التعليق على تفسير القرطبي - سورة الفرقان (03)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه:

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [سورة الفرقان:30-31]

قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} يريد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يشكوهم إلى الله تعالى، {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [سورة الفرقان:30] أي قالوا: فيه غير الحق من أنه سحر وشعر، عن مجاهد والنخعي."

يعني قالوا فيه هجرًا من القول، يعني مهجور، قالوا فيه هجرًا من القول، وزعموا أنه سحر أو شعر، وهذا القول ينبغي أن يهجر، ولم يكن الهجر بمعنى الترك الذي يفهم بادئ الأمر من هذا اللفظ وإن كان مقصودًا، الشكوى هذه حاصلة من الرسول -عليه الصلاة والسلام- لا سيما عند من يقول: إن هذه الشكوى تكون في الآخرة، أنه جاء من بعده -عليه الصلاة والسلام- من هجر القرآن من أمته ممن ينتسب إليه -عليه الصلاة والسلام- هجر كلام الله، هجر قراءته، هجر تلاوته، هجر التدبر، هجر العمل، والمعنى كله مقصود، كل ما يتناوله اللفظ مقصود.

"وقيل: معنى {مَهْجُورًا} أي متروكًا فعزاه الله -تبارك وتعالى- وسلّاه بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} [سورة الفرقان:31] أي كما جعلنا لك يا محمد عدوًا من مشركي قومك وهو أبو جهل في قول ابن عباس، فكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من مشركي قومه، فاصبر لأمري كما صبروا، فإني هاديك وناصرك على كل من ناواك، وقد قيل: إن قول الرسول: {يَا رَبِّ} إنما يقول يوم القيامة: أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني، وقال أنس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من تعلَّم القرآن وعلَّق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقًا به يقول: يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورًا فاقض بيني وبينه» ذكره الثعلبي."

ضعيف؟

طالب: قال: حديث باطل، وعزاه المصنف الثعلبي عن أنس مرفوعًا، وأعله الألوسي في روح المعاني والبيضاوي وغيرهما بأبي هدبة وأنه كذاب، وجاء في ترجمته في الميزان، قال الخطيب: حدث عن أنس بالأباطيل، قال أبو حاتم وغيره، كذاب، وقال يحيى: كذاب خبيث. انتهى كلامه، ثم إن أكثر الصحابة لم يكن لديهم مصاحف.

التعليل بكون الصحابة لم يكن لديهم مصاحف لا يتجه؛ لأن المصاحف وجدت بعد، ولا يمنع أن يخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بما سيكون بعد، قد أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عن جهاتٍ معينة، وأخبر عن مناسباتٍ كثيرة، وأخبر عما يقع في آخر الزمان، وكون الصحابة ليس لديهم مصاحف، لديهم القرآن الذي بلغهم، بواسطته -عليه الصلاة والسلام-، والمصاحف لمن بعدهم حينما وقّت المواقيت -عليه الصلاة والسلام- قال لأهل الشام كذا، ولأهل اليمن كذا، ولأهل العراق: كذا، على رواية، ولأهل مصر كذا، قبل أن تفتح هذه الأمصار.

"{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [سورة الفرقان:31] نصب على الحال أو التمييز: أي يهديك وينصرك، فلا تبالِ بمن عاداك، وقال ابن عباس: عدو النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو جهل لعنه الله".

يعني {كَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا} [سورة الفرقان:31] يعني حال كونه هاديًا لك ونصيرًا لك، فهما منصوبان على الحال، أو {هَادِيًا} منصوب على الحال و{نَصِيرًا} معطوف عليه، أو التمييز من تكفيك هدايته ونصره لك.

"قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [سورة الفرقان:32] اختلف في قائل ذلك على القولين: أحدهما: أنهم كفار قريش قاله ابن عباس، والثاني: أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقًا قالوا: هلا أنزل عليه جملةً واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، فقال الله تعالى: {كَذَلِكَ} أي فعلنا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} نقوي به قلبك فتعيه وتحمله؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أنزل على نبي أمي، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ففرَّقناه؛ ليكون أوعى للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأيسر على العامل به فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب."

الفائدة من التنجيم يعني نزول القرآن منجمًا فوائد عظيمة، تثبيت الفؤاد، والشيء الذي يؤخذ بالتدريج يسهل أخذه وييسر على آخذه، ويبعد نسيانه، بخلاف الذي يؤخذ جملة واحدة فإنه يصعب، وإن كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- ضمن له، حفظ له، ضمن له حفظه -عليه الصلاة والسلام-، لكن كونه يأتي بالتدريج لا شك أن فيه من تثبيت الفؤاد ما فيه، وفيه أيضًا كون النزول على هذه الكيفية على حسب الحاجة ومقتضيات الأحوال، ومنها أيضًا: التعاهد المستمر من بداية التنزيل إلى وفاته -عليه الصلاة والسلام- لا شك أن فيه تثبيتًا للنبي -عليه الصلاة والسلام- وأيضًا فيه الناسخ والمنسوخ، لا يمكن أن ينزل الناسخ والمنسوخ في وقتٍ واحد، بل ينزل المنسوخ فيُعمل به مدة أو لا يتمكن من العمل به كما في بعض الوقائع -وإن كان نادرًا-، ثم تكون المصلحة في رفع هذا الحكم بحكمٍ متراخٍ عنه بعد العمل بالحكم الأول، وعلى كل حال نزوله على هذه الكيفية لا شك أنه أكمل.

قد يقول قائل: القرآن نزل جملةً واحدة إلى السماء الدنيا، وهذا ثابت عن ابن عباس أنه نزل جملة واحدة، نقول: العبرة بنزوله على النبي -عليه الصلاة والسلام- وعلى المكلفين المطالَبين بالعمل به.

"قلت: فإن قيل: هلا أنزل القرآن دفعةً واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته؟ قيل: في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه."

لا يُسأل عما يفعل -جل وعلا-.

"وقد بيَّنا وجه الحكمة في ذلك، وقد قيل: إن قوله: {كَذَلِكَ} من كلام المشركين: أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك."

يعني كما أنزل الكتب السابقة.

"أي: كالتوراة والإنجيل، فيتم الوقف على {كَذَلِكَ}، ثم يبتدئ {ولِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [سورة الفرقان:32]."

يعني هذا جواب الاقتراح الذي اقترحوه -اقترحه الكفار- هذا جوابه: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}.

"ويجوز أن يكون الوقف على قوله: جملة واحدة، ثم يبتدئ {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [سورة الفرقان:32] على معنى: أنزلناه عليك كذلك متفرقًا؛ لنثبت به فؤادك، قال ابن الأنباري: والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدثنا محمد بن عثمان الشيبي قال: حدثنا منجاب قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [سورة القدر:1] قال: أُنزل القرآن جملة واحدة من عند الله -عز وجل- في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء فنجَّمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل -عليه السلام- على محمد عشرين سنة، قال: فهو قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [سورة الواقعة:75] يعني نجوم القرآن، {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [سورة الواقعة:76-77] قال: فلما لم ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- جملةً واحدة، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [سورة الفرقان:32] فقال الله -تبارك وتعالى-: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} يا محمد، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [سورة الفرقان:32] يقول: ورسلناه ترسيلًا، يقول: شيئًا بعد شيء".

قد يقول قائل: كيف يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [سورة القدر:1]، والمعلوم أنه لم ينزل جملة واحدة، فإما أن يكون نزوله في ليلة القدر جملةً واحدة إلى السماء الدنيا، أو يقال: إن بداية التنزيل في ليلة القدر، بداية التنزيل في شهر رمضان {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [سورة البقرة:185] يعني بداية التنزيل.

"{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [سورة الفرقان:33] يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملةً واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت، قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة؛ لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتًا لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [سورة الفرقان:33]، ولو نزل جملةً بما فيه من الفرائض؛ لثقل عليهم، وعلم الله -عز وجل- أن الصلاح في إنزاله متفرقًا؛ لأنهم ينبَّهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملةً واحدة لزال معنى التنبيه، وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يُتعبدون بالشيء إلى وقتٍ بعينه، قد علم الله -عز وجل- فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك، فمحال أن ينزل جملةً واحدة: افعلوا كذا ولا تفعلوا، قال النحاس: والأولى أن يكون التمام جملةً واحدة؛ لأنه إذا وُقِف على {كَذَلِكَ} صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور، ولم يتقدم لها ذكر، قال الضحاك: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي تفصيلًا، والمعنى: أحسن من مِثْلهم تفصيلًا".

مَثَلهم، ولا يأتونك بمَثَلٍ.

"أحسن من مثَلَهم تفصيلًا فحذف لعلم السامع، وقيل: كان المشركون يستمدُّون من أهل الكتاب، وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل، فكان ما يأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن تفسيرًا مما عندهم؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [سورة البقرة:42]. وقيل: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} [سورة الفرقان:33] كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب، {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي بما فيه نقض حجتهم كآدم؛ إذ خلق من غير أب وأم.

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [سورة الفرقان:34} تقدم في (سبحان)، {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا} لأنهم في جهنم، وقال مقاتل: قال الكفار لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- هو شر الخلق، فنزلت الآية، {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أي دينًا وطريقًا، ونظم الآية: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم".

{أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا} [سورة الفرقان:34] هذا خبر، خبر الذين يحشرون على وجوههم، الذين يحشرون على وجوههم {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا}، فهذه جملة تامة من مبتدأ وخبر، فلما قال الكفار لأصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام-: صاحبكم شر الخلق، بيّن الله -جل وعلا- أن هؤلاء الكفار الذين يحشرون على وجوههم، وفي الحشر على الوجه ما فيه؛ لأنه أشرف ما في الإنسان، وكون هذا الأشرف أول ما تباشره النار لا شك أن هذا فيه ردع لهم، وفيه زجر- نسأل الله العافية والسلامة-.

"قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [سورة الفرقان:35] يريد التوراة، {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} تقدم في (طه)."

الوزير هو من يؤازر ويعين من استوزره، هذا الوزير الذي هو هارون بطلب موسى -عليه السلام- أن يجعل أخاه وزيرًا له، فأجيب طلبه، ولذا يقول أهل العلم: أنه لا يوجد أخ أنفع لأخيه من موسى -عليه السلام-، حيث سأل له النبوة وحصلت له، والفضل أولًا وأخيرًا لله- جل وعلا-.

"{فَقُلْنَا اذْهَبَا} [سورة الفرقان:36] الخطاب لهما."

طالب: لما ذكر الله -عز وجل- في سورة النور ذكر إبراهيم وذكر. . . . . . . . .

يعني في ذريته من بعده، فهو أبو الأنبياء الذين جاؤوا من بعده.

طالب: ذكر موسى وقال: (ووهبنا له).

هو طلب، اجعل لي وزيرًا من أهلي، هارون أخي، فأجيب، وهب هذا الطلب.

طالب: هل يدخل يا شيخ. . . . . . . . . هارون ما يقال: إذا كان هذا هبة أليس بمنزل عليه؟

كيف نزل عليه؟

طالب: يعني يوحى إليه؟

على كل حال هو نبي، هو نبي -عليه السلام-.

"{فَقُلْنَا اذْهَبَا} [سورة الفرقان:36] الخطاب لهما. وقيل: إنما أمر موسى -صلى الله عليه وسلم- بالذهاب وحده في المعنى، وهذا بمنزلة قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [سورة الكهف:61] وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [سورة الرحمن:22]، وإنما يخرج من أحدهما، قال النحاس: وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتاب الله تعالى، وقد قال -جل وعز-: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [سورة طه:44-45]".

فالتكليف لهما جميعًا، لا لموسى وحده.

"{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [سورة طه:46-47] ونظير هذا: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [سورة الرحمن:62] وقد قال -جل ثناؤه-: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} [سورة المؤمنون:45] قال القشيري: وقوله في موضع آخر: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [سورة طه:24] لا ينافي هذا؛ لأنهما إذا كانا مأمورين فكل واحد مأمور، ويجوز أن يقال: أمر موسى أولًا ثم لما قال: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي} [سورة طه:29] قال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [سورة طه:43]، {إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [سورة الفرقان:36] يريد فرعون وهامان والقبط، {فَدَمَّرْنَاهُمْ} في الكلام إضمار: أي فكذبوهما، {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [سورة الفرقان:36] أي أهلكناهم إهلاكًا."

نعم؛ لأن التدمير هذا إنما وقع بعد التكذيب، لا بمجرد وصولهما إليه، لما كذبهما دُمّر.

"قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ} [سورة الفرقان:37] في نصب {قَوْمَ} أربعة أقوال: العطف على الهاء والميم في {فَدَمَّرْنَاهُمْ}، الثاني: بمعنى اذكر."

يعني واذكر قوم نوح، وكثيرًا ما يضمر أهل العلم في التفسير هذه الكلمة، اذكر يا محمد، إذا وجد صدر الآية منصوبًا قدروا: اذكر يا محمد قوم نوح.. إلى آخره.

"الثالث: بإضمار فعلٍ يفسره ما بعده، والتقدير: وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم، والرابع: أنه منصوب بـ {أَغْرَقْنَاهُمْ} [سورة الفرقان:37] قاله الفراء، وردَّه النحاس قال: لأن (أغرقنا) ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر، وفي {وَقَوْمَ نُوحٍ}".

المضمر المتصل به {أَغْرَقْنَاهُمْ}، ويعمل أيضًا في المتقدم عليه {وَقَوْمَ نُوحٍ} ولا يعمل إلا بفعلٍ واحد.

"{لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [سورة الفرقان:37] ذكر الجنس والمراد: نوح وحده؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده."

ومن كذَّب رسولًا واحدًا فقد كذّب بقية الرسل؛ لأن دعواهم واحدة.

"فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله، وبالإيمان بما ينزل الله، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة، وقيل: إن من كذَّب رسولًا فقد كذب جميع الرسل؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذَّب منهم نبيًا فقد كذب كل من صدقه من النبيين. {أَغْرَقْنَاهُمْ} أي بالطوفان على ما تقدم في (هود)، {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [سورة الفرقان:37] أي علامةً ظاهرة على قدرتنا، {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} أي للمشركين من قوم نوح، {عَذَابًا أَلِيمًا} أي في الآخرة، وقيل: أي هذه سبيلي في كل ظالم."

ولا يختص بقوم نوح، وفي حكمهم كل من اتصف بهذا الوصف.

"قوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [سورة الفرقان:38] كله معطوف على {قَوْمَ نُوحٍ} [سورة الفرقان:37] إذا كان {قَوْمَ نُوحٍ} منصوبًا على العطف، أو بمعنى اذكر، ويجوز أن يكون كله منصوبًا على أنه معطوف على المضمر في {دَمَّرْنَاهُمْ} أو على المضمر في {جَعَلْنَاهُمْ} [سورة الفرقان:37] وهو اختيار النحاس؛ لأنه أقرب إليه، ويجوز أن يكون منصوبًا بإضمار فعل: أي اذكر عادًا الذين كذبوا هودًا فأهلكم الله بالريح العقيم، وثمودًا كذبوا صالحًا فأهلكوا بالرجفة.

{وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [سورة الفرقان:38] والرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية، والجمع: رساس قال: تنابلة يحفرون الرساسا: يعني آبار المعادن، قال ابن عباس: سألت كعبًا عن أصحاب الرس قال: صاحب (يس) الذي قال: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [سورة يس:20] قتله قومه ورسُّوه في بئر لهم يقال لها الرس، طرحوه فيها، وكذا قال مقاتل، قال السدي: هم أصحاب قصة (يس) أهل أنطاكية، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبًا النجار مؤمن آل (يس) فنسبوا إليها، وقال علي -رضي الله عنه-: هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر، فدعا عليهم نبيهم، وكان من ولد يهوذا فيبست الشجرة فقتلوه ورسُّوه في بئر، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم، وقال ابن عباس: هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء، فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعًا وعطشًا. وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشٍ، وكانوا يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم شعيبًا فكذبوه وآذوه وتمادوا على كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم، انهارت بهم وبديارهم، فخسف الله بهم فهلكوا جميعًا.

 وقال قتادة: أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أُمَّتان أرسل الله إليهما شعيبًا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين، قال قتَادَةُ: وَالرَّسُّ قَرْيَةٌ بِفَلْجِ الْيَمَامَةِ. وقال عكرمة: هم قوم رسُّوا نبيهم في بئر حيًّا، دليله ما روى محمد بن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود، وذلك أن الله تعالى بعث نبيًا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود، فحفر أهل القرية بئرًا وألقوا فيها نبيهم حيًّا، وأطبقوا عليه حجرًا ضخمًا، وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه، ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه، فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائمًا، ثم هبّ من نومه فتمطى، واتكأ على شقه الآخر، فضرب الله على أذنه سبع سنين، ثم هبَّ فاحتمل حزمة الحطب فباعها، وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده، وكان قومه قد أراهم الله تعالى آيةً فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه، ومات ذلك النبي» قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة» وذكر هذا الخبر المهدوي والثعلبي واللفظ للثعلبي".

طالب: قال: باطل أخذه الطبري عن ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي وهو حديث واهٍ. . . . . . . . . لأن فيه غرابة ونكارة، انتهى كلامه، وهو باطل؛ لأن نبينا -عليه السلام- هو أول من يدخل الجنة.

هو من أخبار بني إسرائيل التي جاء شرعنا بخلافها، هذه من أخبار بني إسرائيل التي لا تصدق؛ لأن شرعنا جاءنا بخلافها.

"وقال: هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس؛ لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم، وقال الكلبي: أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيًّا فأكلوه، وهم أول من عمل نساؤهم السحق، ذكره الماوردي. وقيل: هم أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين وسيأتي، وقيل: هم بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في (الحج) في قوله: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} [سورة الحج:45] على ما تقدم.

وفي الصحاح: والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود، وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق، وكان نساؤهم كلهم سحاقات، وروي من حديث أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وذلك السحق». وقيل: الرس ماء ونخل لبني أسد، وقيل: الثلج المتراكم في الجبال، ذكره القشيري، وما ذكرناه أولًا هو المعروف، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر، قال أبو عبيد: الرس كل ركية لم تطوَ".

بالتاء، أبو عبيدة.

أبو عبيدة.

قال: أبو عبيدة.

"قال أبو عبيد: الرس كل ركية لم تطوَ وجمعها رساس، قال الشاعر:

وهم سائرون إلى أرضهم

فيا ليتهم يحفرون الرساسا

والرس: اسم وادٍ في قول زهير:

بكرن بكورًا واستحرن بسحرة

فهن لوادي الرس كاليد للفمِ

ورسست رسًا: حفرت بئرًا، ورسَّ الميت: أي قبر، والرس: الإصلاح بين الناس والإفساد أيضًا، وقد رسست بينهم، فهو من الأضداد، وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا، ذكره الثعلبي وغيره.

{وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [سورة الفرقان:38] أي أممًا لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس، وعن الربيع بن خَثيم."

خُثَيم.

" وعن الربيع بن خُثيم اشتكى فقيل له: ألا تتداوى فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمر به؟ قال: لقد هممت بذلك، ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي، فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونًا بين ذلك كثيرًا كانوا أكثر وأشد حرصًا على جمع المال، فكان فيهم أطباء، فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت، فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات -رحمه الله-.

قوله تعالى: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} [سورة الفرقان:39] قال الزجاج: أي وأنذرنا كلًّا ضربنا له الأمثال، وبينَّا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة، وقيل: انتصب على تقدير ذكرنا كلًّا ونحوه؛ لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ، ذكره المهدوي والمعنى واحد، {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أي أهلكنا بالعذاب، وتبَّرت الشيء: كسرته، وقال المؤرج والأخفش: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [سورة الفرقان:36] تُبدل التاء والباء من الدال والميم.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} [سورة الفرقان: 40]"

قال المؤرج والأخفش: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} تبدل التاء والباء من الدال والميم، دمرنا، تبّرنا.

"قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} [سورة الفرقان: 40] يعني مشركي مكة، والقرية قرية قوم لوط، و{مَطَرَ السَّوْءِ} [سورة الفرقان: 40] الحجارة التي أمطروا بها، {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [سورة الفرقان: 40] أي في أسفارهم ليعتبروا، قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمرُّ بمدائن قوم لوط، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ} [سورة الصافات:137]، وقال: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [سورة الحجر:79]، وقد تقدم. {بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} أي لا يصدقون بالبعث، ويجوز أن يكون معنى {يَرْجُونَ} يخافون، ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه: بل كانوا يرجون ثواب الآخرة."

لكن المعنى الأول كأنه أقرب، {لَا يَرْجُونَ} لا يتوقعون ولا يصدقون بالنشور الذي هو البعث، كأنه أقرب من الخوف والرجاء المعروفين.

طالب: ذكر. . . . . . . . .

وهم في رحلتهم إلى الشام؟

طالب: ما لهم آثار؟

الآن؟ لكن في وقته -عليه الصلاة والسلام- عن الصحابة، وقت نزول القرآن، وهم لا يبعد أن يكون لهم آثار.

طالب:. . . . . . . . .

ما أدري عنهم، لكن لا يبعد أن يكون لهم آثار من كلام ابن عباس.

"قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [سورة الفرقان: 41] جواب {إِذَا} {إِن يَتَّخِذُونَكَ}؛ لأن معناه يتخذونك، وقيل: الجواب محذوف، وهو قالوا أو يقولون: {أَهَذَا الَّذِي} [سورة الفرقان: 41]، وقوله: {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} كلام معترض، ونزلت في أبي جهل كان يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- مستهزئًا: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [سورة الفرقان: 41]، والعائد محذوف أي بعثه الله، {رَسُولًا} نصب على الحال، والتقدير: أهذا الذي بعثه الله مرسلًا، {أَهَذَا} رفع بالابتداء، و{الَّذِي} خبره، {رَسُولًا} نصب على الحال و{بَعَثَ} في صلة {الَّذِي}، واسم الله -عز وجل- رفع بـ {بَعَثَ} ويجوز أن يكون مصدرًا؛ لأن معنى بعث أرسل، ويكون معنى {رَسُولًا} رسالة على هذا، والألف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار."

لأن معنى {بَعَثَ} أرسل، ويكون معنى رسولًا: رسالةً، هل الذي يبعث ويرسل هو الرسول أو الرسالة؟ الذي يرسل الرسول، ويحمل معه الرسالة.

"{إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا} [سورة الفرقان: 42] أي قالوا: قد كاد أن يصرفنا، {عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [سورة الفرقان: 42] أي حبسنا أنفسنا على عبادتها، قال الله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} يريد من أضل دينًا، أهم أم محمد؟ وقد رأوه في يوم بدر.

قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الفرقان: 43] عجَّب نبيه -صلى الله عليه وسلم- من إضمارهم على الشرك، وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم، ثم يعمد إلى حجرٍ يعبده من غير حجة، قال الكلبي وغيره: كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئًا عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن، فعلى هذا يعني: أرأيت من اتخذ إلهه بهواه، فحذف الجار، وقال ابن عباس: الهوى إله يعبد من دون الله، ثم تلا هذه الآية."

يعني اتخذه إلهًا يعبده من دون الله، والهوى قد يتمثل بمحسوس إذا دفع الهوى عبادة هذا المحسوس، وقد يبقى معنويًّا ويعبد من دون الله -جل وعلا- إذا قُدِّم الهوى على ما يأمر الله به -جل وعلا- وعلى مخالفة ما ينهى عنه -عز وجل-، هذه هي العبادة، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث عدي بن حاتم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} [سورة التوبة:31] قال: لسنا نعبدهم، قال: «أليس يحرمون الحلال فتحرمونه، ويحلون الحرام فتحلونه؟ » قال: بلى، قال: «فتلك عبادتهم»، يعني تقديمهم على أمر الله -جل وعلا- لا شك أن هذا هو معنى العبادة.

"قال الشاعر:

لعمر أبيها لو تبدت للناسك

قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك

لصلى لها قبل الصلاة لربه

ولأرتد في الدنيا بأعمال فاتك

وقيل: {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الفرقان: 43] أي أطاع هواه، وعن الحسن لا يهوى شيئًا إلا اتبعه، والمعنى واحد. {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} أي حفيظًا وكفيلًا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد، أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك، وإنما عليك التبليغ، وهذا رد على القدرية، ثم قيل: إنها منسوخة بآية القتال، وقيل: لم تنسخ؛ لأن الآية تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم-."

أما الرد فيها على القدرية في قوله: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} أي حفيظًا وكفيلًا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد، أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك، بل مردهما إلى مشيئة الله -جل وعلا-، فإذا كان الأمر بيده أولًا وآخرًا فلا كلام لأحد لا قدرية ولا غيرهم، بل الأمر إليه -جل وعلا-. ثم هل قوله: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} يعني هذا الذي أراد الله إضلاله هل أنت تستطيع أن تلزمه بهذا ولو بقتاله وقتله؟ {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [سورة الفرقان: 43] أم أن هذه محكمة، ما دام الأمر كذلك والله -جل وعلا- قضى عليه بذلك فليترك، وتكون هذه مناسبة لبعض الناس دون بعض، منهم من يلزم ومنهم من يترك؟ من أهل العلم من يقول: بأنها منسوخة بآية السيف -بآية القتال- مثل هذا: إذا اتخذ إلهه هواه إما أن يدعى إلى الإسلام وإلا قتل؛ لأنه لا دين مع الإسلام، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران:85] ومنهم من يقول: إن آيات الموادعة والمصالحة والمهادنة حكمها باقٍ، لكن تنزّل على بعض الأحوال دون بعض، فإذا كان في المسلمين قوة أعملت فيهم آيات القتال، وإذا كان فيهم ضعف أعملت فيهم آيات المهادنة، وهما طريقان لأهل العلم.

 منهم من يقول: إن ما كان في العهد المكي من الموادعة والمهادنة {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الحجر:94] كل هذا منسوخ بما جاء بعده في العهد المدني من الأمر بالقتال، ومنهم من يحمله على حال الضعف، وأن المسألة مسألة أحوال تختلف، فإذا كان في المسلمين ضعف فيتنزل عليهم حال العهد المكي، وإذا كانوا بهم قوة تتنزل عليهم أحوال العهد المدني.

"قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [سورة الفرقان: 44]، ولم يقل (أنهم)؛ لأن منهم من قد علم أنه يؤمن، وذمهم -جل وعز- بهذا، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيفعلونه".

فيعقلونه.

" أو يفكرون فيما تقوله فيعقلونه: أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع."

لأن السمع الذي لا ينفع وجوده مثل عدمه، والعقل الذي لا يهدي صاحبه وجوده مثل عدمه فيصح نفيه عنه.

"وقيل المعنى: أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون، فكأنهم لم يسمعوا، والمراد أهل مكة، وقيل: (أم) بمعنى: بل في مثل هذا الموضوع، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} [سورة الفرقان: 44] أي في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}؛ إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام، وقال مقاتل: البهائم تعرف ربها، وتهتدي إلى مراعيها، وتنقاد لأربابها التي تعقلها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم، وقيل: لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضًا."

{بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [سورة الفرقان: 44] لأن مثل ما ذكر في آخر الأمر أن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد وتتعبد به، أقل الأحوال أن جهلها بسيط، يعني لا تعلم، وأما جهل هؤلاء فمركب، لا يعلمون ولا يعقلون التوحيد ولا يرون صحته ويعملون بضده، وهو الشرك -نسأل الله السلامة والعافية-.

" قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [سورة الفرقان: 45] يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ويجوز أن تكون من العلم، وقال الحسن وقتادة وغيرهما: مدّ الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقيل: هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها، والأول أصح، والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة، فإن فيها يجد المريض راحة، والمسافر وكل ذي علة، وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد، وتطيب نفوس الأحياء فيها، وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب، وقال أبو العالية: نهار الجنة هكذا، وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر، قال أبو عبيدة: الظل بالغداة والفيء بالعشي؛ لأنه يرجع بعد زوال الشمس، سُمي فيئًا؛ لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب.

قال الشاعر وهو حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة:

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه

ولا الفيء من برد العشي تذوق"

وعلى هذا يكون المراد بالظل من بعد طلوع الشمس إلى الزوال، والفيء يكون من الزوال إلى غروب الشمس؛ لأنه فاء إلى الجهة الأخرى يعني رجع إليها.

"وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس، وحكى أبو عبيدة عن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل، {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [سورة الفرقان: 45] أي دائمًا مستقرًا لا تنسخه الشمس، قال ابن عباس: يريد إلى يوم القيامة، وقيل: المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع."

ليستمر الظل.

"{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [سورة الفرقان: 45] أي جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالةً على أن الظل شيء ومعنى؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عُرف الظل، ولا النور ما عُرفت الظلمة، فالدليل فعيل بمعنى الفاعل، وقيل: بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب، أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به، أي أتبعناها إياه، فالشمس دليل أي حجة وبرهان، وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه، ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس؛ لأنه في معنى الاسم، كما يقال: الشمس برهان والشمس حق.

{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} [سورة الفرقان: 46] يريد ذلك الظل الممدود، {إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي يسيرًا قبضه علينا، وكل أمر ربنا عليه يسير، فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضًا، وخَلَفه في هذا الجو شعاع".

يعني الظل الممتد إلى طلوع الشمس، لكن إذا طلعت الشمس أخذ ينقبض شيئًا فشيئًا إلى أن ينتهي بالزوال، ثم إذا زالت الشمس يبدأ الظل ويسمى الفيء بعد رجوعه إلى جهة المشرق يزداد شيئًا فشيئًا إلى غروب الشمس.

"وخَلَفه في هذا الجو شعاع الشمس، فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل، إنما ذلك بقية نور النهار، وقال قوم: قبضه بغروب الشمس؛ لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما بتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه، وقيل: إن هذا القبض وقع بالشمس؛ لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئًا فشيئًا، قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي، وقيل: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} [سورة الفرقان: 46] أي قبضنا ضياء الشمس بالفيء، {قَبْضًا يَسِيرًا} [سورة الفرقان: 46] وقيل: {يَسِيرًا} أي سريعًا قاله الضحاك، وقال قتادة: خفيًّا: أي إذا غاب الشمس قبض الظل قبضًا خفيًّا كلما قبض جزء منه جُعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعةً واحدة، فهذا معنى قول قتادة، وهو قول مجاهد."

{قَبْضًا يَسِيرًا} يعني تدريجيًّا شيئًا فشيئًا، هو بحسب من يتابعه ويراه يجد أن قبضه بطيء جدًّا؛ لأن الشمس وإن كانت سرعتها هائلة إلا أنها تبدو للناظر لبعدها بطيئة المشي، وتبعًا لذلك يكون الظل، ظل ماله ظل إذا زالت عليه الشمس، ولا شك أن الظل يتفاوت طولًا وقصرًا من فصلٍ إلى فصل من فصول السنة، وذلك تابع أيضًا لطول ما يستظل به، فطول الحائط القصير ظله بقدره، والحائط الطويل ظله بقدره، إضافةً إلى الوقت الذي يتدرج به هذا القبض، فوقت صلاة الظهر إلى مصير ظل الشيء مثله، ثم بعد ذلك يزيد إلى أن يصير ظل الشيء مثليه، إلى أن تغيب الشمس، وينقطع الظل، هذا كله بالتدريج، يعني ليست دفعةً واحدة، ليس مثل الكهرباء، بضغطة زر يشتعل، وبضغطة أخرى ينطفئ، وهذه آية من آيات الله -جل وعلا-.

"قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [سورة الفرقان: 47].

فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [سورة الفرقان: 47] يعني سترًا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن، قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيهًا من حيث يستر الأشياء ويغشاها.

الثانية: قال ابن العربي: ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانًا في الظلام أنه يجزئه؛ لأن الليل لباس."

فيكفي عن السترة، إذا كان الليل لباسًا يكفي عن السترة، والمقصود أنه لا يرى وهو في الظلام لا يرى، لكن هذا تغفيل لا شك.

"وهذا يوجب أن يصلى في بيته عريانًا إذا أغلق عليه بابه، والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس."

لأنها شرط، ستر العورة شرط لصحة الصلاة.

"ولا حاجة إلى الإطناب في هذا.

الثالثة: قوله تعالى: {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} [سورة الفرقان: 47] أي راحةً لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال، وأصل السبات من التمدد، يقال: سبتت المرأة شعرها: أي نقضته وأرسلته، ورجل مسبوت: أي ممدود الخلقة، وقيل: للنوم سبات؛ لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة، وقيل: السبت القطع فالنوم انقطاع عن الاشتغال، ومنه سبت اليهود؛ لانقطاعهم عن الأعمال فيه، وقيل: السبت الإقامة في المكان، فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه، فالنوم سبات على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة، وقال الخليل: السبات نوم ثقيل: أي جعلنا نومكم ثقيلًا؛ ليكمل الإجمام والراحة."

يقابله السِّنة والنعاس، وهو النوم الخفيف، أما السبات فهو النوم الثقيل.

"الرابعة: قوله تعالى: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [سورة الفرقان: 47] من الانتشار للمعاش: أي النهار سبب الإحياء للانتشار، شبَّه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة، وكان -عليه السلام- إذا أصبح قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»".

ولا شك أن النوم موت، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [{سورة الزمر:42]، فهو لا شك أنه موت، وهو يشبه الموتة الكبرى إلا أنه بعده عود للروح بخلاف الموت الحقيقي الذي لا عود للروح فيها، هذه الآية التي يذكرها المؤلف فيها طول، يمكن حدود خمسة عشر صفحة أو أكثر، أكثر، حدود ثمانية عشر صفحة أو سبعة عشر صفحة.

الجمعة ليس فيها درس؛ لأن عندنا سفرًا، إن رأيتم أن تؤخذ بدرسٍ واحد متتابعة فالأمر إليكم؛ لأن مباحثها مترابطة.

طالب: الذي تراه يا شيخ؟ الاثنين القادم؟

الاثنين القادم -إن شاء الله- لأن مباحث الآية مترابطة، وثمانية عشر صفحة ما يصلح تفريقها، نأخذها -إن شاء الله- في الاثنين القادم.

طالب:....

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

"