التعليق على تفسير القرطبي - سورة الحج (04)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، قال الإمام القرطبي- رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: ‏{‏ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ‏} [ سورة الحج: 26] أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم؛ يقال‏:‏ بوأته منزلاً وبوأت له‏.‏ كما يقال‏:‏ مكنتك ومكنت لك؛ فاللام في قوله‏ ‏لإبراهيم‏ صلة للتأكيد؛ كقوله ‏{‏ رَدِفَ لَكُم} [ سورة ‏النمل‏:‏ 72‏]‏، وهذا قول الفراء‏."‏

بناءً على أن الفعل يتعدى بنفسه فلا يحتاج إلى تعدية بحرف، وسيأتي كلام المؤلف في تضمين الفعل ما يتعدى بهذا الحرف، وحينئذ تكون اللام من أصل الكلام وليست زائدة، كلامهم كثير في زيادة بعض الحروف، والمقرر عند الأمة والمقطوع به أن القرآن معصوم من الزيادة والنقصان، لكن هذه الزيادة بحيث لو حذف الحرف ما تأثر الكلام، ألم أقل إنك، ألم أقل لك إنك، فعندهم مثل هذا زائد؛ لأنه لا يتأثر الكلام، ومثل هذا { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} فالفعل بوأ متعدٍ ولا يحتاج إلى حرف للتعدية، وتضمين بوأنا جعلنا بحيث يصح تعديته باللام على أنه جاء في لغة العرب من الأفعال ما يتعدى بنفسه، وفي الوقت ذاته يتعدى بالحرف، أحيانًا يعدونه بفائدة الحرف، لاشك أن مثل هذا التركيب في القرآن لا يخلو من فائدة معنوية، وإن لم تكن من الناحية العربية ظاهرة.

"وقيل‏: { ‏بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ‏‏} أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره."

هذه بناءً على أن البيت بُني قبل إبراهيم بسنين متطاولة وقرون، بنته الملائكة قبل خلق آدم، على ما جاء في كتب التفسير، وهذا القول بأن إبراهيم هو الذي بناه ما نحتاج إلى مثل هذا.

"فلما جاءت مدة إبراهيم -عليه السلام- أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرًا، فبعث الله ريحًا فكشفت عن أساس آدم -عليه السلام-؛ فرتب قواعده عليه حسبما تقدم بيانه في ‏‏البقرة‏‏‏،‏ وقيل:‏ ‏بوأنا‏ نازلة منزلة فعل يتعدى باللام؛ كنحو جعلنا."

يعني ضمن الفعل بوأنا معنى جعلنا، فيتعدى بما يتعدى به.

"أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ‏ً،‏ وقال الشاعر‏:‏

كم من أخ لي ماجد

 

 

بوأته بيدي لحدًا

‏{‏أَنْ لَا تُشْرِكْ‏} هي مخاطبة لإبراهيم -عليه السلام- في قول الجمهور،‏ وقرأ عكرمة ‏‏أن لا يشرك‏‏ بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك‏،‏ وقيل‏:‏ إن ‏‏أن‏‏ مخففة من الثقيلة‏، وقيل: مفسرة‏.‏"

وحينئذ يكون اسمها ضمير الشأن أنه لا تشرك، أي أن الشأن لا تشرك بالله- جل وعلا-.

"وقيل: زائدة؛ مثل ‏{‏ فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ‏} [ سورة ‏يوسف‏:‏ 96‏]‏‏، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت."

يعني من سكانه إذا كان الذي بناه لله- جل وعلا- قيل له وأوكد عليه ألا تشرك بالله فسكانه حكمهم حكمه.

"أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم‏، وقالت فرقة‏:‏ الخطاب من قوله: {أَنْ لَا تُشْرِكْ } لمحمد- صلى الله عليه وسلم-؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج‏. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم؛ وهو الأصح‏."‏

وهو الذي يقتضيه السياق، والذين قالوا: إن الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم- قلنا: إن توجيه الخطاب لإبراهيم وليس من بعد مضيه بقرون هذا خبر من الله- جل وعلا- بوأنا لإبراهيم، خبر عنه، فمخاطبته بألا يشرك، والله- جل وعلا- يخبر عنه، وقد أخبر عنه أنه كسّر الأصنام، وأنه سأل ربه أن يجنبه الأوثان والأصنام فلا وجه لمخاطبته بعدم الشرك في هذا المقام، وإنما الخطاب لغيره ممن هو موجود في وقت الخطاب، هذا قول قيل به، ولكن السياق يقتضي أن يكون الخطاب على نسق واحد عن المخبر عنه، وهو إبراهيم -عليه السلام-.

"وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء‏.‏"

نعم تطهير البيت عام في كل ما يطلب تطهيره بدءًا من الكفر والبدع والشرك والمعاصي، فلا يجوز أن تزاول فيه المعاصي لا سيما المعاصي المتعدي أثرها على الناس كالتبرج مثلاً أو الشرك الظاهر لا يجوز بحال أن يقر، فمن تعظيم البيت أن يطهر من هذه الأمور، نعم تطهير البيت بالماء والمنظفات هذا من التطهير، لكن ليس من التطهير المقصود، هذا مطلوب، لكن هذا يكفيه أن يراق عليه ذنب من ماء، لكن الإشكال في تطهيره مما يغضب الله- جل وعلا- في هذه البقعة المباركة.

"وقيل‏:‏ عنى به التطهير عن الأوثان؛ كما قال تعالى:‏ { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ‏} [ سورة ‏الحج‏:‏ 30‏]‏؛ وذلك أن جرهمًا والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم -عليه السلام-‏،‏ وقيل‏:‏ المعنى نزِّه بيتي عن أن يُعبد فيه صنم‏، وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه‏، وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة ‏‏براءة‏، والقائمون هم المصلون‏، وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود‏."‏

نعم.

طالب:.....

مضمر، القول يضمر كثيرًا القول يضمر كثيرًا في الكلام؛ { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم} [ آل عمران: 106] يعني قالوا لهم أكفرتم فالقول يضمر كثيرًا، { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ}.

‏ "قوله تعالى: {‏ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ‏}‏ [ سورة الحج: 27] فيه سبع مسائل.

الأولى: قوله تعالى: ‏{‏ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ‏}‏ قرأ جمهور الناس: ‏وأذِّن‏ بتشديد الذال‏،‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن ‏‏وآذن‏ بتخفيف الذال ومد الألف‏،‏ قال ابن عطية‏:......"

الحسن بن أبي الحسن هو البصري الإمام المعروف.

"قال ابن عطية‏:‏ وتصحف هذا علي ابن جني..."

وتصحف هذا على ابن، وتصحف هذا الكلام على ابنِ جني المعروف.

"وتصحف هذا الكلام على ابنِ جني."

ضبطها خطأ؟ مضبوطة عندنا.

 "وتصحف هذا الكلام على ابنِ جني."

ولذلك حذف الألف قبل ابن.

ماذا عندك يا أبا عبد الله؟

طالب: .................

علي؟ تصحف هذا، صوابه على. ولذلك حذفوا الألف من ابن؛ لوقوعه بين علمين.

 "قال ابن عطية‏:‏ وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنهما ‏‏وأذن‏‏ على أنه فعل ماضٍ، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفًا على ‏‏بوأنا‏، والأذان الإعلام، وقد تقدم في ‏‏التوبة‏‏‏.‏

لما فرغ إبراهيم -عليه السلام- من بناء البيت، وقيل له‏:‏ أذن في الناس بالحج..."

أحكام الأذان تقدمت في أي سورة؟ وإذا ناديتم.

طالب:...

نعم، في سورة المائدة تقدم، ذكر من أحكام الآذان الشيء الكثير، وذكر من الآراء والآثار ما ينتفع به القارئ.

"قال‏:‏ يا رب‏!‏ وما يبلغ صوتي‏؟‏ قال‏:‏ أذن وعلي الإبلاغ، فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح‏:‏ يا أيها الناس‏!‏ إن الله قد أمركم بحج هذا البيت؛ ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء‏:‏ لبيك اللهم لبيك‏!‏ فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة؛ إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير‏."

وماذا عمن حج خمسين أو ستين أو سبعين مرة كما ذكر؟ يعني بعض الناس حج خمسين مرة وستين مرة.

"وروي عن أبي الطفيل قال: قال لي ابن عباس‏:‏ ‏‏أتدري ما كان أصل التلبية‏؟‏ قلت: لا."

ذكر الحافظ ابن كثير في البداية في ترجمته لشخص أنه حج تسعين مرة حافيًا ماشيًا وأن قدمه كقدم العروس.

"قال: قال لي ابن عباس‏:‏ ‏‏أتدري ما كان أصل التلبية‏؟‏ قلت: لا‏!‏ قال‏:‏ لما أمر إبراهيم -عليه السلام- أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء‏:‏ لبيك اللهم لبيك‏، وقيل‏:‏ إن الخطاب لإبراهيم -عليه السلام- تم عند قوله: ‏‏السجود‏."

يعني في الآية الأولى، ثم بعد ذلك انتقل الخطاب.

"ثم خاطب الله- عز وجل- محمدًا -عليه الصلاة والسلام- فقال: ‏{‏ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ‏} أي أعلمهم أن عليهم الحج‏، وقول ثالث‏:‏ إن الخطاب من قوله: ‏{‏ أَنْ لَا تُشْرِكْ} مخاطبة للنبي- صلى الله عليه وسلم‏-، وهذا قول أهل النظر."

هذا الذي تقدم ذكره في الآية الأولى.

"لأن القرآن أنزل على النبي- صلى الله عليه وسلم-، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك‏."‏

ولا يمتنع أن يكون الخطاب لإبراهيم -عليه السلام- ويراد به من بعده كما في سائر ما يخبر الله به عن الأنبياء وأممهم، وأن القوم قد مضوا على ما هم عليه ولم يرد به سوانا، { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [ سورة يوسف: 111]، هم ماتوا وانتهوا ولا يعتبرون ولا يتعظون ولا يفهمون، هم انتهوا، لكن المراد بهم من بعدهم.

"وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي- صلى الله عليه وسلم-، وهو ‏{‏ أَنْ لَا تُشْرِكْ بي‏} بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم -عليه السلام- غائب، فالمعنى على هذا‏:‏ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى، وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده‏، وقرأ جمهور الناس ‏‏بالحج‏ بفتح الحاء‏،‏ وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها‏.‏ وقيل‏:‏ إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين،‏‏ والله أعلم‏.‏

الثالثة: قوله تعالى: ‏{ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ‏}‏ وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال: ‏‏يأتوك‏ وإن كانوا يأتون الكعبة؛ لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجًّا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم‏.‏

 قال ابن عطية:‏ ‏رجالاً‏ جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب‏،‏ وقيل‏:‏ الرجال جمع رَجل، والرَّجل جمع راجل؛ مثل تِجَارٍ وَتَجْرٍ وَتَاجِرٍ، وَصِحَابٍ وَصَحْبٍ وَصَاحِبٍ. وَقَدْ يُقَالُ فِي الْجَمْعِ: رُجَّالٌ بِالتَّشْدِيدِ، مِثْلُ كَافِرٍ وَكُفَّارٌ. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة ‏‏رُجَالًا‏‏ بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد‏.‏ وقرأ مجاهد: ‏‏رُجَالى‏ على وزن فعالى؛ فهو مثل كسالى‏.‏

 قال النحاس‏:‏ في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روي عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة‏، والذي روي عن مجاهد رجالاً غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فُعَال، وفُعَال في الجمع قليل‏.‏ وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي‏.‏"

ولذا يختلف أهل العلم في الأفضل الحج ماشيًا أو راكبًا، فمن نظر إلى تقديم المشاة على الأقدام في هذه الآية قال: إن المشي أفضل لا سيما وأنه أكثر تعبًا، والأجر على قدر النصب، ومن نظر إلى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو القدوة حج راكبًا -عليه السلام- بين مكة والمدينة، وبين المشاعر رجح الركوب، وعلى كل حال الركوب إن تيسر وإلا فالأجر على قدر النصب التابع للعبادة، فإذا وجد تعب تتطلبه العبادة أُجِر عليه وإلا فالتعب لذاته ليس مقصدًا شرعيًّا، والله عن تعب عباده غني، لكن مع ذلك ينبغي أن يكون المركوب، وحال الإنسان في العبادة على حال التوسط المناسب لهذه العبادة، فإذا كان الإنسان قد أنعم الله عليه لا يرتكب في ملبسه وفي مشربه في مركوبه وفي سكنه ما يزدرى به ادعاءً للتواضع والتقشف، ومع ذلك لا يسرف.

 وحج النبي- صلى الله عليه وسلم- على رحل، والبخاري حج أنس بن مالك على رحل ولم يكن شحيحًا. هذه العبادة تحتاج إلى توسط وتوازن تحتاج إلى ما يعينه على أدائها من وجه لكن مع التواضع، للأسف يوجد الآن من بعض الناس من يبذل من بالأموال الطائلة من أجل أن يقال؛ لأنها قدر زائد على مجرد الترف، قدر زائد على الترف، والله المستعان.

وبعضهم يبحث عن الفنادق الغالية الباهظة الأجور التي على مواصفات تفوق سكنه العادي من أجل أن يقال إنه سكن في كذا وفعل كذا وبذل كذا، لا شك أن هذا خلل وخدش في الإخلاص، ومثل هذه الأمور لا تعينه على تأدية العبادة على الوجه المطلوب، يتوسط الإنسان من غير إسراف ولا تقتير أيضًا بحيث إما أن يتكفف الناس ويكون عالة عليهم، أو يضر بنفسه، فإذا توسط الإنسان أُعين على أداء العبادة على الوجه المطلوب، ولم يجد ما يشغله عنها.

‏"{‏وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ‏} لأن معنى ‏‏ضامر‏ معنى ضوامر‏.‏ قال الفراء..."

لأن يأتين للجمع والضامر الواحد، وعلى كل ضامر يأتي الأصل، لكن معنى ضامر ضوامر.

"ويجوز ‏يأتي‏‏ على اللفظ‏،‏ والضامر‏:‏ البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال‏:‏ ضمر يضمر ضمورًا؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة‏، وذكر سبب الضمور فقال:‏ {‏يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ‏} أي أثر فيها طول السفر‏، ورد الضمير إلى الإبل؛ تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال: { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا‏} [ سورة العاديات‏:‏ 1‏]‏ في خيل الجهاد؛ تكرمة لها حين سعت في سبيل الله‏."‏

ما قالوا: على كل ضامر يأتون الحجاج الذين أجابوا النداء، قال يأتين تكرمة لها؛ لأنه استعمل في طاعة الله- عز وجل- يعني كما ذكر عن العاديات في الجهاد، والمجاهد هو الراكب وليست الإبل.

"قال بعضهم‏:‏ إنما قال ‏رجالًا لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقول ‏‏رجالاً‏ من قولك‏:‏ هذا رجل؛ وهذا فيه بعد؛ لقوله ‏{‏ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}."

يعني مقابلتهم بالركبان يدل على أنهم مشاة.

"يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء،‏ ولما قال تعالى:‏ ‏رجالاً‏ وبدأ بهم، دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏‏ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيًا، فإني سمعت الله- عز وجل- يقول: ‏{‏ يَأْتُوكَ رِجَالًا‏}‏‏،‏ وقال ابن أبي نجيح‏:‏ حج إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- ماشيين‏، وقرأ أصحاب ابن مسعود: ‏‏يأتون‏‏، وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس‏.

الخامس: لا خلاف في جواز‏.‏ الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل؛ اقتداء بالنبي- صلى الله عليه وسلم-، ولكثرة النفقة، ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب‏.‏ وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل؛ لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال‏:‏ حج النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال‏:‏ ‏‏«اربطوا أوساطكم بأزركم»‏، ومشى خلط الهرولة؛ خرجه ابن ماجه في سننه‏."‏

هذا فيه ضعف.

طالب: قال: ... ضعيف جدا أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد... والمتن منكر ..

بلا شك، يعني مستفيض ركوبه- عليه الصلاة والسلام- فلما استقل ناقته القصواء حديث جابر- رضي الله عنه- وغيره من الأحاديث.

"ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي- صلى الله عليه وسلم-‏.‏"

 يعني بما في ذلك الوقوف بعرفة، فالرسول- صلى الله عليه وسلم-  وقف راكبًا، نعم الرسول- صلى الله عليه وسلم-  يركب في هذه المشاعر؛ ليراه الناس ويقتدوا به، فمنهم من يرى أن الركوب لهذه الحكمة ولهذه العلة، فالجلوس إذا كان أدعى لتأدية العبادة على الوجه المأمور به أفضل من الركوب، ولمن يُحتاج إلى الاقتداء به فالركوب أفضل.

"السادسة: استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط‏.‏ قال مالك ...."

يعني مثله في أيامنا الجو، ما ذكر إلا الركوب والمشاة على الضوامر، فالبحر ما ذكر إذًا لا يلزم إذا احتيج إلى ركوب البحر، والجو أيضًا ما ذكر إذًا لا يلزم، هذا نزع إليه بعض أهل العلم، والمسألة مسألة استطاعة، وعلى من يستطيع يلزمه الحج على أي وسيلة كان.

"قال مالك في الموازية‏:‏ لا أسمع للبحر ذكرًا، وهذا تأنس؛ لأنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن؛ ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلاً وإما على ضامر."

يعني إذا نزل من السفينة فلا يخلو من أن يكون راكبًا أو راجلًا.

"فإنما ذكرت حالتا الوصول؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي‏.

‏فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصًا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع‏.

‏ قال ابن عطية‏:‏ وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلامًا ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار، وهذا ضعيف‏.‏"

لا شك بضعفه؛ لأن الاستطاعة شرط، والذي عنده مثل هذه الأعذار غير مستطيع، ولذا إذا احتاج الإنسان في الركوب إلى الشد يعني أنه يربط على الراحلة ربطًا لا يلزمه الحج، إن فريضة الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحل، ما قال: اربطوه، الأصل أن يثبت، مثل هذه الأمور التي تشق على الإنسان مشقة شديدة عُذر في عدم وجوبه عليه، لكن إن كان قادرًا من ماله أناب عنه من يحج عنه، أو حج عنه من يتبرع من ولده.

"قلت‏:‏ وأضعف من ضعيف، وقد مضى في ‏‏البقرة‏ بيانه‏،‏ والفج‏:‏ الطريق الواسعة، والجمع فجاج،‏ وقد مضى في ‏الأنبياء‏، والعميق معناه البعيد‏، وقراءة الجماعة يأتين‏،‏ وقرأ أصحاب عبدالله ‏‏يأتون،‏‏ وهذا للركبان و‏يأتين للجمال، كأنه قال‏:‏ وعلى إبل ضامرة يأتين، ‏{‏ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ‏} أي بعيد، ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر، ومنه‏:‏

 وقــاتم الأعمــــاق خـاوي المختــرق

السابعة: واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا، فروى أبو داود قال‏:‏ سئل جابر بن عبدالله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال‏:‏ ما كنت أرى أن أحدًا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم نكن نفعله‏، وروى ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ « ترفع الأيدي في سبع مواطن: افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين»‏‏‏."

لكن رفع الأيدي في المواطن السبعة هل هو على هيئة واحدة؟ يعني ترفع الأيدي في افتتاح الصلاة لتكبيرة الإحرام، هل رفع الأيدي في هذا الموطن مثل رفع الأيدي عند استقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين؟

مختلف، لا شك أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ليس مثل رفع اليدين في الدعاء، والإشارة إلى البيت وإلى الحجر عند افتتاح الطواف كذلك يختلف عن رفع اليدين في الصلاة ورفع اليدين في الدعاء.

 "وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر؛ لأن مهاجرًا المكي راويه مجهول‏،‏ وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت‏،‏ وعن ابن عباس مثله‏.‏

‏قوله تعالى: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏}‏ [ سورة الحج: 28-29] فيه ثلاث وعشرون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { لِيَشْهَدُوا}‏ أي أذن بالحج يأتوك رجالاً وركبانًا ليشهدوا؛ أي ليحضروا‏، والشهود الحضور‏."

فمن شهد منكم الشهر يعني حضر في مقابل المسافر، فالشهود الحضور.

‏"{‏ مَنَافِعَ لَهُمْ‏} أي المناسك، كعرفات والمشعر الحرام‏،‏ وقيل: المغفرة،‏ وقيل: التجارة‏،‏ وقيل: هو عموم."

 بلا شك هو عموم ما بُيّن ليشمل منافع الدين والدنيا المنافع المتعلقة بالدين والمنافع المتعلقة بالدنيا فيستفيد في دنياه وآخراه.

 "أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة؛ قاله مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى‏،‏ ولا خلاف في أن المراد بقوله: ‏{‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ‏} [سورة ‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ التجارة‏.

الثانية: ‏{‏ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قد مضى في ‏‏البقرة‏‏ الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات‏،‏ والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر؛ مثل قولك‏:‏ باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك‏، ومثل قولك عند الذبح: ‏{‏ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ‏}‏ [سورة الأنعام‏:‏162‏]‏ الآية‏،‏ وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبيَّن الرب أن الواجب الذبح على اسم الله، وقد مضى في ‏‏الأنعام‏.‏

الثالثة: واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر؛ فقال مالك- رضي الله عنه-‏:‏ بعد صلاة الإمام وذبحه؛ إلا أن يؤخر تأخيرًا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به‏،‏ وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح‏، والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين، فاعتبر الوقت دون الصلاة، هذه رواية المزني عنه، وهو قول الطبري‏،‏ وذكر الربيع عن البويطي قال: قال الشافعي‏:‏ ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح..."

يعني هل الذبح معلق بصلاة الإمام أو بذبحه أو بالمقدار الذي يحصل فيه ذلك؟ فالبلد الذي ليس فيه إمام، فيه نائب، أو البلد الذي تتقدم فيه الصلاة على صلاة الإمام هل ينتظر حتى يذبح الإمام أو تتأخر عن صلاة الإمام؟ وهل المراد بذلك أن تنتهي الصلاة التي عُلق فيها الذبح في الحديث الصحيح على ما سيذكره المؤلف؟ مسألة خلافية بين أهل العلم. البلدان الذي ليس فيها إمام من أئمة المسلمين يُقتدى به ويُتبع مثل الجاليات الإسلامية في بلاد الكفر من يتبعون؟ ومن يقلدون؟

 "فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح،‏ وهذا كقول مالك‏، وقال أحمد‏:‏ إذا انصرف الإمام فاذبح‏،‏ وهو قول إبراهيم‏."

ولو لم يذبح الإمام، ولو تأخر الإمام.

"وأصح هذه الأقوال قول مالك؛ لحديث جابر بن عبدالله قال‏:‏ صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد نحر، فأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- من كان نحر أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي- صلى الله عليه وسلم-، خرجه مسلم والترمذي وقال‏:‏ وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري، وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يضحي الإمام‏، وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفيه‏:‏ ‏‏ومن ذبح بعد الصلاة...."

 وهذا من حرص الدين على الاجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف، فكونهم يذبحون في وقت واحد مع إمامهم أو بعده يقتدون به، فدل على اجتماع كلمته ونبذ الفرقة بينهم، أما لو ذبحوا واحد قبله وواحد بعده ولم يقتدوا به فمثل هذا يؤدي إلى شيء من الفرقة والنزاع.

طالب:..... حتى يصلي الإمام ...

حتى ...

طالب....

حتى يضحي الإمام عندك يصلي؟

الحديث: ولا ينحروا حتى ينحر النبي- صلى الله عليه وسلم-، فأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- من كان نحر أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي- صلى الله عليه وسلم-، فالصواب حتى يضحي الإمام على هذا الحديث، وعلى هذا القول.

"وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفيه‏:‏ ‏‏«ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين»‏‏ خرجه مسلم أيضًا‏.‏

 فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح..."

 لا شك أن الاصل الاقتداء بالإمام والاهتداء بالإمام واتباع الإمام واتحاد الكلمة، لكن إذا فرط الإمام وأخر الذبح مثلاً، يتأخر الناس؟ نفترض أن الإمام ما ذبح إلا العصر هل يتأخر الناس؟ لا كحقه في إمامة الصلاة إذا استمر مستقبل القبلة بعد السلام يثبتون أم ينصرفون حتى ينصرف، هو الذي أسقط حقه، ينصرفون قبله وإلا فالأصل أن المأموم لا ينصرف قبل إمامه في السجود ولا في الركوع ولا في الانصراف، لكن إذا ضيع هذا الحق واستمر مستقبل القبلة فإنهم ينصرفون عنها.

طالب:.....

من رواه؟ لكن هو عقب عليه، وقال: خرجه الترمذي وقال: في الباب عن جابر و....

طالب:.....

لا لا، أثبت.

طالب:.....

يمكن قوله: خرجه وقال: في الباب كذا وكذا من الحديث الذي يليه.

 "وحديث جابر يقيده‏، وكذلك حديث البراء أيضًا، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:‏ ‏«أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا‏‏» الحديث‏،‏ وقال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ لا أعلم خلافًا بين العلماء في أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضحٍّ؛ لقوله -عليه السلام-‏:‏ ‏‏«من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم»‏."‏

ومفهومه أن من ذبح بعد الصلاة فهي أضحية جائزة.

"الرابعة: وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك أنه يتحرى وقت ذبح الإمام، أو أقرب الأئمة إليه‏،‏ وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له‏:‏ إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده‏، وقال أهل الرأي‏:‏ يجزيهم من بعد الفجر‏ وهو قول ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي‏،‏ وتمسكوا بقوله تعالى: ‏{‏ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ‏} فأضاف النحر إلى اليوم‏.

‏ وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، قولان‏، ولا خلاف أنه لا يجزئ ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر‏.‏"

لكن اليوم الشرعي بالنسبة لهذه الشعيرة لا يبدأ إلا من بعد طلوع الشمس وارتفاعها ومقدار الصلاة، اليوم الشرعي بالنسبة لهذه الشريعة؛ لأنه يطلق اليوم ويراد به عمومه، فيبدأ اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، ويطلق اليوم ويراد به من طلوع الشمس إلى غروبها، ويطلق على حسب ما ذكرنا أن هذا يوم شرعي، مثل ما يقال في قيام داود -عليه السلام- ينام نصف الليل هل ينام من غروب الشمس؟ لا، لا يمكن أن يفسر الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر في هذا الحديث، إنما ينام في الوقت الذي يسوغ له أن ينام فيه وهو من بعد صلاة العشاء ينام نصف الليل، فلا يمكن أن يكون وقت الليل هنا في الحديث من غروب الشمس، كما أنه لا يمكن أن يتصور أن يكون اليوم الذي أضيف إليه الذبح في هذا الحديث من طلوع الفجر، ولا من طلوع الشمس أيضًا للأحاديث الثابتة فيها.

"الخامسة: واختلفوا كم أيام النحر‏؟‏ فقال مالك‏:‏ ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده‏.‏ وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده‏،‏ وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي -رضي الله عنه- وابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهم-، وروي عنهم أيضًا مثل قول مالك وأحمد‏، وقيل‏:‏ ‏هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة‏‏؛ وروي عن ابن سيرين‏،‏ وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا‏:‏ النحر في الأمصار يوم واحد، وفي منى ثلاثة أيام‏،‏ وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات‏:‏ إحداها كما قال مالك، والثانية كما قال الشافعي، والثالثة إلى آخر يوم من ذي الحجة؛ فإذا أهلّ هلال المحرم فلا أضحى‏.‏

قلت‏:‏ وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبدالرحمن، ورويا حديثًا مرسلاً مرفوعًا خرجه الدارقطني‏:‏ الضحايا إلى هلال ذي الحجة؛ ولم يصح، ودليلنا قوله تعالى: ‏{‏فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ‏} الآية، وهذا جمع قلة؛ لكن المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به‏."

‏لا يمنع أن يكون جمع القلة الأربعة كالثلاثة، ويدل له أن أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله- عز وجل- وأيام التشريق ثلاثة للمتأخر، يعني بعد العيد، ويتجه القول بأن أيام الذبح أربعة.

 "قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة."

يعني تحرير محل النزاع يوم النحر أضحى بالإجماع، وأنه لا أضحية قبله، ولا أضحية بعد طلوع الشهر شهر ذي الحجة، والخلاف فيما عدا ذلك.

 "ولا يصح عندي في هذه إلا قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ قول مالك والكوفيين‏، والآخر‏:‏ قول الشافعي والشاميين؛ وهذان القولان مرويان عن الصحابة، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما‏."

 لهما يعني لهذين القولين متروك لهما يعني متروك لهذين القولين.

"وقد روي عن قتادة قول سادس، وهو أن الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده؛ وهذا أيضًا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له."

لعله تشبيه الستة أيام الذبح بستة شوال يعني بعد عيد الفطر، لكن هذا قول ساقط.

"السادسة: واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أولاً؛ فروي عن مالك في المشهور أنها لا تدخل، فلا يجوز الذبح بالليل،‏ وعليه جمهور أصحابه وأصحاب الرأي؛ لقوله تعالى‏: {‏ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ‏}‏ فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز‏، وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏:‏ الليالي داخلة في الأيام، ويجزى الذبح فيها‏،‏ وروي عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلاً ولم يجز الضحية ليلاً‏."‏

المسألة اجتهادية، يعني هل اليوم خاص بالنهار أو أنه يشمل الليل والنهار؟ فيكون قسيم الليل النهار وليس اليوم، قسيم الليل النهار، فاليوم ينقسم إلى ليل ونهار، فمن قال بهذا قال: الذبح سائغ في الليل؛ لأنه لا يتناقض مع قوله -جل وعلا-: {في أيام} فالليل جزء من اليوم كالنهار، لكن لو أطلق النهار ما دخل فيه الليل.

"السابعة: قوله تعالى: ‏{‏عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} أي على ذبح ما رزقهم‏.‏ ‏{‏مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ‏} والأنعام هنا الإبل والبقر والغنم‏، وبهيمة الأنعام هي الأنعام، فهو كقولك صلاة الأولى، ومسجد الجامع‏.‏

الثامنة: قوله تعالى‏: {‏فَكُلُوا مِنْهَا‏}‏ أمر معناه الندب عند الجمهور،‏ ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل‏، وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية،‏ ولقول -عليه السلام-‏:‏ ‏‏«فكلوا وادخروا وتصدقوا»‏.

‏ قال الكيا‏:‏ قوله تعالى: ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه، ولا التصدق بجميعه‏."

مع تجويزهم، يعني الجمهور، الصدقة بالكل وأكل الكل، وهذ مع جوازه خلاف الأمر في الآية: {كلوا ... وأطعموا} مع أن من أهل العلم من يرى أنه إذا أكلها كلها ضمن حق المساكين.

"التاسعة: دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها‏،‏ ومشهور مذهب مالك- رضي الله عنه- أنه لا يأكل من ثلاث‏:‏ جزاء الصيد، ونذر المساكين وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبًا كان أو تطوعًا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار‏.‏

العاشرة: فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديًا كاملًا؟ قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون‏،‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو الحق، لا شيء عليه غيره‏،‏ وكذلك لو نذر هديًا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل- خلافًا للمدونة-؛ لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه‏."‏

يحدد بعضهم ما يتصدق فيه، أقل ما يتصدق به بالأوقية؛ لأن المسكين لا يمكن أن يرضى بأقل من الأوقية، وأنه إذا أكلها كلها ضمنها.

"قوله تعالى: ‏{‏ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏ يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دمًا أو هديًا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاءً بالنذر، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملاً من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل‏، والله أعلم‏.‏

الحادية عشرة: هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعامًا؟ ففي كتاب محمد عن عبدالملك أنه يغرم طعامًا‏،‏ والأول أصح؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة‏.‏

الثانية عشر: فإن عطب من هذا الهدي المضمون الذي هو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين شيء قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب، ولا يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئًا‏.

‏ قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، لذلك جاز أن يأكل منه صاحبه ويطعم‏،‏ فإذا عطب الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب، فاحتيط على الناس."

يعني يتهم أنه إذا احتاج إلى لحمه وقد أهداه وأخرجه من ملكه أن يدعي أنه عطل ولا يستطيع متابعة السير فيذبح، فإذا مُنع من هذا وحُرم منه ما ادعى هذه الدعوة، وما سولت نفسه أن يدعي هذا الفعل.

"وبذلك مضى العمل‏، وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث معه بهدي وقال‏:‏ ‏‏«إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس»،‏ وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدي التطوع‏:‏ لا يأكل منها سائقها شيئًا، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها‏،‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ «‏ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك»‏‏،‏ وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس والشافعي في قوله الآخر، واختاره ابن المنذر، فقالا‏:‏ لا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقته‏.‏

 قال أبو عمر‏:‏ قوله -عليه السلام- ‏‏ولا يأكل منها أحد ولا أحد من أهل رفقتك‏ لا يوجد إلا في حديث ابن عباس‏، وليس ذلك في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية‏،‏ وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس، وعليه العمل عند الفقهاء‏."

 لكن حديث ابن عباس في الصحيح في مسلم.

 "ويدخل في قوله -عليه السلام-‏:‏ ‏‏خل بينها وبين الناس أهل رفقته وغيرهم‏،‏ وقال الشافعي وأبو ثور‏:‏ ما كان من الهدي أصله واجبًا فلا يأكل منه، وما كان تطوعًا ونسكًا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق‏، والمتعة والقرآن عنده نسك‏، ونحوه مذهب الأوزاعي‏، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ يأكل من هدي المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام‏، وحكي عن مالك‏:‏ لا يأكل من دم الفساد‏،‏ وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر؛ كقول الشافعي والأوزاعي‏.‏

 تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله تعالى‏: {‏ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [ سورة المائدة‏:‏ 95‏]‏‏، وقال في فدية الأذى:‏ {‏ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [ سورة البقرة‏:‏ 196‏]‏‏،"

ضبطت الآية {‏ أَوْ كَفَّارَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ} [ سورة المائدة‏:‏ 95‏]‏‏، وهكذا ينبغي أن تضبط؛ لأن المؤلف يعتمد قراءة نافع، وكوننا ننزل ما استدل به على غير قراءته؛ لأنه كتب على قراءته التي يقرأ بها، وهذه تقدمت في مكانها قراءته، وذكرنا مرارًا أن التفسير في الأصل ليس فيه آيات مثلاً الآية المفسرة أو الآيات المفسرة التي تُجمع ثم يتلوها التفسير {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} إلى قوله: { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [ سورة الحج: 28-29] هذه الآيات ليست موجودة في التفسير أدخلت مع الطباعة، ومع ذلك أدخلوا القراءة التي لم يعتمدها المؤلف، فتجد المؤلف يشرح على قراءته ويريد قراءة أخرى لكن المدخل في الكتاب ليس على قراءته، وهنا ضبطت في الطبعة على قراءته على قراءة نافع فينبغي أن تقرأ عليها.

 "وقال -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن عجرة‏:‏ «‏‏أطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة».‏ ونذر المساكين مصرح به، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باقٍ على أصل قوله: ‏{‏ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ إلى قوله: {‏ فَكُلُوا مِنْهَا} [ سورة ‏الحج‏:‏ 36‏]‏‏، وقد أكل النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلي- رضي الله عنه- من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه‏، وكان -عليه السلام- قارنًا في أصح الأقوال والروايات، فكان هديه على هذا واجبًا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح‏، والله أعلم‏.

وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها، فأمر الله- سبحانه وتعالى- نبيه- صلى الله عليه وسلم- بمخالفتهم؛ فلا جرم كذلك شرع وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم- صلى الله عليه وسلم-‏.‏

‏الثالثة عشرة: {‏ فَكُلُوا مِنْهَا‏}‏ قال بعض العلماء‏:‏ قوله تعالى: ‏{‏ فَكُلُوا مِنْهَا}‏ ناسخ لفعلهم؛ لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها- كما قلناه في الهدايا- فنسخ الله ذلك بقوله: ‏{‏ فَكُلُوا مِنْهَا}، وبقول النبي- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏‏«من ضحى فليأكل من أضحيته»، ولأنه -عليه السلام- أكل من أضحيته وهديه،‏ وقال الزهري‏:‏ من السنة أن تأكل أولا من الكبد‏."‏

حد النسخ لا ينطبق على ما جاء هنا؛ لأن النسخ رفع حكم شرعي بخطاب شرعي ينسخ حكمًا شرعيًّا آخر ثبت بخطاب شرعي، فالتشريع ابتداءً من غير رفع لخطاب سابق لا يسمى نسخًا، فما كان عليه الجاهلية وجاءت الشريعة بخلافه هذا لا يسمى نسخًا وإنما هو تشريع جديد، النسخ في غير هذه المسألة وإنما النسخ في الادخار، نُهي عن الادخار ثم أذن لهم، إنما نهيتكم لأجل الدافة فالنسخ للادخار لا لأصل الأكل، وسيأتي هل هو النهي عن الادخار ثم الإذن فيه هل هو نسخ؟ أو أن العلة التي من أجلها منعوا من الادخار ارتفعت، وحينئذ لا يسمى نسخًا وإذا ارتفعت العلة ارتفع الحكم، وعلى هذا لو عادت العلة يعود الحكم، وإذا قلنا: إنه نسخ لا يعود الحكم إلى قيام الساعة.

"الرابعة عشرة: ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو وأهله الثلث، وقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف‏،‏ قال مالك في حديثه‏:‏ وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل‏، روى الصحيح وأبو داود قال‏:‏ «ضحى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشاة ثم قال‏:‏ ‏‏يا ثوبان، أصلح لحم هذه الشاة‏‏ قال‏:‏ فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة»‏، وهذا نص في الغرض."

طالب:....

ماذا؟

طالب:...

الغرض المطلق.

"واختلف قول الشافعي فمرة قال‏:‏ يأكل النصف، ويتصدق بالنصف؛ لقوله تعالى: ‏{‏ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ‏}‏ فذكر شخصين‏،‏ وقال مرة‏:‏ يأكل ثلثًا، ويهدي ثلثًا، ويطعم ثلثًا؛ لقوله تعالى: {‏ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏} [ سورة ‏الحج‏:‏ 36‏]‏ فذكر ثلاثة‏.‏

الخامسة عشرة: المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء‏.‏ وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروي عن علي، والحديث حجة عليهم‏،‏ واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية، وبه قال النخعي‏."‏

قال جمع من أهل العلم: إنه ليس على الحاج أضحية، وقالوا: إنه ما حُفظ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ضحى بالمدينة سنة حجه- صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من يقول: هذه لها خطابها الأضحية والأدلة التي تحث عليها وتبين فضلها، والهدي له ما يخصه من الخطاب والجهة منفكة، يمكن أن يضحي ببلده، يوصي من يضحي عنه وعن أهل بيته، ويهدي أيضًا، ولا يوجد ما يمنع من ذلك، وقد ضحى النبي- صلى الله عليه وسلم- عن نسائه البقر، منهم من يقول: إن المراد بالأضحية هذه هي الهدي، فقد أهدى عن نسائه البقر- صلى الله عليه وسلم- وعلى كل حال من ضحى فلن يخيب سعيه، ولن يحرم الأجر ولو كان حاجًّا.

 "وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من السلف -رضي الله عنهم-؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي‏، فإذا أراد أن يضحي جعله هديًا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية؛ ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم‏.‏

السادسة عشرة: اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال‏: روي عن علي وابن عمر- رضي الله عنهما- من وجه صحيح: أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث‏،‏ وروياه عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، وسيأتي.‏ وقالت جماعة‏:‏ ما روي من النهي عن الادخار منسوخ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب‏، وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي. وقالت فرقة‏:‏ يجوز الأكل منها مطلقًا‏، وقالت طائفة‏:‏ إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر؛ لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله -عليه السلام-‏:‏ «‏‏إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت‏»."

قوم من البادية قدموا إلى المدينة فيهم شدة حاجة وعوز، فنهي عن الادخار؛ لكي يتصدق عليهم؛ لأن اللحم إذا لم يقد ويشرق وييبس يتلف، فبدل من أن يتلف يتصدق به على هؤلاء، ولو قيل بالادخار لصنعوا به ما يحفظه من التقديد.

 "ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ‏، وتنشأ هنا مسألة أصولية وهي السابعة عشرة‏:‏ وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته‏.‏

 أعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدًا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم؛ لعود العلة؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم-‏."‏

 إذا قلنا: إن الحكم منسوخ لا يلزمهم ذلك، تلزمهم الضيافة، لكن لا يلزمهم أن يكون من الأضحية.

"الثامنة عشرة: الأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة‏،‏ وقد جاء المنع والإباحة معًا؛ كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح‏،‏ وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال‏:‏ ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال‏:‏ فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال‏:‏ إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها‏، وروي عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث‏.

‏ قال سالم‏:‏ فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث‏. وروى أبو داود عن نبيشة‏ قال: قال رسول- الله صلى الله عليه وسلم‏-:‏ «‏إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث؛ لكي تسعكم، جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا، ألا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله- عز وجل-‏»."

اتجروا مع الله- جل وعلا- اتجروا مع الله- جل وعلا- وليس معنى هذا أن يباع شيء من الأضاحي في التجارة، لا .

‏ "قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصور؛ لأن الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قدمت الدافة‏، والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال‏:‏ حدثنا أحمد قال: حدثنا ليث قال: حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة- رضي الله عنها- عن لحوم الأضاحي فقالت‏:‏ قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فسأله فقال‏: ‏«كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة»."

 يعني: ادخر طول العام، ولا مانع من ذلك ما لم يوجد السبب الذي من أجله نُهي عن الادخار.

"وقال الشافعي‏:‏ من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة‏، ومن قال بالرخصة مطلقًا لم يسمع النهي عن الادخار‏، ومن قال بالنهي والرخصة سمعهما جميعًا فعمل بمقتضاهما‏.‏ والله أعلم‏.

‏ وسيأتي في سورة ‏‏الكوثر الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها، وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى: ‏{‏ وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ‏‏الفقير‏‏ من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر؛ يقال‏:‏ بئس يبأس بأسًا إذا افتقر فهو بائس‏،‏ وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرًا؛ ومنه قوله -عليه السلام-‏:‏ «لكن البائس سعد بن خولة‏»، ويقال‏:‏ رجل بئيس أي شديد‏،‏ وقد بؤس يبؤس بأسًا إذ اشتد؛ ومنه قوله تعالى: ‏{‏ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [ سورة الأعراف‏:‏ 165‏]‏ أي شديد‏،‏ وكلما كان التصدق بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر‏.‏ وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه؛ فقيل: النصف؛ لقوله: ‏{‏ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} وقيل: الثلثان؛ لقوله‏:‏ ألا فكلوا وادخروا واتجروا‏ أي اطلبوا الأجر بالإطعام‏، واختلف في الأكل والإطعام..."

ثلثان الأكل والادخار، الأكل والادخار ثلثان، والاتّجار مع الله- جل وعلا- بالثلث الثالث.

"واختلف في الأكل والإطعام؛ فقيل: واجبان‏، وقيل: مستحبان‏."

 يعني أوجبهم الظاهرية، أوجبهم الظاهرية قالوا: لا بد من الأكل من لحم الأضحية؛ للأمر به.

‏ "وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام؛ فالأكل مستحب والإطعام واجب؛ وهو قول الشافعي‏."‏

"