التعليق على تفسير القرطبي - سورة الأنبياء (02)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:30]  قِرَاءَة الْعَامَّة {أَوَ لَمْ} بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد وَشِبْل بْن عَبَّاد: {أَلَمْ يرَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:30]  بِغَيْرِ وَاو، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَف مَكَّة {أَوَلَمْ يَر} [سورة الْأَنْبِيَاء:30]  َبِمَعْنَى يَعْلَم. {الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رَتْقًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:30]  قَالَ الْأَخْفَش: {كَانَتَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:30] لِأَنَّهُمَا صِنْفَانِ، كَمَا تَقُول الْعَرَب: هُمَا لِقَاحَانِ أَسْوَدَانِ، وَكَمَا قَالَ اللَّه-عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ اللَّه يُمْسِك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنْ تَزُولَا} [سورة فَاطِر:41] قَالَ أَبُو إِسْحَاق: {كَانَتَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:30] ؛ لِأَنَّهُ يُعَبَّر عَنْ السَّمَوَات بِلَفْظِ الْوَاحِد بِسَمَاءٍ، وَلِأَنَّ السَّمَوَات كَانَتْ سَمَاءً وَاحِدَة، وَكَذَلِكَ الْأَرَضُونَ. وَقَالَ: {رَتْقًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:30]  وَلَمْ يَقُلْ رَتْقَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَر؛ وَالْمَعْنَى كَانَتَا ذَوَاتَيْ رَتْق.

المصدر يطلق على الواحد، وعلى الاثنين، وعلى الجمع على حدٍّ سواء، والهمزة همزة الاستفهام لها الصدارة في الكلام، والواو العاطفة بضدها؛ لأنه لابد أن يتقدمها معطوفٌ عليه، فكيف يجتمع حرف له الصدارة وحرف بضده، واجتمعا في أول الكلمة؟ في مثل هذا يقدرون معطوفًا عليه، مثلاً يقولون: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا}  [سورة الْأَنْبِيَاء:30]، والرأي هنا علم، يقدرون أجهل ولم يعلم ولم ير؟ أجهل ولم ير؟ فلابد من تقدير معطوفٍ عليه في مثل هذه الحالة؛ لأن العطف يقتضي معطوفًا، ومعطوفًا عليه، وحرفًا للعطف، حرف معطوف والمعطوف موجود بقي المعطوف عليه، وأما عطفه على ما تقدم يرده الهمزة، همزة الاستفهام؛ لأن لها الصدارة، فهي في صدر الجملة، في أول الجملة؛ لأنه لو قلنا: أن الواو عاطفة على ما تقدم ما صار للهمزة الصدارة.

 وَقَرَأَ الْحَسَن {رَتْقًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:30]  بِفَتْحِ التَّاء. قَالَ عِيسَى بْن عُمَر: هُوَ صَوَابٌ وَهِيَ لُغَة. وَالرَّتْق السَّدّ ضِدّ الْفَتْق، وَقَدْ رَتَقْت الْفَتْق أَرْتُقهُ فَارْتَتَقَ أَيْ اِلْتَأَمَ، وَمِنْهُ الرَّتْقَاء لِلْمُنْضَمَّةِ الْفَرْج.

الرتقُ، والرتق من العيوب في النساء التي ترد بها.

قَالَ اِبْن عَبَّاسٍ وَالْحَسَن وَعَطَاء وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة: يَعْنِي أَنَّهَا كَانَتْ شَيْئًا وَاحِدًا مُلْتَزِقَتَيْنِ فَفَصَلَ اللَّه بَيْنهمَا بِالْهَوَاءِ. وَكَذَلِكَ قَالَ كَعْب: خَلَقَ اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض بَعْضهَا عَلَى بَعْض، ثُمَّ خَلَقَ رِيحًا بِوَسَطِهَا فَفَتَحَهَا بِهَا، وَجَعَلَ السَّمَوَات سَبْعًا وَالْأَرَضِينَ سَبْعًا. وَقَوْلٌ ثَانٍ قَالَهُ مُجَاهِد وَالسُّدِّيّ وَأَبُو صَالِح: كَانَتْ السَّمَوَات مُؤْتَلِفَة طَبَقَة وَاحِدَة فَفَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْع سَمَوَات، وَكَذَلِكَ الْأَرَضِينَ كَانَتْ مُرْتَتِقَةً طَبَقَة وَاحِدَة فَفَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعًا. وَحَكَاهُ الْقُتَبِيّ فِي عُيُون الْأَخْبَار لَهُ، عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد فِي قَوْل اللَّه-عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [سورة الْأَنْبِيَاء:30].

إذا أطلق القتبي، فمراده ابن قتيبة، بدليل قوله: في عيون الأخبار، عيون الأخبار لابن قتيبة، يعني كثيرًا ما يقول: القتبي، ومراده ابن قتيبة.

طالب:.........

هذا قول سيرد ذكره.

 قَالَ: كَانَتْ السَّمَاء مَخْلُوقَة وَحْدهَا، وَالْأَرْض مَخْلُوقَةٌ وَحْدهَا، فَفَتَقَ مِنْ هَذِهِ سَبْع سَمَوَات، وَمِنْ هَذِهِ سَبْع أَرَضِينَ، خَلَقَ الْأَرْض الْعُلْيَا فَجَعَلَ سُكَّانهَا الْجِنّ وَالْإِنْس، وَشَقَّ فِيهَا الْأَنْهَار وَأَنْبَتَ فِيهَا الْأَثْمَار، وَجَعَلَ فِيهَا الْبِحَار وَسَمَّاهَا رِعَاء، عرضها مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام، ثُمَّ خَلَقَ الثَّانِيَة مِثْلهَا فِي الْعَرْض وَالْغِلَظ وَجَعَلَ فِيهَا أَقْوَامًا، أَفْوَاههمْ كَأَفْوَاهِ الْكِلَاب وَأَيْدِيهمْ أَيْدِي النَّاس، وَآذَانهمْ آذَان الْبَقَر وَشُعُورهمْ شُعُور الْغَنَم، فَإِذَا كَانَ عِنْد اِقْتِرَاب السَّاعَة أَلْقَتْهُمْ الْأَرْض إِلَى يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وَاسْم تِلْكَ الْأَرْض الدَّكْمَاء، ثُمَّ خَلَقَ الْأَرْض الثَّالِثَة غِلَظهَا مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام، وَمِنْهَا هَوَاءٌ إِلَى الْأَرْض. الرَّابِعَة خَلَقَ فِيهَا ظُلْمَة وَعَقَارِب لِأَهْلِ النَّار مِثْل الْبِغَال السُّود، وَلَهَا أَذْنَابٌ مِثْل أَذْنَاب الْخَيْل الطِّوَال، يَأْكُل بَعْضهَا بَعْضًا فَتُسَلَّط عَلَى بَنِي آدَم. ثُمَّ خَلَقَ اللَّه الْخَامِسَة مِثْلهَا فِي الْغِلَظ وَالطُّول وَالْعَرْض، فِيهَا سَلَاسِل وَأَغْلَال وَقُيُودٌ لِأَهْلِ النَّار. ثُمَّ خَلَقَ اللَّه الْأَرْض السَّادِسَة وَاسْمهَا مَاد، فِيهَا حِجَارَة سُود بُهْم، وَمِنْهَا خُلِقَتْ تُرْبَة آدَم-عَلَيْهِ السَّلَام- تُبْعَث تِلْكَ الْحِجَارَة يَوْم الْقِيَامَة وَكُلّ حَجَر مِنْهَا كَالطَّوْدِ الْعَظِيم، وَهِيَ مِنْ كِبْرِيت تُعَلَّق فِي أَعْنَاق الْكُفَّار فَتَشْتَعِل حَتَّى تُحْرِق وُجُوههمْ وَأَيْدِيهمْ، فَذَلِكَ قَوْله-عَزَّ وَجَلَّ-: {وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة} [سورة الْبَقَرَة:24]، ثُمَّ خَلَقَ اللَّه الْأَرْض السَّابِعَة واسمها عربية.

عريبة. بتقديم بالياء على الباء.

 وَاسْمهَا عرَيبَة وَفِيهَا جَهَنَّم، فِيهَا بَابَانِ اِسْم الْوَاحِد سِجِّين وَالْآخَر الْغَلْق، فَأَمَّا سِجِّين فَهُوَ مَفْتُوح وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي كِتَاب الْكُفَّار، وَعَلَيْهِ يُعْرَض أَصْحَاب الْمَائِدَة وَقَوْم فِرْعَوْن، وَأَمَّا الْغَلْق فَهُوَ مُغْلَقٌ لَا يُفْتَح إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَدْ مَضَى فِي [الْبَقَرَة] أَنَّهَا سَبْع أَرَضِينَ بَيْن كُلّ أَرْضَيْنِ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام، وَسَيَأْتِي لَهُ فِي آخِر [الطَّلَاق] زِيَادَة بَيَانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.

على كل حال هذا الكلام الذي يغلب على الظن أنه مُتلقى عن بني إسرائيل، ولابد له من نقلٍ صحيح.

وَقَوْلٌ ثَالِث قَالَهُ عِكْرِمَة وَعَطِيَّة وَابْن زَيْد وَابْن عَبَّاسٍ أَيْضًا فِيمَا ذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ: إِنَّ السَّمَوَات كَانَتْ رَتْقًا لَا تُمْطِر، وَالْأَرْض كَانَتْ رَتْقًا لَا تُنْبِت، فَفَتَقَ السَّمَاء بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْض بِالنَّبَاتِ، نَظِيره قَوْله-عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالسَّمَاء ذَات الرَّجْع * وَالْأَرْض ذَات الصَّدْع} [سورة الطَّارِق:11، 12]. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل الطَّبَرِيّ؛ لِأَنَّ بَعْده: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاء كُلّ شَيْء حَيّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:30] . قُلْت: وَبِهِ يَقَع الِاعْتِبَار مُشَاهَدَة وَمُعَايَنَة.

وأما على القول الأول، فلا يقع فيه اعتبار؛ لأن من طلب منه الاعتبار لا يرى إلا الدنيا من السموات، ولا يرى إلا الأرض الأولى من الأرضين، وماعدا ذلك لا يرى، فلا يقع به اعتبار إلا على اعتبار أن الخبر الصادق المقطوع به ينزل منزلة المشاهد في القطعية، ينزل منزلة المشاهد في القطعية؛ لأنه خبر لا يتخلف، خبر عن الله-جل وعلا- فلا يتخلف، وحكمه حكم المرئي، فإذا أخبرك الله-جل وعلا- عن شيء عليك أن تعتبر به وتتذكر به وتتعظ به؛ لأنه كالمشاهد، وعُبر عن الأمور الغيبية التي جاء الخبر بها مما لا يحتمل النقيض المقطوع به عُبر عنه بالرؤيا كما يقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [سورة الفيل:1]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [سورة الفجر:6] النبي-عليه الصلاة والسلام- ما رأى، لكن بلغه بطريقٍ قطعي كأنه مشاهد ومرئيٌ بالقطعية.

 قُلْت: وَبِهِ يَقَع الِاعْتِبَار مُشَاهَدَةً وَمُعَايَنَة، وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي غَيْر مَا آيَة؛ لِيَدُلّ عَلَى كَمَال قُدْرَته، وَعَلَى الْبَعْث وَالْجَزَاء. وَقِيلَ:

يَهُونُ عَلَيْهِمْ إِذَا يَغْضَبُو        نَ سُخْطُ الْعِدَاةِ وَإِرْغَامُهَا

وَرَتْقُ الْفُتُوقِ وَفَتْقُ الرُّتُو     قِ وَنَقْضُ الْأُمُورِ وَإِبْرَامُهَا

وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:30] ثَلَاث تَأْوِيلَات: أَحَدهَا: أَنَّهُ خَلَقَ كُلّ شَيْء مِنْ الْمَاء، قَالَهُ قَتَادَة الثَّانِي: حِفْظ حَيَاة كُلّ شَيْء بِالْمَاءِ. الثَّالِث: وَجَعَلْنَا مِنْ مَاء الصُّلْب كُلّ شَيْء حَيّ، قَالَهُ قُطْرُب. {وَجَعَلْنَا} بِمَعْنَى خَلَقْنَا. رَوَى أَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ فِي الْمُسْنَد الصَّحِيح لَهُ.

يعني ابن حبان.

مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قُلْت: يَا رَسُول اللَّه، إِذَا رَأَيْتُك طَابَتْ نَفْسِي، وَقَرَّتْ عَيْنِي، أَنْبِئْنِي عَنْ كُلّ شَيْء. قَالَ: «كُلّ شَيْء خُلِقَ مِنْ الْمَاء» الْحَدِيث، قَالَ أَبُو حَاتِم قَوْل أَبِي هُرَيْرَة: "أَنْبِئْنِي عَنْ كُلّ شَيْء" أَرَادَ بِهِ عَنْ كُلّ شَيْء خُلِقَ مِنْ الْمَاء، وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا جَوَاب الْمُصْطَفَى إِيَّاهُ حَيْثُ قَالَ: «كُلّ شَيْء خُلِقَ مِنْ الْمَاء» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا. وَهَذَا اِحْتِجَاج آخَر سِوَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْن السَّمَوَات وَالْأَرْض رَتْقًا. وَقِيلَ: الْكُلّ قَدْ يُذْكَر بِمَعْنَى الْبَعْض كَقَوْلِه: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلّ شَيْء} [سورة النَّمْل:23] وَقَوْله: {تُدَمِّر كُلّ شَيْء} [سورة الْأَحْقَاف:25] وَالصَّحِيح الْعُمُوم؛ لِقَوْلِهِ-عَلَيْهِ السَّلَام-: «كُلّ شَيْء خُلِقَ مِنْ الْمَاء»، وَاَللَّه أَعْلَم.

أيضًا الآية {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:30] كل من صيغ العموم، كل من صيغ العموم، وكل مخلوق حي قوامه بالماء، سواءً كانت الحياة بمقارنة الروح للجسد، كالحيوان، أو بمجرد النمو كالنبات هذه حياة {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [سورة الروم:19] ولا تحيا إلا بالماء، وحياة النامي المقارنة روحه لجسده بالماء أيضًا، ولا يمكن أن يستغني عن الماء، إلا إذا فارقت روحه جسده فمات، وكذلك الأرض إذا انقطع عنها الماء ماتت، فلا يستثنى من هذا شيء، أنه من العموم {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [سورة النمل:23] مخصوص بدليل أنها لم تؤت مما أوتي سليمان-عليه السلام-، سليمان أوتي أشياء لم تؤت إياها. {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة الأحقاف:25] ما دمرت السموات ولا الأرض ولا الأمور العظيمة، إنما دمرت ما يتعلق بهم.

{أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:30] أَيْ أَفَلَا يُصَدِّقُونَ بِمَا يُشَاهِدُونَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ، بَلْ لِمُكَوِّنٍ كَوَّنَهُ، وَمُدَبِّرٍ أَوْجَدَهُ، وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ الْمُكَوِّن مُحْدَثًا.

وأيضًا {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:30] مثل {أَوَلَمْ يَرَ}  [سورة الْأَنْبِيَاء:30]  الهمزة لها الصدارة والفاء عاطفة، فلابد من وجود معطوفٍ عليه، أكفروا فَلَا يُؤْمِنُونَ؟.

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:31] أَيْ جِبَالًا ثَوَابِت. {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:31] أَيْ لِئَلَّا تَمِيد بِهِمْ، وَلَا تَتَحَرَّك لِيَتِمّ الْقَرَار عَلَيْهَا، قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْمَعْنَى كَرَاهِيَة أَنْ تَمِيد. وَالْمَيْد التَّحَرُّك وَالدَّوَرَان. يُقَال: مَادَ رَأْسه، أَيْ دَارَ. وَقد مَضَى فِي [النَّحْل] مُسْتَوْفًى.

{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:31] يَعْنِي فِي الرَّوَاسِي، عَنْ اِبْن عَبَّاس. وَالْفِجَاج الْمَسَالِك. وَالْفَجّ الطَّرِيق الْوَاسِع بَيْن الْجَبَلَيْنِ.

امتن الله-جل وعلا- أن جعل في الأرض رواسي، لولا هذه الرواسي؛ لتحركت ولا ما استقر من عليها، ولا ما اطمئن، وهذه الجبال الرواسي أيضًا فيها فجاج، فيها طرق فيما بينها، ولولا هذه الفجاج وهذه الطرق؛ لانفصل بعض الأرض من بعض، ولا ما تمكن الناس من وصول بعضهم إلى بعض؛ لوجود هذه الفواصل التي خلت عن الفجاج، لكن جعل فيها هذه الفجاج؛ ليسهل الاتصال.

وَقِيلَ: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْض فِجَاجًا أَيْ مَسَالِك، وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ؛ لِقَوْلِه: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُون} [سورة الْأَنْبِيَاء:31] أَيْ يَهْتَدُونَ إِلَى السَّيْر فِي الْأَرْض. {سُبُلًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:31] تَفْسِير الْفِجَاج؛ لِأَنَّ الْفَجّ قَدْ يَكُون طَرِيقًا نَافِذًا مَسْلُوكًا وَقَدْ لَا يَكُون. وَقِيلَ: لِيَهْتَدُوا بِالِاعْتِبَارِ بِهَا إِلَى دِينهمْ.

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا} [سورة الْأَنْبِيَاء:32] أَيْ مَحْفُوظًا مِنْ أَنْ يَقَع وَيَسْقُط عَلَى الْأَرْض، دَلِيله قَوْله تَعَالَى: {وَيُمْسِك السَّمَاء أَنْ تَقَع عَلَى الْأَرْض إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة الْحَجّ:65]. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا بِالنُّجُومِ مِنْ الشَّيَاطِين، قَالَهُ الْفَرَّاء؛ دَلِيله قَوْله تَعَالَى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلّ شَيْطَان رَجِيم} [سورة الْحِجْر:17]. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا مِنْ الْهَدْم وَالنَّقْض، وَعَنْ أَنْ يَبْلُغهُ أَحَد بِحِيلَةٍ. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا فَلَا يَحْتَاج إِلَى عِمَاد. وَقَالَ مُجَاهِد: مَرْفُوعًا. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا مِنْ الشِّرْك وَالْمَعَاصِي.

وعلى هذا يكون المراد سكانها، محفوظًا سكانها من الشرك والمعاصي.

{وَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:32] يَعْنِي الْكُفَّار. {عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:32] قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي الشَّمْس وَالْقَمَر. وَأَضَافَ الْآيَات إِلَى السَّمَاء؛ لِأَنَّهَا مَجْعُولَة فِيهَا، وَقَدْ أَضَافَ الْآيَات إِلَى نَفْسه فِي مَوَاضِع؛ لِأَنَّهُ الْفَاعِل لَهَا.

والإضافة تكون بأدنى ملابسة، وأدنى سبب.

 بَيَّنَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ غَفَلُوا عَنْ النَّظَر فِي السَّمَوَات وَآيَاتهَا، مِنْ لَيْلهَا وَنَهَارهَا، وَشَمْسهَا وَقَمَرهَا، وَأَفْلَاكهَا وَرِيَاحهَا وَسَحَابهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ قُدْرَة اللَّه تَعَالَى؛ إِذْ لَوْ نَظَرُوا وَاعْتَبَرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا واحدًا، فَيَسْتَحِيل أَنْ يَكُون لَهُ شَرِيك.

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:33] ذَكَّرَهُمْ نِعْمَة أُخْرَى: جَعَلَ لَهُمْ اللَّيْل لِيَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَار لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ لِمَعَايِشِهِمْ. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:33] أَيْ وَجَعَلَ الشَّمْس آيَة النَّهَار، وَالْقَمَر آيَة اللَّيْل؛ لِتُعْلَمَ الشُّهُور وَالسُّنُونَ وَالْحِسَاب، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُبْحَانَ بَيَانُهُ.

لو كان الوقت كله نهار بدون فاصل، ما عرف الحساب، وما عرف عدد السنين، ولا عرفت الشهور ولا الأيام من الليالي، وكذلك لو كان {اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [سورة القصص:71] ما استطاعوا أن يفرقوا بين هذه الأمور، والتفريق بينها تنبني عليه مصالح الخلق.

{كُلٌّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:33] يَعْنِي مِنْ الشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم وَالكَوَاكِب وَاللَّيْل وَالنَّهَار. {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:33] أَيْ يَجْرُونَ وَيَسِيرُونَ بِسُرْعَةٍ كَالسَّابِحِ فِي الْمَاء. قَالَ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَق الْقَائِلِينَ: {وَالسَّابِحَات سَبْحًا} [سورة النازعات:3] وَيُقَال لِلْفَرَسِ الَّذِي يَمُدّ يَده فِي الْجَرْي: سَابِح. وَفِيهِ مِنْ النَّحْو أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يُسَبِّحْنَ وَلَا تُسَبِّح، فَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ: أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُنَّ بِفِعْلِ مَنْ يَعْقِل وَجَعَلَهُنَّ فِي الطَّاعَة بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْقِل، أَخْبَرَ عَنْهُنَّ بِالْوَاوِ وَالنُّون.

تنزيلاً لغير العاقل الموصوف بوصف العاقل منزلة العاقل، ويأتي العكس إذا وصف العاقل بوصفٍ من أوصاف من لا يعقل استحق التعبير عنه، بما يعبر به عن غير العاقل، ألا ترى إلى قوله-عليه الصلاة والسلام-: «إنها من الطوفين» يعني الهرة «إنها ليست بنجس إنها من من الطوافين» والأصل في الجمع المذكر السالم أنه للعقلاء، لا يجمع غير العاقل على جمع المذكر السالم، لكنها وصفت بالطوافة التي هي من خصائص العقلاء، فجمعت جمعهم.

وَنَحْوه قَالَ الْفَرَّاء، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي [يُوسُف]. وَقَالَ الْكِسَائِيّ: إِنَّمَا قَالَ: {يَسْبَحُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:33]؛ لِأَنَّهُ رَأْس آيَة، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {نَحْنُ جَمِيع مُنْتَصِر} [سورة الْقَمَر:44] وَلَمْ يَقُلْ: مُنْتَصِرُونَ. وَقِيلَ: الْجَرْي لِلْفَلَكِ فَنُسِبَ إِلَيْهَا. وَالْأَصَحّ أَنَّ السَّيَّارَة تَجْرِي فِي الْفَلَك، وَهِيَ سَبْعَة أَفْلَاك دُون السَّمَوَات الْمُطْبِقَة، الَّتِي هِيَ مَجَال الْمَلَائِكَة وَأَسْبَاب الْمَلَكُوت، فَالْقَمَر فِي الْفَلَك الْأَدْنَى، ثُمَّ عُطَارِد، ثُمَّ الزُّهْرَة، ثُمَّ الشَّمْس، ثُمَّ الْمَرِّيخ، ثُمَّ الْمُشْتَرَى، ثُمَّ زُحَل، وَالثَّامِن فَلَك الْبُرُوج، و التَّاسِع الْفَلَك الْأَعْظَم.

وَالْفَلَك وَاحِد أَفْلَاك النُّجُوم. قَالَ أَبُو عَمْرو: وَيَجُوز أَنْ يُجْمَع عَلَى فُعْل مِثْل أَسَد وَأُسْد، وَخَشَبٍ وَخُشْب. وَأَصْل الْكَلِمَة مِنْ الدَّوَرَان، وَمِنْهُ فَلْكَة الْمِغْزَل؛ لِاسْتِدَارَتِهَا. وَمِنْهُ قِيلَ: فَلَّكَ ثَدْي الْمَرْأَة تَفْلِيكًا، وَتَفَلَّكَ اِسْتَدَارَ. وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود: تَرَكْت فَرَسِي كَأَنَّهُ يَدُور فِي فَلَك. كَأَنَّهُ لِدَوَرَانِهِ شَبَهه بِفَلَكِ السَّمَاء الَّذِي تَدُور عَلَيْهِ النُّجُوم. قَالَ اِبْن زَيْد: الْأَفْلَاك مَجَارِي النُّجُوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر. قَالَ: وَهِيَ بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَالَ قَتَادَة: الْفَلَك اِسْتِدَارَةٌ فِي السَّمَاء تَدُور بِالنُّجُومِ مَعَ ثُبُوت السَّمَاء. وَقَالَ مُجَاهِد: الْفَلَك كَهَيْئَةِ حَدِيد الرَّحَى وَهُوَ قُطْبهَا. وَقَالَ الضَّحَّاك: فَلَكهَا مَجْرَاهَا وَسُرْعَة مَسِيرهَا وَقِيلَ: الْفَلَك مَوْج مَكْفُوف وَمَجْرَى الشَّمْس وَالْقَمَر فِيهِ، وَاَللَّه أَعْلَم.

التنوين في {كُلٌّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:33] هذا يسمونه تنوين العوض، والتنوين عوض عن المضاف إليه، كل ما ذكر واقعٌ في فلك {يَسْبَحُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:33] يدورون، كما يدور فلك المغزل.

قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:34] أَيْ دَوَام الْبَقَاء فِي الدُّنْيَا نَزَلَتْ حِين قَالُوا: نَتَرَبَّص بِمُحَمَّدٍ رَيْب الْمَنُون. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَدْفَعُونَ نُبُوَّته وَيَقُولُونَ: شَاعِرٌ نَتَرَبَّص بِهِ رَيْب الْمَنُون، وَلَعَلَّهُ يَمُوت كَمَا مَاتَ شَاعِر بَنِي فُلَان، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: قَدْ مَاتَ الْأَنْبِيَاء مِنْ قَبْلك، وَتَوَلَّى اللَّه دِينه بِالنَّصْرِ وَالْحِيَاطَة، فَهَكَذَا نَحْفَظ دِينك وَشَرْعك. {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:34] أَيْ أَفَهُمْ، مِثْل قَوْل الشَّاعِر:

رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَا تُرَعْ  فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ

أَيْ أَهُمْ! فَهُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار. وَقَالَ الْفَرَّاء: جَاءَ بِالْفَاءِ لِيَدُلّ عَلَى الشَّرْط؛ لِأَنَّهُ جَوَاب قَوْلهمْ: سَيَمُوتُ. وَيَجُوز أَنْ يَكُون جِيءَ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّقْدِير فِيهَا: أَفَهُمْ الْخَالِدُونَ إِنْ مِتَّ! قَالَ الْفَرَّاء: وَيَجُوز حَذْف الْفَاء وَإِضْمَارهَا؛ لِأَنَّ (هُمْ) لَا يَتَبَيَّن فِيهَا الْإِعْرَاب. أَيْ إِنْ مِتَّ فَهُمْ يَمُوتُونَ أَيْضًا، فَلَا شَمَاتَة فِي الْإِمَاتَة. وَقُرِئَ مِت، ومُت بِكَسْرِ الْمِيم وَضَمّهَا لُغَتَانِ.

ولا تقع الشماتة في الأمور المشتركة بين الناس، الأمور المشتركة لا يقع فيها الشماتة؛ لأن الشامت سوف يتصف بمثل هذا، إنما الشماتة فيما يتفاوت فيه الناس، فيشمت الأعلى بالأدنى مع أن الشماتة لا تجوز، لكن هذا فعلهم.

قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:35] تَقَدَّمَ فِي [آلِ عِمْرَانَ]. {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:35] {فِتْنَة} مَصْدَر عَلَى غَيْر اللَّفْظ. أَيْ نَخْتَبِركُمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاء وَالْحَلَال وَالْحَرَام، فَنَنْظُر كَيْفَ شُكْركُمْ وَصَبْركُمْ. {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:35] أَيْ لِلْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ.

فتنة مصدر على غير اللفظ؛ لأنها مصدر من نبلوكم، من قعد جلوسًا، من قام وقوفًا، وهنا الابتلاء، والافتتان، والامتحان، والاختبار كلها معانيها واحدة.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} [سورة الْأَنْبِيَاء:36]  أَيْ مَا يَتَّخِذُونَكَ. وَالْهُزْءُ السخرية، وقد تقدم. وهم المستهزئون الْمُتَقَدِّمُو الذِّكْرِ فِي آخِرِ [سُورَةِ" الْحِجْرِ].

الضابط بين إن إذا كان المخفف من الثقيلة أو نافية، إن وقع بعدها إلا فهي نافية، إن وقع بعدها إلا الاستنائية فهي نافية، وإلا فهي مخففة.

 وهم المستهزئون الْمُتَقَدِّمُو الذِّكْرِ فِي آخِرِ [سُورَةِ" الْحِجْرِ] فِي قوله: ِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]. كانُوا يَعِيبُونَ مَنْ جَحَدَ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ وَهُمْ جَاحِدُونَ لِإِلَهِيَّةِ الرَّحْمَنِ، وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ (أَهذَا الَّذِي) أَيْ يَقُولُونَ: أَهَذَا الَّذِي؟ فَأَضْمَرَ الْقَوْلَ وَهُوَ جَوَابُ" إِذا" وَقَوْلُهُ: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} [سورة الْأَنْبِيَاء:36] كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ "إِذا" وَجَوَابِهِ. (يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أَيْ بِالسُّوءِ وَالْعَيْبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:

لَا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا َ أُطْعَمْتُه

 

فَيَكُونَ جلْدُكِ مِثْلَ جِلْدِ الْأَجْرَبِ

أَيْ لَا تَعِيبِي مُهْرِي. {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:36] أَيْ بِالْقُرْآنِ. {هُمْ كافِرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:36] {هُمْ} الثَّانِيَةُ تَوْكِيدُ كُفْرِهِمْ، أَيْ هُمُ الْكَافِرُونَ مبالغة في وصفهم بالكفر.

نعم زيادة {هُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:36] هذه للتأكيد، وإلا فالأولى في الأصل تكفي وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ كافِرونَ، لكن زيدت {هُمْ} الثانية تأكيدًا.

قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:37]  أَيْ رُكِّبَ عَلَى الْعَجَلَةِ فَخُلِقَ عَجُولًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم:54] أَيْ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا. وَيُقَالُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنَ الشَّرِّ أَيْ شِرِّيرًا إِذَا بَالَغْتَ فِي وَصْفِهِ بِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّمَا أَنْتَ ذَهَابٌ وَمَجِيءٌ. أَيْ ذَاهِبٌ جَائٍ. أَيْ طَبْعُ الْإِنْسَانِ الْعَجَلَةُ، فَيَسْتَعْجِلُ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَتْ مُضِرَّةً. ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: لَمَّا دَخَلَ الروح في عيني آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَظَرَ فِي ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ جَوْفَهُ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:37]. وَقِيلَ: خُلِقَ آدَمُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أَحْيَا اللَّهُ رَأْسَهُ اسْتَعْجَلَ، وَطَلَبَ تَتْمِيمَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي: الْعَجَلُ الطِّينُ بلغة حمير. وأنشدوا:

وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَـلِ

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ النَّاسُ كُلُّهُمْ.

وهذا هو الأصل خلق الإنسان على هذه الجنسية، الناس كلهم خلقوا من هذا الطبع، وهذه الجبلة.

وَقِيلَ الْمُرَادُ: النَّضْرُ بْنُ الحرث.

النَّضْرُ بْنُ الحارث.

وَقِيلَ الْمُرَادُ: النَّضْرُ بْنُ الحارث بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ خُلِقَ مِنَ الطِّينِ الْحَقِيرِ أَنْ يَسْتَهْزِئَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عُبَيْدَةَ. قال النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَابَ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الشِّعْرِ اضْطِرَارًا كَمَا قال:

كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ

وَنَظِيرُه هَذِهِ الْآيَةُ: {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا} [الإسراء:11].

المفروض: ونظير هذه الآية، ما هو بنظير البيت.

 وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا} [الإسراء:11]. وقد مضى في {سبحان} [الإسراء:1].

{سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:37] هَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَأَنَّ طَبْعَ الْإِنْسَانِ الْعَجَلَةُ، وَأَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ، كَمَا قَالَ-عَلَيْهِ السَّلَامُ-: حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي {سُبْحَانَ} [الإسراء:1]. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ مَا دَلَّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَمَا جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ. وَقِيلَ: مَا طَلَبُوهُ مِنَ الْعَذَابِ، فَأَرَادُوا الاستعجال وقالوا: {مَتى هذَا الْوَعْدُ} [يونس:48]؟ وما علموا أن لكل شي أجلا مضروبًا. نزلت في النضر بن الحارث. وقوله: {إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال:32]. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ:

أبوسعيد بن مسعدة المجاشعي الأخفش الأوسط.

مَعْنَى {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:37] أَيْ قِيلَ لَهُ كُنْ فَكَانَ، فَمَعْنَى {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:37] عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَنْ يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، لَا يُعْجِزُهُ إِظْهَارُ مَا اسْتَعْجَلُوهُ مِنَ الْآيَاتِ.

{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:38] أَيِ الْمَوْعُودُ، كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ رَجَاؤُنَا أَيْ مَرْجُوُّنَا. وَقِيلَ: مَعْنَى {الْوَعْدُ} هُنَا الْوَعِيدُ، أَيِ الَّذِي يَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: الْقِيَامَةُ. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:38] يا معشر المؤمنين.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة الْأَنْبِيَاء:39] الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ فَلَا يَقْتَضِي مَفْعُولًا ثَانِيًا مثل {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]. وَجَوَابُ {لَوْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:39]  مَحْذُوفٌ، أَيْ لَوْ عَلِمُوا الْوَقْتَ الذي {لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:39] وَعَرَفُوهُ لَمَّا اسْتَعْجَلُوا الْوَعِيدَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لَعَلِمُوا صِدْقَ الْوَعْدِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ عَلِمُوهُ لَمَا أَقَامُوا عَلَى الْكُفْرِ وَلَآمَنُوا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ السَّاعَةِ، أَيْ لَوْ عَلِمُوهُ عِلْمَ يَقِينٍ لَعَلِمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ. َدَلَّ عَلَيْهِ {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} [سورة الْأَنْبِيَاء:40] أَيْ فَجْأَةً يَعْنِي الْقِيَامَةَ. وقيل العقوبة. وقيل: النار فلا يتمكنون من حِيلَةٍ {فَتَبْهَتُهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:40]. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: بَهَتَهُ بَهْتًا أَخَذَهُ بَغْتَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:40]. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: {فَتَبْهَتُهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:40] أَيْ تُحَيِّرُهُمْ، يُقَالُ: بَهَتَهُ يَبْهَتُهُ إِذَا وَاجَهَهُ بِشَيْءٍ يُحَيِّرُهُ.

الشيء عندما يأتي بغتة يبهت الإنسان، بحيث لا يستطيع أن يتصرف أو يتكلم بكلامٍ صائب، إلا من يثبته الله -جل وعلا-.

 وَقِيلَ: فَتَفْجَأَهُمْ {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها} [سورة الْأَنْبِيَاء:40] أَيْ صَرْفَهَا عَنْ ظُهُورِهِمْ. {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:40] أَيْ لَا يُمْهَلُونَ ويؤخرون لتوبة واعتذار.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:41] هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَعْزِيَةٌ لَهُ. يَقُولُ: إِنِ اسْتَهْزَأَ بِكَ هَؤُلَاءِ، فَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا. ثُمَّ وَعَدَهُ النَّصْرَ فَقَالَ: {فَحاقَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:41] أَيْ أَحَاطَ وَدَارَ {بِالَّذِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:41] كَفَرُوا وَ {سَخِرُوا مِنْهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:41] وهزؤوا بهم {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:41] أي جزاء استهزائهم.

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42]  يَحْرُسُكُمْ وَيَحْفَظُكُمْ. وَالْكَلَاءَةُ الْحِرَاسَةُ وَالْحِفْظُ، كَلَأَهُ اللَّهُ كِلَاءً (بِالْكَسْرِ) أَيْ حَفِظَهُ وَحَرَسَهُ. يُقَالُ: اذْهَبْ فِي كِلَاءَةِ اللَّهِ، وَاكْتَلَأْتُ مِنْهُمْ أَيِ احْتَرَسْتُ، قَالَ الشَّاعِرُ وهُوَ ابْنُ هَرْمَةَ:

إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَـا

 

ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا

قال آخر:

أَنَخْتُ بَعِيرِي وَاكْتَلَأْتُ بِعَيْنِهِ

وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: {قُلْ مَنْ يَكْلَوكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42] بِفَتْحِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ. وَحَكَيَا (مَنْ يَكْلَاكُمْ) عَلَى تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالْمَعْرُوفُ تَحْقِيقُ الْهَمْزَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ. فَأَمَّا (يَكْلَاكُمْ) فَخَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ فِيمَا ذَكَرَهُ النحاس أحدهما: أن بدل الهمزة إنما يَكُونُ فِي الشِّعْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يَقُولَانِ فِي الْمَاضِي كَلَيْتَهُ، فَيَنْقَلِبُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَلَيْتُهُ أَوْجَعْتُ كُلْيَتَهُ، وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ : كَلَاكَ اللَّهُ فَقَدْ دَعَا عَلَيْهِ بِأَنْ يُصِيبَهُ اللَّهُ بِالْوَجَعِ فِي كُلْيَتِهِ. ثُمَّ قِيلَ: مَخْرَجُ اللَّفْظِ مَخْرَجُ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّفْيُ. وَتَقْدِيرُهُ: قُلْ لَا حَافِظَ لكم {بِاللَّيْلِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42]  إذا نمتم (وَ) ب {النَّهارِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42] إِذَا قُمْتُمْ.

{مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42]؟ وجوابه لا أحد، فالمراد بهذا الاستفهام الإنكار.

وَتَقْدِيرُهُ: قُلْ لَا حَافِظَ لكم {بِاللَّيْلِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42]  إذا نمتم (وَ) ب {النَّهارِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42] إِذَا قُمْتُمْ وَتَصَرَّفْتُمْ فِي أُمُورِكُمْ. {مِنَ الرَّحْمنِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42] أَيْ مِنْ عَذَابِهِ وَبَأْسِهِ.

لا أحد يحفظ، والحافظ والواقي هو الله-جل وعلا-، وإذا كان الإنسان وهو مستيقظ بكامل قواه، يصيبه ما يصيبه من الآفات، وتلدغه الحية، ويلدغه العقرب، ويُصاب بالمصائب وهو مستيقظ، فكيف به إذا نام؟! لا يستطيع الدفاع عن نفسه، والله-جل وعلا- هو الحافظ، وهو الواقي من هذه الشرور.

 كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ ينصرني من الله} [هود:63] أَيْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالْخِطَابُ لِمَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِالصَّانِعِ، أَيْ إِذَا أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ، فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِحْلَالِ الْعَذَابِ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَهُ. {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42] أَيْ عَنِ الْقُرْآنِ.

لا يمنع أن يكون الخطاب للجميع المقر بالخالق، وغير المقر بالخالق؛ لأن حتى غير المقر بالخالق أيضًا ممن يعبد غيره لا يزعم أن غيره يحفظ أو يكلأ؛ لأنها لا تدفع عن نفسها، فكيف تدفع عن غيرها؟!.

{بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42] أَيْ عَنِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: عَنْ مَوَاعِظِ رَبِّهِمْ وَقِيلَ: عَنْ مَعْرِفَتِهِ. {مُعْرِضُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:42] لَاهُونَ غَافِلُونَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الْأَنْبِيَاء:43]  الْمَعْنَى: أَلَهُمْ، وَالْمِيمُ صِلَةٌ. {تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا} [سورة الْأَنْبِيَاء:43] أَيْ مِنْ عَذَابِنَا. {لَا يَسْتَطِيعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:43] يَعْنِي الَّذِينَ زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ {نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:43]، فَكَيْفَ يَنْصُرُونَ عَابِدِيهِمْ. {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:43] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُمْنَعُونَ. وَعَنْهُ: يُجَارُونَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنَا لَكَ جَارٌ وَصَاحِبٌ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ مُجِيرٌ مِنْهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

يُنَادِي بِأَعْلَى صوته متعوذًا

 

ليصحب منها والرماح دواني

رَوَى مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: {يُنْصَرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:44] أَيْ يُحْفَظُونَ. قَتَادَةُ: أَيْ لَا يَصْحَبُهُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ، وَلَا يَجْعَلُ رَحْمَتَهُ صَاحِبًا لَهُمْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:44] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ. أي بسطنا لهم ولآبائهم في نعيمها و{طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:44] فِي النِّعْمَةِ فَظَنُّوا أَنَّهَا لا تزول عنهم، فاغتروا وأعرضوا عن تدبير حُجَجِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

ولا علموا أن هذا المتاع إنما هو استدراج، بسط الرزق لهم ولآبائهم والنعيم، مع طول أعمارهم استدراج لهم.

 {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} [سورة الْأَنْبِيَاء:44] أَيْ بِالظُّهُورِ عَلَيْهَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ أَرْضًا بَعْدَ أَرْضٍ، وَفَتْحِهَا بَلَدًا بَعْدَ بَلَدٍ مِمَّا حَوْلَ مَكَّةَ، قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، حَكَاهُ  الْكَلْبِيُّ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَدْ مَضَى فِي [الرَّعْدِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى. {أَفَهُمُ الْغالِبُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:44] يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ نَقَصْنَا مِنْ أطرافهم، بل أنت تغلبهم وتظهر عليهم.

وجاء في تفسير قوله -جلا علا-: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} [سورة الْأَنْبِيَاء:44] بموت العلماء، بموت العلماء الذين بهم يموت العلم، ويظهر الجهل ويكثر، وتخفت أنوار الدين بموت أهل العلم، وهذا نقص على كل حال.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:45] أَيْ أُخَوِّفُكُمْ وَأُحَذِّرُكُمْ بِالْقُرْآنِ. {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:45] أَيْ مَنْ أَصَمَّ اللَّهُ قَلْبَهُ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ.

ولو سمع الكلام فهو سماع لا ينفع، فمثل هذا السماع وجوده مثل عدمه، فتجد الإنسان يسمع الكلام ويميز بين الأصوات، ويدعى أجاب، لكن إذا لم ينفعه سمعه في أمر دينه، فوجوده مثل عدمه وعلى هذا يصح نفيه.

 وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، عَنْ فَهْمِ الْآيَاتِ وَسَمَاعِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ {وَلا يُسْمَعُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:45] بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ {الصُّمُّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:45] رَفْعًا أَيْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُسْمِعُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ والسلمى أيضا، وأبو حيوة ويحيى بن الحارث.

أي أن الله لا يسمعهم أي لا يجيبهم، يأتي السماع بمعنى الإجابة، سمع الله لمن حمده أي أجابهم.

وأبو حيوة ويحيى بن الحارث: {لا تُسْمِعُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:45] بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَكَسْرِ الْمِيمِ". الصُّمَّ" نَصْبًا، أَيْ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ (لَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ)، فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَرَدَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ: وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: إِذَا مَا تُنْذِرُهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَذَلِكَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ عرف المعنى.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:46] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَرَفٌ. قَالَ قَتَادةُ: عقوبة. وقال ابن كيسان: قليلٌ وأدنى شي، مأخوذٌ من نفح المسك. قال:

وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَاءِ 

 

تَنَفَّحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانُهَا

قال ابْنُ جُرَيْجٍ: نَصِيبٌ، كَمَا يُقَالُ: نَفَحَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ عَطَائِهِ، إِذَا أَعْطَاهُ نَصِيبًا مِنَ المال.

نكرة في سياق الشرط تعم أدنى نفحة.

كَمَا يُقَالُ: نَفَحَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ عَطَائِهِ، إِذَا أَعْطَاهُ نَصِيبًا مِنَ المال. قال الشاعر:

لَمَّا أَتَيْتُكَ أَرْجُو فَضْلَ نَائِلِكُمْ 

 

نَفَحَتْنِي نَفْحَةٌ طَابَتْ لَهَا الْعَرَبُ

أَيْ طَابَتْ لَهَا النَّفْسُ. والنفحة في اللغة الدفعة اليسيرة، فالمعنى: ولئن مسهم أقل شي مِنَ الْعَذَابِ {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:46] أَيْ مُتَعَدِّينَ. فَيَعْتَرِفُونَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الاعتراف.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [سورة الْأَنْبِيَاء:47]  الْمَوَازِينُ جَمْعُ مِيزَانٍ. فَقِيلَ: إِنَّهُ يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ مِيزَانًا تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُهُ، فَتُوضَعُ الْحَسَنَاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالسَّيِّئَاتُ فِي كِفَّةٍ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَوَازِينُ لِلْعَامِلِ الْوَاحِدِ، يُوزَنُ بِكُلِ مِيزَانٍ مِنْهَا صِنْفٌ مِنْ أَعْمَالِهِ، كَمَا قَالَ:

مَلِكٌ تَقُومُ الْحَادِثَاتُ لِعَدْلِهِ 

 

 فَلِكُلِّ حَادِثَةٍ لَهَا مِيزَانُ

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِيزَانًا وَاحِدًا عَبَّرَ عنه بلفظ الجمع.

عبر عنه بلفظ الجمع من باب التأكيد، من باب التأكيد أو من باب التعظيم، لكونه يقوم مقام موازين كثيرة جدًّا عُبر عنه بذلك، وعلى هذا يكون الميزان واحدًا، توزن به جميع الأعمال من جميع الناس، أو يقال: لكل شخصٍ ميزان، أو يقال: موازين متعددة.

وخرج اللالكائي الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ: "إِنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالْمِيزَانِ فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيْ الْمِيزَانِ فَإِنْ رَجَحَ نَادَى الْمَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: سَعِدَ فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ نَادَى الْمَلَكُ: شَقِيَ فُلَانٌ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا". وَخَرَّجَ عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: صَاحِبُ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقِيلَ: لِلْمِيزَانِ كِفَّتَانِ وَخُيُوطٌ وَلِسَانٌ وَالشَّاهَيْنِ. فَالْجَمْعُ يَرْجِعُ إِلَيْهَا.

لإفراده وما يتركب منه، جمع باعتبار أن له أجزاءً يتركب منها، وعلى كل حال من رجحت كفة حسناته فقد فاز، وأما من رجحت كفة سيئاته فقد خاب، والله-جل وعلا- جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئة واحدة، ولا شك أن من زادت آحاده على عشراته، فهو في خيبةٍ وحرمان وخسران، نسأل الله السلامة والعافية.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ والضحاك: ذكر الميزان مثل، وليس ثم مِيزَانٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْعَدْلُ. وَالَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَعَلَيْهِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.

ولا شك أن إثبات الميزان الذي جاءت به النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة، هو قول أهل السنة، ولا ينكره إلا مبتدعة، كره المعتزلة محتجين بأن الله لا يحتاج إلى وزن، يعرف النتائج من غير وزن، لكن ليس هذا ناتجًا أو صادرًا عن عدم معرفة بحقيقة الحال، وإنما النتائج كلها معروفة، ولا تخفى عليه خافية -جل وعلا- و{يَعلَمُ السِّرَّ وَأَخفَى} [سورة طه:7]، لكن ليبين لصاحب العمل أنه غابنٌ أو مغبون.

 وَقَدْ مَضَى فِي [الْأَعْرَافِ] بَيَانُ هَذَا، وَفِي [الْكَهْفِ] أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ "التَّذْكِرَةِ" مُسْتَوْفًى والحمد لله. و{القسط} [سورة الْأَنْبِيَاء:47]  الْعَدْلُ أَيْ لَيْسَ فِيهَا بَخْسٌ وَلَا ظُلْمٌ كما يكون في وزن الدنيا. و{القسط} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] صِفَةُ الْمَوَازِينِ وَوُحِّدَ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: مِيزَانُ قِسْطٍ، وَمِيزَانَانِ قِسْطٌ، وَمَوَازِينُ قِسْطٌ. مِثْلَ رِجَالٌ عَدْلٌ وَرِضًا. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ (الْقِصْطَ) بِالصَّادِ. {لِيَوْمِ الْقِيامَةِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] أَيْ لِأَهْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ." فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً" أَيْ لَا يُنْقَصُ مِنْ إِحْسَانِ مُحْسِنٍ وَلَا يزاد في إساءة مسي. {وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] قَرَأَ نَافِعٌ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ: {مِثْقَالُ حَبَّةٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] بِالرَّفْعِ هُنَا، وَفِي [لُقْمَانَ] عَلَى مَعْنَى إِنْ وَقَعَ أَوْ حَضَرَ، فَتَكُونُ كَانَ تَامَّةً َلَا تَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ.

نعم إن وجد مثقال حبة، {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [سورة البقرة:280] يعني وجد.

والباقون: {مِثْقَالَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ أَوْ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِثْقَالَ.

فتكون ناقصة.

وَمِثْقَالُ الشَّيْءِ مِيزَانُهُ مِنْ مِثْلِهِ. {أَتَيْنا بِها} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] مقصورة الألف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجئنا بِهَا لِلْمُجَازَاةِ عَلَيْهَا وَلَهَا. يُجَاءُ بِهَا أَيْ بالحبة وَلَوْ قَالَ بِهِ أَيْ بِالْمِثْقَالِ لَجَازَ. وَقِيلَ: مِثْقَالُ الْحَبَّةِ لَيْسَ شَيْئًا غَيْرَ الْحَبَّةِ فَلِهَذَا قَالَ {أَتَيْنا بِها} [سورة الْأَنْبِيَاء:47].

ما قال: أتينا به، يعني مثقال، وإنما {أَتَيْنا بِها} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] أي الحبة والمراد وزنها.

 وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: {أَتَيْنا بِها} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] بِالْمَدِّ عَلَى مَعْنَى جَازَيْنَا بِهَا. يُقَالُ: آتَى يؤاتي مؤاتاة. {وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:47].

أتينا يعني أعطينا، و{أَتَيْنا بِها} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] أي جئنا بها.

{وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] أي محاسبين عَلَى مَا قَدَّمُوهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقِيلَ: {حاسِبِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] إذ لَا أَحَدَ أَسْرَعُ حِسَابًا مِنَّا.

{حاسِبِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:47]  أي مجازين، نقول كذا في الأصول: مجازين على ما قدموه من خيرٍ وشر؛ لأن المجازة هي نتيجة الحساب.

وَقِيلَ: {حاسِبِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:47] إذ لَا أَحَدَ أَسْرَعُ حِسَابًا مِنَّا وَالْحِسَابُ الْعَدُّ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ وَإِنْ كَانَ عقابك فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ» قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}» [سورة الْأَنْبِيَاء:47] فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلَاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أحرار كلهم. قال: حديثٌ غريب.

طالب:.........

صح إسناده؟

طالب:.........

نحمد الله.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً} [سورة الْأَنْبِيَاء:48] وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ: (الْفُرْقَانَ ضِيَاءً) بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى الْحَالِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ حَذْفَ الْوَاوِ وَالْمَجِيءَ بِهَا واحد، كما قال الله-عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً} [سورة الصافات:6،7] أَيْ حِفْظًا. وَرَدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ. قال: لأن الواو تجئ لِمَعْنًى فَلَا تُزَادُ. قَالَ: وَتَفْسِيرُ{الْفُرْقَانِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:48] التَّوْرَاةُ، لِأَنَّ فِيهَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ. قَالَ: {وَضِياءً} [سورة الْأَنْبِيَاء:48] مَثَلَ {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} [سورة المائدة:46] وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {الْفُرْقَانِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:48] هُنَا هُوَ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ؛ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ} [الأنفال:41] يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، لِدُخُولِ الْوَاوِ فِي الضِّيَاءِ، فيكون معنى الآية: ولقد آتينا موسى وهارون النَّصْرَ وَالتَّوْرَاةَ الَّتِي هِيَ الضِّيَاءُ وَالذِّكْرُ. {لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:49]  أَيْ غَائِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا اللَّهَ تَعَالَى، بَلْ عَرَفُوا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا قَادِرًا، يُجَازِي عَلَى الْأَعْمَالِ، فَهُمْ يَخْشَوْنَهُ فِي سَرَائِرِهِمْ، وَخَلْوَاتِهِمُ الَّتِي يَغِيبُونَ فِيهَا عَنِ النَّاسِ.

وهذا الأصل في الإيمان أن يكون في المغيبات، أما في المشاهد والمرئي يستوي فيه كل أحد؛ لأنه لا ينكر المرئي أحد، يستوون فيه، أما التفاوت في ما يغيب عن الإنسان، بعض الناس يؤمن، بعضهم لا يصدق، يؤمن لقيام الحجة عليه، وبعضهم لا يصدق لعدم اعترافه، أو لعدم تمام الحجة، أو لما كتب عليه من الشقاوة.

يُجَازِي عَلَى الْأَعْمَالِ فَهُمْ يَخْشَوْنَهُ فِي سَرَائِرِهِمْ، وَخَلْوَاتِهِمُ الَّتِي يَغِيبُونَ فِيهَا عَنِ النَّاسِ.

{وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:49] أَيْ مِنْ قِيَامِهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ. {مُشْفِقُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:49] أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ. {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:50] يَعْنِي الْقُرْآنَ {أَفَأَنْتُمْ لَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:50]  يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ {مُنْكِرُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:50] وَهُوَ مُعْجِزٌ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:50] بِمَعْنَى أنزلناه مباركًا.

حال، ومباركًا حال.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:51]  قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ أَعْطَيْنَاهُ هُدَاهُ. {مِنْ قَبْلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:51] أَيْ مِنْ قَبْلِ النُّبُوَّةِ، أَيْ وَفَّقْنَاهُ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ فَرَأَى النَّجْمَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. وَقِيلَ: {مِنْ قَبْلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:51] أَيْ مِنْ قَبْلِ موسى وهرون. وَالرُّشْدُ عَلَى هَذَا النُّبُوَّةُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، كَمَا قَالَ لِيَحْيَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صبيًّا} [مريم:12]. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: رُشْدُهُ صَلَاحُهُ. {وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:51] أَيْ إِنَّهُ أَهْلٌ لِإِيتَاءِ الرُّشْدِ وَصَالِحٌ لِلنُّبُوَّةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:52] قِيلَ: الْمَعْنَى أَيِ اذْكُرْ حِينَ قَالَ لِأَبِيهِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:51]. وَقِيلَ: الْمَعْنَى {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:51] إِذْ قَالَ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا وَلَا يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ: {عَالِمِينَ} لِأَبِيهِ (وَهُوَ آزَرُ) وَقَوْمِهِ نُمْرُودُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ. {مَا هذِهِ التَّماثِيلُ} [سورة الْأَنْبِيَاء:52] أَيِ الْأَصْنَامُ. وَالتِّمْثَالُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِلشَّيْءِ الْمَصْنُوعِ مُشَبَّهًا بِخَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى. يُقَالُ: مَثَّلْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ أَيْ شَبَّهْتُهُ بِهِ. وَاسْمُ ذَلِكَ الْمُمَثَّلِ تِمْثَالٌ. {الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:52] أَيْ مُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا. {قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:53]  أَيْ نَعْبُدُهَا تَقْلِيدًا لِأَسْلَافِنَا.

وهكذا كل من عكف على ما يصده عن ذكر الله، وعن طاعة الله، وعن عبادة الله، ينطبق عليه مثل هذا، ويمكن أن تسمى تماثيل إذا صدته عن فعل ما يرضي الله-جل وعلا-، واستغرق وقته في ذلك وهو عاكفٌ عليها، فإن صدته عن الواجبات، فلا شك أنها مثل التماثيل؛ لأن مثل هذا على حسب ما يترتب عليه، ليس بمنزلة عبادتها من دون الله، لكنه إذا آثرها على طاعة الله، وعلى ما أوجب الله عليه، أشبهت التماثيل من هذه الحيثية.

{قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الْأَنْبِيَاء:54]  أَيْ فِي خُسْرَانٍ بِعِبَادَتِهَا؛ إِذْ هِيَ جَمَادَاتٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَعْلَمُ. {قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:55]  أَيْ أَجَاءٍ أَنْتَ بِحَقٍّ فِيمَا تَقُولُ؟ {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:55]  أَيْ لَاعِبٌ مَازِحٌ. {قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الْأَنْبِيَاء:56] أَيْ لَسْتُ بِلَاعِبٍ، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات وَالْأَرْضِ. {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [سورة الْأَنْبِيَاء:56] أَيْ خَلَقَهُنَّ وَأَبْدَعَهُنَّ. {وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:56]  أَيْ عَلَى أَنَّهُ رب السموات وَالْأَرْضِ. وَالشَّاهِدُ يُبَيِّنُ الْحُكْمَ، وَمِنْهُ {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران: 18] بَيَّنَ اللَّهُ، فَالْمَعْنَى: وَأَنَا أُبَيِّنُ بِالدَّلِيلِ مَا أقول.

كما يبين الشاهد الحق، والحق إنما يبين إذا شُهد به، قامت عليه البينة؛ ولذا سمي الشاهد بينة؛ لأنه يبين الحق.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:57] أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِالْمُحَاجَّةِ بِاللِّسَانِ، بَلْ كَسَّرَ أَصْنَامَهُمْ فِعْلَ وَاثِقٍ بِاللَّهِ تَعَالَى، مُوَطِّنٍ نَفْسَهُ عَلَى مُقَاسَاةِ الْمَكْرُوهِ فِي الذَّبِّ عَنِ الدِّينِ. وَالتَّاءُ فِي" تَاللَّهِ" تَخْتَصُّ بالْقَسَمِ بِاسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَالْوَاوُ تَخْتَصُّ بِكُلِّ مُظْهَرٍ، وَالْبَاءُ بِكُلِّ مضمر ومظهر. قال الشاعر:

تَاللَّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ 

 

بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالْآسُ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ وَحُرْمَةُ اللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ، أَيْ لَأَمْكُرَنَّ بِهَا. وَالْكَيْدُ الْمَكْرُ. كَادَهُ يَكِيدُهُ كَيْدًا وَمَكِيدَةً، وَكَذَلِكَ الْمُكَايَدَةُ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ الْحَرْبُ كَيْدًا، يُقَالُ: غَزَا فلان فلم يلق كيدًا، وكل شي تُعَالِجُهُ فَأَنْتَ تَكِيدُهُ.

نعم، مكر، وكيد، وخدعة، وجاء في الحديث: «إن الحرب خدعة».

{بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:57] أَيْ مُنْطَلِقِينَ ذَاهِبِينَ. وَكَانَ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ عِيدٌ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَقَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ: لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا أَعْجَبَكَ دِينُنَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي {وَالصَّافَّاتِ} [سورة الصافات:1]- فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِي نَفْسِهِ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:57]. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ فِي سِرٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي أَفْشَاهُ عَلَيْهِ. وَالْوَاحِدُ يُخْبَرُ عَنْهُ بِخَبَرِ الْجَمْعِ إِذَا كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يَرْضَى بِهِ غَيْرُهُ. وَمِثْلُهُ {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8]. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْقَوْمِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الضُّعَفَاءُ فَهُمُ الَّذِينَ سَمِعُوهُ.

إذا كان القول القائل الواحد من ما يتصور ويتوقع أن يوافقه عليه غيره، صح التعبير عنه بلفظ الجمع، قوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] هذا قول واحد، ابن أُبي، فلما كان أصحابه يعتقدون مثل هذا نسب إليهم جميعهم.

 وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْقَوْمِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الضُّعَفَاءُ فَهُمُ الَّذِينَ سَمِعُوهُ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ احْتَالَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] أَيْ ضَعِيفٌ عَنِ الْحَرَكَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً} [سورة الْأَنْبِيَاء:58]  أَيْ فُتَاتًا. وَالْجَذُّ الْكَسْرُ وَالْقَطْعُ، جَذَذْتُ الشَّيْءَ كَسَرْتُهُ وَقَطَّعْتُهُ. وَالْجِذَاذُ وَالْجُذَاذُ مَا كُسِرَ مِنْهُ، وَالضَّمُّ أَفْصَحُ مِنْ كَسْرِهِ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وقال الْكِسَائِيُّ: وَيُقَالُ لِحِجَارَةِ الذَّهَبِ جُذَاذٌ، لِأَنَّهَا تُكْسَرُ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: {جِذاذاً} [سورة الْأَنْبِيَاء:58]  بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ كِسَرًا وَقِطَعًا جَمْعُ جَذِيذٍ وَهُوَ الْهَشِيمُ، مِثْلَ خَفِيفٍ وَخِفَافٍ وَظَرِيفٍ وَظِرَافٍ. قَالَ الشاعر:

جَذَّذَ الْأَصْنَامَ فِي مِحْرَابِهَا

 

ذَاكَ فِي اللَّهِ العلي المقتدر

والْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. مثل الْحُطَامُ وَالرُّفَاتُ، الْوَاحِدَةُ جُذَاذَةٌ. وَهَذَا هُوَ الْكَيْدُ الَّذِي أَقْسَمَ بِهِ لَيَفْعَلَنَّهُ بِهَا. وَقَالَ: {فَجَعَلَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:58]، لِأَنَّ الْقَوْمَ اعْتَقَدُوا فِي أَصْنَامِهِمُ الْإِلَهِيَّةَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو السَّمَّالِ: {جَذاذاً} [سورة الْأَنْبِيَاء:58]  بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ لُغَتَانِ كَالْحَصَادِ وَالْحِصَادِ. أَبُو حَاتِمٍ: الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ وَالضَّمُّ بِمَعْنًى، حَكَاهُ قُطْرُبٌ. {إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ} [سورة الْأَنْبِيَاء:58] أَيْ عَظِيمَ الْآلِهَةِ فِي الْخَلْقِ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَسِّرْهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ: تَرَكَ الصَّنَمَ الْأَكْبَرَ وَعَلَّقَ الْفَأْسَ الَّذِي كَسَّرَ بِهِ الْأَصْنَامَ فِي عُنُقِهِ؛ لِيَحْتَجَّ بِهِ عليهم. {لعلهم إليه} [سورة الْأَنْبِيَاء:58] أي إلى إبراهيم دينه {يَرْجِعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:58] إِذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: {لعلهم إليه} [سورة الْأَنْبِيَاء:58] أَيْ إِلَى الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ {يَرْجِعُونَ} [سورة الْأَنْبِيَاء:58]  فِي تكسيرها.

هو ترك الكبير من الأصنام؛ ليسند إليه هذا الفعل، وليس مراده أن يتنصل من التبعة، وإنما أراد أن يلزمهم، أراد بذلك أن يلزمهم بأنه إذا كان هذا كبيرهم لا يستطيع أن يدفع عن نفسه هذه التهمة، فكيف يعبد من دون الله؟! فضلاً عن الصغار الذين لم يستطيعوا أن يدفعوا عنهم التكسير، وإنما فعل هذا من باب الإلزام لهم.

"