواه عدل متقن يعني ضابط واتصل سنده، لا بد من أن يكون الراوي عدلاً ضابطًا، وأن يكون السند متصلاً والزيادة التي يبديها بعد السلام من الشذوذ والعلة لا بد منها، فيشترط لصحة الخبر عدالة الرواة، تمام ضبطهم، اتصال الإسناد، السلامة من الشذوذ، السلامة من العلة، ولا بد أن تكون العلة قادحة.

فالأول المتصل الإسناد

 

بنقل عدل ضابط الفؤاد

عن مثله من غير ما شذوذ

 

وعلة قادحة فتوذي

فما دار على عدل، العدل يقولون: من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى، العدل لا يترك واجبات، ولا يرتكب محرمات، يلازم التقوى التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات، ملكة هيئة راسخة ثابتة. والمروءة اجتناب ما يخل بعرض الإنسان من غير ارتكاب المحرمات، يعني ما يخرج عن الأعراف والعوائد كالأكل في الطرقات عند الأقوام الذين لا يرون ذلك، أو يمشي حاسر الرأس، أو نحو ذلك مما هو مرده إلى العرف لا إلى الشرع، أما ما كان مرده إلى الشرع فهو مخل بالتقوى، لا مخل بالمروءة. عدل متقن يعني ضابط حافظ، والحافظ هو الذي يستحضر ما سمعه كما سمعه إلى أن يؤديه كما بلغه، ضابط حازم يحفظ ما سمع من حين التحمل إلى الأداء، من حين التحمل إلى الأداء.

أجمع جمهور أئمة الأثر

 

والفقه في قبول ناقل الخبر

بأن يكون ضابطًا معدلاً

 

أي يقظًا ولم يكن مغفلاً

حافظًا إن حدد حفظًا يحوي

 

كتابه إن كان منه يروي

إلى آخر ما قال- رحمه الله تعالى-، على كل حال لا بد من العدالة، فحديث غير العدل مردود، ويدخل في غير العدل من انتفت فيه العدالة، ومن لا تعرف عدالته كالمجاهيل، لا بد أن يكون معروف العدالة، لا يكفي ألا يُعرف بضدها، لا بد أن يُعرف بها، متقن حافظ ضابط يضبط ما يسمع من حين يتحمل الخبر بأن يكون قد سمعه من الشيوخ، ويحافظ عليه سواء كان في حافظته إن كان يعتمد عليه، أو في كتابه إن كان يعتمد على الرواية من الكتاب. واتصل سنده، لا بد من اتصال السند بأن يكون كل راوٍ من رواته قد تحمل هذا الخبر بطريق معتبَر من طرق التحمل، وطرق التحمل كما هو معروف ثمانٍ: السماع من لفظ الشيخ، القراءة على الشيخ التي يسمونها العرض، الإجازة، المناولة، المكاتبة، الإعلام، الوصية، الوجادة، هذه طرق التحمل، أما الرواية بطريق السماع والعرض فلا خلاف فيهما، وأما الرواية بالإجازة فقد حصل الخلاف فيها، ثم اضطر الناس إلى الرواية بها على ألا يتساهل فيها، بألا يجاز إلا من هو أهل للإجازة، أما إجازة من ليس بأهل، أو إجازة بالعموم، أو على العموم، أو إجازة العموم، أو إجازة المجهول، أو إجازة المعدوم، كما فعله بعضهم فلا؛ لأن أصل الرواية بالإجازة ضعيفة تزداد ضعفًا بهذا التساهل الذي ارتكبه بعضهم يقول بعضهم: أجزت من قال لا إله إلا الله، أجزت فلان ومن يولد لفلان، أجزت أهل الإقليم الفلاني، هذا كله ضعيف، ولا بد أن يعيِّن ما يجيز به، أجزت لفلان بن فلان أن يروي عني صحيح البخاري أو الكتاب الفلاني، لا بد أن يبين، هذا الذي استقر عليه العمل عند الأكثر بعد أن وجد الخلاف السابق، ومن أهل العلم من يرى أنه لا تجوز الرواية بالإجازة؛ لأنها ليست بسماع من لفظ الشيخ، ولا قراءة على الشيخ، ولا يُعرف لا في اللغة ولا في الشرع تحمُّل بطريق لا يشتمل على السماع أو العرض، الرواية بالعرض الذي هو القراءة على الشيخ دل عليه حديث ضمام بن ثعلبة المخرَّج في الصحيحين وغيرهما، والسماع هو الأصل، الأصل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يحدِّث والصحابة يستمعون، لكن يأتي إليك طالب فيقول: أجزني في صحيح البخاري فتقول: أجزتك في صحيح البخاري فاروه عني، يعني بعضهم قال: من أجاز الرواية بالإجازة فكأنه قال: أجزتك، يعني كأنه قال: أجزتك أن تروي عني ما لم تسمعه مني، فكأنه قال له: أجزتك أن تكذب عَلَيّ، يعني يصلح التفويض في الشهادة مثلاً، أي شيء تقف عليه سجل شهادتي معك يصلح؟! لا، ما يصلح، مهما بلغت ثقتك بالشخص، لكن العلماء اضطروا إلى الرواية بالإجازة لماذا؟ لأن الطلاب كثروا واشتهروا وأيضًا الحاجة إلى الأسانيد ضعفت؛ لأن الأحاديث دونت في الكتب، يعني كونك تروي عن شيخ كل حديث حديث من صحيح البخاري يستفيد قوة أو ما يستفيد، مدوَّن في صحيح البخاري، يعني يكفي أن تقول له: اروِ عني صحيح البخاري، يعني اروِ عني هذه الأحاديث المضبوطة المتقنة في هذا الكتاب، فتساهلوا في طرق أو في طريق التحمل للكتب، كما تساهلوا في تطبيق الشروط على الرواة.

وأعرضوا في هذه العصور

 

عن اعتبار هذه الأمور

يعني هذه الشروط التي اشترطوها في الرواة؛ لأن المقصود إبقاء سلسلة الإسناد الذي هو خصيصة من خصائص هذه الأمة؛ لكن كونه يكون في طريقك أنت الآن إلى البخاري رجل غير عدل أو غير ضابط ولا متقن، والبخاري مضبوط محفوظ متقن من الروايات الصحيحة من طريق غيرك فما يضيره أبدًا، فتساهلوا، فوُجد في أسانيد المتأخرين من ليس بأهل لأن يروى عنه، لكن على طالب العلم الذي يحرص على الإجازات، ويوجد من هؤلاء أعداد، عليه أن يحرص أشد الحرص على أن يتلقى عن شيخ يجمل به ويجدر أن يضيف إليه هذا العلم؛ لأن هذا العلم دين فانظر عمن تأخذ دينك، يعني فرق بين أن تروي عن إمام من أئمة المسلمين، وبين أن تروي عن شخص عادي، فضلاً عن أن تروي عن فاسق أو لا صلة له بهذا العلم.

 واتصل سنده، فإن كان مرسلاً ففي الاحتجاج به خلاف المرسل سيأتي تعريفه والخلاف في تعريفه، لكن الذي استقر عليه الاصطلاح أنه ما يرفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فإن كان مرسلاً بهذه الصورة ففي الاحتجاج به خلاف.

مرفوع تابع على المشهور

 

فمرسل أو قيده بالكبير

اختلف في الاحتجاج به مع أن الطبري كما في مقدمة التمهيد يذكر أن التابعين بأسرهم يقبلون المراسيل يقبلون المراسيل، وأنه لا يُعرف لهم مخالف إلى رأس المائتين يعني إلى أن جاء الإمام الشافعي فاشترط الشروط المعروفة عنده لقبول المراسيل، التابعون بأسرهم مع أنه حفظ عن سعيد بن المسيب أنه يرد المراسيل، ما يقبل رواية التابعي حتى يوقفه على الصحابي الذي أخبره بالخبر، فهل يُستدرَك بسعيد بن المسيب على الطبري؟ الطبري عبارته توحي بنقل الإجماع التابعون بأسرهم، يعني أجمعوا، يستدرك على الطبري بسعيد أو لا يستدرك؟ يستدرك به؛ لأن سعيد إمام من أئمة التابعين، بل هو عند الإمام أحمد هو أفضل التابعين على الإطلاق، وإن كان القول الآخر تفضيل أويس القرني بالنص عليه نقول: لا يُستدرك على الطبري، بسعيد لماذا؟ لأن الطبري عنده الإجماع قول الأكثر، الإجماع قول الأكثر، ليس الإجماع عنده كما هو عند الجمهور قول جميع مجتهدي الأمة، لا، قول الأكثر يكفي لأن يكون إجماعًا، وتفسيره مملوء من هذا، يذكر قراءة، أو يذكر معنى لآية، أو يذكر حكمًا مستنبطًا من آية، فيذكر أن قول الأكثر قال فلان وفلان وفلان وفلان كذا، وقال فلان وفلان كذا، يعني أقل، والصواب في ذلك عندنا كذا؛ لإجماع القرأة على ذلك. هذا كثير عنده، يسوق الخلاف، والإجماع عنده هو قول الأكثر. وهذا معروف في مذهبه- رحمه الله-.

 التابعون بأسرهم يقبلون المراسيل، وما عرف مخالف حتى رأس المائتين، يعني جاء الإمام الشافعي فقبل المراسيل بشروط منها ما يُشترط في الخبر المرسَل، ومنها ما يشترط في المرسِل الراوي، الراوي لا بد أن يكون من كبار التابعين عنده من كبار التابعين، وإذا سمى من روى عنه لا يسمي مرغوبًا عن الرواية عنه ولا مجهولاً، وإذا شرك أحدًا من الحفاظ لم يخالفه، هذه ثلاثة شروط في المرسِل وشرط في المرسَل، وهو أن يكون محفوفًا مدعومًا بحديث آخر مسند أو بمرسل آخر يرسله غير من أرسل الأول، أو يكون مضمونه يفتي به أحد الصحابة أو عوام أهل العلم، المقصود أنه لا يقبل المرسل إلا بشروط، ثم بعد ذلك زاد التشديد في قبول المراسيل، فجعله أهل العلم من قبيل الضعيف، تعرفون التدرج الزمني، يُقبل بلا شروط، ثم قبل بشروط، ثم رد.

واحتج مالك كذا النعمان

 

به وتابعوهما ودانوا

لأن مالكًا والنعمان أبا حنيفة قبل الشافعي.

واحتج مالك كذا النعمان

 

به وتابعوهما ودانوا

ورده جماهر النقاد

 

للجهل بالساقط في الإسناد

وصاحب التمهيد عنهم نقله

 

........................

نقله عن الجمهور.

........................

 

ومسلم صدر الكتاب أصله

فالقول المعتبَر عند جمهور العلماء رد المراسيل؛ للجهل بالساقط، طيب قد يقول قائل: مادام التابعي يرفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- إذًا الساقط صحابي، والصحابة كلهم عدول سواء ذكروا أم لا؟ نقول: ما يلزم، يحتمل أن يكون هذا التابعي رواه عن تابعي ثانٍ، هذا التابعي الثاني المسقَط يحتمل أن يكون ثقة أو غير ثقة، التابعي الثاني يحتمل أن يكون رواه عن تابعي ثالث، والثالث يحتمل أن يكون رواه عن تابعي رابع، إلى ستة، وُجد في إسناد واحد ستة عن التابعين يروي بعضهم عن بعض، فلو رفعه السادس قلنا: مرسَل، فإذا رفعه السادس من هؤلاء التابعين قلنا: إنه مرسل، لكن هل الساقط صحابي؟ الساقط صحابي، وسقط خمسة من التابعين، وهؤلاء الخمسة يحتمل أن يكون فيهم من ليس بثقة، ولهذا رد الأكثر المراسيل، وجد حديث يتوارد على رواية الستة من التابعين على نسق وهو حديث في فضل سورة الإخلاص، مخرج في مسند أحمد وسنن النسائي، وهو أطول إسناد كما يقول النسائي، أطول إسناد في الدنيا، الخطيب البغدادي أفرده في جزء.

 فإن كان مرسلاً ففي الاحتجاج به خلاف لماذا؟ لأنه لم يتصل سنده؛ لأنه اختل شرط من شروط القبول، ولم يتصل سنده، وزاد أهل الحديث سلامتَه من الشذوذ والعلة، لا بد أن يكون ما يرويه العدل الضابط عن مثله إلى نهاية الإسناد سالمًا من الشذوذ، والشذوذ عند أهل العلم يطلق على ما يتفرد به من لا يُحتمل تفرده، ويطلق أيضا على ما يرويه الثقة مخالفًا فيه من هو أوثق منه.

وذو الشذوذ ما يخالف الثقة

 

فيه الملا فالشافعيُّ حقَّقه

الشاذ ما يخالف فيه الثقة من هو أوثق منه، وعلى القول الآخر: من يتفرد بروايته من لا يحتمل تفرده، وحينئذ يكون هو والمنكر معناهما واحد. لا بد من السلامة من الشذوذ، ولا بد من السلامة من العلة، وإذا قلنا: إن من العلل ما يقدح، ومن العلل ما لا يقدح اشترطنا أن تكون العلة قادحة، والعلة كما يقرر أهل العلم: سبب خفي غامض يقدح في صحة الخبر الذي ظاهره السلامة منها. طالب عادي يبحث في الكتب ويخرج ويجمع الطرق، ومع ذلك يرجع إلى كتب الرجال وينظر في السند، وكل واحد لقي الآخر ما فيه إشكال، لكن يأتي إمام من أهل هذا الشأن يقول: لا يا أخي، الأحاديث فيها علة، ولذا ما يضعفه الأئمة المتقدمون لا تستعجل في تصحيحه ولو اطلعت على طرق كثيرة تجزم بأن بعض المتقدمين الذين حكموا عليه ما اطلعوا عليها لا تستعجل؛ لأنهم هم أطباء الحديث، وعليهم المعوَّل، ومن بعدهم عالة عليهم، أن تعتمد على قواعد المتأخرين هم عالة على المتقدمين، وعلى كل حال تمرين الطلاب على هذا لا بد منه، لا بد أن يحكم الطالب لا للعلم ولا للفتوى إنما يتمرن للحكم، ويعرض عمله على أهل الخبرة وأهل الاختصاص، ويسددون، فإذا وجد أن عمله مناسب ومصحَّح من قبل أهل العلم ومجاز من قبلهم، وصارت لديه ملكة وخبرة ودربة، هذا الأمر إليه، وبهذا يتخرج طالب العلم.

 العلة لا بد أن تكون قادحة؛ لأن من العلل ما لا يقدح، من العلل غير القادحة مثلاً يكون عندك راوٍ مهمل لم تستطع تمييزه حدثنا حماد، ما تدري من حماد هذا، هل هو ابن زيد أو ابن سلمة، حدثنا سفيان ما استطعت، أهل العلم يقولون: هذه علة، حقيقة أنت ما توصلت إلى الحقيقة بيقين، هذه علة، لكنها غير قادحة لماذا؟ لأنه سواء كان ابن عيينة أو الثوري كلاهما ثقة، وسواء كان حماد بن زيد أو ابن سلمة كلاهما ثقة، فمثل هذه علل غير قادحة. الترمذي سمى النسخ علة، سمى النسخ علة في جامعه، ذكر حديث «الماء من الماء»، وبيَّن أنه منسوخ، ثم في علل الجامع في الآخر لما ذكر الحديث قال: بينا علته في الكتاب، فسمى النسخ علة، لكن حديث «الماء من الماء» صحيح ما أحد يقدح فيه، صحيح وإن لم يُعمَل به؛ لأنه منسوخ يقول: وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيرًا من العلل يأبونها، طيب ما يدخل الفقهاء هنا؟ المسألة مسألة حديثية صرفة، ما دخل الفقهاء؟ يعني إذا جاء إمام وقال: «إنك لا تخلف الميعاد» شاذة أو قال: «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» قال: شاذة، يأتي الفقيه، وهذا قول لبعض المحدثين ما هو الفقهاء فقط يقول: هذه زيادة ثقة أثبتها ثقة، ولا تتضمن معارضة ولا مخالفة، والمثبِت مقدَّم على النافي، هذا مقتضى نظر الفقهاء، وبعضهم حتى من المحدثين الحاكم وغيره نقل الاتفاق على قبول زيادة الثقة.

واقبل زيادات الثقات منهم

 

ومن سواهم فعليه المعظم

على كل حال التمرين والتدريب للراوي يمكن الطالب يمكن أن يدرَّب على هذا القول، لكن الطالب إذا تأهل وصارت عنده ملكة وخبرة بحيث يصحح ويضعف بالقرائن كما كان الأئمة المتقدمون الله يقويه، لكن ما يخاطَب بمثل هذا الكلام طلبة مبتدئون يقول: انبذوا قواعد المتأخرين، وعليكم بمحاكاة المتقدمين وأحكامهم، هذا تضييع للطالب المبتدئ، لا بد أن يتمرن ويتأهل كالفقهاء سواء بسواء، عليه أن يقرأ الفقه على الجادة، ويعتني بالفقه على طريقة أهل العلم، فإذا تأهل وصار من أهل النظر، وأخذ ينظر في أقوال فقهاء الأمصار وأدلتهم، ويوازن الله يقويه، هذا فرضه، لكن مادام في حكم العامي فرضه تقليد أهل العلم، وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيرًا من العلل يأبونها.

 هناك ثورة على إدخال الفقهاء أو أقوال الأصوليين في كتب المصطلح الآن مطالبة قوية بتنقية كتب المصطلح من جميع من لا علاقة له بعلم الحديث يذكر رأي الغزالي ويقول: بضاعتي في الحديث مزجاة، لمَ يُذكَر رأي الغزالي؟! في المسائل الاصطلاحية لماذا يذكر الآمدي في تقرير مسائل اصطلاحية وهو أصولي ما له علاقة بالحديث؟ نقول: قسم علوم الحديث موجود كقطب وركن من أركان أصول الفقه، هم بحثوا علوم الحديث في أصول الفقه، ومن مسائل علوم الحديث ما يدخلها النظر والمسائل التي يدخلها النظر هؤلاء من أهل النظر، يعني كون أصول الفقه تأثر بعلم الكلام وأدخلت بعض القضايا الأصولية في كتب علوم الحديث نطلب تجريد كتب علوم الحديث من المسائل الأصولية، يا أخي كلام الأصوليين يشحذ الذهن، ويفتق الذهن، وهم بحثوا بعض قضايا المصطلح في أصول الفقه، يا أخي أنت باعتبارك من أهل الفن وأنت على حذر تنظر في أقوال الأصوليين ما يقال لك: سلم قضاياهم أبدًا، انظر فيها، وإذا كان النظر يدخل في بعض المسائل حتى في مسائل أصول الحديث إذا كان النظر يدخل فيها ما المانع أن تنظر فيها أنت وغيرك واعرض آراءهم على ما عندك من قواعد للأئمة، ما يوافق فعلى العين والرأس، والذي لا يوافق اضرب به عرض الحائط.

 فالمسألة أقل من ذلك، يعني لا نظن أن المصطلح ينهدم أو يضيع إذا أدخل فيه قضايا أصولية أبدًا، ولا شك أن الذي يطالِب بهذه المطالبة ما دعاه إلى ذلك إلا الغيرة على الحديث وعلومه، هذا الذي نجزم به ونعتقده وندين الله به، لكن ما يلزم أن يكون اجتهاده صحيحًا، كثير من الناس.. يعني بل من مزايا توضيح الأفكار جمعه بين علوم الحديث وأصول الفقه، أنت ما أنت ببغاء تردد الكلام ولا تفقه ما تقرأ، اقرأ وحرر وانظر، والذي يُرَد ردَّه، حتى ترد بعض القضايا التي يقررها بعض علماء الحديث؛ لأنها معارَضة بأقوال أئمة آخرين ما المانع؟! يعني نخشى أننا إذا لبينا هذا الطلب أن يكون هناك حلقات مفقودة في العلم تُركب عليها؛ لأن العلماء لما ألفوا في أوائل الأمر أوائل المصطلحات ترى فيها خللًا في التأليف، يعني الذي يعتمد على المحدث الفاصل للرامهرمزي في مصطلح الحديث، ولا يقرأ غيره، هل يضبط كل مصطلح الحديث؟ لا، احتاج المتأخرون أن يضيفوا ويزيدوا، وهذه الإضافات جلها من اجتهاداتهم، من اجتهاد شيوخهم ومن اجتهاد أقرانهم، فالاجتهاد يدخل في العلوم، يعني كون أصول الفقه دخله علم الكلام من المسائل ما يقتضيها النظر مما يُرَتَّب على علم الكلام، كلام شيخ الإسلام وهو من أئمة أهل السنة قد لا تفهم بعض كلامه إلا إذا عرفت علم الكلام، لكن الطالب الذي لا يسعفه فهمه إلى فهم مثل هذا الكلام ويرقى إليه يقتصر على ما يتقن وما يحسن.

 فالمطالبة بتنقية كتب الأصول من المسائل الكلامية يُخشى أن يكون هناك فجوات بين المسائلن هذه تحتاج إلى هذه، ولذا لما ألف الموفَّق ابن قدامة روضة الناظر احتاج إلى المقدمة المنطقية ليُفهَم كلامه، يعني لو حذفت هذه المقدمة، وطلعت مباشرة إلى علم الأصول صعب عليك، فتنقية العلوم من هذه الأشياء لا شك أن الأصل والمدار على الكتاب والسنة، لكن ما الذي يعيننا على فهم الكتاب والسنة؟

 المطالبة بتنقية كتب السيرة من الأخبار الضعيفة هذه الآن قائمة ومشاريع قائمة، وصدر بعض الكتب، لكن هل تعلم أنك وأنت تقرأ في هذه الكتب تقرأ في خبر، ثم تنزل نزولًا ما حسبت له حسابًا، هوَّة، لماذا؟ لأن الرابط بين الخبرين حُذف، لا يثبت بإسناد يثبته أهل الحديث، يا أخي هذا الخبر الذي حذفته ما يترتب عليه شيء، إنما يسهِّل لك ربط هذا الخبر بهذا الخبر، فنفرِّق بين الأمور التي يُبنى عليها أحكام، فهذه لا نأخذها إلا من مصادرها، الأمور الأخرى التي أوجدت لربط العلوم، أو لفهم العلوم، أو درجات للصعود عليها لفهم بعض العلوم، هذه لا مانع من بقائها، ولا تضر طالب العلم، ومئات السنين وأهل العلم دارجون على قراءة هذه الكتب ما تأثروا.

 نعم الكلام الذي يرد على هذا العلم من غير أهله أو على أصول الفقه من المتكلمين، ويكون فيه مخالفة واضحة لمعتقد أهل السنة والجماعة يعلَّق عليه ويفنَّد ويُرَد عليه، وبهذا يتربى طالب العلم، وهذا قوله: وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء قد يقول قائل: ما علينا من الفقهاء؟ أنت تقول هذا الكلام وعمدتك الحديث وأهل الحديث، لكن يأتيك من يقول: إن أهل الحديث صيادلة ما عندهم إلا يركبون لك الدواء، يصححون لك الحديث، وهذا غاية ما عندهم، خل الاستنباط والمتن للفقهاء، ماذا تقول له؟! فالمحدثين صيادلة، والفقهاء أطباء، كيف ترد هذه الدعوى؛ لأنه وجد من المحدثين مجرد راوية ما يستطيع أن يستنبط من المتن، يروي لك وأنت تصرف. تقول: لا يا فقيه لا تفهم من الأحاديث شيئًا؟! أنت أثبت له صحة الحديث، دعه ينظر في متن الحديث ويستنبط منه على طريقته، وهذه جادَّة معروفة عند أهل العلم، ويبقى أن من المحدثين من هم أئمة في الفقه، فقهاء أهل الحديث هم العمدة في الباب، ويبقى أن من المحدثين من هم مجرد راوٍ، ويبقى أن من الفقهاء من له نظر دقيق في النصوص واستيعاب للنص قد لا يدركه كثير من أهل الحديث، وإن كان الأصل في الأئمة الكبار أنهم جمعوا بين الحديث والنظر بين الأثر والنظر، وبهذا تكمل الآلة عند الإنسان، فالذي يعتمد على الفقه وحده يظهر في كلامه الخلل، والذي يعتمد على الحديث وحده من غير نظر واستنباط الذي هو الغاية القصوى من إثبات الحديث الاستنباط والعمل، فلا بد من الجمع بين الفنين؛ لتتكامل الشخصية العلمية.

 فالمجمع على صحته إذًا المتصل السالم من الشذوذ والعلة، وأن يكون رواته ذوي ضبط وعدالة وعدم تدليس، المجمع على صحته إذًا المتصل لا بد، من انقطع إسناده مردود، وما اشتمل على شذوذ أو علة مردود على ما يختاره جمع من أهل العلم، وأما من يرى أن من الشاذ ما هو شاذ صحيح، ومن الشاذ ما هو شاذ ضعيف، وقد خرج في الصحيح الصحيح والأصح، الراجح والمرجوح، على مقتضى التعريف أن يوجد في صحيح البخاري شاذ، كيف؟ نعم في حديث قصة جمل جابر خرجها البخاري من وجوه متعددة على وجوه مختلفة، فيها الاختلاف في الثمن، والاختلاف في الاشتراط، وبعضها راجح، والبخاري رجح بعض الروايات على بعض، فالراجح على مقتضى التعريف هو المحفوظ، والمرجوح هو الشاذ، لكن أهل العلم تأدبًا مع الصحيح يقولون: فيه ما هو صحيح، فحتى المرجوح صحيح، وفيه ما هو أصح، الذي هو الراجح.

 فمثلاً حديث ابن عباس المخرج في الصحيح وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- تزوج من ميمونة وهو محرم، هل يمكن أن يطعن في إسناده؟ لا، مخرَّج في الصحيح وثابت عن ابن عباس، لكن ما يمنع أن يكون ابن عباس أخطأ، وأصح منه ما جاء عن ميمونة، وعن أبي رافع السفير بينهما أنه تزوجها وهو حلال، ففي الصحيح الصحيح والأصح، ولا يقدح هذا في كونه صحيحًا ثابتًا إلى من نسب عنه، وأما العصمة من الخطأ فلا تُتصور.

 وأن يكون رواته ذوي ضبط وعدالة، وهذا تقدم، وعدم تدليس، وسيأتي الكلام في الحديث المدلَّس.

 فأعلى مراتب المجمع عليه مالك عن نافع عن ابن عمر، وهذا أصح الأسانيد عند الإمام البخاري.

كم باقٍ على الأذان؟

طالب: ..........

نقف على هذا.. لعلنا نقف على هذا.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.