التعليق على تفسير القرطبي - سورة طه (07)

 

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: {كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ  وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا} [سورة طه: 99].

 قوله تعالى: {كَذَٰلِكَ} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي كما قصصنا عليك خبر موسى كذلك نقص عليك قصصًا كذلك من أخبار ما قد سبق؛ ليكون تسليةً لك، وليدل على صدقك. {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا} يعني القرآن، وسُمي القرآن ذكرًا لما فيه من الذكر، كما سمي الرسول ذكرًا؛ لأنّ الذكر كان ينزل عليه، وقيل: {آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا} أي شرفًا كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ} [سورة الزخرف: 44] أي شرفٌ وتنويهٌ باسمك.

ولقومك، يعني شرفٌ لك ولقومك.

قوله تعالى: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} [سورة طه: 100] أي القرآن، فلم يؤمن به ولم يُعمل بما فيه، {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} أي إثمًا عظيمًا وحملًا ثقيلًا، {خَالِدِينَ فِيهِ} [سورة طه: 101] يريد مقيمون فيه، أي في جزائه وجزاؤه جهنم، {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} يريد بئس الحمل حملوه يوم القيامة، وقرأ داود بن رفيع: فإنَّه يُحمَّل.

قوله تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} [سورة طه: 102] قراءة العامة: {يُنفَخُ} بضم الياء على الفعل المجهول. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق بنون مسمى الفاعل.

ننفخ.

واستدل أبو عمرو بقوله تعالى: { وَنَحْشُرُ } بنون.

يعني تكون على نسقٍ واحدٍ، ننفخ ونحشر.

وعن ابن هرمز: {يَنفُخُ} بفتح الياء أي ينفخ إسرافيل. وقال أبو عياض: {فِي الصُّورِ}.

في الصُّوَر.

{في الصُّوَر}.  والباقون: {فِي الصُّوْرِ}، وقد تقدم هذا في الأنعام مستوفى وفي كتاب ((التذكرة)).

 وقرأ طلحة بن مصرف: { ويُحشر} بضم الياء {المجرمون} رفعًا بخلاف المصحف. والباقون { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ } أي المشركين {يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} حال من المجرمين، والزرق خلاف الكحل. والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه؛ أي تشوه خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم. وقال الكلبي والفراء: { زُرْقًا} أي عميًا. وقال الأزهري: عطاشًا قد أزرقت أعينهم من شدة العطش، وقاله الزجاج؛ قال: لأنّ سواد العين يتغير ويزرق من العطش، وقيل: إنه الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة.

يقول الشاعر:

وللبخيل على أمواله عللٌ

 

زرق العيون لها أوجه سودٌ

نسأل الله العافية، زرقة العين هذه مذمومةٌ عند العرب، والذين يعرفون بالوجه وغيره علمٌ باطلٌ، لكن هم يتشاءمون من مثل هذا، مثل هذا يتشاءمون به.

وللبخيل على أمواله علل

 

زرق العيون لها أوجه سودٌ

أعوذ بالله، مما يُذكر في هذا الإمام الشافعي لما ذهب إلى اليمن، علمٌ باطلٌ قراءة الوجه وقراءة الكف علمٌ باطل هذا، لكن ما يذكرون عن الإمام الشافعي أنه لما ذهب إلى اليمن وقفل منه راجعًا نزل على شخصٍ فيه جميع الأوصاف المذمومة التي تدل على جميع الأخلاق الذميمة، فلما نزل به أكرمه، أكرم الإمام الشافعي بإكرامٍ لا مزيد عليه ولا يعرفه، فالشافعي تعجب من كون هذا الشخص منطويًا على جميع هذه الأخلاق الطيبة مع أنّ ظاهره مما يستدل به على اشتماله على أخلاقٍ سيئةٍ وقبيحة، لما أراد الإمام الشافعي أن ينصرف قال له: أنا جئت من اليمن وأريد مكة، فإذا جئت إلى مكة فأنا أسكن في الحي الفلاني، لعلنا نراك أن نقيمك أو كذا، قال: وهل أنا عبدٌ لأبيك أو لأمك؟! أنا أكرمتك لكرم وجهك، وما أكرمتك من باب كذا، ادفع كذا وادفع كذا.

هذه من القصص التي تُذكر في هذا الباب، والعلم من أصله باطلٌ، ما يُسمى بقراءة الوجه وقراءة الكف وما أشبه ذلك، فيه كتبٌ مؤلفة يستدلون بالعين على كذا، أو بالجبهة على كذا، أو بالأنف على كذا، وبالفم على كذا، وهكذا. فهو علمٌ لا أصل له.

يقال: ابيضت عيني؛ لطول انتظاري لكذا.

وقولٌ خامس: إنّ المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف؛ قال الشاعر:

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر

 

كما كل ضبيّ من اللؤم أزرق

يقال: رَجُلٌ أَزْرَقُ الْعَيْنِ، وَالْمَرْأَةُ زَرْقَاءُ بَيِّنَةُ الزَّرَقِ. وَالِاسْمُ الزُّرْقَةُ. وَقَدْ زَرِقَتْ عَيْنُهُ بِالْكَسْرِ وَازْرَقَّتْ عَيْنُهُ ازْرِقَاقًا، وَازْرَاقَّتْ عَيْنُهُ ازْرِيقَاقًا. وقال سعيد بن جبير: قيل لابن عباس في قوله: { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}، وقال في موضعٍ آخر: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَا لْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [ سورة الإسراء: 97 ] فقال: إنّ ليوم القيامة حالات؛ فحالة يكونون فيه زرقًا، وحالة عميًا. 

{ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} [سورة طه: 103] أصل الخفت في اللغة السكون.

حالات ومقامات، يحشرون على هذه الحال ويحشرون على هذه الحال، ويسألون، وفي مجال لا يسألون.

أصل الخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض صوته: خفته. يتسارون، قاله مجاهد.

والمعنى: يتسارون خفتة، والمعنى يتسارون.

أي يقولون بعضهم لبعض في الموقف سرًا. {إِن لَّبِثْتُمْ} أي ما لبثتم يعني في الدنيا، وقيل في القبور {إِلَّا عَشْرًا} يريد عشر ليال. وقيل: أراد ما بين النفختين وهو أربعون سنة، يرفع العذاب في تلك المدة عن الكفار -في قول ابن عباس- فيستقصرون تلك المدة.

نعم؛ لأنّ زمان الرخاء قصيرٌ وإن طال، ويقسو زمن الشدة. يقول:

أعوام إقباله كاليوم في قصرٍ

 

ويوم إدباره في الطول كالحجج

فيستقصرون تلك المدة. أو مدة مقامهم في الدنيا؛ لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة؛ ويخيل إلى أمثلهم -أي أعدلهم- قولًا وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه أنهم ما لبثوا إلا يومًا واحدًا يعني لبثهم في الدنيا، عن قتادة؛ فالتقدير: إلا مثل يومٍ. وقيل: إنهم من شدة هول المطلع نسوا ما كانوا فيه من نعيم الدنيا حتى رأوه كيومٍ. وقيل: أراد بيوم لبثهم ما بين النفختين، أو لبثهم في القبور على ما تقدم. و{ عَشْرًا} و{يَوْمًا } منصوبان بـ {لَّبِثْتُمْ}.

قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [سورة طه:105]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أي عن حال الجبال يوم القيامة. {فَقُلْ} جاء هذا بفاء، وكل سؤال في القرآن { قل } بغير فاء إلا هذا؛ لأنّ المعنى إن سألوك عن الجبال فقل.

لأنّ هذا سؤالٌ متوقعٌ من المستقبل، وتلك أسئلةٌ مضت، جاءت هذه الفاء التي تسمونها التفريعية أو الفصيحة عند بعضهم، وهي في جواب شرطٍ مقدم: إن سألوك فقل، وأما الأسئلة الأخرى فقد وقعت في الفعل.

لأنّ المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال، وتلك أسئلةٌ تقدمت سألوا عنها النّبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء الجواب عقب السؤال؛ فلذلك كان بغير فاء، وهذا السؤال لم يسألوه عنه بعد، فتفهمه. {يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} يطيرها. { نَسْفًا } قال ابن الأعرابي وغيره: يقلعها قلعًا من أصولها ثم يصيرها رملًا يسيل سيلًا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، قال: ولا يكون العهن من الصوف إلا المصبوغ، ثم كالهباء المنثور.

 {فَيَذَرُهَا} أي يذر مواضعها {قَاعًا صَفْصَفًا} [ سورة طه:106]  القاع الأرض الملساء بلا نباتٍ ولا بناءٍ، قاله ابن الأعرابي. وقال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض، والجمع أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياءً؛ لكسر ما قبلها. وقال الفراء: القاع مستنقع الماء، والصفصف القرعاء.

القرعاء التي لا نبات فيها ولا بناء، يعني شُبهت برأس الأقرع الخالي من الشعر.

قال الكلبي: هو الذي لا نبات فيه. وقيل: المستوي من الأرض كأنه على صفٍ واحدٍ في استوائه، قَالَه مجاهد. والمعنى واحدٌ في القاع والصفصف، فالقاع الموضع المنكشف، والصفصف المستوي الأملس. وأنشد سيبويه:

وكم دون بينك من صفصفٍ

 

ودكداك رمل وأعقادها

و{قَاعًا}  نصب على الحال والصفصف. و{لَّا تَرَىٰ} في موضع الصفة. {فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [ سورة طه:107] قال ابن الأعرابي: العوج التعوج في الفجاج. والأمت النبك. وقال أبو عمرو: الأمت النباك وهي التلال الصغار واحدها نبك؛ أي هي أرضٌ مستويةٌ لا انخفاض فيها ولا ارتفاع. تقول: امتلأ فما به أمت، وملأت القربة ملئًا لا أمت فيه؛ أي لا استرخاء فيه. والأمت في اللغة: المكان المرتفع.

يعني ليس فيها انثناء ولا اعوجاج؛ لأنها إذا امتلأت استقامت.

وقال ابن عباس: {عِوَجًا} ميلًا. قال: والأمت: الأثر مثل الشراك. وعنه أيضًا {عِوَجًا} واديًا، {وَلَا أَمْتًا} رابية. وعنه أيضًا: العوج الانخفاض، والأمت الارتفاع. وقال قتادة: {عِوَجًا} صدعًا، {وَلَا أَمْتًا} أي أكمة. وقال يمان: الأمت الشقوق في الأرض. وقيل: الأمت أن يغلظ مكان في الفضاء أو الجبل ويدق في مكان، حكاه الصولي.

قلت: وهذه الآية تدخل في باب الرقي؛ ترقى بها الثآليل وهي التي تسمى عندنا بالبراريق، واحدها بروقة؛ تطلع في الجسد وخاصةً في اليد: تأخذ ثلاثة أعواد من تبن الشعير، يكون في طرف كل عودٍ عقدة، تُمر كل عقدةٍ على الثآليل، وتُقرأ الآية مرة، ثم تُدفن الأعواد في مكان ندي؛ تعفن وتعفن الثآليل.

تكررت تعفن وتعفن لأنها تعفن هذه الأعواد وتعفن الثآليل فلا يبقى لها أثر.

ثم تُدفن الأعواد في مكانٍ ندي؛ تعفن وتعفن على الثآليل، فلا يبقى لها أثر؛ جربت ذلك نفسي وفي غيري فوجدته نافعًا، إن شاء الله تعالى.

هذا الكلام مناسبة الآية لهذه الثآليل كون الأرض ليس فيها عوج ولا أمت ولا فيها جبال وقاع صفصفا وهذه الثآليل فيها شبهٌ من الجبال لنتوئها والوهاج والأكم، المقصود أنّ هذا الشبه ظاهرٌ، لكن الآية استعمالها بهذه الطريقة يعني لكون القرآن شفاءً، يعني لا شك أنه شفاء على خلاف من {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الإسراء: 82] هل هي تبعيضية، أو هي لبيان الجنس، فيكون القرآن كله شفاءً؟ لكن على الطريقة المستعملة الطريقة الشرعية، لا بهذه الطريقة التي تؤخذ أعواد وتدفن، هذا كله لا أصل له.

 على أنّ تخصيص آية أو آيات لنوعٍ من أنواع المرض مما لم يخصصه الشرع، نعم فعله ابن القيم وغيره خصصوا آيات لبعض الأمراض تكتب آية كذا لكذا وتنفث آية كذا على مريضٍ بكذا، خصصوا وجربوا، هذا إذا اطرد في التجربة فلا بأس، لكن يبقى أنه على الطريقة المعروفة شرعًا التي ورد فيها النصوص، يعني تُقرأ الآيات ويُنفث على المريض، أو يُنفث في ماءٍ، أو يُكتب على المريض، المقصود أنه ليست بالطريقة التي شرحها المؤلف: تؤخذ أعواد وتدفن، إشكال أنه لو تعلق بهذه الأعواد وتعلق بهذا الدفن خطأ، هذا خطأ على التوحيد وإن وجد مع هذه الأعواد ما وجد من القرآن، القرآن بذاته الشفاء ولا يحتاج إلى أعوادٍ ولا إلى غيرها.

 وكان الناس إلى عصرٍ قريب إذا وجع أحدهم في عينه وانتفخت العين جاؤوا بعودٍ من التبن ووضعوه عليها، ويزعمون أنّ له أثرًا، وإن كان بعضهم يرى أنهم لا لأنّ له أثرًا، يأتون بعودٍ من التبن ويضعونه على العين هكذا بعضهم يرى أنه يؤثر؛ وهذا لا شك أنه فيه شركٌ، وبعضهم يقول: أنه من أجل ألا يمس العين؛ لئلا يسقط العود، والعين إذا انتفخت فيطمس باليد؛ لئلا يعني كثرة الإمساس باليد التي زاولت الأعمال، ويحتمل فيها جراثيم وشيءٌ من هذا تزداد، وإذا تُركت ذهب ألمها من هذه الحيثية، لكن يبقى أنّ مثل هذه الأمور والتعلق بها، التعلق بمثل هذه الأمور خطرٌ على التوحيد، فلا يُلتفت إليها، ويكون التعلق بالله -جلَّ وعلا- بالأسباب الشرعية وبالأسباب العادية التي اطردت ووجد نفعها.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} يُرِيدُ إِسْرَافِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذَا نَفَخَ فِي الصُّورِ. {لَا عِوَجَ لَهُ} أَيْ لَا مَعْدِلَ لَهُمْ عَنْهُ؛ أَيْ عَنْ دُعَائِهِ لَا يَزِيغُونَ وَلَا يَنْحَرِفُونَ بَلْ يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَحِيدُونَ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: { لَا عِوَجَ لَهُ} أَيْ لِدُعَائِهِ. وَقِيلَ: يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ اتِّبَاعًا لَا عِوَجَ لَهُ؛ فَالْمَصْدَرُ مُضْمَرٌ، وَالْمَعْنَى: يَتَّبِعُونَ صَوْتَ الدَّاعِي لِلْمَحْشَرِ، نَظِيرُهُ: { وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سورة ق: 41] الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي. { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ} أَيْ ذَلَّتْ وَسَكَنَتْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ، فَكُلُّ لِسَانٍ سَاكِتٍ هُنَاكَ لِلْهَيْبَةِ.

هذا كنايةٌ عن الأثر الذي أصاب الناس، تأثروا.

{لِلرَّحْمَنِ} أَيْ مِنْ أَجْلِهِ. { فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [سورة طه: 108] الْهَمْسُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وعَنِ ابْنِ عَبَّاس: الْحِسُّ الْخَفِيُّ. وعن الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ:  هُوَ صَوْتُ وَقْعِ الْأَقْدَامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إِلَى الْمَحْشَرِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

وهنّ يمشين بنا هميسًا

 

......................................

يَعْنِي صَوْتَ أَخْفَافِ الْإِبِلِ فِي سَيْرِهَا. وَيُقَالُ لِلْأَسَدِ: الْهَمُوسُ؛ لِأَنَّهُ يَهْمِسُ فِي الظُّلْمَةِ؛ أَيْ يَطَأُ وَطْئًا خَفِيًّا.

شطر البيت الثاني كلامٌ قبيحٌ لا يقال في مثل هذا، وإن ذكره المفسرون، ذكره ابن كثير وغيره في تفسير البقرة، تفسير الرفث جاؤوا به على لسان ابن عباس ولا يليق به؛ لأنّ فيه شيئًا من التعلق بالطيور وغير أن تصدق الطير، وفيه أيضًا الفحش في القول، وهو عين الرافدين، اختلفوا في المراد به، ومن يقول: إنّ الرفث مواجهة النساء بالكلام القبيح ما يدخل فيه مثل هذا، والذي يطلق الرفث في كل كلامٍ قبيح يدخل فيه كقولٍ أولي.

قَالَ رُؤْبَةُ يَصِف ُنَفْسَهُ بِالشِّدَّة:

ليت يدق الأسد الهموسا

 

والأقهبين الفيل والجاموسا

وَهَمَسَ الطَّعَامَ؛ أَيْ مَضَغَه وَفُوهٌ مُنْضَمٌّ.

كما يفعل الشيخ الكبير أو العجوز الكبير الذي لا أسنان له، يفعل مثل هذا يهمس الطعام همسًا، يغلق الفم ويلوك الطعام بفمه.

وَهَمَسَ الطَّعَامَ؛ أَيْ مَضَغَه وَفُوهٌ مُنْضَمٌّ؛ قَالَ الرَّاجِزُ: 

لقد رأيت عجبًا مذ أمسا

 

عجائزًا مثل السعالي خمسا

يأكلن ما أصنع همسًا همسًا

 



وَقِيلَ: الْهَمْسُ تَحْرِيكُ الشَّفَةِ وَاللِّسَانِ.

يَأْكُلْنَ مَا أَصْنَعُ هَمْسًا هَمْسًا يعني من دون صوتٍ، ما فيه أسنان ولا فيه شيء؛ فلا يكون فيه ما يقتضي الصوت.

وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: { فَلَا يَنْطِقُونَ إِلَّا هَمْسًا }. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ؛ أَيْ لَا يُسْمَعُ لَهُمْ نُطْقٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا صَوْتُ أَقْدَامٍ. وَبِنَاءُ همس أَصْلُهُ الْخَفَاءُ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ؛ وَمِنْهُ الْحُرُوفُ الْمَهْمُوسَةُ، وَهِيَ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ: حَثَّهُ شَخْصٌ فَسَكَتَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْحَرْفُ مَهْمُوسًا؛ لِأَنَّهُ ضَعُفَ الِاعْتِمَادُ مِنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى جَرَى مَعَهُ النَّفَسُ.

تعليلٌ واضحٌ بيّنٌ هكذا؟ هم يعللون بهذا التجويد.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَوَّلِ؛ أَيْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ أَحَدًا إِلَّا شَفَاعَةُ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ. {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [سورة طه: 109] أَيْ رَضِيَ قَوْلَهُ فِي الشَّفَاعَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى، أَيْ إِنَّمَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي أَنْ يشْفَعَ لَهُ، وَكَانَ لَهُ قَوْلٌ يُرْضَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أَيْ مِنْ أَمْرِ السَّاعَة. {  وَمَا خَلْفَهُمْ} مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا قَالَهُ قَتَادَةُ.  وَقِيلَ: يَعْلَمُ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ {  وَمَا خَلْفَهُمْ}  مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ قِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ. وَالْحَمْدُ لِلَّه. 

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [سورة طه: 110] الْهَاءُ فِي بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ أَيُّ أَحَدٍ لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا؛ إِذِ الْإِحَاطَةُ مُشْعِرَةٌ بِالْحَدِّ، وَيَتَعَالَى اللَّهُ عَنِ التَّحْدِيدِ. وَقِيلَ: تَعُودُ عَلَى الْعِلْمِ؛ أَيُّ أَحَدٍ لَا يُحِيطُ عِلْمًا بِمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ الضَّمِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ وَخَلْفَهُمْ وَيُحِيطُونَ يَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ؛ أَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَعْبُدُهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهَا وَمَا خَلْفَهَا.

إذا كان هذا في المقربين، فكيف بمن دونهم؟! أما الإحاطة بعلم الله - جلّ وعلا - فلا يمكن، مستحيلة بالنسبة للمخلوق، كيف وقد قال الله - جلَّ وعلا –: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة الإسراء:85] في حديث موسى مع الخضر لما نقر الغراب من البحر بمنقاره، نقر العصفور، من البحر بمنقاره قال: وما علمي وما علمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من البحر.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} أَيْ ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: عَانٍ.

وجاء الأمر، الحث على فك العاني وهو أسير، والمرأة عانية وجمعها عوانٍ، وهنّ أسيراتٌ عند الرجال؛ ولذا جاءت الوصية بهنّ.

قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:

مليكٌ على عرش السماء مهيمنٌ

 

لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وَقَالَ أَيْضًا: 

وعنا له وجهي وخلقي كله

 

في الساجدين لوجهه مشكورًا

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: عَنَا يَعْنُو خَضَعَ وَذَلَّ وَأَعْنَاهُ غَيْرُهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}.  وَيُقَالُ أَيْضًا: عَنَا فِيهِمْ فُلَانٌ أَسِيرًا؛ أَيْ أقَامَ فِيهِمْ عَلَى إِسَارِهِ وَاحْتبسَ. وَعَنَّاهُ غَيْرُهُ تَعْنِيَةً حَبَسَهُ. وَالْعَانِي الْأَسِيرُ. وَقَوْمٌ عُنَاةٌ وَنِسْوَةٌ عَوَانٍ. وَعَنَتْ به أُمُورٌ نَزَلَتْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: عَنَتْ ذَلَّتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَشَعَتْ. وقال الْمَاوَرْدِيُّ:  وَالْفَرْقُ بَيْنَ الذُّلِّ وَالْخُشُوعِ  وَإِنْ تَقَارَبَ مَعْنَاهُمَا - أَنَّ الذُّلَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلَ النَّفْسِ، وَالْخُشُوعَ أَنْ يَتَذَلَّلَ لِذِي طَاعَةٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وعَنَتْ أَيْ عَلِمَتْ. وقال عَطِيَّةُ الْعَوْفِيّ:  اسْتَسْلَمَتْ.

عنت أي عملت

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وعَنَتْ أَيْ عَمِلَتْ. وقال عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: اسْتَسْلَمَتْ. وَقَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: إِنَّهُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ عَلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ.

وفيه الذل، وفيه الخشوع، وفيه الخضوع، والسجود فردٌ من أفراده، السجود فردٌ من أفراده.

وقال النَّحَّاسُ: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا فِي الْآخِرَةِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} قَالَ: الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؛ وَمَعْنَى عَنَتْ فِي اللُّغَةِ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ؛ وَمِنْهُ فُتِحَتِ الْبِلَادُ عَنْوَةً أَيْ غَلَبَةً؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

فما أخذوها عنوةً عن مودةٍ

 

ولكن بضرب المشرفي استقالها

وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْعَنَاءِ بِمَعْنَى التَّعَبِ؛ وَكَنَّى عَنِ النَّاسِ بِالْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ آثَارَ الذُّلِّ إِنَّمَا تَتَبَيَّنُ فِي الْوَجْه. { لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} وَفِي الْقَيُّومِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ؛ أَحَدُها: أَنَّهُ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ. والثَّانِي: أَنَّهُ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.  والثَّالِثُ: أَنَّهُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَبِيدُ. وَقَدْ مَضَى فِي ( الْبَقَرَةِ ) هَذَا{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [سورة طه: 111] أَيْ خَسِرَ مَنْ حَمَلَ شِرْكًا.

{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ سورة لقمان: 13]

{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } [ سورة الأنعام: 82] يعني بشركٍ، فمن حمل الشرك خاب وخسر، كما أنّ من حمل أي نوعٍ من أنواع الشرك خسر، الخسارة والخيبة متفاوتة فليست خيبة من ظلم نفسه أو ظلم غيره ظلمًا يسيرًا كمن أشرك بالله تعالى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ إِيمَانٍ. ومَنْ فِي قَوْلِهِ: { مِنَ الصَّالِحَاتِ} لِلتَّبْعِيضِ؛ أَيْ شَيْئًا مِنَ الصَّالِحَاتِ. وَقِيلَ لِلْجِنْسِ.

تكون لبيان الجنس، اجتنبوا الرجس من الأوثان بيانية، وهنا { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} من يعمل الصالحات، فيكون للجنس جنس عمل الصالحات، وإذا قلنا: تبعيضية رتب الثواب على بعضها دون سائرها، على أنه إن كان في ترك سائرها ما يأثم به لا يدخل فيها.

فَلَا يَخَافُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ{ يَخَفْ} بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: { وَمَنْ يَعْمَلْ}، والْبَاقُونَ ( يَخَافُ ) رَفْعًا عَلَى الْخَبَرِ؛ أَيْ فَهُوَ لَا يَخَافُ؛ أَوْ فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ. {ظُلْمًا} أَيْ نَقْصًا لِثَوَابِ طَاعَتِهِ، وَلَا زِيَادَةً عَلَيْهِ فِي سَيِّئَاتِه. { وَلَا هَضْمًا} بِالِانْتِقَاصِ مِنْ حَقِّهِ. وَالْهَضْمُ النَّقْصُ وَالْكَسْرُ؛ يُقَالُ: هَضَمْتُ ذَلِكَ مِنْ حَقِّي أَيْ حَطَطْتُهُ وَتَرَكْتُهُ. وَهَذَا يَهْضِمُ الطَّعَامَ أَيْ يُنْقِصُ ثِقَلَهُ. وَامْرَأَةٌ هَضِيمُ الْكَشْحِ ضَامِرَةُ الْبَطْن. قال الْمَاوَرْدِيُّ:  وَالْفَرْقُ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالْهَضْمِ أَنَّ الظُّلْمَ الْمَنْع مِنَ الْحَقِّ كُلِّهِ، وَالْهَضْمُ الْمَنْعُ مِنْ بَعْضِهِ، وَالْهَضْمُ ظُلْمٌ وَإِنِ افْتَرَقَا مِنْ وَجْهٍ؛ قَالَ الْمُتَوَكِّلُ اللَّيْثِيُّ:

إنّ الأذلة واللئام لمعشرٌ

 

مولاهم المتهضم المظلوم

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:  وَرَجُلٌ هَضِيمٌ وَمُهْتَضَمٌ أَيْ مَظْلُومٌ. وَتَهَضَّمَهُ أَيْ ظَلَمَهُ، وَاهْتَضَمَهُ إِذَا ظَلَمَهُ وَكَسَرَ عَلَيْهِ حَقَّهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ} أَيْ كَمَا بَيَّنَّا لَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْبَيَانِ فَكَذَلِكَ جَعَلْنَاهُ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَيْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ. { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} أَيْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَيْ يَخَافُونَ اللَّهَ فَيَجْتَنِبُونَ مَعَاصِيَهِ، وَيَحْذَرُونَ عِقَابَهُ { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أَيْ مَوْعِظَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَذَرًا وَوَرَعًا. وَقِيلَ: شَرَفًا؛ فَالذِّكْرُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الشَّرَفِ؛ كَقَوْلِهِ:  { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. 

مثل ما تقدم قريبًا، على ما تقدم آنفًا.

وَقِيلَ: أَيْ لِيَتَذَكَّرُوا الْعَذَابَ الَّذِي تُوُعِّدُوا بِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ{ أَوْ نُحْدِثُ} بِالنُّونِ؛ وَرُوِيَ عَنْهُ رَفْعُ الثَّاءِ وَجَزْمُهَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} لَمَّا عَرَفَ الْعِبَادُ عَظِيمَ نِعَمِهِ، وَإِنْزَالَ الْقُرْآنِ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالْأَنْدَادِ فَقَال: { فَتَعَالَى اللَّهُ} أَيْ جَلَّ اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ؛ أَيْ ذُو الْحَقّ. { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} عَلَّمَ نَبِيَّهُ كَيْفَ يَتَلَقَّى الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُبَادِرُ جِبْرِيلَ فَيَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ جِبْرِيلُ مِنَ الْوَحْيِ حِرْصًا عَلَى الْحِفْظِ، وَشَفَقَةً عَلَى الْقُرْآنِ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآن}ِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [سورة القيامة:16] عَلَى مَا يَأْتِي. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا تَتْلُهُ قَبْلَ أَنْ تَتَبَيَّنَهُ.

النّبي -عليه الصلاة والسلام- كان يعالج من التنزيل شدة كما في الحديث الصحيح، وكان مما يعالجه من هذه الشدة أنه يبادر جبريل بما يقول قبل أن يفرغ من قراءة القرآن عليه، فضُمن له الحفظ، ونُهي عن المعالجة هذه، {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [سورة القيامة:17،16]

وَقِيلَ: {وَلَا تَعْجَلْ}ِ أَيْ لَا تَسَلْ إِنْزَالَهُ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى} أَيْ يَأْتِيَكَ وَحْيُهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُلْقِهِ إِلَى النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ بَيَانُ تَأْوِيلِهِ. وقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ لَطَمَ وَجْهَ امْرَأَتِهِ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَطْلُبُ الْقِصَاصَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا الْقِصَاصَ فَنَزَلَ {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [ سورة النساء: 34] وَلِهَذَا قَالَ: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [سورة طه:114] أَيْ فَهْمًا؛ لِأَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَكَمَ بِالْقِصَاصِ وَأَبَى اللَّهُ ذَلِكَ.

خرّجه؟ ذكر له تخريجًا؟ لأنّ سبب النزول حكمه حكم المرفوع، لابد أن يكون ثابتًا، قول جمهور العلماء على أنّ سبب النزول له حكم الرفع، فلابد من ثبوته،

وعد ما فسره الصحابي             رفعًا فمحمولٌ على الأسباب

 يعني أسباب النزول.

وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَقْضِيَ} بِالنُّونِ وَكَسْرِ الضَّادِ {وَحْيَهُ} بِالنَّصْبِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى:  {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [سورة طه:115]،  قَرَأَ الْأَعْمَشُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ: {فَنَسِي} بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَلَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: تَرَكَ؛ أَيْ تَرَكَ الْأَمْرَ وَالْعَهْدَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [سورة التوبة:67].

{نَسُوا اللَّهَ} تركوا العمل بأوامره فتُركوا، تركهم في العذاب، فالله - جلَّ وعلا - ليس بنسي.

وَثَانِيهِمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاس: { نَسِي} هُنَا مِنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ نَسِيَ مَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ.

ما عليه أكثر المفسرين من المراد بالنسي الترك هو المناسب لعدم مؤاخذة الناس، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة:286]، اللهم إلا أن يقال: كان ذلك بشرع من قبلنا مؤاخذة الناس بخلاف شرعنا فله وجه.

قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَسِيَ مَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ لَهُ عَزْمٌ مَا أَطَاعَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَأْخُوذًا بِالنِّسْيَانِ، وَإِنْ كَانَ النِّسْيَانُ عَنَّا الْيَوْمَ مَرْفُوعًا. وَمَعْنَى {مِنْ قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ؛ لِأَنَّهُ نُهِيَ عَنْهَا. وَالْمُرَادُ تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ أَيْ طَاعَةُ بَنِي آدَمَ الشَّيْطَانَ أَمْرٌ قَدِيمٌ؛ أَيْ إِنْ نَقَضَ هَؤُلَاءِ الْعَهْدَ فَإِنَّ آدَمَ أَيْضًا عَهِدْنَا إِلَيْهِ فَنَسِيَ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ وَكَذَلِكَ الطَّبَرِيُّ.

وإن كان هذا فيه ما فيه؛ لأنه لا يُضرب المثل للكفار بنبي، لا يضرب المثل للكفار بنبي، فالنّبي يضرب مثلًا للصالحين بالأنبياء وغيرهم، أما يضرب مثلًا للكفار فلا.

أَيْ وَإِنْ يُعْرِضْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ عَنْ آيَاتِي، وَيُخَالِفُوا رُسُلِي، وَيُطِيعُوا إِبْلِيسَ فَقِدَمًا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُوهُمْ آدَمُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّة: وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ كَوْنُ آدَمَ مِثَالًا لِلْكُفَّارِ الْجَاحِدِينَ بِاللَّهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَآدَمُ إِنَّمَا عَصَى بِتَأْوِيلٍ، فَفِي هَذَا غَضَاضَةٌ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ قَصَصٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ تَعَلُّقُهُ أَنَّهُ لَمَّا عَهِدَ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلَّا يَعْجَلَ بِالْقُرْآنِ، مثَّلَ لَهُ بِنَبِيٍّ قَبْلَهُ عهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ فَعُوقِبَ؛ لِيَكُونَ أَشَدَّ فِي التَّحْذِيرِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعَهْدِ إِلَى مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْعَهْدُ هَاهُنَا فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ؛ ( وَنَسِيَ ) مَعْنَاهُ تَرَكَ؛ وَنِسْيَانُ الذُّهُولِ لَا يُمْكِنُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاسِي عِقَابٌ. وَالْعَزْمُ الْمُضِيُّ عَلَى الْمُعْتَقَدِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؛ وَآدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَلَّا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ لَكِنْ لَمَّا وَسْوَسَ إِلَيْهِ  إِبْلِيسُ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِ. وَالشَّيْءُ الَّذِي عُهِدَ إِلَى آدَمَ هُوَ أَلَّا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَأُعْلِمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَه.

 وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَمُوَاظَبَةً عَلَى الْتِزَامِ الْأَمْرِ. قَالَ النَّحَّاسُوَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَةِ؛ يُقَالُ: لِفُلَانٍ عَزْمٌ أَيْ صَبْرٌ وَثَبَاتٌ عَلَى التَّحَفُّظِ مِنَ الْمَعَاصِي حَتَّى يَسْلَمَ مِنْهَا، وَمِنْهُ {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [سورة الأحقاف:35]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ: حِفْظًا لِمَا أُمِرَ بِهِ؛ أَيْ لَمْ يَتَحَفَّظْ مِمَّا نَهَيْتُهُ حَتَّى نَسِيَ.

العزم والعزيمة الصبر والثبات، ليس المراد به قسيم الهاجس والخاطر والهم، وإنما يراد به الثبات والعزيمة والصبر على الشيء وعدم الترك لأدنى شيء، أما العزم القسيم للخاطر والهاجس وحديث النفس فهذا لا شك أنه من تكرار شبه بالعزيمة وإلا فإنه دون الفعل، دون مجرد الفعل.

أَيْ لَمْ يَتَحَفَّظْ مِمَّا نَهَيْتُهُ حَتَّى نَسِيَ وَذَهَبَ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لَهُ: إِنْ أَكَلْتَهَا خُلِّدْتَ فِي الْجَنَّةِ، يَعْنِي عَيْنَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَلَمْ يُطِعْهُ فَدَعَاهُ إِلَى نَظِيرِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مِمَّا دَخَلَ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَظَنَّ أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي النَّهْيِ فَأَكَلَهَا تَأْوِيلًا، وَلَا يَكُونُ نَاسِيًا لِلشَّيْءِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَزْمًا مُحَافَظَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَزِيمَةُ أَمْرٍ وقال ابْنُ كَيْسَانَ: إِصْرَارًا وَلَا إِضْمَارًا لِلْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ.

في كلامه هذا ما يجعل المعصية أخف؛ لأنه ليس فيها معصيةٌ مباشرة من الأكل لما نُهي عنه، وإنما أكل من نظيره الداخل في عموم النهي الذي يشمله عموم علة النهي، وهذا لا دليل عليه، نُهي عن أكل الشجرة فأكل منها، لم نجد له عزمًا، لم يصبر ولم يثبت إنما وسوس له الشيطان وسوَّل له وأملى عليه فنسي ما هدي إليه.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى تَأْوِيلِ الْكَلَامِ، وَلِهَذَا قَالَ قَوْمٌ  آدَمُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}  وَقَالَ الْمُعْظَمُ: كُلُّ الرُّسُلِ أُولُو الْعَزْمِ، وَفِي الْخَبَرِ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ مَا خَلَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا».

جمعٌ من أهل العلم يرون أنّ أولي العزم من الرسل خمسةٌ: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد؛ لأنهم نسقوا في أكثر من آية، ومن أهل العلم من يرى أنّ جميع الرسل أهل عزمٍ وصبرٍ وثباتٍ على أممهم، والحديث الذي أورده «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ مَا خَلَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا» خطأ الأنبياء الذي جاء في حديث الشفاعة، أنا عملت كذا، وأنا عملت كذا، لا شك أنّ أكثرهم من باب خلاف الأولى، من باب خلاف الأولى؛ لأنّ الأولى ألا يفعل هذا، لكنه فعلٌ مما ليس بخطيئةٍ حقيقة، وإن وقع منهم ما وقع من بعضهم من قبل الوحي كقتل النفس بالنسبة لموسى وما حصل من يونس -عليه السلام-، المقصود أنّ الأنبياء معصومون، معصومون على خلافٍ بين أهل العلم: هل العصمة تتناول ما قبل النبوءة أو خاصةً بما بعدها؟ وهل العصمة من الكبائر أو من الصغائر؟ أو من الجميع؟

المقصود أنّ هذه المسألة خلافيةٌ بين أهل العلم، والمقطوع به أنّ الأنبياء هم أفضل البشر بل أفضل الخلق، على تفاضلٍ بينهم، وأنهم لا يتنقصون ولا في حال المفاضلة، لا يجوز تنقص أحد منهم ولا في حال المفاضلة، وإذا تطرق إلى الوهم تناقص أحد منهم جاء أنّ لا تفاضلوا بين الأنبياء، وجاء قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ما تفضلوني على يونس»، فإذا توقع أنّ أحدًا يتنقص المفضول يأتي النهي، وإلا فالرسل كما في قوله -جلَّ وعلا-: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} [ سورة البقرة: 253] التفضيل قطعي في الآية، لكن إذا خُشي من تنقص أحدهم فإنه لا يجوز التفضيل بينهم؛ للنهي عنه.

هذا مخرج؟

طالب: ..........

ماذا قال؟

طالب: ..........

وَفِي الْخَبَرِ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ مَا خَلَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا» فَلَوْ خَرَجَ آدَمُ بِسَبَبِ خَطِيئَتِهِ مِنْ جُمْلَةِ أُولِي الْعَزْمِ لَخَرَجَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى يَحْيَى. وَقَدْ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: لَوْ أَنَّ أَحْلَامَ بَنِي آدَمَ جُمِعَتْ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوُضِعَتْ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ، وَوُضِعَ حِلْمُ آدَمَ فِي كِفَّةٍ أُخْرَى لَرَجَحَهُمْ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [سورة طه:116] تَقَدَّمَ فِي ( الْبَقَرَةِ ) مُسْتَوْفًى.

{ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} [سورة طه:117]  نَهْيٌ وَمَجَازُهُ: لَا  تَقْبَلَا مِنْهُ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى يَعْنِي أَنْتَ وَزَوْجُكَ لِأَنَّهُمَا فِي اسْتِوَاءِ الْعِلَّةِ وَاحِدٌ؛

مجازه يعني ما يؤول إليه، ما يؤول إليه إخراجكما من الجنة وإلا فهو ما يستطيع أن يخرجكما لكن طاعته تكون سببًا للخروج منها، وترتب على هذا الخروج من الجنة بالنسبة لآدم ولذريته من المصالح والحكم العظيمة التي لا يدرك كثيرٌ منها، كثيرٌ منها سطره ابن القيم في مفتاح دار السعادة في الحكمة من إهباط آدم - عليه السلام -، وذُكر الخلاف في الجنة هل هي الجنة التي في السماء التي هي مآل الصالحين؟ أو هي جنة في الأرض على ربوةٍ منها، ذكر الخلاف، وذكر الأدلة، وأطال في تقرير هذا.

فَتَشْقَى يَعْنِي أَنْتَ وَزَوْجُكَ؛ لِأَنَّهُمَا فِي اسْتِوَاءِ الْعِلَّةِ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَقُلْ: فَتَشْقَيَا لِأَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ، وَآدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ- هُوَ الْمُخَاطَبُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْكَادَّ عَلَيْهَا وَالْكَاسِبَ لَهَا كَانَ بِالشَّقَاءِ أَخَصّ. وَقِيلَ: الْإِخْرَاجُ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا، وَالشَّقَاوَةُ عَلَى آدَمَ وَحْدَهُ، وَهُوَ شَقَاوَةُ الْبَدَنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {  إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} أَيْ فِي الْجَنَّةِ،  {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ لَهُ فِي الْجَنَّةِ هَذَا كُلَّهُ: الْكِسْوَةُ وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْمَسْكَنُ؛ وَأَنَّكَ إِنْ ضَيَّعْتَ الْوَصِيَّةَ، وَأَطَعْتَ الْعَدُوَّ أُخْرِجُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَشَقِيتَ تَعَبًا وَنَصَبًا، أَيْ جُعْتَ وَعَرِيتَ وَظَمِئْتَ وَأَصَابَتْكَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّكَ تُرَدُّ إِلَى الْأَرْضِ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنَ الْجَنَّةِ. وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِذِكْرِ الشَّقَاءِ وَلَمْ يَقُلْ فَتَشْقَيَانِ: يُعَلِّمُنَا أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ.

الشقاء على الزوج، وأما الزوجة فمضمونٌ لها نفقتها وكسوتها وسكناها على الزوج، فالزوج هو الذي يشقى بهذه الأمور.

يُعَلِّمُنَا أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ؛ فَمِنْ يَوْمِئِذٍ جَرَتْ نَفَقَةُ النِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ، فَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ حَوَّاءَ عَلَى آدَمَ كَذَلِكَ نَفَقَاتُ بَنَاتِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ. وَأَعْلَمَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ: الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْكِسْوَةُ وَالْمَسْكَنُ، فَإِذَا أَعْطَاهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ تَفَضَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْجُورٌ، فَأَمَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْهَا؛ لِأَنَّ بِهَا إِقَامَةَ الْمُهْجَةِ.

قَالَ الْحَسَنُالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَتَشْقَى شَقَاءَ الدُّنْيَا، لَا يُرَى ابْنُ آدَمَ إِلَّا نَاصِبًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُهُوَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ كَدِّ يَدَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أُهْبِطَ إِلَى آدَمَ ثَوْرٌ أَحْمَرُ فَكَانَ يَحْرثُ عَلَيْهِ، وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ، فَهُوَ شَقَاؤُهُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.  وَقِيلَ: لَمَّا أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ مِنْ أَوَّلِ شَقَائِهِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ حَبَّاتٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: يَا آدَمُ ازْرَعْ هَذَا، فَحَرَثَ وَزَرَعَ، ثُمَّ حَصَدَ ثُمَّ دَرَسَ ثُمَّ نَقَّى ثُمَّ طَحَنَ ثُمَّ عَجَنَ ثُمَّ خَبَزَ، ثُمَّ جَلَسَ لِيَأْكُلَ بَعْدَ التَّعَبِ، فَتَدَحْرَجَ رَغِيفُهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى صَارَ أَسْفَلَ الْجَبَلِ، وَجَرَى وَرَاءَهُ آدَمُ حَتَّى تَعِبَ وَقَدْ عَرِقَ جَبِينُهُ، قَالَ: يَا آدَمُ فَكَذَلِكَ رِزْقُكَ بِالتَّعَبِ وَالشَّقَاءِ، وَرِزْقُ وَلَدِكَ مِنْ بَعْدِكَ مَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا.

هذه طبيعة الدنيا وما جُبلت عليه من الله -جلَّ وعلا–

ومكلفٌ الأيام ضد طباعها

 

متطلبٌ في الماء جذوة نارٍ

طُبعت على هكذا ضمن الأقطار بلا شك، وما ذلك إلا ليبين فضل الجنة عليها، فضل الآخرة على هذه الدنيا؛ ليطمع فيها من وفقه الله - جلَّ وعلا - ويعمل لها.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [سورة طه:118،117] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا} أَيْ فِي الْجَنَّةِ {وَلَا تَعْرَى}. { وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا} أَيْ لَا تَعْطَشُ. وَالظَّمَأُ الْعَطَشُ. {وَلَا تَضْحَى} أَيْ تَبْرُزُ لِلشَّمْسِ فَتَجِدُ حَرَّهَا. إِذْ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَمْسٌ، إِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ، كَمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: نَهَارُ الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ إِلَى سَاعَةِ الْمُصَلِّينَ صَلَاةَ الْفَجْرِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: ضَحَا الطَّرِيقُ يَضْحُو ضُحُوًّا إِذَا بَدَا لَكَ وَظَهَرَ. وَضَحَيْتُ وَضَحِيتُ بِالْكَسْرِ ضَحًا عَرِقْتُ. وَضَحِيتُ أَيْضًا لِلشَّمْسِ ضَحَاءً مَمْدُودٌ بَرَزْتُ، وَضَحَيْتُ ( بِالْفَتْحِ ) مِثْلَهُ، وَالْمُسْتَقْبَلُ أَضْحَى فِي اللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا؛ قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:

رأيت رجلاً ...

رأت.

رأت رجلًا أيما إذا الشمس عارضت

 

فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر تضحى

 ما فيه تضحى.

رأت رجلًا أيما إذا الشمس عارضت

 

فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر

وفِي الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ عُمَرو.

ابن عمر. 

وفِي الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا مُحْرِمًا قَدِ اسْتَظَلَّ، فَقَالَ: أَضحْ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ.

يعني ابرز لتصيبك شمس الضحى.

فَقَالَ: أَضِحْ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ. هَكَذَا يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنْ أَضْحَيْتُ.

أَضِحْ هذا كلامه فيما ينقله عن المحدثين، أضح من الوضوح وهو البروز، لو على كلامه يرويه المحدثون بفتح الألف وكسر الحاء أضحي من أضحي،ت لكن يأتي الظبط الثاني على الأصمعي.

هَكَذَا يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنْ أَضْحَيْتُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إِنَّمَا هُوَ إِضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ، بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْحَاءِ مِنْ ضَحِيتُ أَضْحَى؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبُرُوزِ لِلشَّمْسِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}، وَأَنْشَدَ:

ضحيت له كي أستظل بظله

 

إذا الظل أضحى في القيامة قالصًا

وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ، (وَأَنَّكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى {أَلَّا تَجُوعَ}،  وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، وَالْمَعْنَى: وَلَكَ أَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوِ على الْعَطْفِ عَلَى {إِنَّ لَكَ}. 

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} تَقَدَّمَ فِي ( الْأَعْرَافِ ). قَالَ يَعْنِي الشَّيْطَانَ {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [سورة طه:120] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمُشَافَهَةِ، وَأَنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ فِي جَوْفِ الْحَيَّةِ. عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي ( الْبَقَرَةِ ) بَيَانُهُ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ تَعْيِينُ الشَّجَرَةِ، وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ.

 {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [سورة طه:121] تقدم في الأعراف مستوفى، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَطَفِقَا فِي الْعَرَبِيَّةِ أَقْبَلَا، قَالَ وَقِيلَ: جَعَلَا يُلْصِقَانِ عَلَيْهِمَا وَرَقَ التِّينِ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: 

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَصَى تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ الْقَوْلُ فِي ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ، وقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِوُقُوعِ ذُنُوبٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَنَسَبَهَا إِلَيْهِمْ، وَعَاتَبَهُمْ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ عَنْ نُفُوسِهِمْ وَتَنَصَّلُوا مِنْهَا، وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهَا وَتَابُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلُ جُمْلَتَهَا، وَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ آحَادَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ النُّدورِ، وَعَلَى جِهَةِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، أَوْ تَأْوِيلٌ دَعَا إِلَى ذَلِكَ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ حَسَنَاتٌ، وَفَى حَقِّهِمْ سَيِّئَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنَاصِبِهِمْ.

وتكون من باب فعل خلاف الأولى، وخلاف الأولى وإن كان في الأصل لا يعاتب عليه ولا يعاقب عليه إلا أنه بالنسبة لمنازلهم كالذنب بالنسبة لغيرهم، كما يقولون: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ حَسَنَاتٌ، وَفَى حَقِّهِمْ سَيِّئَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنَاصِبِهِمْ وَعُلُوِّ أَقْدَارِهِمْ؛ إِذْ قَدْ يُؤَاخَذُ الْوَزِيرُ بِمَا يُثَابُ عَلَيْهِ السَّائِسُ؛ فَأَشْفَقُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالسَّلَامَةِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وقَدْ أَحْسَنَ الْجُنَيْدُ حَيْثُ قَالَ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَهُمْ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- وَإِنْ كَانُوا قَدْ شَهِدَتِ النُّصُوصُ بِوُقُوعِ ذُنُوبٍ مِنْهُمْ، فَلَمْ يُخِلَّ ذَلِكَ بِمَنَاصِبِهِمْ، وَلَا قَدَحَ فِي رُتْبَتِهِمْ، بَلْ قَدْ تَلَافَاهُمْ، وَاجْتَبَاهُمْ وَهَدَاهُمْ، وَمَدَحَهُمْ وَزَكَّاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ-. 

الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا الْيَوْمَ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ إِلَّا إِذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ، أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ، فَأَمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنينَ إِلَيْنَا، الْمُمَاثِلِينَ لَنَا، فَكَيْفَ فِي أَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ الْأَكْرَمِ النَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ، الَّذِي عَذَرَهُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَتَابَ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ. 

يعني ذكر الذنب المجرد سواء كان من آدم أو من الأب أيًّا كان، ولو كان الأب من العصاة فذكر ذنبه مجردًا لا شك أنّ فيه نوعًا من العقوق، يعني إذا كان في مجلسٍ ويتحدث في ذنوب والده ولا يتحدث عن حسناته وابتداءً من غير أن يسأل، ومن غير أن تجد له مناسبة فهذا لا شك أنه عقوق، فكيف بنبي وفقه الله -جلَّ وعلا- للتوبة وتاب عليه واجتباه وهداه؟! لا شك أنّ مجرد ذكر الذنب مجردًا عن غيره من الحسنات ذكر التوبة ومن غير طلب ومن غير أن يقرأ في كلام الله وكلام رسوله الذي هذه مناسبته لا شك أنّ هذا ضرٌب من العقوق، وأي عقوق؟! مثل هذا في أهل العلم وفي غيرهم من أهل الفضل، في الصحابة من باب أولى يعني إذا اقتصر على ما شجر بينهم فقط من غير ذكرٍ لمناقبهم لا شك أنّ هذا مجانبٌ للإنصاف، بل يصرح أهل العلم أنه يجب الإعراض عما شجر بين الصحابة من خلافٍ ونزاعٍ اللهم إلا ذكر عرضًا أو يسأل عنه أو يرد في كتاب ويعلق عليه مقرونًا ببيان فضائلهم ومحاسنهم، وأنّ لهم الفضل، وأنّ النصوص جاءت بالإشادة بهم، وأنهم وفقوا للتوبة، المقصود أنّ مثل هذه الأمور تراعى.

وأيضًا فإن أهل العلم إذا ذل أحدٌ منهم بذلةٍ أو هفا هفوة فلا تذكر هذه الذلة مجردةً؛ لأنّ هذا ليس من الإنصاف، وقل مثل هذا في الكتب: لو أن الإنسان يتلقى زلات العلماء في كتبهم وينشرها مفردةً فهذا لا شك أنه ليس بمنهجٍ سوي ولا مستقيم؛ لأنّ هذا يزهد في هذه الكتب ويعرض هؤلاء العلماء للكلام، فإذا أراد أن يذكر هذه الزلات يقرنها بالحسنات لا سيما إذا كان الكتاب يحتاجه الناس يحتاجه أهل العلم يحتاجه طلاب العلم، هذا لا شك أنه سبيلٌ إلى أن ينصرف الطلاب عن هذا الكتاب وفيه ما فيه من إفادتهم.

قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَخْلُوقِ لَا يَجُوزُ، فَالْإِخْبَارُ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْإِصْبَعِ وَالْجَنْبِ وَالنُّزُولِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِثْلَ قَوْلِه: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [سورة المائدة: 64] فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عُنُقِهِ قُطعتْ يَدُهُ، وَكَذَلِكَ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ يُقْطَعُ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اللَّهَ تَعَالَى بِنَفْسِهِ. 

أما وصف الله - جلَّ وعلا - بما وصف به نفسه بما وصف به رسوله - عليه الصلاة والسلام - على طريقة السلف هذه الأمة وأئممتها من غير تكليفٍ ولا تمثيلٍ ولا تعطيلٍ ولا تحريفٍ هذا أمرٌ مطلوب، وهذا اعتقادٌ لابد منه، ويُذكر مقرونًا بهذا كله، أما ما يشتمل أو ما يحتف بذلك من تشبيهٍ أو تمثيلٍ أو تعطيلٍ فهذا الذي لا يجوز أن يُقرن بذلك، كما قال الإمام مالك - رحمه الله -، أما الإشارة عند قراءة {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [سورة النساء: 134] إلى السمع والبصر، يستدل بذلك على أنّ هذه الصفة لله - جلّ وعلا – حقيقية، وأنها ليست بمجاز وليست كناية عن صفةٍ ولا شيء، وقد جاء ذلك في النص، لكن لا يعني هذا أنه إذا أشار إلى سمعه أنّ سمع الخالق مثل سمعه، أو بصر الخالق مثل بصره، أبدًا، إنما ليثبت أنّ للخالق سمعًا حقيقيًّا كسمعه الحقيقي يعني كحقيقة سمعه، كما أنّ للمخلوق سمعًا حقيقيًّا للخالق سمعًا حقيقيًا، ولا يقتضي هذا التشبيه ولا التمثيل أبدًا؛ لأننا مثلما نقول في المخلوقات الإنسان له وجهٌ والقرد له وجهٌ والكلب له وجهٌ والجمل له وجهٌ والباعوض له وجهٌ والجراد له وجهٌ، لكن هل يقتضي هذا أن هذه الوجوه متساوية ومتماثلة؟ أبدًا، وهذا إذا كان في المخلوقات فيه هذا التباين، فكيف بالمخلوق مع الخالق -جلَّ وعلا-؟!

الثَّالِثَةُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: « احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ آدَم: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ يَا مُوسَى: أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا» قَالَ الْمُهَلَّبُ: قَوْلُهُ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى أَيْ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ.

ومثل هذا الاحتجاج من آدم بالقدر ليس على المعصية؛ لأنّ الاحتجاج بالقدر على المعاصي لا يجوز، لو سرق شخص، أو زنا شخصٌ وقيل له فقال: والله هذا قدر الله - جلّ وعلا - كتبه عليّ، نقول: لا يجوز الاحتجاج بالقدر، الاحتجاج بالقدر هي حجة المشركين، الاحتجاج بالقدر على المعاصي هو ديدن المشركين، لكن يُحتج بالقدر على المصائب؛ لأنّ آدم -عليه السلام- لما تاب من هذه المعصية وقبلت توبته تاب الله عليه واجتباه وهداه، بقيت هذه في حقه مصيبة وليست معصية؛ لأنّ المعصية أثرها زال بالتوبة فبقيت مصيبة، فاحتج بالقدر على هذه المصيبة. يعني لو أنّ شخصًا وقع على الأرض وكسرت رجله وقيل له: لماذا انكسرت؟ قال: والله هذا قدر، نقول: صحيح، لكن كسر يد إنسان وقال: هذا قدر، قلنا: لا، هذه معصية، لا يجوز الاحتجاج بالقدر عليها؛ ولذا حج آدم موسى.

قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّمَا صَحَّتِ الْحُجَّةُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِآدَمَ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِآدَمَ خَطِيئَتَهُ وَتَابَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِمُوسَى أَنْ يُعَيِّرَهُ بِخَطِيئَةٍ قَدْ غَفَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ آدَم: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي آتَاكَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَفِيهَا عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ، فَوَجَدْتَ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَدَّرَ عَلَيَّ الْمَعْصِيَةَ، وَقَدَّرَ عَلَيَّ التَّوْبَةَ مِنْهَا، وَأَسْقَطَ بِذَلِكَ اللَّوْمَ عَنِّي أَفَتَلُومُنِي أَنْتَ وَاللَّهُ لَا يَلُومُنِي؟ وَبِمِثْلِ هَذَا احْتَجَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى الَّذِي قَالَ لَهُ: إِنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؛ فَقَالَ ابْنُ عُمَر: مَا عَلَى عُثْمَانَ ذَنْبٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَفَا عَنْهُ بِقَوْلِه: { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [سورة آل عمران:155] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَبٌ وَلَيْسَ تَعْيِيرُهُ مِنْ بِرِّهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِمَّا يُعَيَّرُ بِهِ غَيْرُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْن: { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [سورة لقمان:15] وَلِهَذَا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُوهُ وَهُوَ كَافِر: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ} [سورة مريم:47،46] فَكَيْفَ بِأَبٍ هُوَ نَبِيٌّ قَدِ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ؟!

الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ الْخَطَايَا وَلَمْ تَأْتِهِ الْمَغْفِرَةُ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِمِثْلِ حُجَّةِ آدَمَ، فَيَقُولُ: تَلُومُنِي عَلَى أَنْ قَتَلْتُ أَوْ زَنَيْتُ أَوْ سَرَقْتُ وَقَدْ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ ذَلِكَ، وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى جَوَازِ حَمْدِ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَلَوْمِ الْمُسِيءِ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَتَعْدِيدِ ذُنُوبِهِ عَلَيْهِ. 

الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَغَوَى} أَيْ فَفَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِي. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْأُسْتَاذَ الْمُقْرِئَ أَبَا جَعْفَرٍ الْقُرْطُبِيَّ يَقُولُ: { فَغَوَى} فَفَسَدَ عَيْشُهُ بِنُزُولِهِ إِلَى الدُّنْيَا، وَالْغَيُّ الْفَسَادُ؛ وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ يَقُولُ: { فَغَوَى}  مَعْنَاهُ ضَلَّ؛ مِنَ الْغَيِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرُّشْدِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَهِلَ مَوْضِعَ رُشْدِهِ؛ أَيْ جَهِلَ أَنَّ تِلْكَ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا؛ وَالْغَيُّ الْجَهْلُ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: { فَغَوَى} فَبَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، قال الزَّمَخْشَرِيّ: ُوَهَذَا وَإِنْ صَحَّ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقْلِبُ الْيَاءَ الْمَكْسُورَةَ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا، فَيَقُولُ: فِي فَنِيَ وَبَقِيَ فَنَى وَبَقَى وَهُمْ بَنُو طَيِّئ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ.

تفسيرٌ خبيثٌ باعتبار أنه نُهي عن الأكل من هذه الشجرة، وأخبر الله - جلَّ وعلا - أنه أكل، والأكل يصدق بأدنى شيء، فكيف يُظن به - عليه السلام - أنه أكل وأكثر من الأكل وفي هذا من المحادة ما فيه، حتى وصل إلى حد البشم؟! وهو التغير من كثرة الأكل، هذا تفسيرٌ غير لائق.
السَّادِسَةُ: قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: قَالَ قَوْمٌ يُقَالُ: عَصَى آدَمُ وَغَوَى، وَلَا يُقَالُ لَهُ عَاصٍ وَلَا غَاوٍ، كَمَا أَنَّ مَنْ خَاطَ مَرَّةً يُقَالُ لَهُ: خَاطٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: خَيَّاطٌ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ الْخِيَاطَةُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطْلِقَ فِي عَبْدِهِ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُطْلِقَهُ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ، وَمَا أُضِيفَ مِنْ هَذَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صَغَائِرَ، أَوْ تَرْكَ الْأَوْلَى، أَوْ قَبْلَ النُّبُوَّة.
قُلْتُ: هَذَا حَسَنٌ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنِ فَوْرَكٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: كَانَ هَذَا مِنْ آدَمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}، فَذَكَرَ أَنَّ الِاجْتِبَاءَ وَالْهِدَايَةَ كَانَا بَعْدَ الْعِصْيَانِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَجَائِزٌ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبَ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لَا شَرْع عَلَيْنَا في تَصْدِيقُهُمْ، فَإِذَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى خَلْقِهِ وَكَانُوا مَأْمُونِينَ فِي الْأَدَاءِ مَعْصُومِينَ لَمْ يَضُرَّ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ. وَهَذَا نَفِيسٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ويبقى أنه بالنسبة لآدم مع ثبوت أمر الله -جلَّ وعلا- له معصية سواء كان قبل النبوة وبعدها هو معصية، لكن هل هي معصيةٌ من معصومٍ لأنه نبي؟ أو معصيةٌ من شخصٍ غير معصوم لأنه لم ينبأ بعد؟ هذا محل إشكال.

طالب......

هذا ما هو صحيحٌ، الروس؟! لا، هذا تضليلٌ وهذا تشكيكٌ للناس في عقائدهم، عذاب القبر لا يطّلع عليه أحد، لو سمعه الإنسان لصُعق، حتى في طريقتهم في إخراجه أخرجوه ثم منعوه وحرروا في وسائل الإعلام أنه لا يطّلع عليه أحد، كل من باب الاغراء به، هذا لا يجوز أبدًا محالٌ، يعني تصوير الأمور الغيبية، ما يسمعه الإنسان أو يقرأه أو يراه الإنسان هذا تهوينٌ من شأنه لو سمعه الإنسان لصُعق.

"