التعليق على تفسير القرطبي - سورة الأنبياء (01)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:

{اقتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم} [سورة الأنبياء:1] قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود: الْكَهْف وَمَرْيَم وَطَه وَالْأَنْبِيَاء مِنْ الْعِتَاق الْأُوَل، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي يُرِيد مِنْ قَدِيم مَا كُسِبَ وَحُفِظَ مِنْ الْقُرْآن كَالْمَالِ التِّلَاد.

يقابله (الطارف والطريف) وهو الجديد.

وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَبْنِي جِدَارًا فَمَرَّ بِهِ آخَر فِي يَوْم نُزُول هَذِهِ السُّورَة، فَقَالَ الَّذِي كَانَ يَبْنِي الْجِدَار: مَاذَا نَزَلَ الْيَوْم مِنْ الْقُرْآن؟ فَقَالَ الْآخَر: نَزَلَ {اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابهمْ وَهُمْ فِي غَفْلَة مُعْرِضُونَ} [سورة الأنبياء:1] فَنَفَّضَ يَده مِنْ الْبُنْيَان، وَقَالَ: وَاَللَّه لَا  بَنَيْت أَبَدًا وَقَدْ اِقْتَرَبَ الْحِسَاب.

 {اِقْتَرَبَ} [سورة الأنبياء:1] أَيْ قَرُبَ الْوَقْت الَّذِي يُحَاسَبُونَ فِيهِ عَلَى أَعْمَالهمْ
{لِلنَّاسِ} [سورة الأنبياء:1] قَالَ اِبْن عَبَّاس: الْمُرَاد بِالنَّاسِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا اِسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [سورة الأنبياء:2] إِلَى قَوْله:{أَفَتَأْتُونَ السِّحْر وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [سورة الأنبياء:2]. وَقِيلَ: النَّاس عُمُوم وَإِنْ كَانَ الْمُشَار إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْت كُفَّار قُرَيْش؛ يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مَا بَعْد مِنْ الْآيَات؛ وَمَنْ عَلِمَ اِقْتِرَاب السَّاعَة قَصُرَ أَمَله، وَطَابَتْ نَفْسه بِالتَّوْبَةِ، وَلَمْ يَرْكَن إِلَى الدُّنْيَا، فَكَأَنَّ مَا كَانَ لَمْ يَكُنْ إِذَا ذَهَبَ، وَكُلّ آتٍ قَرِيب، وَالْمَوْت لَا مَحَالَة آتٍ؛ وَمَوْت كُلّ إِنْسَان قِيَام سَاعَته؛ وَالْقِيَامَة أَيْضًا قَرِيبَة بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْ الزَّمَان، فَمَا بَقِيَ مِنْ الدُّنْيَا أَقَلّ مِمَّا مَضَى.

وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» «بعثت أنا والساعة كهاتين» ما يدل على قربها من بعثته عليه الصلاة والسلام.

وَقَالَ الضَّحَّاك : مَعْنَى {اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابهمْ} [سورة الأنبياء:1] أَيْ عَذَابهمْ يَعْنِي أَهْل مَكَّة ؛ لِأَنَّهُمْ اِسْتَبْطَئُوا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الْعَذَاب تَكْذِيبًا، وَكَانَ قَتْلهمْ يَوْم بَدْر. قال النَّحَّاس: وَلَا يَجُوز فِي الْكَلَام اِقْتَرَبَ حِسَابهمْ لِلنَّاسِ؛ لِئَلَّا يَتَقَدَّم مُضْمَر عَلَى مُظْهَر لَا يَجُوز أَنْ يَنْوِي بِهِ التَّأْخِير.

لو قيل اقترب حسابهم للناس؛ لأنه يعود الضمير على المتأخر في اللفظ والرتبة.

{وَهُم في غَفلَةٍ مُعرِضونَ} [سورة الأنبياء:1] اِبْتِدَاءٌ وَخَبَر. وَيَجُوز النَّصْب فِي غَيْر الْقُرْآن عَلَى الْحَال. وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدهمَا: {وَهُم في غَفلَةٍ مُعرِضونَ} [سورة الأنبياء:1] يَعْنِي بِالدُّنْيَا عَنْ الْآخِرَة. والثَّانِي: عَنْ التَّأَهُّب لِلْحِسَابِ وَعَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  وَهَذَه الْوَاو عِنْد سِيبَوَيْهِ بِمَعْنَى (إِذْ) وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النَّحْوِيُّونَ وَاو الْحَال؛ كَمَا قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَغْشَى طَائِفَة مِنْكُمْ وَطَائِفَة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسهمْ} [ آل عِمْرَان: 154].

قوله تعالى: {ما يَأتيهِم مِن ذِكرٍ مِن رَبِّهِم مُحدَثٍ} [سورة الأنبياء:2] {مُحدَثٍ} نَعْت لِ{ذِكْر}  وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء (مُحْدَثًا) بِمَعْنَى مَا يَأْتِيهِمْ مُحْدَثًا؛ نُصِبَ عَلَى الْحَال. وَأَجَازَ الْفَرَّاء أَيْضًا رَفْع {مُحدَثٍ}.

لكن النكرة يحتاج إلى وصف أكثر من حاجته إلى بيان الحال، وهو هنا وصف بجره وصف للذكر على الخلاف بالمراد به.

وَأَجَازَ الْفَرَّاء أَيْضًا رَفْع {مُحدَثٍ} عَلَى النَّعْت لِلذِّكْرِ؛ لِأَنَّك لَوْ حَذَفْت {مِنْ} [سورة الأنبياء:2] رَفَعْت ذِكْرًا.

على محله لا على لفظه؛ لأن محله الرفع.

لِأَنَّك لَوْ حَذَفْت {مِنْ} [سورة الأنبياء:2] رَفَعْت ذِكْرًا؛ أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ ذِكْر مِنْ رَبّهمْ مُحْدَث؛ يُرِيد فِي النُّزُول وَتِلَاوَة جِبْرِيل عَلَى النَّبِيّ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِنَّهُ كَانَ يُنْزِل سُورَة بَعْد سُورَة، وَآيَة بَعْد آيَة، كَمَا كَانَ يُنَزِّلهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ فِي وَقْت بَعْد وَقْت؛ لَا أَنَّ الْقُرْآن مَخْلُوق. 

عندهم عند الأشاعرة، مقتضى كونه محدث أن يكون مخلوقًا؛ لأن المحدثات كلها مخلوقة، يعبرون؛ ولذا القرآن بأنه قديم، ويقابلون به الحديث وهو المأثور عن النبي-عليه الصلاة والسلام- حقيقة كلام الله وإن كان قديم النوع، إلا أنه متجدد الآحاد عند أهل السنة، والله-جل وعلا- يتكلم متى شاء إذا شاء.

وَقِيلَ: الذِّكْر مَا يُذَكِّرهُمْ بِهِ النَّبِيّ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَعِظهُمْ بِه.

يعني من كلامه-عليه الصلاة والسلام- وكلامه من عند ربه؛ لأنه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} [سورة النجم:3].

وَقَالَ: {مِنْ رَبّهمْ} [سورة الأنبياء:2]  لِأَنَّ النَّبِيّ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَنْطِق إِلَّا بِالْوَحْيِ ، فَوَعْظ النَّبِيّ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَحْذِيره ذِكْر، وَهُوَ مُحْدَث؛ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر} [سورة الْغَاشِيَة:21]. وَيُقَال: فُلَانٌ فِي مَجْلِس الذِّكْر. وَقِيلَ: الذِّكْر الرَّسُول نَفْسه؛ قَالَهُ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل بِدَلِيلِ مَا فِي سِيَاق الْآيَة {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَر مِثْلكُمْ} [ الْأَنْبِيَاء:3 ] وَلَوْ أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْقُرْآن لَقَالَ: هَلْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ.

يعني على لسانهم.

وَدَلِيل هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُون*وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْر لِلْعَالَمِينَ} [سورة الْقَلَم:51، 52] يَعْنِي مُحَمَّدًا-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّه إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا} [سورة الطَّلَاق:10، 11]. {إِلَّا استَمَعوهُ} [سورة الأنبياء:2].

هذا يبعد أن يكون المراد محمد-عليه الصلاة والسلام- لأن الذي يستمع هو القرآن، أو كلامه-عليه الصلاة والسلام- لأنه يستمع له، قد يحذف الجار كما قوله-جل وعلا-: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [سورة المطففين:3] يعني كالوا لهم، وهنا يكون المراد {إِلَّا استَمَعوهُ} [سورة الأنبياء:2] يعني استمعوا له، ومن هذه الحيثية ممكن.

{إِلَّا استَمَعوهُ} [سورة الأنبياء:2] يَعْنِي مُحَمَّدًا-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ الْقُرْآن مِنْ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ مِنْ أُمَّته .{وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[سورة الأنبياء:2] الْوَاو وَاو الْحَال يَدُلّ عَلَيْهِ {لاهِيَةً قُلوبُهُم} [سورة الأنبياء:3].

و{لاهِيَةً} [سورة الأنبياء:3] حال اسم فاعل يعمل عمل فعله و{قُلوبُهُم} [سورة الأنبياء:3] فاعل، اسم فاعل.

" وَمَعْنَى {يَلْعَبُونَ} [سورة الأنبياء:2] أَيْ يَلْهُونَ. وَقِيلَ: يَشْتَغِلُونَ؛ فَإِنْ حُمِلَ تَأْوِيله عَلَى اللَّهْو اِحْتَمَلَ مَا يَلْهُونَ بِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: بِلَذَّاتِهِمْ. والثَّانِي: بِسَمَاعِ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ. وَإِنْ حُمِلَ تَأْوِيله عَلَى الشُّغْل اِحْتَمَلَ مَا يَتَشَاغَلُونَ بِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: بِالدُّنْيَا لِأَنَّهَا لَعِب؛ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا لَعِب وَلَهْو} [سورة مُحَمَّد:36]. والثَّانِي: يَتَشَاغَلُونَ بِالْقَدْحِ فِيهِ، وَالِاعْتِرَاض عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَن: كُلَّمَا جُدِّدَ لَهُمْ الذِّكْر اِسْتَمَرُّوا عَلَى الْجَهْل. وَقِيلَ: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآن مُسْتَهْزِئِينَ.

قوله تعالى: {لاهِيَةً قُلوبُهُم} [سورة الأنبياء:3] أَيْ سَاهِيَة قُلُوبهمْ، مُعْرِضَة عَنْ ذِكْر اللَّه، مُتَشَاغِلَة عَنْ التَّأَمُّل وَالْتَفَهُّم؛ مِنْ قَوْل الْعَرَب: لَهِيت عَنْ ذِكْر الشَّيْء إِذَا تَرَكْته وَسَلَوْت عَنْهُ أَلْهَى لُهِيًّا وَلِهْيَانًا. وَ{لاهِيَةً} [سورة الأنبياء:3] نَعْت تَقَدَّمَ الِاسْم، وَمِنْ حَقّ النَّعْت أَنْ يَتْبَع الْمَنْعُوت فِي جَمِيع الْإِعْرَاب، فَإِذَا تَقَدَّمَ النَّعْت الِاسْم اِنْتَصَبَ كَقَوْلِهِ: {خَاشِعَة أَبْصَارهمْ}  [الْقَلَم:43] وَ {وَدَانِيَة عَلَيْهِمْ ظِلَالهَا} [الْإِنْسَان:14] وَ{لاهِيَةً قُلوبُهُم} [سورة الأنبياء:3] قَالَ الشَّاعِر:

لـِعَزَّةَ مُوحِشًـــا طَـلَلٌ يَلـُوح كَأَنَّـــهُ خَـلَلٌ

أَرَادَ: طَلَل مُوحِش. وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء {لاهِيَةً قُلوبُهُم} [سورة الأنبياء:3] بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى قُلُوبهمْ لَاهِيَة. وَأَجَازَ غَيْرهمَا الرَّفْع عَلَى أَنْ يَكُون خَبَرًا بَعْد خَبَر وَعَلَى إِضْمَار مُبْتَدَأ. وَقَالَ الْكِسَائِيّ: وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى؛ إِلَّا اِسْتَمَعُوهُ لَاهِيَة قُلُوبهمْ.

{وَأَسَرُّوا النَّجوَى الَّذينَ ظَلَموا} [سورة الأنبياء:3] أَيْ تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنهمْ بِالتَّكْذِيبِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَيْ الَّذِي أَشْرَكُوا؛ فَ {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بَدَل مِنْ الْوَاو فِي{أَسَرُّوا}.

هذا على رأي الجمهو أنه لا يمكن أن يجمع بين الضمير، والفاعل الظاهر المجموع، إلا على لغة يسمونها لغة البراغيث، يقولون: أكلوني البراغيث لغة لبعض العرب، والجمهور على أنه لا يجمع، إلا إذا أعربنا الظاهر بدل من المظهر، ونجعل {أَسَرُّوا} فعل والواو علامة للجمع و{الَّذِينَ ظَلَمُوا} فاعل هذا على هذه اللغة القليلة.

{الَّذِينَ ظَلَمُوا} بَدَل مِنْ الْوَاو فِي {أَسَرُّوا} وَهُوَ عَائِد عَلَى النَّاس الْمُتَقَدِّم ذِكْرهمْ؛ وَلَا يُوقَف عَلَى هَذَا الْقَوْل عَلَى {النَّجْوَى} [سورة الأنبياء:3]  قَالَ الْمُبَرِّد وَهُوَ كَقَوْلِك: إِنَّ الَّذِينَ فِي الدَّار اِنْطَلَقُوا بَنُو عَبْد اللَّه فَبَنُو بَدَل مِنْ الْوَاو فِي اِنْطَلَقُوا. وَقِيلَ: هُوَ رُفِعَ عَلَى الذَّمّ، أَيْ هُمْ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقِيلَ: عَلَى حَذْف الْقَوْل؛ التَّقْدِير: يَقُول {الَّذِينَ ظَلَمُوا} وَحُذِفَ الْقَوْل؛ مِثْل {وَالْمَلَائِكَة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَاب سَلَام عَلَيْكُمْ} [الرَّعْد:23، 24] وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل النَّحَّاس؛ قَالَ: وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا الْجَوَاب أَنَّ بَعْده {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَر مِثْلكُمْ} [الْأَنْبِيَاء:3] وَقَوْلٌ رَابِع: يَكُون مَنْصُوبًا بِمَعْنَى أَعْنِي الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَأَجَازَ الْفَرَّاء أَنْ يَكُون خَفْضًا بِمَعْنَى اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ ظَلَمُوا حِسَابهمْ؛ وَلَا يُوقَف عَلَى هَذَا الْوَجْه عَلَى {النَّجْوَى} [سورة الأنبياء:3]  وَيُوقَف عَلَى الْوَجْه الْمُتَقَدِّمَة الثَّلَاثَة قَبْله؛ فَهَذِهِ خَمْسَة أَقْوَال. وَأَجَازَ الْأَخْفَش الرَّفْع عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث؛ وَهُوَ حَسَن؛ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِير مِنْهُمْ} [الْمَائِدَة:71] وَقَالَ الشَّاعِر:

بَك نَالَ النِّضَالُ دُونَ الْمَسَاعِي

 

فَاهْتَدَيْنَ النِّبـَالُ لِلْأَغْرَاضِ

وَقَالَ آخَر:

وَلَكِنْ دِيَافِيٌّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ

 

بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ

 جاء في الحديث «يتعاقبون فيكم» «يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار» يجعلونه من هذه اللغة.

وَقَالَ الْكِسَائِيُّ :فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ؛ مَجَازُهُ: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أَسَرُّوا النَّجْوَى قال أَبُو عُبَيْدَةَ :أَسَرُّوا هُنَا مِنَ الْأَضْدَادِ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا أَخْفَوْا كَلَامَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا أَظْهَرُوهُ وَأَعْلَنُوهُ. 
قَوْلُهُ تَعَالَى{هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَر مِثْلكُمْ} [الْأَنْبِيَاء:3] أَيْ تَنَاجَوْا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا: هَلْ هَذَا الذِّكْرُ الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ، أَوْ هَلْ هَذَا الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، لَا يَتَمَيَّزُ عَنْكُمْ بِشَيْءٍ، يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا تَفْعَلُونَ. وَمَا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- بين أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ إِلَّا بَشَرًا لِيَتَفَهَّمُوا وَيُعَلِّمَهُمْ. {أَفَتَأتونَ السِّحرَ} [سورة الأنبياء:3] أَيْ إِنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِحْرٌ، فَكَيْفَ تَجِيئُونَ إِلَيْهِ وَتَتَّبِعُونَهُ؟ فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى مَا تَنَاجَوْا بِهِ. وَ{السِّحرَ} فِي اللُّغَةِ كُلُّ مُمَوَّهٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا صِحَّةَ. {وَأَنتُم تُبصِرونَ} [سورة الأنبياء:3] أَنَّهُ إِنْسَانٌ مِثْلُكُمْ.

مثله: وقت السَحر والذي يرد ويأتي على غرة من الناس، وأكثرهم في غفلة عنه، وأما السِحر في حقيقته عند أهل العلم، فمنه ما هو تمويه لا حقيقة له، ومنه ما له حقيقة وله أثر.

{وَأَنتُم تُبصِرونَ} [سورة الأنبياء:3] أَنَّهُ إِنْسَانٌ مِثْلُكُمْ مِثْلَ: وأُنْتُمْ تَعْقِلُونَ لِأَنَّ الْعَقْلَ الْبَصَرُ بِالْأَشْيَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى؛ أَفَتَقْبَلُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ سِحْرٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى؛ أَفَتَعْدِلُونَ إِلَى الْبَاطِلِ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ الْحَقَّ؛ وَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّوْبِيخُ. 

قوله تعالى: {قالَ رَبّي يَعلَمُ القَولَ فِي السَّماءِ وَالأَرضِ} [سورة الأنبياء:4] أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُقَالُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ (قَالَ رَبِّي) أَيْ قَالَ مُحَمَّدٌ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ؛ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِمَا تَنَاجَيْتُمْ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُمْ أَسَرُّوا هَذَا الْقَوْلَ فَأَظْهَرَ اللَّهُ-عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ نَبِيَّهُ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا؛ قَالَ النَّحَّاسُ :وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَتَيْنِ، وَفِيهِمَا مِنَ الْفَائِدَةِ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمِرَ.

أُمر على القراءة الأولى (قل ربي) وأنه قال: كما أُمر {قالَ رَبّي}.

أَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمِرَ وَأَنَّهُ قَالَ كَمَا أُمِر. 

وقوله تعالى:{بَل قالوا أَضغاثُ أَحلامٍ} [سورة الأنبياء:5] قَالَ الزَّجَّاجُ :أَيْ قَالُوا الَّذِي يَأْتِي بِهِ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ قَالُوا هُوَ أَخْلَاطٌ كَالْأَحْلَامِ الْمُخْتَلِطَةِ؛ أَيْ أَهَاوِيلُ رَآهَا فِيالْمَنَامِ؛ قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :

كَضِغْثِ حُلْـمٍ غَـرَّ مِنْهُ حَالِمــُهُ

وَقَالَ الْقُتَبِيُّ :إِنَّهَا الرُّؤْيَا الْكَاذِبَةُ؛ وَفِيهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: 

أَحَادِيثُ طَسْمٍ أَوْ سَرَابٌ بِفَدْفَدٍ

 

تَرَقْرَقُ لِلسَّارِي وَأَضْغَاثُ حَالِمِ

وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ :الْأَضْغَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي(يُوسُفَ). فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا قَالُوا انْتَقَلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا :{بَلِ افتَراهُ} [سورة الأنبياء:5].

إضراب، إضراب، أضربوا عن دعواهم الأولى إلى الثانية.

ثُمَّ انْتَقَلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: {بَل هُوَ شاعِر} [سورة الأنبياء:5] أَيْ هُمْ مُتَحَيِّرُونَ لَا يَسْتَقِرُّونَ عَلَى شَيْءٍ قَالُوا مَرَّةً سِحْرٌ، وَمَرَّةً أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، وَمَرَّةً افْتَرَاهُ، وَمَرَّةً شَاعِرٌ. وَقِيلَ: أَيْ قَالَ فَرِيقٌ منهم إِنَّهُ سَاحِرٌ، وَفَرِيقٌ إِنَّهُ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ؛ وَفَرِيقٌ إِنَّهُ افْتَرَاهُ، وَفَرِيقٌ إِنَّهُ شَاعِرٌ.

وتكن بل هنا، تكن بل هنا؛ للتقسيم، فيكون أقسام مثل (الواو) كما ترد (الواو)، و(أو) للتقسيم ترد (بل) لكن الأول أظهر، أنهم قالوا، ثم أضربوا، ثم قالوا، ثم أضربوا، دليل على حيرتهم، نسأل الله السلامة والعافية.

وَالِافْتِرَاءُ الِاخْتِلَاقُ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ. {فَليَأتِنا بِآيَةٍ كَما أُرسِلَ الأَوَّلونَ} [سورة الأنبياء:5]  أَيْ كَمَا أُرْسِلَ مُوسَى بِالْعَصَا وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَمِثْلِ نَاقَةِ صَالِحٍ.  وَكَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَلَا رُؤْيَا وَلَكِنْ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ نَقْتَرِحُهَا؛ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاقْتِرَاحُ بَعْدَمَا رَأَوْا آيَةً وَاحِدَةً. وَأَيْضًا إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِآيَةٍ هِيَ مِنْ جِنْسِ مَا هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ، وَلَا مَجَالَ لِلشُّبْهَةِ فِيهَا فَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِآيَةٍ غَيْرِهَا؟!.

حين جاءت المعجزة النبوية الكبرى هذا القرآن العظيم، هو مناسبٌ للقوم الذين بعث فيهم النبي-عليه الصلاة والسلام- لأنهم أهل فصاحة، وأهل بيان، وأهل بلاغة، فناسبهم، لكن لما كان من بعث فيهم موسى أهل سحر، ومن بعث فيهم عيسى أهل طب، المقصود إن كل نبي تكون معجزته فيما يناسب قومه.

وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ لَقَالُوا: هَذَا مِنْ بَابِ الطِّبِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَتِنَا، وَإِنَّمَا كَانَ سُؤَالُهُمْ تَعَنُّتًا إِذْ كَانَ اللَّهُ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَبَيَّنَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ لَأَعْطَاهُمْ مَا سَأَلُوهُ لِقَوْلِهِ-عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَو عَلِمَ اللَّـهُ فيهِم خَيرًا لَأَسمَعَهُم وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوا وَهُم مُعرِضونَ} [ سورة الأنفال:23].

قَوْلُهُ تَعَالَى :{ما آمَنَت قَبلَهُم مِن قَريَةٍ} [سورة الأنبياء:6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يُرِيدُ قَوْمَ صَالِحٍ وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ. أَهْلَكْنَاهَا يُرِيدُ كَانَ فِي عِلْمِنَا هَلَاكُهَا. {أَفَهُم يُؤمِنونَ} [سورة الأنبياء:6] يُرِيدُ يُصَدِّقُونَ؛ أَيْ فَمَا آمَنُوا بِالْآيَاتِ فَاسْتُؤْصِلُوا، فَلَوْ رَأَى هَؤُلَاءِ مَا اقْتَرَحُوا لَمَا آمَنُوا؛ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْضًا؛ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عِقَابُهُمْ لِعِلْمِنَا بِأَنَّ فِي أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ. وَمِنْ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ: {مِن قَريَةٍ} [سورة الأنبياء:6] {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [سورة الحاقة:47].

زائدة من حيث الإعراب بحيث لو حذفت لاستقام الكلام، لكنها من حيث المعنى فيها زيادة تأكيد.

قوله تعالى: {وَما أَرسَلنا قَبلَكَ إِلّا رِجالًا نوحي إِلَيهِم} [سورة الأنبياء:7] هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ : {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَر مِثْلكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:3] وَتَأْنِيسٌ لِنَبِيِّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ أَيْ لَمْ يُرْسِلْ قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا. {فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ} [ سورة الْأَنْبِيَاء:7]  يُرِيدُ أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَهُ سُفْيَانُ. وَسَمَّاهُمْ أَهْلَ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ خَبَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا لَمْ تَعْرِفْهُ الْعَرَبُ. وَكَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يُرَاجِعُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنَ؛ أَيْ فَاسْأَلُوا الْمُؤْمِنِينَ الْعَالِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ؛ قَالَ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَلِيّ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- نَحْنُ أَهْلُ الذِّكْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا مِنَ الْبَشَرِ؛ فَالْمَعْنَى لَا تَبْتدَءُوا بِالْإِنْكَارِ وَبِقَوْلِكُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ نَاظِرُوا الْمُؤْمِنِينَ لِيُبَيِّنُوا لَكُمْ جَوَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنَ الْبَشَرِ. وَالْمَلَكُ لَا يُسَمَّى رَجُلًا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَقَعُ عَلَى مَا لَهُ ضِدٌّ مِنْ لَفْظِهِ؛ تَقُولُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، وَرَجُلٌ وَصَبِيٌّ فَقَوْلُهُ: إِلَّا رِجَالًا مِنْ بَنِي آدَمَ.  وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ { نوحي إِلَيهِم} [سورة الأنبياء:7].

 {فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:7] (الذكر) القرآن، والتذكير به وإنه لذكرٌ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [سورة ص:1] المراد به القرآن في هذا أمرٌ للعامة الذين ليس لديهم علم، أن يرجعوا في ذلك إلى أهل العلم، وهم أهل الذكر، وليس المراد بهم من تفرغ للذكر، الذي هو ذكر الله-جل وعلا- الذي جاء الحث عليه في النصوص، وغفل عن تعلم العلم، كما يزعمه كثيرٌ من المتصوفة، الذين انقطعوا وانشغلوا بالذكر وبالأذكار التي أكثرها غير مشروعة، وتؤدى على طرقٍ بدعية يزعمون أنهم هم المرجع في هذه المسائل، وأنهم هم الذين يسألون لا أهل العلم، إنما يسأل أهل الأذكار، وهذا ليس بصحيح، بل الذكر المراد به القرآن.

مَسْأَلَةٌ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عَلَيْهَا تَقْلِيدُ عُلَمَائِهَا، وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِ اللَّهِ-عَزَّ وَجَلَّ-:{فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ} [ سورة الْأَنْبِيَاء:7] وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَثِقُ بِمَيْزِهِ بِالْقِبْلَةِ إِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا بَصَرَ بِمَعْنَى مَا يَدِينُ بِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمِهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ لَا يَجُوزُ لَهَا الْفُتْيَا؛ لِجَهْلِهَا بِالْمَعَانِي الَّتِي مِنْهَا يَجُوزُ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما جَعَلناهُم جَسَدًا لا يَأكُلونَ الطَّعامَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:8] الضَّمِيرُ فِي جَعَلْنَاهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ؛ أَيْ لَمْ نَجْعَلِ الرُّسُلَ قَبْلَكَ خَارِجِينَ عَنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ {وَما كانوا خالِدينَ} [ سورة الْأَنْبِيَاء:8] يُرِيدُ لَا يَمُوتُونَ وَهَذَا جَوَابٌ  لقولهم: {مَا هَـذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} وَقَوْلُهُمْ: {مَالِ هَـذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [سورة الفرقان:7]. وَ{جَسَدًا} اسْمُ جِنْسٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَجْسَادًا.

اسم الجنس يقع على الواحد، وعلى الاثنين، وعلى الجمع.

وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ أَجْسَادًا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ وَمَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَسَدًا. وَالْجَسَدُ الْبَدَنُ؛ تَقُولُ مِنْهُ: تَجَسَّدَ كَمَا تَقُولُ مِنَ الْجِسْمِ تَجَسَّمَ. وَالْجَسَدُ أَيْضًا الزَّعْفَرَانُ أَوْ نَحْوُهُ مِنَ الصَّبْغِ، وَهُوَ الدَّمُ أَيْضًا؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

وَمَا هُرِيقَ عَلَى الْأَنْصَـابِ مِنْ جَسَــدِ

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَالْجَسَدُ هُوَ الْمُتَجَسِّدُ الَّذِي فِيهِ الرُّوحُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ؛ فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مَا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ جِسْمًا وَقَال َمُجَاهِدٌ :الْجَسَدُ مَا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ؛ فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ نَفْسًا؛ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .

إلا إنه من لازم الأكل والشرب التنفس، والنفس.

قوله تعالى: {ثُمَّ صَدَقناهُمُ الوَعدَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:9] يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ؛ أَيْ بِإِنْجَائِهِمْ وَنَصْرِهِمْ وَإِهْلَاكِ مُكَذِّبِيهِمْ {وَمَن نَشاءُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:9] أَيِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الْأَنْبِيَاءَ. {وَأَهلَكنَا المُسرِفينَ} [ سورة الْأَنْبِيَاء:9] أَيِ الْمُشْرِكِين.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَد أَنزَلنا إِلَيكُم كِتابًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:10] يَعْنِي الْقُرْآنَ. {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [ سورة الْأَنْبِيَاء:10] رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْجُمْلَة فِي مَوْضِع نَصْب لِأَنَّهَا نَعْت لِكِتَابٍ؛ وَالْمُرَاد بِالذِّكْرِ هُنَا الشَّرَف؛ أَيْ فِيهِ شَرَفكُمْ، مِثْل {وَإِنَّهُ لَذِكْر لَك وَلِقَوْمِك} [الزُّخْرُف:44]. ثُمَّ نَبَّهَهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوْقِيف فَقَالَ-عَزَّ وَجَلّ-: {أَفَلا تَعقِلونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:10] وَقِيلَ: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:10]أَيْ ذِكْر أَمْر دِينكُمْ؛ وَأَحْكَام شَرْعكُمْ، وَمَا تَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثَوَاب       وَعِقَاب، أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؟! وَقَالَ مُجَاهِد: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [ سورة الْأَنْبِيَاء:10] أَيْ حَدِيثكُمْ. وَقِيلَ: مَكَارِم أَخْلَاقكُمْ، وَمَحَاسِن أَعْمَالكُمْ. وَقَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه: الْعَمَل بِمَا فِيهِ حَيَاتكُمْ. قُلْت: وَهَذِهِ الْأَقْوَال بِمَعْنًى وَالْأَوَّل يَعُمّهَا؛ إِذْ هِيَ شَرَفٌ كُلّهَا، وَالْكِتَاب شَرَفٌ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَام؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزَته، وَهُوَ شَرَفٌ لَنَا إِنْ عَمِلْنَا بِمَا فِيهِ، دَلِيله قَوْله-عَلَيْهِ

السَّلَام-: (الْقُرْآن حُجَّة لَك أَوْ عَلَيْك).              

لا شك أن القرآن، والعناية بالقرآن؛ سبب الشرف في الدنيا والآخرة «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين» فالعناية به سببٌ لنيل الشرف الدنيا والآخرة.                       

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَم قَصَمنا مِن قَريَةٍ كانَت ظالِمَة} [سورة الْأَنْبِيَاء:11] يُرِيد مَدَائِن كَانَتْ بِالْيَمَنِ وَقَالَ أَهْل التَّفْسِير وَالْأَخْبَار: إِنَّهُ أَرَادَ أَهْل حَضُور.                                   

حَضُور بوزن شكور.

وَكَانَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ نَبِيّ اِسْمه شُعَيْب بْن ذِي مَهْدَم، وَقَبْر شُعَيْبٍ هَذَا بِالْيَمَنِ بِجَبَلٍ يُقَال لَهُ ضَنَن كَثِير الثَّلْج، وَلَيْسَ بِشُعَيْبٍ صَاحِب مَدْيَن ؛ لِأَنَّ قِصَّة حَضُور قَبْل مُدَّة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَبَعْد مِئِين مِنْ السِّنِينَ مِنْ مُدَّة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَنَّهُمْ قَتَلُوا نَبِيّهمْ وَقَتَلَ أَصْحَاب الرَّسّ فِي ذَلِكَ التَّارِيخ نَبِيًّا لَهُمْ اِسْمه حَنْظَلَة بْن صَفْوَان، وَكَانَتْ حَضُور بِأَرْضِ الْحِجَاز مِنْ نَاحِيَة الشَّام، فَأَوْحَى اللَّه إِلَى أَرْمِيَا أَنْ اِيتِ بُخْتَنَصَّرَ فَأَعْلِمْهُ أَنِّي قَدْ سَلَّطْته عَلَى أَرْض الْعَرَب، وَأَنِّي مُنْتَقِم بِك مِنْهُمْ، وَأَوْحَى اللَّه إِلَى أَرْمِيَا أَنْ اِحْمِلْ مَعْد بْن عَدْنَان عَلَى الْبُرَاق إِلَى أَرْض الْعِرَاق ؛ كَيْ لَا تُصِيبهُ النِّقْمَة وَالْبَلَاء مَعَهُمْ، فَإِنِّي مُسْتَخْرِج مِنْ صُلْبه نَبِيًّا فِي آخِر الزَّمَان اِسْمه مُحَمَّد، فَحَمَلَ مَعْدًا وَهُوَ اِبْن اِثْنَتَا عَشْرَة سَنَة، فَكَانَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيل إِلَى أَنْ كَبِرَ وَتَزَوَّجَ اِمْرَأَة اِسْمهَا مُعَانَة؛ ثُمَّ إِنَّ بُخْتَنَصَّرَ نَهَضَ بِالْجُيُوشِ، وَكَمَنَ لِلْعَرَبِ فِي مَكَان-وَهُوَ أَوَّل مَنْ اِتَّخَذَ الْمَكَامِن فِيمَا ذَكَرُوا- ثُمَّ شَنَّ الْغَارَات عَلَى حَضُور فَقَتَلَ وَسَبَى وَخَرَّبَ الْعَامِر، وَلَمْ يَتْرُك بِحَضُورٍ أَثَرًا، ثُمَّ اِنْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى السَّوَاد.                                                

مثل هذا يحتاج إلى نقلٍ صحيح.

 وَ{كَمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:11] فِي مَوْضِع نَصْب بِ {قَصَمْنَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:11] وَالْقَصْم الْكَسْر؛ يُقَال: قَصَمْت ظَهْر فُلَان وَانْقَصَمَتْ سِنّه إِذَا اِنْكَسَرَتْ وَالْمَعْنِيّ بِهِ هَاهُنَا الْإِهْلَاك. وَأَمَّا الْفَصْم (بِالْفَاءِ) فَهُوَ الصَّدْع فِي الشَّيْء مِنْ غَيْر بَيْنُونَة؛ قَالَ الشَّاعِر:

كَأَنَّهُ دُمْلُج مِنْ فِضَّة نَبَه فِي مَلْعَب مِنْ عَذَارَى الْحَيّ مَفْصُوم


وَمِنْهُ الْحَدِيث «فَيَفْصِم عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينه لَيَتَفَصَّد عَرَقًا
». وَقَوْله: {كانَت ظالِمَة} [سورة الْأَنْبِيَاء:11] أَيْ كَافِرَة؛ يَعْنِي أَهْلهَا.

فيفصم عنه؛ لأنه إلى رجع؛ لأنه إلى رجع، ومثله لا يتفصد، ولو كان إلى غير رجع؛ لقال: يتقصد، ويقصم.

وَالظُّلْم وَضْع الشَّيْء فِي غَيْر مَوْضِعه، وَهُمْ وَضَعُوا الْكُفْر مَوْضِع الْإِيمَان. {وَأَنشَأْنَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:11] أَيْ أَوْجَدْنَا وَأَحْدَثْنَا بَعْد إِهْلَاكهمْ {قَومًا آخَرينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:11].

{فَلَمّا أَحَسّوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:12] أَيْ رَأَوْا عَذَابنَا؛ يُقَال: أَحْسَسْت مِنْهُ ضَعْفًا. وَقَالَ الْأَخْفَش: {أَحَسُّوا} خَافُوا وَتَوَقَّعُوا. {إِذا هُم مِنها يَركُضونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:12] أَيْ يَهْرُبُونَ وَيَفِرُّونَ. وَالرَّكْض الْعَدْو بِشِدَّةِ الْوَطْء. وَالرَّكْض تَحْرِيك الرِّجْل؛ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {اُرْكُضْ بِرِجْلِك} [سورة ص:42] وَرَكَضْت الْفَرَس بِرِجْلِي اِسْتَحْثَثْته لِيَعْدُوَ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ رَكَضَ الْفَرَس إِذَا عَدَا وَلَيْسَ بِالْأَصْلِ، وَالصَّوَاب رُكِضَ الْفَرَس عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله فَهُوَ مَرْكُوض.

{لَا تَرْكُضُوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:13] أَيْ لَا تَفِرُّوا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَة نَادَتْهُمْ لَمَّا اِنْهَزَمُوا اِسْتِهْزَاءً بِهِمْ وَقَالَتْ: {لَا تَرْكُضُوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:13]. {وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:13] أَيْ إِلَى نِعَمكُمْ الَّتِي كَانَتْ سَبَب بَطَركُمْ، وَالْمُتْرَف الْمُتَنَعِّم؛ يُقَال: أُتْرِفَ عَلَى فُلَان أَيْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي مَعَاشه. وَإِنَّمَا أَتْرَفَهُمْ اللَّه-عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا قَالَ: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} [سورة الْمُؤْمِنُونَ:33]. {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:13] أَيْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكُمْ؛ اِسْتِهْزَاءً بِهِمْ؛ قَالَهُ قَتَادَة. وَقِيلَ: الْمَعْنَى {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:13] عَمَّا نَزَلَ بِكُمْ مِنْ الْعُقُوبَة فَتُخْبِرُونَ بِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:13] أَن تُؤْمِنُوا كَمَا كُنْتُمْ تُسْأَلُونَ ذَلِكَ قَبْل نُزُول الْبَأْس بِكُمْ؛ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ اِسْتِهْزَاء وَتَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا.

{قَالُوا يَا وَيْلَنَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:14] لَمَّا قَالَتْ لَهُمْ الْمَلَائِكَة: {لَا تَرْكُضُوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:13] وَنَادَتْ يَا لِثَارَاتِ الْأَنْبِيَاء!

{وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُم لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:13] يعني عن هذا الترف وهذا النعيم، كما جاء في قوله-جل وعلا-: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [سورة التكاثر:8].

 {لَا تَرْكُضُوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:13] وَنَادَتْ يَا لِثَارَاتِ الْأَنْبِيَاء! وَلَمْ يَرَوْا شَخْصًا يُكَلِّمهُمْ عَرَفُوا أَنَّ اللَّه-عَزَّ وَجَلّ-َ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّهُمْ بِقَتْلِهِمْ النَّبِيّ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ، فَعِنْد ذَلِكَ قَالُوا {يَا وَيْلنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:14] فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا حِين لَا يَنْفَع الِاعْتِرَاف.

{فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:15] أَيْ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ: {يَا وَيْلنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:14] {حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:15] أَيْ بِالسُّيُوفِ كَمَا يُحْصَد الزَّرْع بِالْمِنْجَلِ؛ قَالَهُ مُجَاهِد. وَقَالَ الْحَسَن: أَيْ بِالْعَذَابِ. {خَامِدِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:15] أَيْ مَيِّتِينَ. وَالْخُمُود الْهُمُود كَخُمُودِ النَّار إِذَا طُفِئَتْ فَشَبَّهَ خُمُود الْحَيَاة بِخُمُودِ النَّار، كَمَا يُقَال لِمَنْ مَاتَ قَدْ طَفِئَ تَشْبِيهًا بِانْطِفَاءِ النَّار.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:16] أَيْ عَبَثًا وَبَاطِلًا؛ بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ لَهَا خَالِقًا قَادِرًا يَجِب امْتِثَال أَمْره، وَأَنَّهُ يُجَازِي الْمُسِيء وَالْمُحْسِن ؛ أَيْ مَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْض لِيَظْلِم بَعْض النَّاس بَعْضًا، وَيَكْفُر بَعْضهمْ، وَيُخَالِف بَعْضهمْ

مَا أُمِرَ بِهِ ثُمَّ يَمُوتُوا وَلَا يُجَازُوا، وَلَا يُؤْمَرُوا فِي الدُّنْيَا بِحَسَنٍ وَلَا يَنْهَوْا عَنْ قَبِيح. وَهَذَا اللَّعِب الْمَنْفِيّ عَنْ الْحَكِيم ضِدّه الْحِكْمَة.

نعم لو خلق الناس عبثًا من غير هدف، وتحقيق العبودية لله-جل وعلا- العبث واللعب، الفائدة من خلق السموات والأرض، خلق الجن والإنس، وخلق جميع المخلوقات كلها إنما خلقت لحكمة بالغة، واستدلوا بها وعليها، على وحدانية الله-جل وعلا- وعلى وجوده، وعلى أنه هو المستحق للعبادة.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:17] لَمَّا اِعْتَقَدَ قَوْم أَنَّ لَهُ وَلَدًا قَالَ: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:17].

لأن الولد مما يلهى به، لأن الولد مما يلهى به.

وَاللَّهْو الْمَرْأَة بِلُغَةِ الْيَمَن؛ قَالَهُ قَتَادَة. وَقَالَ عُقْبَة بْن أَبِي جَسْرَة.

وهي أيضًا مما يلهي ويشغل.

طالب:.........

هذه لغة أهل اليمن، اللهو موجود ولا منقرض، هذا إطلاقهم المرأة لهو؟ واضح كونها تلهي واضح.

طالب:.........

كل ما يشغل لهو بالمعنى العام، قدم يكون للشيء حقيقة عرفية، وتكون له حقيقةٌ لغويةٌ عامة، وعرفية خاصة، وإن كانت عرفية شرعية، وعرفية عادية، يحق لك أن تعرف قد يطلق الشيء ويراد به العرف الخاص، يطلق الشيء ويراد به العرف العام.

 وَاللَّهْو الْمَرْأَة بِلُغَةِ الْيَمَن؛ قَالَهُ قَتَادَة. وَقَالَ عُقْبَة بْن أَبِي جَسْرَة-وَجَاءَ طَاوُس وَعَطَاء وَمُجَاهِد يَسْأَلُونَهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:17] - فَقَالَ: اللَّهْو الزَّوْجَة؛ وَقَالَهُ الْحَسَن. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: اللَّهْو الْوَلَد؛ وَقَالَهُ الْحَسَن أَيْضًا. قَالَ الْجَوْهَرِيّ: وَقَدْ يُكَنَّى بِاللَّهْوِ عَنْ الْجِمَاع.

لأنه مشغلة أيضًا.

 قُلْت: وَمِنْهُ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس:

أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَة الْيَوْم أَنَّنِي كَبِرْت وَأَلَّا يُحْسِن اللَّهْو أَمْثَالِي

وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْجِمَاع لَهْوًا لِأَنَّهُ مُلْهِي لِلْقَلْبِ، كَمَا قَالَ:

وَفِيهِنَّ مَلْهـَى لِلصَّدِيقِ وَمَنْظَــر

قاله الْجَوْهَرِيّ.

وقَوْله تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:17] قَالُوا اِمْرَأَة، وَيُقَال: وَلَدًا.{لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} [سورة الْأَنْبِيَاء:17] أَيْ مِنْ عِنْدنَا لَا مِنْ عِنْدكُمْ. قَالَ اِبْن جُرَيْج: مِنْ أَهْل السَّمَاء لَا مِنْ أَهْل الْأَرْض. قِيلَ: أَرَادَ الرَّدّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَصْنَام بَنَات اللَّه؛ أَيْ كَيْفَ يَكُون مَنْحُوتكُمْ وَلَدًا لَنَا. وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة: الْآيَة رَدّ عَلَى النَّصَارَى.

الذين قالوا: المسيح ابن الله.

{إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:17] قَالَ قَتَادَة وَمُقَاتِل وَابْن جُرَيْج وَالْحَسَن: الْمَعْنَى مَا كُنَّا فَاعِلِينَ؛ مِثْل {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِير} [سورة فَاطِر:23] أَيْ مَا أَنْتَ إِلَّا نَذِير. و(إِنْ) بِمَعْنَى الْجَحْد وَتَمَّ الْكَلَام عِنْد قَوْله: {لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} [سورة الْأَنْبِيَاء:17]. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى مَعْنَى الشَّرْط؛ أَيْ إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَسْنَا بِفَاعِلِينَ ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُون لَنَا وَلَد.

وتتعين(إن) نافية إذا وقع بعدها الاستثناء، إذا وقع بعد الاستثناء يتعين أن تكون نافية، أم إذا لم يقع بعد الاستثناء يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون شرطية.

لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُون لَنَا وَلَد؛ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ نَخْلُق جَنَّة وَلَا نَارًا وَلَا مَوْتًا وَلَا بَعْثًا وَلَا حِسَابًا  وَقِيلَ: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذ وَلَدًا عَلَى طَرِيق التَّبَنِّي لَاِتَّخَذْنَاهُ مِنْ عِنْدنَا مِنْ الْمَلَائِكَة. وَمَالَ إِلَى هَذَا قَوْم؛ لِأَنَّ الْإِرَادَة قَدْ تَتَعَلَّق بِالتَّبَنِّي فَأَمَّا اِتِّخَاذ الْوَلَد فَهُوَ مُحَال، وَالْإِرَادَة لَا تَتَعَلَّق بِالْمُسْتَحِيلِ؛ ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ.

إتخاذ الولد محال؛ لأن إتخاذ الولد دليلٌ على الحاجة، دليلٌ على الحاجة، والمسألة مفترضة في الرب–جل وعلا- الذي له القدرة التامة، والغنى المطلق، فإذا أمكنت الحاجة مع القدرة التامة والغنى المطلق، صار هذا فيه اجتماع ضدين، واجتماع الضدين محال، والمحال ليس بشئ؛ لأنه ممتنع، وإذا كان المحال والمستحيل ليس بشيء، لم تتعلق به إرادة.

قَوْله تَعَالَى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:18] الْقَذْف الرَّمْي؛ أَيْ نَرْمِي بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِل. {فَيَدْمَغُهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:18] أَيْ يَقْهَرهُ وَيُهْلِكهُ. وَأَصْل الدَّمْغ شَجُّ الرَّأْس حَتَّى يَبْلُغ الدِّمَاغ، وَمِنْهُ الدَّامِغَة. وَالْحَقّ هُنَا الْقُرْآن، وَالْبَاطِل الشَّيْطَان فِي قَوْل مُجَاهِد ؛ قَالَ: وَكُلّ مَا فِي الْقُرْآن مِنْ الْبَاطِل فَهُوَ الشَّيْطَان. وَقِيلَ: الْبَاطِل كَذِبهمْ وَوَصْفهمْ اللَّه-عَزَّ وَجَلَّ- بِغَيْرِ صِفَاته مِنْ الْوَلَد وَغَيْره. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْحَقِّ الْحُجَّة، وَبِالْبَاطِلِ شُبَههمْ. وَقِيلَ: الْحَقّ الْمَوَاعِظ، وَالْبَاطِل الْمَعَاصِي؛ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب. وَالْقُرْآن يَتَضَمَّن الْحُجَّة وَالْمَوْعِظَة. {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [سورة الْأَنْبِيَاء:18] أَيْ هَالِك وَتَالِف؛ قَالَهُ قَتَادَة. {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:18] أَيْ الْعَذَاب فِي الْآخِرَة بِسَبَبِ وَصْفكُمْ الرب بِمَا لَا يَجُوز وَصْفه. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: الْوَيْل وَادٍ فِي جَهَنَّم؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ. {مِمَّا تَصِفُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:18] أَيْ مِمَّا تَكْذِبُونَ؛ عَنْ قَتَادَة وَمُجَاهِد.

جاء عن أبي سعيد أن الويل وادٍ في جهنم، لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت، نسأل الله السلامة.

{مِمَّا تَصِفُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:18] أَيْ مِمَّا تَكْذِبُونَ؛ عَنْ قَتَادَة وَمُجَاهِد نَظِيره {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفهمْ} [سورة الْأَنْعَام:139] أَيْ بِكَذِبِهِمْ.

{وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ} [سورة النحل:116].

 وَقِيلَ: مِمَّا تَصِفُونَ اللَّه بِهِ مِنْ الْمُحَال وَهُوَ اِتِّخَاذه سُبْحَانه الْوَلَد.

قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:19] أَيْ مُلْكًا وَخَلْقًا فَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يُشْرَك بِهِ مَا هُوَ عَبْده وَخَلْقه. {وَمَنْ عِندَه} [سورة الْأَنْبِيَاء:19] يَعْنِي الْمَلَائِكَة الَّذِينَ ذَكَرْتُمْ أَنَّهُمْ بَنَات اللَّه. {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:19] أَيْ لَا يَأْنَفُونَ {عَنْ عِبَادَتِهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:19] وَالتَّذَلُّل لَهُ {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:19] أَيْ يَعْيَوْنَ؛ قَالَهُ قَتَادَة مَأْخُوذ مِنْ الْحَسِير وَهُوَ الْبَعِير الْمُنْقَطِع بِالْإِعْيَاءِ وَالتَّعَب، [يُقَال]: حَسِرَ الْبَعِير يَحْسِر حُسُورًا أَعْيَا وَكَلَّ، وَاسْتَحْسَرَ وَتَحَسَّرَ مِثْله، وَحَسِرْته أَنَا حَسْرًا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى.

ومثله الداعي، إذا عجل وقال: دعوت فلم يستجب لي، ثم يستحسر، فيترك يمل، ويترك الدعاء.

 وَأَحْسَرْته أَيْضًا فَهُوَ حَسِير. وَقَالَ اِبْن زَيْد: لَا يَمَلُّونَ. قال اِبْن عَبَّاس: لَا يَسْتَنْكِفُونَ. وَقَالَ أَبُو زَيْد: لَا يَكِلُّونَ. وَقِيلَ: لَا يَفْشَلُونَ؛ ذَكَرَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ؛ وَالْمَعْنَى وَاحِد.

{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:20] أَيْ يُصَلُّونَ وَيَذْكُرُونَ اللَّه وَيُنَزِّهُونَهُ دَائِمًا. {لَا يَفْتُرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:20] أَيْ لَا يَضْعُفُونَ وَلَا يَسْأَمُونَ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَس. قَالَ عَبْد اللَّه بْن الْحَارْث سَأَلْت كَعْبًا فَقُلْت: أَمَا لَهُمْ شُغْل عَنْ التَّسْبِيح؟ أَمَا يَشْغَلهُمْ عَنْهُ شَيْء؟ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: مِنْ بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب؛ فَضَمَّنِي إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا ابْن أَخِي هَلْ يَشْغَلك شَيْء عَنْ النَّفَس؟! إِنَّ التَّسْبِيح لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ النَّفَس. وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَة أَفْضَل مِنْ بَنِي آدَم. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَالْحَمْد لِلَّهِ.

تقدم الخلاف في المسألة، وأن خواص بني آدم من الأنبياء أفضل من الملائكة، والخلاف معروف بين أهل العلم عند قوله-جل وعلا-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة:30]  وقال مفردها هناك {ما نَهاكُما رَبُّكُما عَن هـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلّا أَن تَكونا مَلَكَينِ} [الأعراف:20] خشية أن تصلا إلى مرتبة فوق مرتبتكم، وبها يستدل من يفضل الملائكة على البشر، والمسألة خلافيةٌ معروفة، والمسألة خلافية معروفة، والأنبياء لا شك أنهم أفضل من الملائكة، والخلاف فيمن عداهم.

طالب:.........

وين؟ وإيش فيه؟

طالب:.........

يعني يحسر إذا نقص ماؤه، إذا نقص ماؤه وجف جزءٌ منه يحسر.

قَوْله تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:21] قَالَ الْمُفَضَّل: مَقْصُود هَذَا الِاسْتِفْهَام الْجَحْد.

كونه استفهام إنكاري.

أَيْ لَمْ يَتَّخِذُوا آلِهَة تَقْدِر عَلَى الْإِحْيَاء. وَقِيلَ: {أَمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:21] بِمَعْنَى (هَلْ) أَيْ هَلْ اتَّخَذَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ آلِهَة مِنْ الْأَرْض يُحْيُونَ الْمَوْتَى؟. وَلَا تَكُون {أَمْ} هُنَا بِمَعْنَى بَلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِب لَهُمْ إِنْشَاء الْمَوْتَى إِلَّا أَنْ تَقْدِر {أَمْ} مَعَ الِاسْتِفْهَام فَتَكُون {أَمْ} الْمُنْقَطِعَة فَيَصِحّ الْمَعْنَى؛ قَالَهُ الْمُبَرِّد. وَقِيلَ: {أَمْ} عَطْف عَلَى الْمَعْنَى أَيْ أَفَخَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْض لَعِبًا، أَوْ هَذَا الَّذِي أَضَافُوهُ إِلَيْنَا مِنْ عِنْدنَا فَيَكُون لَهُمْ مَوْضِع شُبْهَة؟ أَوْ هَلْ مَا اِتَّخَذُوهُ مِنْ الْآلِهَة فِي الْأَرْض يُحْيِي الْمَوْتَى فَيَكُون مَوْضِع شُبْهَة؟. وَقِيلَ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْركُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:10] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِالْمُعَاتَبَةِ، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ تَكُون {أَمْ} مُتَّصِلَة. وَقَرَأَ الْجُمْهُور {يُنْشِرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:21] بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الشِّين مِنْ أَنْشَرَ اللَّه الْمَيِّت فَنُشِرَ أَيْ أَحْيَاهُ فَحَيِيَ. وَقَرَأَ الْحَسَن بِفَتْحِ الْيَاء؛ أَيْ يَحْيَوْنَ وَلَا يَمُوتُون.

قَوْله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:22] أَيْ لَوْ كَانَ فِي السَّمَوَات وَالْأَرَضِينَ آلِهَة غَيْر اللَّه مَعْبُودُونَ لَفَسَدَتَا. قَالَ الْكِسَائِيّ وَسِيبَوَيْهِ: {إِلَّا} [سورة الْأَنْبِيَاء:22]  بِمَعْنَى غَيْر فَلَمَّا جُعِلَتْ إِلَّا فِي مَوْضِع غَيْر أُعْرِبَ الِاسْم الَّذِي بَعْدهَا بِإِعْرَابِ غَيْر، كَمَا قَالَ: وَكُلّ أَخ مُفَارِقه أَخُوهُ لَعَمْرُ أَبِيك إِلَّا الْفَرْقَدَانِ وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُل إِلَّا زَيْدٌ لَهَلَكْنَا. وَقَالَ الْفَرَّاء: {إِلَّا} هُنَا فِي مَوْضِع سِوَى، وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَة سِوَى اللَّه لَفَسَدَ أَهْلهَا. وَقَالَ غَيْره: أَيْ لَوْ كَانَ فِيهِمَا إِلَهَانِ لَفَسَدَ التَّدْبِير؛ لِأَنَّ أَحَدهمَا إِنْ أَرَادَ شَيْئًا وَالْآخَر ضِدّه كَانَ أَحَدهمَا عَاجِزًا. وَقِيلَ: مَعْنَى {لَفَسَدَتَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:22] أَيْ خَرِبَتَا وَهَلَكَ مَنْ فِيهِمَا بِوُقُوعِ التَّنَازُع بِالِاخْتِلَافِ الْوَاقِع بَيْن الشُّرَكَاء.

هذا يستدل به على إثبات الوحدانية لله-جل وعلا- ويقرب منه ما يقرره العلماء ما يسمى بدليل التمانع، يعني لو قد أن هناك إلاهين، وكل واحدٌ منهما له إرادة، فإما أن تتحقق إرادة الجميع وهذا ممتنع؛ لأن إذا تحققت إرادة أحدهما على وجه، وإرادة الثاني على وجهٍ لا يريده الأول، امتنع؛ لأننا أثبتنا الضدين وهذا ممتنع، إذا لم تتحقق إرادة واحدٌ منهما، ارتفع الضدان، وهنا ثبت الوحدانية لله-جل وعلا-وأنه لا شريك له، وأنه لا يوجد معه إلهٌ آخر، إذ لو وجد ذلك؛ لفسدت السموات والأرض؛ لأن الإله الآخر يريد شيء، والمسألة مفترضة في إله قادر على ما يريد لا يتخلف مراده، والله-جل وعلا- يريد ومن حصلت له الإرادة دون الآخر فهو الإله، والثاني ليس بإله؛ لأن لو كان إلاهًا لتحقق ما يريد.

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:22] نَزَّهَ نَفْسه وَأَمَرَ الْعِبَاد أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَنْ أَنْ يَكُون لَهُ شَرِيك أَوْ وَلَد.

قَوْله تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:23] قَاصِمَة لِلْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرهمْ  قَالَ اِبْن جُرَيْج: الْمَعْنَى لَا يَسْأَله الْخَلْق عَنْ قَضَائِهِ فِي خَلْقه وَهُوَ يُسْأَل الْخَلْق عَنْ عَمَلهمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَبِيد.

يعني قاصمة للقدرية سواءٌ كانوا الغلاة في الإثبات، أو الغلاة في النفي، فردًا على الطرفين؛ لأن الله-جل وعلا- خلق الخلق، وقدر عليهم ما أراده، وكتبه عليهم ووجد ما كتبه عليهم في عالم الشهود وهو {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:23] لا يقال: كتب، وعذب؛ لأنه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:23] بهذا يقول الجبرية، كيف يكتب عليهم أنهم يكفرون، ثم يعذبهم، وقد كتبه عليهم؟ الجواب {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:23] وإذا قال القدرية النفاة للقدر، أن الله-جل وعلا- لم يعلم، ولم يكتب، ولم يقدر، ولم يكتب، وإن الأمر أُنف بمعني مستأنف، إنما وجد منهم هكذا، فعلمه الله-جل وعلا- الجواب أنه يفعل عن علم، وعلم، وكتب، وقدر، ومع ذلك {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:23] لأن له الحكمة التامة، والمشيئة النافذة، والخلق خلقه ف{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:23] مع أنه في علمه-جل وعلا- أن من كتب عليه الشقاء، أنه يفعل ما يناسب الشقاء، ومن كتب عليه دخول النار، أنه يفعل ما يناسبه، ويميل إليه بطبعه، مما يوجب له دخول النار، والعكس.  

 بَيْن بِهَذَا أَنَّ مَنْ يُسْأَل غَدًا عَنْ أَعْمَاله كَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَة لَا يَصْلُح لِلْإِلَهِيَّةِ. وَقِيلَ: لَا يُؤَاخَذ عَلَى أَفْعَاله وَهُمْ يُؤَاخَذُونَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ: أَيُحِبُّ رَبّنَا أَنْ يُعْصَى؟ قَالَ: أَفَيُعْصَى رَبّنَا قَهْرًا؟ قَالَ: أَرَأَيْت إِنْ مَنَعَنِي. الْهُدَى وَمَنَحَنِي الرَّدَى أَأَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟ قَالَ: إِنْ مَنَعَك حَقّك فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ مَنَعَك فَضْله فَهُوَ فَضْله يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء. ثُمَّ تَلَا الْآيَة: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:23].

خلق الخلق فهم خلقه، وهو ربهم خالقهم، مدبرهم وموجدهم من العدم، وهداهم النجدين، وبين لهم السبيلين، ومع ذلك اختاروا بإرادتهم، اختار منهم من اختار طريق السعادة، واختار منهم غير مجبور طريق الردى، ومع هذا كله الله-جل وعلا- {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:23] وله الحكمة التامة، والمشيئة النافذة {وَلا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [سورة الكهف:49]. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [سورة فصلت:46]. مادام هداهم النجدين بين لهم الطريقين، وجعل فيهم من القدرة والإرادة، والاختيار، على ما يختار به هذا الطريق، وهذا الطريق، نعم امتن على بعض عباده ووفقه وهداه، والمثال مثلاً: لو أن شيخًا من الشيوخ مدح كتابًا من الكتب، نعم ولم يزد على هذا، وذهب بعض الطلاب يبحثون عنه في المكتبات، وضاع عليهم يوم يبحثون عنه، هو مدح لهم الكتاب وهذا غاية ما عنده، لكنه قال لبعض الطلاب: الكتاب في المكتبة الفلانية، وفر عليهم، وقال لبعض الطلاب: أنا عندي لكم نسخ، هذا فضل منه، نعم هذا فضلٌ منه لا يسأل عنه، كيف يقال: أنت ظلمت هؤلاء؟! هل يمكن أن يقال: أنت ظلمت هؤلاء الذين ما بينت لهم في أي مكتبة؟ هل ظلمهم الشيخ؟ مدح لهم الكتاب، هذا مثال تقريبي: مدح لهم الكتاب، فذهبوا يمينًا وشمالاً، داروا في المكتبات كلها وفي آخر الأمر وجدوه، وفريقٌ من الطلاب قال لهم: الكتاب في المكتب الفلانية، زيادة فضل منهم، وفريقٌ آخر من الطلاب قال: عندي لكم نسخ، زيادة فضل، ومع ذلك فالله-جل وعلا- بين لهم، بين لهم ما ينفعهم، وبين لهم ما يضرهم، حثهم على ما ينفعهم، وحذرهم عن ما يضرهم، نعم {وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسولًا} [سورة الإسراء:15] {لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [سورة الأنعام:19]؛ ولذا يعذر الجاهل الذي لم يصل إليه البيان، يعذر بجهله، لكن من عرف الحق، وبين له، ولم يخف عليه وفهمه، ثم بعد ذلك خالف، هل له من حجة؟ نعم ليست له حجة.

 وَعَنْ اِبْن عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى وَكَلَّمَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاة، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّك رَبّ عَظِيم، لَوْ شِئْت أَنْ تُطَاع لَأُطِعْت، وَلَوْ شِئْت أَلَّا تُعْصَى مَا عُصِيت، وَأَنْتَ تُحِبّ أَنْ تُطَاع وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ تُعْصَى فَكَيْفَ هَذَا يَا رَبّ؟ فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ: إِنِّي لَا أُسْأَل عَمَّا أَفْعَل وَهُمْ يُسْأَلُونَ.

ويبقى أن مسألة القدر سر الله في خلقه، مهما أراد الإنسان أن يتصور مثل هذه الأمور قد يصعب عليه؛ لدقتها، نعم لدقتها؛ ولذا من نعم الله على الإنسان أن لا يلتفت لمثل هذه الأمور، يعمل بما أمر به، ويمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي، وتكون علامةً على أن الله-جل وعلا- أراد به الخير، ويلزم هذا الطريق.

قَوْله تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] أَعَادَ التَّعَجُّب فِي اِتِّخَاذ الْآلِهَة مِنْ دُون اللَّه مُبَالَغَة فِي التَّوْبِيخ، أَيْ صِفَتهمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِنْشَاء وَالْإِحْيَاء، فَتَكُون {أَمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] بِمَعْنَى هَلْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَلْيَأْتُوا بِالْبُرْهَانِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْأَوَّل اِحْتِجَاج. مِنْ حَيْثُ الْمَعْقُول؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {هُمْ يُنْشِرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:21] وَيُحْيُونَ الْمَوْتَى؛ هَيْهَاتَ! وَالثَّانِي اِحْتِجَاج بِالْمَنْقُولِ، أَيْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَة، فَفِي أَيّ كِتَاب نَزَلَ هَذَا؟ فِي الْقُرْآن، أَمْ فِي الْكُتُب الْمُنَزَّلَة عَلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء؟ {هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيد فِي الْقُرْآن. {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَمَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ الْكُتُب؛ فَانْظُرُوا هَلْ فِي كِتَاب مِنْ هَذِهِ الْكُتُب أَنَّ اللَّه أَمَرَ بِاِتِّخَاذِ آلِهَة سِوَاهُ؟ فَالشَّرَائِع لَمْ تَخْتَلِف فِيمَا يَتَعَلَّق بِالتَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا اِخْتَلَفَتْ فِي الْأَوَامِر وَالنَّوَاهِي.

ولذا جاء في الحديث «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» «أولاد العلات» أولاد الأمهات المختلفة والأب واحد، فالشرائع تختلف، والتوحيد والأصل واحد.

 وَقَالَ قَتَادَة: الْإِشَارَة إِلَى الْقُرْآن؛ الْمَعْنَى: {هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] بِمَا يَلْزَمهُمْ مِنْ الْحَلَال وَالْحَرَام {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] مِنْ الْأُمَم مِمَّنْ نَجَا بِالْإِيمَانِ وَهَلَكَ بِالشِّرْكِ. وَقِيلَ: {ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:24 بِمَا لَهُمْ مِنْ الثَّوَاب عَلَى الْإِيمَان وَالْعِقَاب عَلَى الْكُفْر {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] مِنْ الْأُمَم السَّالِفَة فِيمَا يُفْعَل بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُفْعَل بِهِمْ فِي الْآخِرَة. وَقِيلَ: مَعْنَى الْكَلَام الْوَعِيد وَالتَّهْدِيد، أَيْ اِفْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَعَنْ قَرِيب يَنْكَشِف الْغِطَاء. وَحَكَى أَبُو حَاتِم: أَنَّ يَحْيَى بْن يَعْمَر وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف قَرَآ {هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} [سورة الْأَنْبِيَاء:24]  بِالتَّنْوِينِ وَكَسْر الْمِيم، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا وَجْه لِهَذَا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة: الْمَعْنَى؛ هَذَا ذِكْر مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيَّ وَمِمَّا هُوَ مَعِي وَذِكْر مَنْ قَبْلِي. وَقِيلَ: ذِكْرٌ كَائِن مَنْ قَبْلِي، أَيْ جِئْت بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاء مِنْ قَبْلِي. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَالْحَسَن {الْحَقّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى هُوَ الْحَقّ وَهَذَا هُوَ الْحَقّ. وَعَلَى هَذَا يُوقَف عَلَى {لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] وَلَا يُوقَف عَلَيْهِ عَلَى قِرَاءَة النَّصْب. {فَهُم مُّعْرِضُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:24] أَيْ عَنْ الْحَقّ وَهُوَ الْقُرْآن، فَلَا يَتَأَمَّلُونَ حُجَّة التَّوْحِيد.

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:25]

لا يؤاخذ على الجهل إلا مع الإعراض، فإذا أعرض عوتب على الإعراض، أما مجرد الجهل لا يؤاخذ عليه.

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:25] وَقَرَأَ حَفْص وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ {نُوحِي إِلَيْهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:25] بِالنُّونِ؛ لِقَوْلِهِ: {أَرْسَلْنَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:25]. {أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:25] أَيْ قُلْنَا لِلْجَمِيعِ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ؛ فَأَدِلَّة الْعَقْل شَاهِدَة أَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ، وَالنَّقْل عَنْ جَمِيع الْأَنْبِيَاء مَوْجُود، وَالدَّلِيل إِمَّا مَعْقُولٌ وَإِمَّا مَنْقُول. وَقَالَ قَتَادَة: لَمْ يُرْسَل نَبِيّ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَالشَّرَائِع مُخْتَلِفَة فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن، وَكُلّ ذَلِكَ عَلَى الْإِخْلَاص وَالتَّوْحِيد.

نعم التوحيد لا يختلف، والشرائع تختلف من أمةٍ إلى أخرى، باعتبار اختلاف الأحكام تبعًا لمصالح الناس مع اختلاف الأزمان.

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:26] نَزَلَتْ فِي خُزَاعَة حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه، وَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ طَمَعًا فِي شَفَاعَتهمْ لَهُمْ. وَرَوَى مَعْمَر عَنْ قَتَادَة قَالَ قَالَتْ الْيَهُود- قَالَ مَعْمَر فِي رِوَايَته- أَوْ طَوَائِف مِنْ النَّاس: خَاتَنَ إِلَى الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة مِنْ الْجِنّ، فَقَالَ اللَّه-عَزَّ وَجَلَّ-: {سُبْحَانَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:26] تَنْزِيهًا لَه. {بَلْ عِبَادٌ} [سورة الْأَنْبِيَاء:26] أَيْ هُمْ عِبَاد. {مُّكْرَمُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:26] أَيْ لَيْسَ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّار.

(خاتن) بمعنى صاهر، خاتن إلى الجن أي صاهره، والملائكة نوعٌ من الجن؛ لاجتنانهم وخفائهم على الناس.

وَيَجُوز النَّصْب عِنْد الزَّجَّاج عَلَى مَعْنَى بَلْ اِتَّخَذَ عِبَادًا مُكْرَمِينَ. وَأَجَازَهُ الْفَرَّاء عَلَى أَنْ يَرُدّهُ عَلَى وَلَد،أَيْ بَلْ لَمْ نَتَّخِذهُمْ وَلَدًا، بَلْ اِتَّخَذْنَاهُمْ عِبَادًا مُكْرَمِينَ. وَالْوَلَد هَاهُنَا لِلْجَمْعِ، وَقَدْ يَكُون الْوَاحِد وَالْجَمْع وَلَدًا. وَيَجُوز أَنْ يَكُون لَفْظ الْوَلَد لِلْجِنْسِ، كَمَا يُقَال لِفُلَانٍ مَال.

{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:27] أَيْ لَا يَقُولُونَ حَتَّى يَقُول، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِمَا يَأْمُرهُمْ. {وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:27] أَيْ بِطَاعَتِهِ وَأَوَامِره.

{يَعْلَم مَا بَيْن أَيْدِيهمْ وَمَا خَلْفهمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:28]  أَيْ يَعْلَم مَا عَمِلُوا وَمَا هُمْ عَامِلُونَ؛ قَالَهُ اِبْن عَبَّاس. وَعَنْهُ أَيْضًا: {مَا بَيْن أَيْدِيهمْ} (الْآخِرَة) {وَمَا خَلْفهمْ} (الدُّنْيَا)؛ ذَكَرَ الْأَوَّل الثَّعْلَبِيّ، وَالثَّانِي الْقُشَيْرِيّ. {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ} [سورة الْأَنْبِيَاء:28] قَالَ اِبْن عَبَّاس: هُمْ أَهْل شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه. وَقَالَ مُجَاهِد: هُمْ كُلّ مَنْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَالْمَلَائِكَة يَشْفَعُونَ غَدًا فِي الْآخِرَة كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِمٍ وَغَيْره، وَفِي الدُّنْيَا أَيْضًا؛ فَإِنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِمَنْ فِي الْأَرْض، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ التَّنْزِيل عَلَى مَا يَأْتِي.

والشفاعة لا تكون إلا لمن أذن الله له بالشفاعة، ورضي عنه، وعن المشفوع له، حديث صحيح، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيمة؟ «قال: من قال: لا إله إلا الله» ولا تكن الشفاعة إلا لأهل التوحيد الخالص، «من قال: لا إله إلا الله خالصًا» وفي روايةٍ «مخلصًا من قلبه».

{وَهُم} [سورة الْأَنْبِيَاء:28] يَعْنِي الْمَلَائِكَة. {مِّنْ خَشْيَتِهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:28] يَعْنِي مِنْ خَوْفه. {مُشْفِقُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:28] أَيْ خَائِفُونَ لَا يَأْمَنُونَ مَكْره.

قَوْله تَعَالَى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ مِّن دُونِهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:29] قَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك وَغَيْرهمَا: عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَة إِبْلِيس حَيْثُ اِدَّعَى الشِّرْكَة، وَدَعَا إِلَى عِبَادَة نَفْسه وَكَانَ مِنْ الْمَلَائِكَة، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَة إِنِّي إِلَه غَيْره. وَقِيلَ: الْإِشَارَة إِلَى جَمِيع الْمَلَائِكَة. أَيْ فَذَلِكَ الْقَائِل{نَجْزِيه جَهَنَّم} [سورة الْأَنْبِيَاء:29]

يعني على فرض وجوده {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ} [سورة الْأَنْبِيَاء:29]  {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:29]  لو وجد وحاشاه من يقول هذا.

وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ أُكْرِمُوا بِالْعِصْمَةِ فَهُمْ مُتَعَبِّدُونَ، وَلَيْسُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى الْعِبَادَة كَمَا ظَنَّهُ بَعْض الْجُهَّال. وَقَدْ اسْتَدَلَّ اِبْن عَبَّاس بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْضَل أَهْل السَّمَاء. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [الْبَقَرَة]. {كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:29] أَيْ كَمَا جَزَيْنَا هَذَا بِالنَّارِ فَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الْوَاضِعِينَ الْأُلُوهِيَّة وَالْعِبَادَة فِي غَيْر مَوْضِعهمَا.

"