شرح منتهى الإرادات (01)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،،
فإن الفقه في الدين ذو منزلة عظيمة ومكانة رفيعة، وفيه ما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، وبهذا الحديث يفتتح الفقهاء لاسيما الشراح كتبهم، مشيرين إلى أن المراد بالحديث هو الفقه المعروف الذي يأتي تعريفه قريبًا. التخصص الخاص بالأحكام العملية، على أن الفقه في الدين يراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك، فيشمل الأحكام العملية، ويشمل العقائد، ويشمل الآداب، يشمل الدين بجميع أبوابه، ولذا عُرف عند المتقدمين العقائد بالفقه الأكبر، فهو فقه، والأحكام العملية فقه، التفسير فقه في الدين، معرفة بقية الأبواب من الفتن والرقاق والاعتصام وغيرها من أبواب الدين، كله فقه في الدين، فالدين أعم من أن يكون العلم بالأحكام العملية، بل يدخل في ذلك دخولًا أوليًّا الاعتقاد والإيمان، ولذا جاء في سؤال جبريل للنبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأجابه النبي -عليه الصلاة والسلام- إما يشمل الإيمان بأركانه والإسلام بأركانه والمراقبة وأعمال القلوب كلها داخلة في الدين؛ لأن النبي –عليه الصلاة والسلام- ختم الحديث بقوله: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم»، فقصر الفقه، وإن كان هذا اصطلاحًا خاصًّا، ولا مشاحة في الاصطلاح إلا عند المناظرة حينما يقول الفقيه المتخصص في الفقه بالأحكام العملية يقول: جاء في حقنا قوله –عليه الصلاة والسلام-: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» نقول: لا، وإلا فالأصل أنه لا مشاحة بالاصطلاح. هذا فقه، وهذا باب من أعظم أبواب الفقه، ومعرفة العبد المسلم كيف يعبد ربه –جل وعلا-، فعلى هذا الإطلاق الخاص هو معرفة الأحكام العملية بأدلتها التفصيلية، والاصطلاح العام هو حقيقة شرعية أيضًا يراد به جميع أبواب الدين، إذا عرفنا هذا فالفقه عرفوه في اللغة بأنه هو الفهم، واستدلوا على ذلك بأدلة {يَفْقَهُوا قَوْلِي}[طه:28]، يعني يفهموا قولي، «من يرد الله به خيرًا يفقهه» يعني يُفهِّمه، فالفهم له شأن في كسب العلم الشرعي وتحصيله؛ إذ لابد منه، فلا يُكتفى بحفظ المسائل دون فهمها وتصورها وتصويرها، فلابد من الفهم ولابد أيضًا من الحفظ؛ إذ عُمدة هذه الأحكام على الدليل من الكتاب والسُّنَّة، ولابد لهما من حفظ إذ لا يُبنى الفقه على هباء، لا يُبنى إلا على قال الله، وقال رسوله، هذه عمدة الفقهاء، وأعني بالفقهاء الأئمة، وأما المتأخرون منهم فقد اجتهدوا في تحرير المسائل وتنقيحها على اختلاف مذاهبهم لكنهم، لكن عنايتهم بالدليل أقل، ولذا يُستغرب أن يوجد كتاب من كتب الفقه، من أشهر كتب الفقه يقع في اثني عشر مجلدًا يقول بعض أهل العلم: إنه فتشه فلم يجد فيه صل الله عليه وسلم إلا أربع مرات. فالمتأخرون عُنوا بضبط المسائل وتحريرها وتنقيحها، لكن عنايتهم بالدليل أقل، بخلاف الأئمة المتقدمين، فعمدتهم الأدلة، على خلاف بينهم في فهمهم لهذه الأدلة، وهذا من أعظم أسباب الخلاف اختلاف في فهم الأدلة، ومن أسباب الخلاف بلوغ الدليل، إلى غير ذلك من الأسباب التي أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكثيرٌ من أهل العلم أشاروا إلى أسباب الخلاف، والإشارة إلى أسباب الخلاف لاسيما مع طرح الخلاف، الآن الخلاف يُطرح في وسائل الإعلام، ويعرفه عامة الناس، لكنهم لا يستوعبون مثل هذا الخلاف، ويردون مثل هذا الاختلاف إلى اضطراب في الدين، فإذا أُطلع العامة على الخلاف لابد أن يُطلعوا على أسباب الخلاف، وأن المرد لله ورسوله، وأن الحكم في جميع المسائل هو النص عند التنازع، الفقه في اصطلاح الفقهاء بالمعنى الخاص هو معرفة الحكام العملية بأدلتها التفصيلية، بالفعل أو بالقوة القريبة منه، فمعرفة الأحكام العملية يُخرج العقائد، فليست فقهًا على اصطلاحهم، من أدلتها التفصيلية الأدلة الإجمالية موضوع أصول الفقه، فعلى هذا لابد من المعرفة، والمعرفة والعلم متقاربان، وإن فرق بينهما بعض العلماء بأن المعرفة تستلزم سبق الجهل بخلاف العلم، فإنه لا يستلزم سبق الجهل، ولذا يوصف الله -جل وعلا- بالعلم ولا يوصف بالمعرفة، وأما ما جاء من قوله –عليه الصلاة والسلام-: «تعرّف على الله في الرخاء يعرفك» قالوا: هذا من باب المقابلة والمشاكلة.
معرفة الأحكام والأحكام جمع حكم، والأحكام منها التكليفية ومنها الوضعية، فخطاب الله –جل وعلا- المتعلق بأحكام المكلفين هذا حكم تكليفي، وقسموه إلى خمسة أقسام المعروفة: الوجوب والاستحباب والإباحة والحظر والكراهة، والأحكام الوضعية معروفة أيضًا: الأسباب والشروط والموانع والعزيمة والرخصة، إلى غيرها مما بحثوه في أصول الفقه.
العملية قلنا إنها تُخرج الأحكام العقدية التي لا تظهر على الجوارح، وإن ظهر أثرها. أعمال القلوب لا يعلمها أحد، ولا يراها أحد، فمردها إلى الله -جل وعلا-. وأهل العلم يعبرون عن أعمال القلوب بأنها أعمال، أفعال القلوب أعمال، فعلى هذا ينبغي أن تدخل في الحد، فهي من الفقه، لكن الأعمال عند الفقهاء يراد بها الإطلاق الخالص، وهي أعمال الجوارح دون أعمال القلوب.
بأدلتها التفصيلية، لا فقه بغير دليل، لا فقه بغير دليل، الفقه المجرد عن الدليل هذا تقليد، والمقلد الذي يقبل قول الغير من غير حجة حكمه حكم العامي وإن قرأ وكتب وإن حفظ المتون، حكمه حكم العامي وقد نقل ابن عبد البر الاتفاق على أن المقلد ليس من أهل العلم. المقلد ليس من أهل العلم اتفاقًا فيما حكاه ابن عبد البر، فالعمدة الدليل. بأدلتها التفصيلية. إذا عرفنا هذا وعرفنا أن المعول على الدليل، فلماذا نعنى بكتب الفقه؟ لماذا نتعب أنفسنا وطلابنا بقراءة كتب الفقه؟ هذه شبهة لابد من الإجابة عليها بعد استكمال التعريف.
بأدلتها التفصيلية، بالقوة بالفعل، بالفعل بأن يكون الفقيه حافظًا للمسائل الفقهية بأدلتها، حاضرة في ذهنه، أو بالقوة القريبة من الفعل، بألا تكون في ذهنه حاضرة، وإنما لديه القدرة والخبرة والدربة في كيفية التعامل مع الكتب، بحيث يستخرج المسائل بأقصر وقت، ويستدل لهذه المسائل، وينظر في الأقوال بأدلتها، ويعرف كيف يرجح بين هذه الأقوال.
الشبهة التي يوردها بعض من يدعو إلى الاجتهاد والاعتماد على الكتاب والسُّنَّة ونبذ كتب الفقه، نتفق جميعًا على أن المعول عليه الدليل من الكتاب والسُّنَّة، وأن كل قول يخالف ما قاله الله أو قاله رسوله فإنه يضرب به عرض الحائط، والأئمة حذروا من الأخذ بأقوالهم من غير نظر في أدلتهم، فالمعول على النصوص، ودراسة هذه الكتب، ودراسة هذه الكتب المتون المعتمدة في كل مذهب، ومن ذلك الكتب التي تأتي الإشارة إليها في مذهب الحنابلة، وأما ما يشمل المذهب وغيره من مذاهب فقهاء الأمصار، فهناك أشرطة سجلت بهذا الصدد، يمكن سماعها.
هذه الشبهة، أولًا القول حق، وحجة هذا القول حق، التفقه من الكتاب والسُّنَّة حق والمعول على الكتاب والسُّنَّة حق. إذًا ما فائدة هذه الكتب؟ كيف نتعب أنفسنا بحفظ الزاد وعبارته في غاية الصعوبة؟ كيف نعاني كتاب المنتهى وهو أصعب منه؟ كيف يعاني المالكية مختصر خليل وهو أشبه بالألغاز؟! كيف تعاني كتب الحنفية والشافعية وغيرها من الكتب الصعبة المعقدة؟! وعمدتنا ومعولنا على الكتاب والسُّنَّة؟!
أولًا: هذه الكتب ألفها أهل العلم؛ لتكون خطة عمل لطالب العلم، ومنهج بحث يسير عليه طالب العلم، وليست دساتير لا يحاد عنها، ويُعمل بجميع ما فيها ويؤثم من خالفها، وإن قال المتعصب، والتعصب ذميم مقيت، يقول: ولا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة ولو خالفت الكتاب والسُّنَّة وقول الصحابي. ثم قال: لأن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر. هذا قيل بالحرف، ولا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة ولو خالفت كتابًا أو سُنة أو قول صحابي؛ لأن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر. هذا كلام شنيع، كلام شنيع، فالأخذ بالنصوص هو الأصل، والمعول عليه هو عدة العالِم وعمدة المتعلم. هذه الكتب من المتون المختصرة والمتوسطة والمطولة هذه ألفها العلماء؛ لتكون خطة بحث يسير عليها العالِم والمتعلم، فالعالِم يبدأ بالكتاب من مسألته الأولى إلى آخره، فيصور هذه المسائل للطالب المبتدئ ويفهمه إياها، ثم بعد ذلك يبحث عن دليل المؤلف، عن دليل المؤلف، عن دليل هذه المسألة، ثم بعد ذلك للمرة الثالثة ينظر من وافق المؤلف على قوله من أهل العلم مستدلًا بالأدلة السابقة، ويضيف إلى هذه الأدلة ما يوجد ممن يوافق من أرباب المذاهب الأخرى من دليل وتعليل، ثم بعد ذلك ينظر من خالف، ودليل المخالف، ثم ينظر في الأدلة مستصحبًا في ذلك الثبوت لهذه الأدلة وعدم الثبوت، ثم يستصحب في ذلك قواعد الترجيح المعتبرة عند أهل العلم، فإذا تم النظر في كتاب من كتب الفقه على هذه الطريقة، فلا ضير ولا تثريب. فالمسألة التي يوردها المؤلف لا دليل عليها تبقى أنها وجهة نظر، إن وجد ما يخالفها مما هو أقوى منها تُركت وعمل بالأقوى، إن لم يوجد ما هو أقوى منها ولا معارض لها، شملتها الأدلة الأخرى، والأدلة عند أهل العلم أصولها الكتاب والسُّنَّة والإجماع، على خلاف في القياس والجمهور على اعتماده وقول الصحابي، وهو عمدة عند كثير من أهل العلم لاسيما إذا لم يخالَف من قبل صحابي آخر.
فالتفقه على هذه الطريقة من أنفع ما يسلكه طالب العلم إذا تأهل لمثل هذا النظر، وإلا ففي البداية المبتدئ له كتب، والمتوسط له كتب، والمنتهي له كتب:
المبتدئ يكتفى في شرح كتبه بتصوير المسائل وتفهيمها، ولا مانع من أن يشار له إذا كان عقله يحتمل أن يقال له هذه المسألة التي أوردها وصورناها مرجوحة، ويكتفى بهذا القدر، ثم بعد ذلك إذا تجاوز هذه المرحلة يستدل له، ويعود النظر في الأدلة، ويحفظ من الأدلة ما يقيم به هذه المسائل، ثم بعد ذلك يتأهل للاجتهاد.
وأما الدعوة إلى نبذ كتب الفقه، والتفقه من الكتاب والسُّنَّة، ومخاطبة المبتدئين بمثل هذا الكلام، فهو تضييع لهم. كيف يتفقه طالب مبتدئ لا يفهم شيئًا بمَ يبدأ منه؟
أولًا: إذا قلنا له تفقه من الكتاب، متى يلم بجميع أحكام الصلاة التي هو بأمس الحاجة إليها؟! يقرأ الكتاب الكريم كلام الله -جل وعلا- يجد فيه من أحكام الصلاة الأمر بها وإقامتها والمحافظة عليها، والإشارة إلى بعض أحكامها مما لا يدركه المبتدئ، وتفاصيل أحكام الصلاة وغيرها من الأحكام جاءت في بيان النبي -عليه الصلاة والسلام- المبين عن الله -جل وعلا، فإذا قلنا للطالب المبتدئ: تفقه من الكتاب والسُّنَّة، يعني يكفينا في هذه المرحلة في حال مخاطبة لهذه الطبقة أن يقال: احفظ الكتاب، احفظ القرآن، والقرآن أعظم زاد وأكبر رصيد لطالب العلم في جميع العلوم، أما تفقه من الكتاب، ومثل هذا يقال لطالب مبتدئ تفقه من السُّنَّة، هذا تضييع. بمَ يبدأ من كتب السُّنَّة؟ هل يقال: تفقه من البلوغ، تفقه من العمدة، تفقه من المنتقى، تفقه من المحرر، أو من الصحيح والكتب الأصلية من البخاري ثم مسلم؟ والاجتهاد لن يتسنى لآحاد المتعلمين، التقليد في البداية أمر لابد منه، فالمبتدئ حكمه حكم العامي، فرضه سؤال أهل العلم، وبمنزلة سؤال أهل العلم بالنسبة للطالب المبتدئ قراءة كتب العلم. إذا قيل لطالب: تفقه من السُّنَّة، ثم بدأ بالبخاري ومسلم، وفي البخاري أحاديث ناسخة متقدمة على أحاديث منسوخة، وأحاديث منسوخة متقدمة على أحاديث ناسخة في التبويب بحسب ما يورده الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-، فكيف يعمل الطالب الذي لم يتأهل من أجل تحقيق هذه الدعوة، الدعوة حق، ومن قال بها ونادى بها لا يُظن به إلا كل خير، لكنه خطأ في المنهج، والطريقة التي يتفقه بها طالب العلم.
سواءٌ تفقه الطالب من كتابٍ مختصر من كتب الحديث كالبلوغ، أو كتاب مختصر من كتب الفقه كالزاد، عندي أن الأمر لا يختلف؛ لأننا في البلوغ نحتاج إلى استنباط، والاستنباط اجتهاد المستنبط، وإذا تفقه من الزاد احتاج أن يستدل لهذه المسائل، نعم، فلا فرق، على أن في كتب الفقه ومتون الفقه من المسائل ما لا يوجد في مختصرات الأحاديث، يعني لو طبقنا "زاد المستقنع" على بلوغ المرام، كم في مسائل زاد المستقنع من دليل؟ يعني تقارن "السلسبيل في معرفة الدليل" وهو الاستدلال لمسائل الزاد في بلوغ المرام تجد فرقًا كبيرًا من الأدلة ما لا يوجد في البلوغ، وتجد طالب العلم إذا تفقه من البلوغ يعوزه كثير من الشروط والأسباب والضوابط والقواعد التي يحتاجها طالب العلم، فالتفقه على هذه الطريقة بمعنى أننا نأخذ كلام الفقهاء لا على أنه نص، ولا على أنه دستور، بل هو مجرد منهج يسار عليه في التفقه، إذا نظرنا للمسألة الأولى وتصورناها وفهمناها واستدللنا لها ونظرنا من خالف ومن وافق وأدلة الفريقين، الفقهاء كلهم في هذه المسألة، ورجحنا القول الراجح بدليله إذا أنهينا كتابًا واحدًا على هذه الطريقة، فطالب العلم تأهل للنظر في المسائل بنفسه.
هذه الدعوة مثل ما ذكرنا الداعي إليها لا شك أنه قد يكون ردة فعل من تصرف بعض الفقهاء، ومنهم من سمعنا كلامه آنفًا، أنه لا يجيز الخروج عن المذاهب الأربعة ولو خالفت الكتاب والسُّنَّة وقول الصحابة، وهذا أشرنا إليه، ومنها أيضًا ما يوجد في بعض الكتب والشروح والحواشي مما ينفر، يعني إذا كانت الشروح والحواشي فيها تعقيد لا شك أن طالب العلم ينفر منه، والأدلة على ذلك كثيرة لاسيما في كتب المتأخرين، فيها أيضًا عسف للنصوص ولوي لأعناقها كما يعبرون؛ لتوافق المذهب، حتى قال قائلهم: كل دليل يخالف المذهب يجب تأويله. صار الأصل ماذا؟ صار الأصل المذهب والدليل تبع للمذهب، هذا ضلة في القول، ولا يجوز اعتماده بحال، وهذا تقديم للآراء على النصوص. ابن القيم -رحمه الله- يقول:
والله ما خوف الذنوب |
وإنها لعلى سبيل العفو والغفران |
لكنني أخشى انسلاخ القلب من |
تحكيم هذا الوحي والقرآن |
ورضى بآراء الرجال وخرصها |
لا كان ذاك بمنة الرحمن |
لأن الإنسان إذا ضل ذل وسلك طريق غير سبيل المهتدين غير سبيل المؤمنين الصادقين المخلصين لن يصل إلى مراده. يوجد أيضًا في بعض كتب الفقه أشياء قد تنفّر بعض طلاب العلم، طالب علم مبتدئ يقرأ كتابًا فوق مستواه، وكذلك طالب علم متوسط يقرأ كتابًا فوق مستواه، وهذا في العلوم كلها، يعني طالب في المتوسط تقول له: اقرأ المنتهى! هذا صرف له عن طلب العلم، ونظير هذا في العلوم الأخرى من يسمع ثناء ابن القيم على "درء تعارض العقل والنقل"، طالب علم في الثانوية أو حتى بالجامعة يقرأ قول ابن القيم:
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي |
ما في الوجود له نظير ثانٍ |
ثم يذهب ليقرأ هذا الكتاب، لا يلبث مثل هذا أن ينصرف عن العلم جملةً؛ لأنه لن يفهم منه شيئًا، وفي الكتاب مئات الصفحات لا يدركها كثير من المتخصصين حتى في العقائد، ومر علينا في منهاج السُّنَّة في المجلد الأول قريب من مائتي صفحة هذه وجودها مثل عدمها بالنسبة لكثير من طلاب العلم، وأيضًا في السادس حوالي ثلاث مائة صفحة كذلك، فإذا سمعنا مدح هذه الكتب وتطاولنا عليها لاشك أننا سوف ننصرف عن هذه الكتب، بل ننصرف عن العلم جملة، وقل مثل هذا فيمن يسمع مدح الحافظ ابن كثير لعلل الدارقطني، ثم طالب مبتدئ يقرأ في علل الدارقطني، لاشك أنه سوف ينصرف عن العلم، أو يسمع من يحث على القراءة وجرد الكتب ويبدأ بكتب كبيرة معقدة، لذلك ينبغي أن يتدرج الطالب في التعليم وفي القراءة أيضًا، يعني طالب متجه إلى القراءة ومستواه من المتوسطين يريد أن يقرأ في شروح كتب السُّنَّة أو في التفاسير، ما يقال له: ابدأ بفتح الباري، وهو ينظر إلى الساعة في أول الأمر، راح ربع ساعة راح نصف ساعة، وهو بنصف صفحة، ثم ينظر مجموع صفحات الكتاب، ويقول: يفنى العمر وما انتهى. يقال له: اقرأ في شرح النووي على مسلم، اقرأ في شرح الكرماني على البخاري، هذه تيسر وتذلل وتسهل القراءة على الطالب؛ لأنه يتشجع، الكلام الذي فيها خفيف، ما فيها صعوبة، وطباعتها أيضًا جيدة، وإخراجها جميل، وفيها أيضًا من الطرائف والغرائب التي يستلذها طالب العلم وينساق وراءها بحيث يهوى القراءة، يعني شرح النووي على مسلم يمكن أن يقرأه طالب في ثلاثة أشهر، وقل مثل هذا بالنسبة لشرح الكرماني، ثم بعد ذلك يترقى إلى ما فوق هذه الشروح، لكن ما يُعطى الطالب في أول الأمر شيئًا يصرفه عن العلم، بل لابد أن يعطى ما يناسبه، ولذا تجدون العلماء يصنفون الطلاب على طبقات: مبتدئين ومتوسطين ومنتهين، في كل العلوم، وقد أُلف في هذا كتب، وتحدث عن هذا الموضوع بكثرة، فعلى سبيل المثال وهو في صميم ما نحن بصدده مؤلفات الموفق في الفقه: العمدة للمبتدئين، والمقنع للمتوسطين، والكافي، ثم المغني، ألف العمدة بأسلوب سهل، وبناه على الدليل، حيث يُصدِّر كل باب بدليله، ثم يبني عليه الأحكام، وهو كتاب سهل يناسب المبتدئين، يناسب المبتدئين وهو كتاب في غاية الأهمية، وشرح شروحًا كثيرة، ولأهميته شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم بعد ذلك الطبقة التي تليها ألف لهم الإمام الموفق "المقنع"، وجعله على روايتين، وأطلق فيهم فلم يرجح، وهذا الكتاب لقي قبولًا عند أهل العلم، يعني إذا نظرنا إلى الكتب التي لقيت القبول في المذهب وجدنا هذا هو الثاني، الأول: مختصر الخرقي، وبلغت شروحه فيما ذكر أهل العلم ما يقرب من ثلاث مائة شرح، وعلى رأسها "المغني" للإمام الموفق صاحب "المقنع"، ثم بعد ذلك لما ألف "المقنع" الموفق اشتغلوا به، وكثرت عليه الشروح، وأول شرح له شرح ابن أخيه عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة المقدسي وهو تلميذه، وجُل شرحه مأخوذ من المغني، ولذا من يقابل بين الكتابين لا يجد فرقًا إلا شيئًا يسيرًا، شرحه أيضًا ابن مفلح في "المبدع"، وشرحه علاء الدين المرداوي في "الإنصاف"، وله شروح كثيرة وحواشي، ومن أنفس هذه الحواشي: الحاشية التي وجدت بخط الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ثم نسبت إليه؛ لأنها لم تنسب في نسخته، وغلب على الظن أنها من جمعه. الإنصاف، عرفنا "المقنع" هو الأصل، و"الإنصاف" شرح له، وهذا جمع فيه الروايات، كل روايات المذهب، وأحاط بكتب المذهب إحاطة لا يوجد لها نظير حتى في المذاهب الأخرى، فجمع الروايات ثم رأى أن مثل هذا الجمع لا يحتاجه جميع المتعلمين، فنقحه بكتاب أسماه "التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع"، واعتمد فيه على أشهر الروايات أو أصحها من وجهة نظره، والأصل "المقنع"، و"التنقيح المشبع" فرع الفرع، يعني الشرح "الإنصاف" وهذا تنقيحه. هذان الكتابان جمع بينهما الشيخ الفقيه محمد بن أحمد الفتوحي المعروف بابن النجار المتوفى سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة، فجمع بينهما بكتاب سماه "منتهى الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيح وزيادات"، هذا الكتاب لما صُنف اشتغل به الناس، وانصرفوا عن غيره، والاشتغال والانصراف أمر نسبي يتفاوت ويختلف من بلدٍ إلى بلد، فحنابلة الشام لهم عناية بكتب، حنابلة العراق لهم عناية بكتب، الحنابلة في هذه البلاد لهم عناية بكتب، وقد ينتقل الكتاب من بلد إلى بلد، على سبيل المثال:
علماء هذه البلاد عنايتهم بالزاد، عنايتهم بالزاد وهمهم مصروف إليه، وفي الشام عنايتهم بالدليل "دليل الطالب" ثم بعد ذلك انتقلت العناية بالدليل إلى هذه البلاد، والسبب في هذا فيما يظهر: كتاب "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" يعني كانت العناية إلى عهد قريب بالزاد، لا تكاد تجد أحدًا يُدرّس دليل الطالب في المساجد، لكن لما خدم، شرحه الشيخ ابن ضويان إبراهيم، وهذا متأخر في منتصف القرن الماضي، ثم خُرّجت أحاديثه، واعتني به العلماء وطلاب العلم يهمهم الكتاب المخدوم، بحيث لا يشكل عليهم شيء، فإذا خدم من ناحية التحليل اللفظي بالشروح، وبالأدلة، وخدمت هذه الأدلة ببيان صحيحها من سقيمها تمت الخدمة، تمت الخدمة فانتقل الدليل، انتقلت العناية به إلى هذه البلاد بهذا السبب فيما يظهر.
قد يقول قائل: التفقه من كتب الفقه جيد على الطريقة التي ذكرت، لكن لماذا نعتني بالكتب المعقدة؟ "الدليل" أوضح من "الزاد"، "العمدة" أسهل من "الزاد"، و"الإقناع" أوضح من "المنتهى"، وأيضًا "منهج السالكين" أيضًا أسهل منهم، "الملخص الفقهي" أسهل، لماذا لا يعنى طلاب العلم بالكتب السهلة الميسرة التي يتلقونها، ويأخذون ما فيها، ويستفيدون منها من غير تعب ولا عناء؟
نقول: طالب العلم لابد أن يربى على أساليب العلماء، هذه الكتب السهلة الأسلوب بإمكان طالب العلم أن يقرأها وهو في بيته، ولا يُشكل عليه منها شيء، لكن يقرأ هذه الكتب مثل ما يقرأ الجرائد: إذا أنهى الكتاب وأطبقه نسي كل شيء، لكن الكتب الصعبة صعبة الأسلوب، والصعوبة والوعورة هذه ليست مقصودة لذاتها، ليس المقصود منها تعذيب طالب العلم، لكن طالب العلم إذا مرت عليه جملة فيها حكم من الأحكام، ولم يفهمه احتاج أن يرجع إلى الشرح، احتاج أن يرجع إلى الحاشية، احتاج أن يحضر درسًا، احتاج أن يسأل الشيوخ، فإذا توافرت هذه الأمور لفهم هذه العبارة نُقشت في ذهنه، ثم بعد ذلك إذا عرف هذا الكتاب الصعب في أسلوبه، فإنه لن يشكل عليه شيء، لن يشكل عليه شيء مما دونه. يعني شخص عانى زاد المستقنع، وحضر فيه الدروس وقرأ فيه الشروح، وسأل عما يشكل عليه، واستدل لمسائله، هل يشكل عليه شيء في دليل الطالب أو عمدة الفقه أو حتى في الكافي أو غيره من الكتب؟! فإذا هضم الطالب كتابًا صعبًا، وتربى عليه فإنه يسهل عليه ما دونه، والمفترض في طلاب العلم أنهم إذا تأهلوا يتفرقون في الأمصار؛ لنفع الناس، والوظائف الآن تجلي هذا العمل، وكان العلماء يتفرقون في الأمصار؛ لينفعوا بدون مقابل، يا ابن آدم علم مجانًا كما عُلمت مجانًا، لكن لا مانع من الأخذ من بيت المال بقدر الكفاية، وعلى هذا تتابع الناس، وتفرقوا في الأمصار من أجل هذه الأعمال، فإذا وجد طالب علم في بلد ما ليس فيه غيره، ولا يقول شخص: الآن وسائل الاتصال سهلة، الجوال موجود، والهاتف موجود، والفاكس موجود، وكل شيء موجود. هذا ليس بحل، أقول: إذا تفرد طالب علم في بلد لا يوجد فيه أحد من أهل العلم يحل له هذه الإشكالات، وقد تربى على كتاب متين يستطيع أن يستقل بنفسه، أما إذا تربى على كتب معاصرين كلٌّ يفهمها، أو على مذكرات كما يفعله بعض الأساتذة في الجامعات، فإن طالب العلم لن يستطيع أن يستفيد بنفسه من الكتب المؤلفة قديمًا، ولن يستطيع أن يفيد غيره من هذه الكتب، وليس من العبث أن يؤلَف مثل مختصر خليل، وهو كتاب أشبه بالألغاز، يعني يقرأه طالب العلم هذه ما عانى هذه الألفاظ من أهل هذه البلاد أو غيرها قد لا يفهم إلا الشيء اليسير جدًّا، كأنه أعجمي بالنسبة لكثير من طلاب العلم، وهدفهم من هذا ما ذكرنا: أن يعاني طالب العلم هذا الكتاب الصعب، فإذا أتمه انحل له كل شيء.
نعم الزيادة والإيغال في تصعيب العبارات وتعقيدها وتعجيز الناس، هذا لا شك أنه مرغوب عنه، إنما يكتفى من ذلك ما يتمرن به طالب العلم.
قد يقول قائل: لماذا لا ننسف هذه الكتب المعقدة كلها ولا نرجع إليها، ونجعلها أثرًا بعد عين، ونؤلف للناس ما يناسبهم؟
أُلف للناس ما يناسبهم، لكن مثل ما ذكرنا: هذا لا يربى عليه طالب علم، وهذه الكتب إنما ألفت لغير المتخصصين. يعني لو جاء طبيب يريد أن يطلع على الفقه، أو مهندس أو ما أشبه ذلك وليس عنده استطاعة أن يحضر الدروس، يقال له اقرأ في هذه الكتب، اقرأ في هذه الكتب تستفيد منها، لأنه ليس عنده من الوقت ما يعاني به حضور الدروس وقراءة الشروح والحواشي وسؤال أهل العلم، على أن الذي يعتمد على سؤال أهل العلم لاسيما في غير الدروس، يقول: أنا أريد أن أقرأ في بيتي وإذا أشكل علي شيء سألت. يعاني طلاب العلم بل عامة الناس من كيفية الوصول إلى أهل العلم مع هذه المشاغل الكثيرة التي أنيطت بهم، أنيط بأهل العلم أمور كثيرة جدًّا قد لا يتمكنون معها الإجابة عن كل سؤال، قد لا يتمكن كثير من الناس الوصول إليهم مع سهولة الاتصال، وإذا كان يوجد من يتصل ويقول: أنا لي مدة طويلة أبحث عن شيخ يفتيني فلم أجد، وهو في بلد العلم هنا، فكيف بغيره من البلدان؟! فعلى طالب العلم أن يسعى لتأهيل نفسه؛ ليكون فقيهًا ينفع الله به الأمة، يعبد الله على بصيرة، وينير الطريق لغيره مخلصًا في ذلك لله -جل وعلا-.
المنتهى لما أُلّف اشتغل الناس به وعكفوا عليه، ووجد أيضًا كتاب نظير له على الخلاف في المفاضلة بينهما وهو "الإقناع"، والإقناع أكثر مسائل، وهذا أمتن وأقعد كما يقول أهل العلم، هذان الكتابان مفيدان، ولذا جمع بينهما الشيخ مرعي في كتاب أسماه "غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى"، وهو كتاب جيد جمع فيه بين الكتابين، وهذا الكتاب الجامع لمسائل الكتابين هذا الكتاب شرحه مصطفى الرحيباني السيوطي في كتاب أسماه "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى"، وطريقته في هذا الشرح أن ينظر المسألة في الإقناع من مسائل الإقناع ويرجع إلى شرحه فيشرح من هذا الشرح، وينظر أيضًا في المسألة التي تفرد بها صاحب المنتهى فيشرحها من شرح المنتهى، وعلى هذه الطريقة مشى فهو جمع بين الكتابين والشرحين. المنتهى المقرر شرَحَه مؤلفه بشرح نفيس، وشرحه أيضًا الشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي شارح كتب المذهب، شرحه، وشرح "الإقناع"، وشرح "الروض"، وشرح "المفردات"، وشرح كثيرًا من كتب المذهب، وللشيخ أيضًا منصور حاشية على المنتهى غير الشرح، وللشيخ عثمان بن أحمد النجدي المعروف بابن قائد حاشية على المنتهى، فالكتاب نفيس ومهم ومتين يربى عليه طالب علم متوسط.
ونسعى بإذن الله -جل وعلا- جاهدين أن نصور مسائل الكتاب ونسهلها بحسب الطاقة، وأنا وإياكم كلنا من طبقات المتعلمين ما زلنا في طور التعلم وإن فقتكم سنًّا، نسعى في تصوير هذه المسائل، ونستدل لهذه المسائل، والأمر إليكم في البسط والاختصار، البسط له حظ من النظر؛ لأنه يجلي المسائل مع أدلتها، والنظر في أقوال الموافقين والمخالفين، إلا أنه يطول بنا ختم الكتاب، وأشوف كثيرًا من طلاب العلم يستروحون إلى ختم الكتب، ويميلون إليه على أي وجه كان، الاختصار الذي يصور المسألة مع دليلها والخلاف المشهور في المسألة دون إيغال بذكر الأدلة هذا يسرع في إكمال الكتاب، والبسط أفضل منه من جهة، وهذا يضمن إكمال الكتاب، الكتاب لا نتصور أنه من الكتب المختصرة الذي يمكن إنهاؤه في مدة وجيزة، على أن الدرس الأسبوعي لاشك أنه بالنسبة لمثل هذا الكتاب يحتاج إلى مدد متطاولة على الطريقة التي ذكرت لكم من التصوير الدقيق للمسائل والاستدلال وذكر الخلاف، هذا لاشك أنه يطول بنا الكتاب. والأمر إليكم، فإن أردتم الاختصار، مجرد تصوير المسائل والاقتصار على بعض الأدلة والإشارة إشارة خفيفة إلى بعض الخلاف، نمشيه؛ لأن معدل الدروس في السّنَّة ثلاثون درسًا، من خمسين أسبوعًا، ثلاثون درسًا.
طالب:........................
هذا أكثر هذا السقف ثلاثون درسًا، وإذا تصورنا أننا نأخذ صفحة واحدة في كل درس، تظنون أن هذا مثل الروض المربع نأخذ ثلاثين، عشرين صفحة، تأخذون من الشرح والحاشية أيضًا، الصفحة فيها سطران ثلاثة، لكن هذه الصفحة مليئة، فإذًا كم ينتهي، فكم يحتاج الكتاب إذا أخذنا في كل سنة ثلاثين صفحة؟! الجزء الأول كم صفحة؟ خمسمائة! نحتاج إلى عشرين سنة، على أن الدروس القادمة يكون العصر طويلًا إن شاء الله تعالى، فنستطيع أن نمشي.
طالب:............................................
الإشكال عدم القدرة على المتابعة، الرياض العاصمة التي فيها الكليات الشرعية، مثل مساجد المواقيت، يأتي الطالب ويدرس أربع سنوات ويمشي، ويحرم ويتوكل على الله. أربع سنوات فقط، فماذا يدرك الطالب في الأربع سنوات؟! وقد تكون البداية وهو في المستوى الثالث، قد تكون المستوى الخامس، قد تكون كذا، فماذا يدرك؟! ثم يأتي طلاب آخرون على أن هذه المسألة لا تنحل؛ لأن الذي في المستوى الأخير الآن ويتخرج ويعين نفس الإشكال عنده قائم، ولو قرأنا الكتاب قراءة، فالإشكال لن ينحل! لكن ما لا يدرك كله لا يترك جُله، فإن رأيتم أن نختصر ونقتصر على تصوير المسألة ودليلها وأشهر من خالف فيها ونمشي.
طالب:......................
أين؟
طالب:......................
هم عندهم المذهب، عند المتأخرين ما يتفق عليه الإقناع والمنتهى، الإقناع والمنتهى فإذا اتفق الإقناع والمنتهى على شيء صار هو المذهب عند المتأخرين، على أن شيخ الإسلام وهذه فائدة، وإن كان فيها شيء من القوة، الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة وإيانا ووالدينا وجميع المسلمين بغير حساب- يقول: أكثر أو ما يوجد في الإقناع والمنتهى أكثره مخالف لنصوص الإمام، ما يوجد في الإقناع والمنتهى أكثره مخالف لنصوص الإمام، وليس في هذا الكلام، وإن كان من إمام ما يقلل من شأن الكتابين، لماذا؟ لأننا اتفقنا أن الكتابين وإن كانت بنص الإمام، وإن كانت منقولة بنص الإمام بحروفه أنه لابد لنا من استدلال لمسائل هذا الكتاب، فعمدتنا الدليل أولًا وآخرًا، وإذا عرفنا أن الزاد على اختصاره فيه أكثر من ثلاثين مسألة خالف فيها المؤلف المذهب، فكيف بما خالف فيه الدليل! المقصود أننا اتفقنا أولًا أن هذه الكتب ليست دساتير، إنما هي برنامج وخطة بحث نسير عليها في تعليم الفقه، ولا نتردد في رد أي قول يخالف الدليل، لن نتردد في هذا إن شاء الله تعالى، فمن يريد الاختصار على الصورة التي شرحناها، ما هو باختصار قراءة فقط بتعليق يسير أو تصحيح عبارة أو تقويم لحن أو ما أشبه ذلك، لا، إنما تُصور المسألة باختصار، يفهم الطلب أصل المسألة، ويستدل لها، وأحيانًا لا يوجد دليل للمسألة، إنما هو تعليل؛ لأن كثيرًا من فروع المسائل يُعوز الدليل الذي ينص عليها بنفسها، إنما تلحق بنظيرها، تندرج تحت قاعدة؛ علتها ظاهرة، المقصود أننا نحرص على هذا، إن شاء الله تعالى.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عرفنا أن شرح المؤلف شرح نفيس، وشرح الشيخ منصور لا يُستغنى عنه، شرح المنتهى للشيخ منصور، وأما طبعات الكتاب وتحقيقاته فالكتاب طُبع أولاً بتحقيق الشيخ عبد الغني عبد الخالق على نفقة حاكم قطر ابن ثاني، وهي طبعة نفيسة، ثم طبع بعد ذلك طبعه الدكتور عبد الله التركي في جزأين صغيرين، ثم طبعه أيضًا مع حاشية عثمان بن قائد في خمسة مجلدات، وهي طبعة أيضًا طيبة ومعتنًى بها.
أما شروح المنتهى فذكرناها:
هناك مما ينبغي وتجدر الإشارة إليه: أن شرح المنتهى طُبع قديمًا سنة ألف وثلاثمائة وتسع عشرة على حاشية شرح الإقناع "كشاف القناع" طبعه واحد من التجار اسمه مقبل الذكير، ووقفه لله -جل وعلا- ووزعه على طلاب العلم، ويجمع شرح الإقناع وشرح المنتهى، فتلقاه العلماء؛ لأنه من أوائل ما طبع من كتب الحنابلة، تلقاه أهل العلم ودرسوه، وعولوا عليه، وكتبوا عليه الحواشي، بل من نسخ المشايخ ما كتب عليه من الحواشي ما لو جرد لبلغ مجلدين، سواء على شرح المنتهى أو على شرح الإقناع، والشيوخ الكبار كلهم لهم عناية بهذه الكتب وعلقوا عليها، ثم طبع شرح الإقناع وشرح المنتهى على نفقة شخص أيضًا من المحسنين اسمه، ابن سويل نسيت اسمه، اسمه عبد الله، الظاهر اسمه عبد الله، وانتشر الكتاب بهاتين الطبعتين طبعه الشيخ حامد الفقي في مطابع أنصار السُّنَّة طبعة جميلة وجيدة، ثم بعد ذلك تتابع طبع هذه الكتب.
العلوم وحدة مترابطة لا يمكن الفصل بينها، فالذي يريد أن يدرس الفقه بغض النظر عن كتاب الله -جل وعلا- وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- وعلوم الآلة، علوم اللغة وأصول الفقه، قواعد الفقه، علوم القرآن، علوم الحديث، هذا لا يفلح، ولا يدرك لا فقه ولا غير فقه؛ لأن هذه العلوم يكمل بعضها بعضًا، ويخدم بعضها بعضًا، تحتاج إلى فقه ترجع إلى كتب السُّنَّة، فتأخذ منها ما تعتمد عليه، فلابد أن يقترن طلب علم الفقه بطلب علم الحديث، هذا له دروسه، وهذا له دروسه، هذا له شيوخه، وهذا له شيوخه، وأيضًا ما يتعلق بالقرآن وعلومه والتفسير وغيرهما كذلك، وعلوم العربية لابد منها، شرحنا هذا مرارًا، على كل حال الشيخ فيصل بن مبارك له حاشية على الزاد أسماها: "كلمات السداد على متن الزاد" يقول: من حفظ الزاد والبلوغ وقد أوتي فهمًا، فهمًا صائبًا فقد استحق الفتيا والقضاء، والله المستعان. على كل حال هذا كلام الشيخ -رحمه الله-.
ذكرناها.
أفضل النسخ للمتن، وبماذا تنصح: يحضر المتن أم الشرح؟
لا، يحضر المتن. أما إحضار الشرح وملاحقة الكلمات في أثناء السطور، هذا فيه صعوبة، ويشتت الذهن أثناء الدرس، لكن قراءة الشرح قبل الحضور أمر مهم جدًّا.
إن شاء الله هذا النية، النية قائمة، وكم أسفنا وأسف الإخوان على عدم تسجيل الروض المربع، لاسيما قسم العبادات كله ما سُجِّل.
الكتاب فيه صعوبة، ونسعى أن نسهله وأن نذللـه للطلاب، إن شاء الله تعالى.
المبتدئ يبدأ بـ"قرة عيون الموحدين".
أما الحكم على الكتب بأن جميع ما فيها لا يصلح لزماننا هذا ليس بصحيح، الدين هو الدين ما تغير، لكن هناك نوازل لا يوجد لها حل في الكتب السابقة هذه النوازل تبحث، يبحثها أهل العلم، أما إلغاء الكتب لكونها ألفت في أزمان بعيدة، وأن فيها ما لا يصلح لزماننا أو ما لا يقع، يمكن فيها ما لا يقع، وكثير من المسائل التي يذكرها الفقهاء يفترضون وقوعها على بعد، ومنها ما يمرن عليه الطالب ولو استحال وقوعه، فيمرن عليها الطالب، على كل حال هذه الكتب تبقى هي العمدة في الدرس والتدريس، وأما النوازل التي جدت في زماننا فأمرها إلى أهل العلم يبحثونها.
تأخر أكثر من ذلك، الدرس تأخر أكثر من ذلك، وعادتنا ألا نبدأ بالدرس إلا بعد ربع ساعة من الصلاة مباشرة نبدأ بالدرس، وننهي الدرس قبل الوقت بثلث ساعة؛ لأن اليوم كما تعلمون يوم الاثنين، وقد يوجد في الإخوان من هو صائم يحتاج إلى أن ينصرف، ومنهم المؤذنون ومنهم الأئمة، فلابد من ملاحظتهم.
هذه مسألة كتب فيها وألف، وهناك أشرطة أيضًا سجلت في هذا المجال يرجع إليها.
هذه ذكرناها مرارًا وآخر ما ذكرنا في محاضرة قبل يومين في شمال الرياض كيفية حفظ الصحيحين وكيفية العناية بكتب السُّنَّة على طريقتي شرحناها.
حقيقة التنقيح هذا عندي من قديم لكن رجوعي إليه قليل اكتفاءً بالمنتهى، وطبع الكتاب محققًا في ثلاثة مجلدات، وذكر المنتهى على السُّنَّة أهل العلم أكثر بكثير من ذكر التوضيح، ولا مانع من مراجعته.
وما الذي توصي بالرجوع إليه في التحضير للدرس، وهل من كلمة في تذكير طلابكم بأهمية مراجعة العلم والصبر عليه؟
أما بالنسبة لما يرجع إليه في تحضير الدرس، فشروح المقنع مهمة في الدرس؛ لأن المقنع هو الأصل، فشروحه مهمة، والشروح التي ذكرناها ممتازة إن أمكن الرجوع إليها كلها، الشرح الكبير والمبدع، والإنصاف يمكن أن يُتجاوز. المبدع والشرح الكبير، وحاشية الشيخ سليمان المنسوبة إليه.
يعني بين عشرين وخمس وعشرين دقيقة بحيث يتمكن الإخوان من الوصول إلى أماكنهم قبل الأذان.
أولاً الذي يحضر الدرس وهو خالي الذهن تكون فائدته قليلة، وليس عنده أساس يبني عليه، فعلى طالب العلم أن يعنى بالتحضير قبل الحضور، هناك طريقة شرحناها مرارًا ورددناها تكرارًا ذكرها الشيخ عبد القادر بن بدران في كتابه "المدخل" لكيفية تحضير الدرس بأن يحفظ القدر المراد شرحه، ثم يشرح يشرحه الطالب نفسه ثم يقارن به الشرح من قبل أهل العلم، ثم يحضر الدرس ليتلقى ما عند الشيخ من زوائد، ثم بعد ذلك بعد الانصراف من الدرس يذاكر إخوانه وزملاءه، ومع الأسف أن مثل هذا يندر بين المتعلمين، ولو قيل: إن كثيرًا من طلاب العلم لا يقرؤون ولا المتن قبل الحضور، فضلاً عن مراجعة شروح وحواشٍ فما بَعُد، بل قد يوجد من طلاب العلم من يترك الكتاب في المسجد إلى الدرس الثاني، ومثل هذا قلّ أن يفلح. مثل هذا قلّ أن يفلح.
على كل حال الكتب سواء كانت صعبة أو سهلة، الحكم ليس للكتاب الأصلي، إنما الحكم لشارحه، فإن كانت لديه القدرة على تذليل مسائله، فهو يصلح للجميع. الآن زاد المستقنع، في السابق كان طالب العلم المتوسط يجد منه شدة، طالب العلم المبتدئ لا يمكن أن يتطاول لقراءته أو حضور دروسه، إلى أن شرحه الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى- فذللـه وسهله للطالبين.
على كل حال ننظر في الدرس القادم؛ لأن كثيرًا من المتعلمين يأتي في أول درس؛ لينظر الطريقة هل تناسبه، والكتاب يناسبه، وطريقة الشيخ وأسلوبه وبيانه، قد لا يناسب بعض المتعلمين، ثم بعد ذلك يبحث عن غيره، وبعض المبتدئين يحكم على الشيخ من أول درس، وسمعنا من يقدح في الكبار بسبب هذا، سمعنا من يقول: حضرنا درس الشيخ ابن باز وما استفدنا، حضرنا درس فلان ما استفدنا، حضرنا درس، يا أخي تريد علم الشيخ في يوم! من أراد علم شيخ وطريقة شيخ، ومنهج شيخ يلازم الشيخ.
على كل حال الأيام القادمة إذا كان العدد يستمر على هذا ننتقل، لابد من الانتقال.
هذا محكوم بمدة الطلب ومستوى التحصيل؛ لأن من المتعلمين من طالت به المدة في الطلب بحيث يحضر الدروس عشر سنين، عشرين سنة، ثلاثين سنة، ولا يزال مبتدئًا، ومنهم من يحضر السُّنَّة والسنتين ويتجه، فيدرك ما لا يدركه غيره، ومرد ذلك إلى الإخلاص والتقوى، وجودة الفهم وقوة الحفظ، وبيان السبيل للمتعلم بأن يكون أقرب للطريق؛ لأن بعض المتعلمين عنده فهم، وعنده حافظة، وعنده حرص وإقبال، وعنده أيضًا شيء من الإخلاص، ويعمل بما علم، ثم بعد ذلك يتخبط، يوم عند الشيخ الفلاني، ويوم عند فلان، ويوم يقرأ في كذا، ويوم يمل ويقرأ في كتاب كذا، ومثل هذا يطول به الأمر، فهذا الجواب عنه مثل هذا يختلف باختلاف المتعلمين في إدراكهم وفي ملازمتهم للشيوخ والدروس؛ لأن من المتعلمين من تتوافر فيه الشروط، لكن ما قرأ ولا حضر دروسًا ولا شيئًا هذا مبتدئ يستمر مبتدئًا، ولو توافرت فيه جميع الشروط، وإذا اختل شرط لا شك أن له أثرًا على التحصيل، ويمكن أن يستدرك شيئًا من المفاتيح الغريزية بالإخلاص وصدق اللجء إلى الله -جل وعلا- والعمل بالعلم، والحرص والدأب على تحصيله.
بعض الإخوان يطالب بأن تصنف الدروس كما كان العلماء يفعلونه في السابق، يجعل درسًا للمبتدئين، ودرسًا للمتوسطين، ودرسًا للمتقدمين، وهذا معمول به في السابق، تجد الشيخ يجلس للمبتدئين وقتًا، ويجلس للمتوسطين وقتًا، ويجلس للمنتهين وقتًا، لكن في مثل ظروفنا التي نعيشها، وفي البلد في الرياض أكثر من خمسمائة درس، في الأسبوع، كيف يتم التنسيق بين هذه الدروس وبين الطلاب؟ والطلاب أنفسهم لا يمكن تصنيفهم، لماذا؟ لأن طالب علم مثلاً في المراحل النهائية أو في المراحل العليا في الجامعة، في الدراسات العليا مثلًا، وهو ما له يد بالعلم الشرعي همه هذه المناهج، ما حفظ متنًا، ولا حضر درسًا، ولا يعرف كيف يتعامل، إنما قرأ في مذكرات ومشى أمره وانتهى من الدراسة الجامعية، الدراسة الجامعية لا تخرج علماء، إنما تخرج طالب علم يعرف كيف يتعامل مع الكتب إذا كان على الجادة بعد، ومُرِّن على الكتب الأصلية، أما إذا مرن على مذكرات، وأمور مطالبة الأساتذة: خفف عنا احذف عنا، ووصل إلى المراحل العليا. هذا يصنف مبتدئًا أو منتهيًا إذًا! أين هو؟ تقول له: تعال اجلس مع المبتدئين! ما يمكن. وطالب علم صغير على الجادة، وتمرن على أيدي العلماء وعكف وجثا بين أيديهم، وتقول له: لا أنت توجه ولا مبتدئين؟! ما يصلح. فكل إنسان له قدره، والتصنيف، أي إضافة إلى طالب العلم الكبير في السن الذي يأنف أن يجلس مع الصغار، إذا قلت له: اجلس مع الصغار ذهب لشيخ ثانٍ، هو الذي يتخير؛ لأن فيه دروسًا متعددة وشيوخًا كثرًا، ولكل شيخ ما يميزه عن غيره، فمثل هذا يجعل هذا التصنيف صعبًا، في السابق الشيخ واحد في البلد، هو القاضي وهو المفتي وهو الإمام وهو الخطيب وهو المعلم وهو كل شيء، إذا جلس طالب واختبره، قال: لا يا أخي احضر الظهر ما يصلح لك هذا الدرس، وكان أيضًا في المتعلمين قلة أيضًا يمكن معرفتهم واختبارهم وتصنيفهم، أما الآن ولله الحمد، وهذه ظاهرة طيبة، كثر الشيوخ، وكثر الطلاب، وأقبل الناس على العلم من أبوابه، وأخذوه عن أهله، فمثل هذا يصعب تصنيف الطلاب، لكن الطلاب أنفسهم إذا وجد أنه حضر هذا الدرس درسًا أو درسين أو ثلاثة، ووجد أنه ما استفاد، وجد أن الشيخ عبارته فيها صعوبة لا يستطيع فهمها، أو أن الشيخ لا يحسن التعامل مع المبتدئين، المبتدئون لهم شيوخهم، العوام لهم شيوخهم أيضًا، الكبار لهم شيوخهم، فإذا وجد مثل هذا، لاشك أنه في النهاية ينصرف، والبداية بمقدمة الكتاب من الدرس إن شاء الله تعالى.