التعليق على تفسير القرطبي - سورة الفرقان (04)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله-:

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ نُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [سورة الفرقان:48].

تقدم في الأعراف مستوفى."

معروف أن (نُشْرًا) هذه القراءة التي عليها المؤلف -رحمه الله- تعالى وهي قراءة نافع كما هو معلوم، والمؤلف يقرأ بقراءة نافع، ويفسر قراءة نافع، والذين طبعوا الكتاب أدخلوا الآيات على قراءة عاصم، وهذا تصرف لا يليق، إذا تصرفوا وأدخلوا المتن سواء كان القرآن كما هنا أو غيره من المتون أنه ينبغي أن يدخل متن يتفق مع شرح المؤلف، الآن الآية التي معنا: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} هذا أدخلوها من مصحف فاروق كما هو معلوم، ومرّ بنا مرارًا التنبيه على مثل هذا، والمؤلف يقرأ على رواية نافع (نُشْرًا).

" قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [سورة الفرقان:48].

فيه خمس عشرة مسألة:

الأولى: قوله تعالى: {مَاء طَهُورًا} يُتطهر به، كما يقال: وضوء للماء الذي يُتوضأ به، وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورًا."

نعم، هذا على مذهب من يجعل المياه ثلاثة أنواع، طهور وطاهر ونجس، أما من يجعل أو يقسم الماء إلى قسمين، طاهر ونجس، فيجعل الطهور من الطاهر.

"فالطهور بفتح الطاء الاسم، وكذلك الوضوء والوقود، وبالضم المصدر، وهذا هو المعروف في اللغة، قاله ابن الأنباري، فبين أن الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره، فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر، وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهرًا مطهرًا، وإلى هذا ذهب الجمهور، وقيل: إن {طَهُورًا} بمعنى طاهر، وهو قول أبي حنيفة، وتعلق بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [سورة الإنسان:21] يعني طاهرًا، وبقول الشاعر:

خليلي هل في نظرة بعد توبة

أداوي بها قلبي علي فجورُ

إلى رجّح الأكفال غيد من الظبا

عذاب الثنايا ريقهن طهورُ

فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر، وتقول العرب: رجل نؤوم، وليس ذلك بمعنى أنه منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه، ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا: وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب، وعن خسائس الصفات كالغل والحسد، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب، وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاءوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [سورة الزمر:73]، ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة."

الصيغة صيغة (طهور) صيغة مبالغة، وهذه المبالغة في هذه الصيغة هل هي ترجع إلى الماء ذاته؟ بمعنى أنه أطهر من غيره، أو لأنه يتكرر منه التطهير، يعني أنه مطَهر أكثر من غيره، ولهذا يصلح لتطهير غيره أو أنه تكرر منه التطهير؟ وفرق بينهما، يعني الماء إذا خرج من الأرض أو نزل من السماء ثم وضع في فلتر، لا شك أنه تزداد طهوريته، ويزداد نقاؤه وصفاؤه ثم إذا نقّي مرة ثانية وثالثة وكل ما ينقّى يسلم من الشوائب فيكون أشد في التطهير، يعني هل هذا الآن طهور؛ لأنه تكرر تطهيره أو لأنه تكرر التطهر به؟ هذه المبالغة، المبالغة لا تأتي من شيءٍ واحد؛ لأن ما طَهُر مرةً واحدة لا يستحق صيغة المبالغة، يقال: طاهر، إنما يقال: طهور إذا كانت طهارته تكررت مرارًا أو كان التطهر به تكرر مرارًا، الذي يدعو إلى مثل هذا الكلام ما ذكره البغوي في شرح السُّنَّة من أن الماء المستعمل في الطهارة أكثر من مرة هو الذي يستحق أن يسمى طهورًا؛ لأنه تكرر التطهر به مثل الشكور مثل الصبور، ما يستحق هذه الصيغة إلا بعد أن يتكرر منه الفعل، لكن هل المراد من هذه الصيغة تكرار التطهر به أو تكرار طهارته بنفسه؟

البغوي يقرر يقول: إنه لا يستحق هذه الصيغة إلا إذا تكرر التطهر به، إذا تكرر تطهيره لغيره كالصبور والشكور، إذا تكرر منه الصبر والشكر، لكن هل استعماله في طهارة -في تطهير- يزيده نقاوة وطهارة أم يزيده كدرة؟ يزيده كدرة بلا شك؛ لأن هذا يخفف من طهارته؛ لأنه إنما استعمل بالطهارة؛ لإزالة الأوساخ.

 يعني عندنا طهور صيغة مبالغة، وهذه مسألة فيها شيء من الخفاء، وكلام البغوي قد يمشي على بعض الناس، يقول: الطهور ما يتكرر التطهير به، فالماء الذي يستعمل في الوضوء أو في الغسل مرتين، ثلاثًا، خمسًا كلما يزيد التطهر به يزداد دخولًا وإيغالًا في هذه الصفة، يريد أن يقرر أن الماء المستعمل في الطهارة أولى بوصف الطهور من غير المستعمل، والعلماء معروف عندهم أن المستعمل لا سيما عند الحنابلة والشافعية المستعمل في رفع الحدث خلاص انتهى، صار طاهرًا ما يطهر غيره، ويريد أن يقرر كل ما استعمل في هذه الطهارة صار دخوله في هذا الوصف أولى؛ لأن عندنا فيما يتعلق بالماء أمران: طهارته بنفسه، وتطهيره لغيره، فطهارته بنفسه الأصل أنه طهور وطاهر، الأصل أنه طاهر؛ لأنه لم تخالطه نجاسة، فهو طاهر، إذا نُقّي مرة ثانية تزداد طهارة، نقّي ثالثة خامسة عاشرة، كل مرة يزداد طهارة فيستحق الوصف بأنه طهور، والبغوي -رحمه الله- جعل المسألة عكس، أن كل ما استعمل في طهارة صار في الوصف أدخل.

طالب: هل كونه يزداد بعدد مرات التطهير به هل يترتب عليه حكم؟

ما يترتب، لكنه أنقى وأطهر من الذي لم يكرر أصلًا أو كرر مرة أو مرتين.

طالب: البغوي شافعي؟

نعم شافعي، يعني خلاف مذهبه، هو خلاف مذهبه.

"وأما قول الشاعر: (ريقهن طهور) فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية؛ لعذوبته وتعلقه بالقلوب وطيبه في النفوس، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشرعية".

بالمجازات الشعرية.

"لا تثبت بالمجازاة الشعرية".

بالمجازات.

"فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازات الشعرية فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب."

هكذا المجازات، لكن المجازاة هل هي بتاء مربوطة أم مفتوحة؟

طالب: مفتوحة.

هذا الأصل، مجاز جمعه مجازات لكن يبقى أنه كتبها: (مجازاة) بالمربوطة يحتاج إلى نظر.

"ويسترسلون في القول"

عندكم الطبعات الجديدة ماذا؟

طالب: مربوطة.

مربوطة؟ مثلما عندنا.

طالب: أليست مجاراة؟

مجاراة عندك؟

طالب: لا.

مجازات، يعني التجاوز، يعني مجاوزات، تجاوز الحد، مبالغة يعني، المقصود به المبالغة، وليس من باب المجاز لا، وقد يكون من باب المجاز عندهم، من باب المجاز؛ لأنه استعمال للفظ في غير موضعه، استعمل الطهر في غير ما وضع له.

"ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث يشعرون، ألا ترى إلى قول بعضهم:

ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها

لما كنت أدري علةً للتيممِ"

مبالغة، نسأل الله العافية، نسأل الله العافية.

"وهذا كفر صراح نعوذ بالله منه، قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنِّه إلا أني تأملت من طريق العربية، فوجدت فيه مطلعًا مشرقًا، وهو أن بناء فعول للمبالغة إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل المتعدي، كما قال الشاعر:

ضروب بنصل السيف سوق سمانها

وقد تكون في الفعل القاصر، كما قال الشاعر:

نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضلِ"

نعم، فالأول فعله متعدي، يكثر منه الضرب لغيره، والثاني فعله قاصر يكثر النوم بنفسه لا لغيره، فلا ينيم غيره، بينما الضروب يضرب غيره.

"وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة، ومن الشرع طهارة، كقوله -عليه السلام-: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور»، وأجمعت الأُمَّة لغةً وشريعةً على أن وصف طهور يختص بالماء، فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهِّر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله، وهو العبارة به عن الآلة للفعل، لا عن الفعل، كقولنا: وقود وسحور بفتح الفاء، فإنها عبارة عن الحطب والطَّعم المتسحر به، فوصف الماء بأنَّه.."

والطُّعم يعني الطعام.

"فإنها عبارة عن الحطب والطُّعم المتسحر به".

كالوضوء عبارة عن الماء الذي يتوضأ به.

"فوصف الماء بأنه طَهور (بفتح الطاء) أيضًا يكون خبرًا عن الآلة التي يتطهر بها، فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرًا عنه، فثبت بهذا أن اسم الفَعول (بفتح الفاء) يكون بناءً للمبالغة، ويكون خبرًا عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [سورة الفرقان:48]، وقوله -عليه السلام-: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» يحتمل المبالغة، ويحتمل العبارة به عن الآلة، فلا حجة فيه لعلمائنا، لكن يبقى قوله: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [(11) سورة الأنفال] نص في أن فعله يتعدى إلى غيره.

الثانية: المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالِطَها غيرها، والمخالط للماء على ثلاثة أضرب: ضرب يوافقه في صفتيه جميعًا، فإذا خالطه فغيَّره لم يسلبه وصفًا منهما؛ لموافقته لهما وهو التراب، والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة."

يعني الوصفان هما الطهارة في نفسه والتطهير لغيره، فالتراب طاهر في نفسه مطهر لغيره، باعتبار أنه يُتطهر به في التيمم، فهذا إذا خالط الماء لم يؤثر فيه ما لم يمنع من تسميته ماءً كأن يكون طينًا مثلًا، أما إذا منع من تسميته ماءً فلا يصح الوضوء به، والثاني: موافقته في إحدى صفتيه وهي الطهارة كسائر المائعات التي لا يطلق عليها اسم الماء كاللبن مثلًا، إذا صُب على الماء بحيث من رآه لا يقول هذا ماء، أو المرق، أو غيرهما، إذا صبّ على الماء سلبه الاسم.

"والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فإذا خالطه فغيَّره سلبه ما خالفه فيه، وهو التطهير كماء الورد وسائر الطاهرات.

والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعًا، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعًا لمخالفته له فيهما، وهو النجس.

الثالثة: ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات، ولم يحدُّوا بين القليل والكثير حدًّا يوقف عنده."

يعني هذا هو رأي الحنابلة والشافعية إلا أنهم يحدّون، يضعون حدًّا بين القليل والكثير، ويجعلون الحدّ الفاصل القلّتين، وهو أيضًا رأي الحنفية إلا أن تحديدهم والحدّ الفاصل بين القليل والكثير يختلف عن رأي الشافعية والحنابلة باعتبار أن الحنفية يقولون: القليل ما زاد عن عشرة في عشرة، أو ما إذا حرك طرفه لم يتحرك طرفه الآخر.

"إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء، وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم ومن اتبعهم من المصريين، إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك، وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه: أن الماء لا تفسده النجاسة الحالَّة فيه قليلًا كان أو كثيرًا إلا أن تظهر فيه النجاسة الحالَّة فيه، وتغير منه طعمًا أو ريحًا أو لونًا."

وهذا ما يرجِّحه شيخ الإسلام -رحمه الله-، أن الماء لا ينتقل من وصف الطهارة إلى النجاسة حتى يتغير، قلّ أو كثر؛ وذلكم لأن حديث القلتين فيه كلام كثير لأهل العلم، وشيخ الإسلام معروف يصحح الحديث، لكنه يعمل بمنطوقه دون مفهومه، مع تصحيحه للحديث يعمل بمنطوقه دون مفهومه، فلا يرى تأثر ما دون القلتين بما خالطه ما لم يتغير، أما إذا تغير فهو نجس بالإجماع قلّ أو أكثر، نجس بالاتفاق، والغزالي صاحب الإحياء تمنى أن لو كان مذهب الإمام الشافعي مثل مذهب الإمام مالك في الماء، أنه لا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير قلّ أو أكثر، ولا شك أن هذا أوضح، ومن نظر في الكتب الفقهية المطولة سواءً من الشافعية أو الحنابلة أو الحنفية رأى شيئًا لا يليق بسهولة الشريعة ويسرها في كثير من مسائل الطهارة والمياه عنت وتشديد شيء لا يليق بسهولة الشريعة، ولذا المرجح في هذه المسألة هو قول مالك -رحمه الله-.

"وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء، وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك من البغداديين؛ وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي، وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيِّد الأثر.

وقال أبو حنيفة: إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيرًا كان أو قليلًا، إذا تحققت عموم النجاسة فيه، ووجه تحققها عنده أن تقع مثلًا نقطة بولٍ في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس، وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة.

وقال الشافعي: بحديث القلتين، وهو حديث مطعون فيه، اختلف في إسناده ومتنه، أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني، فإنه صدَّر به كتابه وجمع طرقه، قال ابن العربي: وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحِّح حديث القلتين فلم يقدر، وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلَّتين فمذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت في الأثر؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل؛ ولأن القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حدًّا لازمًا لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حدّ ما حدّه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه من أصل دينهم وفرضهم، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف.

قلت: وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما والتحديد، وفي سنن الدارقطني عن حمّاد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال: القلال الخوابي العظام، وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين، ويظهر من قول الدارقطني أنها مثل قلال هجر لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لما رُفعتُ إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة ... » وذكر الحديث، قال ابن العربي: وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بُضاعة، رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم".

أن الماء طهور لا ينجسه شيء، سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الحيض والنتن فقال: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» وأما الزيادة: «إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» فهذه ضعيفة بالاتفاق، باتفاق الحفاظ، لكن الحكم مجمع عليه.

"وهو أيضًا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه، وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة فقال: إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه إذا لا حديث في الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [سورة الفرقان:48]، وهو ما دام بصفاته فإذا تغير عن شيء منها خرج عن الاسم؛ لخروجه عن الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري -إمام الحديث والفقه- في الباب خبرًا يعول عليه قال: (باب إذا تغير وصف الماء) وأدخل الحديث الصحيح: «ما من أحد يكلم في سبيل الله -والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم والريح ريح المسك» فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية، ولذلك قال علماؤنا: إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه".

يعني إذا كان التغير بسبب المجاورة لا المخالطة، بسبب المجاورة لا تؤثر.

"ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيسًا له للمخالطة، والأول مجاورة لا تعويل عليها.

 قلت: وقد استدل به أيضًا على نقيض ذلك، وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله، ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثًا نجسًا، وأنه صار مسكًا، وإن المسك بعض دم الغزال، فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته، وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء، وإلى الأول ذهب عبد الملك، قال أبو عمر: جعلوا الحكم للرائحة دون اللون، فكان الحكم لها، فاستدلوا عليها -في زعمهم- بهذا الحديث، وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله، وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيره بنجاسةٍ أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسةٍ وتغير، فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله، وقال الجمهور: إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة."

وحمأةٍ؟ كذا وحمأةٍ؟ عندنا الحاء ليست موجودة.

"إلا أن يكون تغيره من تربة وحمأة، وما أجمعوا عليه فهو الحق لا إشكال فيه ولا التباس معه.

الرابعة: الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه، لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به؛ لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه، وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه."

غيره أولى منه؛ لأنه تغير، وإن كان يشق التحرز منه كالماء الذي تغير بطول المكث، الماء الآجن، يجوز الوضوء به، ويصح اتفاقًا، إلا ما يحكى عن ابن سيرين من كراهته، وهو موافق لقول مالك وغيره أولى منه.

"الخامسة: قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: ويُكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها، ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه حتى يستيقن النجاسة، قال البخاري: وتوضأ عمر -رضي الله عنه- من بيت نصرانية، ذكر سفيان بن عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال: من أين جئت بهذا الماء؟ ما رأيت ماء عذبًا ولا ماء سماءٍ أطيب منه، قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية، فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي تسلمي، بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحق، قال: فكشفت عن رأسها، فإذا مثل الثغامة فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن! فقال عمر -رضي الله عنه-: اللهم اشهد، خرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم البوشنجي قال: حدثنا سفيان فذكره.

ورواه أيضًا عن الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي، وذكر الحديث بمثل ما تقدم".

لو أن الله -جل وعلا- كتب لها السعادة لأسلمت؛ لأن كونها تموت الآن أفضل أن تسلم، أفضل أن تسلم من أن تصرّ على كفرها - نسأل الله السلامة والعافية-.

"السادسة: فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعًا ولا يتوضأ منه وهو طاهر، وقال الثوري: يتوضأ بذلك الماء ويتيمم معه، وهو قول عبد الملك بن عبد العزيز ومحمد بن مسلمة، وقال أبو حنيفة: الكلب نجس ويغسل الإناء منه؛ لأنه نجس، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الإناء من ولوغه، وتحصيل مذهبه أنه طاهر عنده لا يُنجِّس ولوغه شيئًا ولغ فيه طعامًا ولا غيره إلا أنه استحب هراقة ما ولغ فيه من الماء؛ ليسارة مؤونته، وكلب البادية والحاضرة سواء، ويغسل الإناء منه على كل حال سبعًا تعبدًا، هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه.

ذكر ابن وهب قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها فقال: «لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور» أخرجه الدارقطني، وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه، وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يرشون شيئًا من ذلك".

في بعض الروايات، بعض الروايات في رواية الصحيح وتبول، «تقبل وتدبر وتبول»، هذه في بعض الروايات، لا أقول الروايات المخرجة في الصحيح، إنما الروايات في الصحيح عن البخاري، يعني بعض من يروي الصحيح عن البخاري أثبت هذه اللفظة وبعضهم لم يثبتها؛ لأنها ثابتة في بعض الروايات دون بعض، نفرق بين أن تكون الرواية في البخاري وتكون الرواية عن البخاري، هذه في بعض الروايات عن البخاري لا في البخاري عن غيره.

"وقال عمر بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص: هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا، أخرجه مالك والدارقطني، ولم يفرق بين السباع، والكلب من جملتها، ولا حجة للمخالف في الأمر بإراقة ما ولغ فيه، وأن ذلك للنجاسة، وإنما أمر بإراقته؛ لأن النفس تعفه لا لنجاسته؛ لأن التنزه من الأقذار مندوب إليه، أو تغليظًا عليهم؛ لأنهم نهوا عن اقتنائها، كما قاله ابن عمر والحسن، فلما لم ينتهوا عن ذلك غلظ عليهم في الماء؛ لقلِّته عندهم في البادية حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها، وأما الأمر بغسل الإناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين: أحدهما: أن الغسل قد دخله العدد، الثاني: أنه جُعل للتراب فيه مدخل؛ لقوله -عليه السلام-: «وعفروه الثامنة بالتراب»، ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب فيه مدخل كالبول، وقد جعل -صلى الله عليه وسلم- الهرَّ وما ولغ فيه طاهرًا، والهر سبع لا خلاف في ذلك؛ لأنه يفترس ويأكل الميتة، فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع؛ لأنه إذا جاء نص في أحدهما كان نصًّا في الآخر؛ وهذا من أقوى أنواع القياس هذا لو لم يكن هناك دليل، وقد ذكرنا النص على طهارته، فسقط قول المخالف، والحمد لله."

يستدلون على طهارته؛ لأن كلب الصيد يأتي بالفريسة وقد نهشها بأسنانه، ولم يؤمر بغسلها ولا بتتريبها، وهذا أشد من مجرد الولوغ، فغسل الإناء وإراقة الماء وتعفيره بالتراب كل هذا من باب التنفير من اقتنائه، هذا على رأيهم هم، والصواب أنه لنجاسته، والكلب نجس عند عامة أهل العلم خلافًا لمالك -رحمه الله-، هو نجس، والغسل إنما يكون لطهارة الحدث والخبث، ولا حدث حينئذٍ إذًا فيكون السبب هو الخبث، والخبث هو النجاسة، أما عدم الأمر بغسل ما يصيده الكلب فلأنه سوف يعرض على النار ويُغلى ويطبخ وتطهره، خلافًا للإناء، وطبخ هذه الفريسة وغليها بالنار أشد من مجرد غسلها وتتريبها.

طالب:. . . . . . . . .

هو إن كان الماء قليلًا فهو يراق بلا شك، الماء القليل يراق، والكثير عند أهل العلم لا يؤثر فيه الولوغ كغيره من النجاسات ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه.

طالب: كلاب التفتيش يتحرج بعض الناس من تفتيش الملابس وكذا، هل يجب غسلها؟

نعم، الكلاب التي يسمونها البوليسية، والكلاب التي تكشف المجرمين والمخدرات أولًا في اقتنائها محل نظر، هل هي مقيسة على كلب الماشية أو كلب الزرع؟ أم قياسها من باب الأولى، قياس الأولى أن اقتناءها أهم من كلب زرعٍ أو ماشية، فحينئذٍ يجوز اقتنائها، وإذا قلنا: إن النص توقيف في هذه الأمور الثلاثة، وأنه لا يتعداها، وما عدا ذلك لا يجوز وينقص من أجر المقتني كل يوم قيراطًا، وعلى كل حال هي مثلها من حيث النجاسة والطهارة، مثل غيرها.

طالب: تنجسها بشم الملابس والحقائب وكذا في المطارات وغيرها؟

يلحقها شيء من لعابها؟

طالب: أحيانًا.

لا بد من غسلها، لا بد من غسلها.

طالب: التفريق بين كلاب الزرع والماشية وغيرها من الكلاب؟

لا، هي نجسة.

طالب: تعامل معاملة واحدة؟

هي معاملة واحدة، كلها نجسة.

"السابعة: ما مات في الماء مما لا دم له فلا يضر الماء إن لم يغير ريحه، فإن أنتن لم يتوضأ به، وكذلك ما كان له دم سائل من دواب الماء كالحوت والضفدع لم يفسد ذلك الماء موته فيه إلا أن تتغير رائحته، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه، وليس بنجسٍ عند مالك، وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونُزح مكانه .."

والنفس السائلة هي الدم، من كان له دم يؤثر، وما لا دم له لا يؤثر.

" وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر سواء كان الماء قليلًا أو كثيرًا عند المدنيين، واستحب بعضهم أن ينزح من ذلك الماء دلاءً؛ لتطيب النفس به، ولا يحدون في ذلك حدًّا لا يتعدى، ويكرهون استعمال ذلك الماء قبل نزح الدلاء، فإن استعمله أحد في غسل أو وضوء جاز إذا كانت حاله ما وصفنا، وقد كان بعض أصحاب مالك يرى لمن توضأ بهذا الماء وإن لم يتغير أن يتيمم فيجمع بين الطهارتين احتياطًا، فإن لم يفعل وصلى بذلك الماء أجزأه.

وروى الدارقطني عن محمد بن سيرين: أن زنجيًّا وقع في زمزم يعني فمات، فأمر به ابن عباس -رضي الله عنه- فأخرج فأمر بها أن تنزح، قال: فغلبتهم عين جاءتهم من الركن، فأمر بها فدسمت بالقباطي والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم، وأخرجه عن أبي طفيل: أن غلامًا وقع في بئر زمزم فنزحت، وهذا يحتمل أن يكون الماء تغير، والله أعلم.

وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول: كل نفس سائلة لا يتوضأ منها، ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد إذا وقعن في الركاء فلا بأس به، قال شعبة: وأظنه قد ذكر الوزغة، أخرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة فذكره.

الثامنة".

طالب: لو تغير بهذه الأشياء التي لا نفس لها سائل.

لو تغير لو أنتن مثلًا، تقدمت الإشارة إليه أنه لا يتوضأ به، لو أنتن؛ لأن هذا النتن تغير، ومجرد الرائحة لا سيما إذا كانت خفيفة لا تؤثر في الماء؛ لأنها تكون عن مخالطة وعن مجاورة وعن مكث أيضًا لا عن تغير حقيقي بوجود نجاسة فيه حالّةٍ فيه.

"الثامنة: ذهب الجمهور من الصحابة وفقهاء الأمصار وسائر التابعين بالحجاز والعراق: أن ما ولغ فيه الهر من الماء طاهر، وأنه لا بأس بالوضوء بسؤره؛ لحديث أبي قتادة أخرجه مالك وغيره، وقد روي عن أبي هريرة فيه خلاف، وروي عن عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماءٍ ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه، واختلف في ذلك عن الحسن، ويحتمل أن يكون الحسن رأى في فمه نجاسة؛ ليصحَّ مخرج الروايتين عنه.

قال الترمذي لما ذكر حديث مالك: وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين ومن بعدهم مثل الشافعي وأحمد وإسحاق لم يروا بسؤر الهرة بأسًا، وهذا أحسن شيء في الباب، وقد جوَّد مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ولم يأتِ به أحد أتمَّ من مالك، قال الحافظ أبو عمر: الحجة عند التنازع والاختلاف سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد صح من حديث أبي قتادة أنه أصغى لها الإناء حتى شربت ... الحديث، وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقوله، فإنه كان يكره سؤره، وقال: إن توضأ به أحد أجزأه، ولا أعلم حجةً لمن كره الوضوء بسؤر الهرة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب، فقاس الهر عليه، وقد فرقت السُّنَّة بينهما في باب التعبد في غسل الإناء، ومن حجته السُّنَّة خاصمته، وما خلفها مطرح، وبالله التوفيق".

المراد خصمته، يعني غلبته.

"ومن حجتهم أيضًا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين» شك قرَّة، وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد، وقرة ثقة ثبت.

قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني ومتنه: «طهور الإناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات، الأولى بالتراب، والهر مرةً أو مرتين» قرّة شك، قال أبو بكر: كذا رواه أبو عاصم مرفوعًا، ورواه غيره عن قرة ولوغ الكلب مرفوعًا، وولوغ الهر موقوفًا. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب» قال الدارقطني: لا يثبت هذا مرفوعًا، والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه. وذكر معمر وابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أنه كان يجعل الهر مثل الكلب، وعن مجاهد أنه قال في الإناء يلغ فيه السنور قال: اغسله سبع مرات، قاله الدارقطني."

المعول في هذا حديث أبي قتادة، وأن سؤره طاهر، وهو أصحّ ما ورد في الباب.

"التاسعة: الماء المستعمل طاهر إذا كان أعضاء المتوضئ به طاهرة إلا أن مالكًا وجماعة من الفقهاء الجلة كانوا يكرهون الوضوء به، وقال مالك: لا خير فيه، ولا أحب لأحد أن يتوضأ به، فإن فعل وصلى لم أرَ عليه إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستقبل، وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: لا يجوز استعماله في رفع الحدث، ومن توضأ به أعاد؛ لأنه ليس بماء مطلق ويتيمم واجده؛ لأنه ليس بواجد ماء."

لأن وجود مثل هذا الماء كعدمه فيتيمم مع وجوده، ولا يلزم إراقته؛ لأنه انتقل من وصف الطهورية إلى الطهارة؛ لأنه استعمل في رفع الحدث، وهذا معروف عند أكثر أهل العلم.

"وقال بقولهم في ذلك أصبغ بن الفرج، وهو قول الأوزاعي، واحتجوا بحديث الصنابجي "

الصنابحي.

" واحتجوا بحديث الصنابحي خرجه مالك، وحديث عمرو بن عنبسة"

عبسة.

" وحديث عمرو بن عبسة أخرجه مسلم، وغير ذلك من الآثار، وقالوا: الماء إذا توضئ به خرجت الخطايا معه، فوجب التنزه عنه؛ لأنه ماء الذنوب، قال أبو عمر: وهذا عندي لا وجه له؛ لأن الذنوب لا تنجس الماء؛ لأنها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسده، وإنما معنى قوله: خرجت الخطايا مع الماء، إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده المؤمنين رحمةً منه بهم وتفضلًا عليهم، وقال أبو ثور وداود مثل قول مالك، وأن الوضوء بالماء المستعمل جائز؛ لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء وهو ماء مطلق.

واحتجوا بإجماع الأُمَّة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة، وإلى هذا ذهب أبو عبد المروزي محمد بن نصر، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهري أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللًا: إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه، فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل.

روى عبد السلام بن صالح حدثنا إسحاق بن سويد عن العلاء بن زياد عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مرضي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خرج عليهم ذات يومٍ وقد اغتسل، وقد بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء، فقالوا: يا رسول الله هذه لمعة لم يصبها الماء، فكان له شعر وارد، فقال بشعره هكذا على المكان فبله، أخرجه الدارقطني، وقال عبد السلام بن صالح: هذا بصري وليس بقوي، وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلًا، وهو الصواب".

وأما قولهم عن رجلٍ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مرضي فهو وصف كاشف لا مفهوم له؛ إذ كل الصحابة مرضيون.

"قلت: الراوي الثقة عن إسحاق بن سويد العدوي عن العلاء بن زياد العدوي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اغتسل ... الحديث فيما ذكره هشيم.

قال ابن العربي: مسألة الماء المستعمل إنما تنبني على أصل آخر، وهو أن الآلة إذا أدي بها فرض هل يؤدي بها فرض آخر أم لا؟ فمنع ذلك المخالف قياسًا على الرقبة إذا أدّى بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر، وهذا باطل من القول، فإن العتق إذا أتى على الرقّ أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتقٍ آخر، ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء، فإنه لا يصح أن يؤدّى به فرض آخر لتلف عينه حسًّا، كما تلف الرق في الرقبة بالعتق حكمًا، وهذا نفيس، فتأملوه.

العاشرة: لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليها الماء راكدًا .."

يعني من فروع هذه المسألة وما ينظر عليها استعمال الحجارة في رمي الجمار، فإذا استعمل مرة في عبادة صارت مستعملة لا تستعمل مرةً أخرى قياسًا على الماء، هذا عند من يقول بأن الماء المستعمل لا يستعمل في الطهارة مرةً أخرى، ولا شك أن هذا قياس مع الفارق، أولًا: الأصل -المقيس عليه- لم يسلم للخلاف الموجود، والأمر الثاني: أن الماء يتأثر بالطهارة والحجارة لا تتأثر.

"العاشرة: لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليها الماء راكدًا كان الماء أو غير راكد؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه»، وفرقت الشافعية فقالوا: إذا وردت النجاسة على الماء تنجَّس، واختاره ابن العربي .."

يعني يفرقون بين ورود النجاسة على الماء فتؤثر فيه، وبين ورود الماء على النجاسة فلا تؤثر فيه، يؤثر فيها ولا تؤثر فيه، كما لو صُب الماء على النجاسة يطهرها، ولا يقال: إنه التقى الماء بالنجاسة ثم انتقل من كونه طاهرًا إلى كونه نجسًا، لا، ففرق بين أن يكون الماء واردًا أو مورودًا، فإن كان واردًا أثّر، كالذنوب الذي صُب على بول الأعرابي، وإن وردت عليه النجاسة أثّرت فيه، فالحكم للوارد عندهم -عند الشافعية-.

طالب: حمل النجاسة الآن يسأل المرضى كثير منهم، حمل البول يكون في العلبة البلاستيك وهو يصلي.

أما عند الحاجة إليه كأن كان التخلي عنه أو فصله من محله هذا إذا اضطر إليه كما لو فتح للمريض مخرج غير المخرج الأصلي، ووضع فيه ليّات ووعاء يحمل فيه البول، إذا كان يتأثر بإزالته فلا شك أن صلاته صحيحة، كمن حدثه دائم، وأما إذا كان لا يتأثر فينزع في وقت الصلاة.

طالب:. . . . . . . . .

لا، لا، هذا مفرع عن تأثر الماء بالنجاسة.

"واختاره ابن العربي وقال: من أصول الشريعة في أحكام المياه أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» فمنع من ورود اليد على الماء، وأمر بإيراد الماء عليها، وهذا أصل بديع في الباب، ولولا وروده على النجاسة، قليلًا كان أو كثيرًا لما طهرت.

وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في بول الأعرابي في المسجد: «صبوا عليه ذنوبًا من ماء» قال شيخنا أبو العباس: واستدلوا أيضًا .."

أبو العباس شيخ المصنّف - شيخ المفسّر-، والمقصود به أبو العباس القرطبي صاحب المفهم.

"قال شيخنا أبو العباس: واستدلوا أيضًا بحديث القلتين فقالوا: إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجّس وإن لم تغيره، وإن ورد ذلك القدر فأقلَّ على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته وأزال النجاسة، وهذه مناقَضة؛ إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شيء، فليس الباب باب التعبدات، بل من باب عقلية المعاني، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها، ثم هذا كله منه يرده قوله -عليه الصلاة والسلام-: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه».

قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني عن رِشدين بن سعد أبي الحجاج عن معوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي إمامة الباهلي، وعن ثوبان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس فيه ذكر اللون، وقال: لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوي، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر تلقى فيها الحيَض ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني كلهم بهذا الإسناد، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقد جوَّد أبو أمامة هذا الحديث".

أبو أسامة، أبو أسامة.

طالب: أسامة؟!

نعم.

"وقد جوَّد أبو أسامة هذا الحديث، ولم يروِ أحد .."

جوده حمّاد بن سلمة، أبو أسامة الذي ضبطه وأتقنه، أبو أسامة هو الذي جود الحديث، حماد بن سلمة معروف.

الطالب: حمّاد بن سلمة؟

معروف، أبو أسامة هو الذي ضبط إسناده.

"ولم يروِ أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، فهذا الحديث نص في ورود النجاسة على الماء، وقد حكم -صلى الله عليه وسلم- بطهارته وطهوره، قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها، قلت: أكثر ما يكون الماء فيها؟ قال: إلى العانة، قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة، قال أبو داود: وقَّدرتُ بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماءً متغير اللون، فكان هذا دليلًا لنا على ما ذكرناه، غير أن ابن العربي قال: إنها في وسط السبخة، فماؤها يكون متغيرًا من قرارها، والله أعلم."

بئر بضاعة يلقى فيها الحيّض -يعني الخرق التي تستعملها الحائض لمنع ما يخرج منها- ولحوم الكلاب والنتن، والذي يلقي هذه الأشياء هي الرياح؛ لأنها في منخفضٍ من الأرض، ولا يظن بالصحابة أنهم يلقون فيها وقد نُهوا عن البراز في الموارد وغيرها، وإنما التي تلقيها الرياح.

طالب: أقول: الماء متجدد ليس راكدًا؟

الماء ماذا؟

طالب: بئر بضاعة الماء يتجدد أم أنه راكد؟

لا، يتجدد، يتجدد، كل الآبار على هذا، لها نبع كل ما أخذ منها زادت.

"الحادية عشرة: الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماءً مطلقًا غير مضاف إلى شيء خالطه كما خلقه الله -عز وجل- صافيًا، ولا يضره لون أرضه على ما بيَّناه، وخالف في هذه الجملة أبو حنيفة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر، فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر، وجوز إزالة النجاسة بكل مائعٍ طاهر، فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به إلا أن أصحابه يقولون":

نعم؛ لأنه امتهان، امتهان لهذه النعمة أن تزال بها النجاسة، وعلى هذا لا يجوز استعمال المطعوم في إزالة النجاسة وإزالة الأوساخ وتنعيم البشرة وترطيبها وإزالة بعض ما يؤثر عليها، لا يجوز كل هذا؛ لأن هذا امتهان لنعمة الله -جل وعلا-، وليس هذا من شكرها، نعم قد يحتاج إلى الملح، وقد جاء التوجيه في بعض الأحاديث إلى إزالة النجاسة عند الحائض بشيءٍ من الملح، والملح لا شك أن أصله الماء، فإذا خلط بالماء عاد إلى أصله وانتفت مطعوميته، صار حكمه حكم الماء، وبعض الناس يستعمل العسل، وبعضهم يستعمل الزبادي، وبعضهم يستعمل أشياء من المطعوم؛ لإزالة الأوساخ عن البدن، كل هذا لا يجوز؛ لأنه امتهان، لكن قد يقول قائل: إن بعض هذه الأمور إذا انتهت صلاحيتها، الزبادي عشرة أيام وينتهي بعد العشرة الأيام ويرمى، فهل يستعمل في مثل هذه الأشياء؟ نقول: الطعام إذا لم يكن مما يستفاد منه، مما يستفيد منه إنسان أو حيوان فإنها انتفت مطعوميته الآن، انتفت فيستعمل.

طالب: للعلاج؟ استعمال العلاج، علاج القروح بالعسل؟

العسل؟ إنسان مجروح؟ كونه دواءً لا بأس -إن شاء الله-، ما في إشكال -إن شاء الله-.

طالب: الآن يوجد صابون مكتوب عليه أن فيه خيارًا وفيه عسل، هل هذا له دخل؟

الشيء إذا استحال ولم يصلح للاستعمال هل ممكن أن يؤكل؟ لا ما يصلح، انتفت مطعوميته.

"فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به إلا أن أصحابه يقولون: إذا زالت النجاسة به جاز، وكذلك عنده النار والشمس، حتى إن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ، وكذلك النجاسة على الأرض إذا جفت بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضوع بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب، قال ابن العربي: لما وصف الله- سبحانه- الماء بأنه طهور، وامتنَّ بإنزاله من السماء ليطهرنا به، دل على اختصاصه بذلك.

وكذلك قال -عليه الصلاة والسلام- لأسماء بنت الصديق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب: «حتّيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء»، فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء؛ لما في ذلك من إبطال الامتنان، وليست النجاسة معنى محسوسًا حتى يقال: كل ما أزالها فقد قام به الغرض! وإنما النجاسة حكم شرعي عيَّن له صاحب الشرع الماء، فلا يُلحق به غيره؛ إذ ليس في معناه؛ ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل في إسقاطه سقط في نفسه، وقد كان تاج السُّنَّة ذو العز بن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنا."

طالب: أحسن الله إليك: استعمال المغاسل في البخار بغير الماء في الصوف، في إزالة النجاسة؟

عند من يرى أن النجاسة إذا زالت بنفسها أو استحالت يكفي، وهذا رأي الحنفية واختيار شيخ الإسلام يقول: يكفي البخار، والذين يعينون الماء لإزالة النجاسة كبقية الأئمة يقول: لا يكفي، لا بد من الماء.

ما معنى كلامه هذا؟

طالب: ولو أفسدها الماء يفسد الصوف الماء؟

ما يتلفه الماء يُكتفى بأدنى ما يزيل النجاسة، ما يتلفه الماء يعني مثل الورق، الورق يتلفه الماء، فإذا زالت النجاسة بغيره كفى. ماذا يقول هنا؟ وقد كان تاج السُّنَّة ..

"وقد كان تاج السُّنَّة ذو العز بن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنا."

ماذا يسمي؟ يسمي الفرع الذي يعود على أصله بالإبطال؟

طالب: والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل سقط في نفسه.

يعود على أصله بالإبطال، إذا عاد على الأصل بالإبطال سقط، ما وجه تسميته بفرخ الزنا؟

طالب: ولد الزنا؟

يعني ولد الزنا ماذا فيه؟ يعود على ولده بالإبطال بإبطال الانتساب إليه؟

طالب: نعم يا شيخ.

نعم، وجه.

"قلت: وأما ما استدل به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية ضعاف، لا يقوم شيء منها على ساق، ذكرها الدارقطني وضعفها ونص عليها، وكذلك ضعف ما روي عن ابن عباس موقوفًا: (النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء) في طريقه ابن محرز متروك الحديث، وكذلك ما روي عن علي أنه قال: لا بأس بالضوء بالنبيذ. الحجاج وأبو ليلى ضعيفان، وضعف حديث ابن مسعود، وقال: تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف الحديث، وذكر عن علقمة بن قيس قال: قلت: لعبد الله بن مسعود: أشهد رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أحدٌ منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ فقال: لا. قلت: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته، وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود".

إما أن يحمل على تعدد القصة، ففي هذه المرة لم يصحبه أحد وقد صحب في غيرها، أو يقال: إنه صحبه في أول الطريق من صحبه ثم في بقية الطريق تفرد -عليه الصلاة والسلام-، وفي حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ أنه ليلة الجن، سمعه يقول: تمرة طيبة وماء طهور، والحديث ضعيف عند أهل العلم بلا شك.

"قلت: هذا إسناد صحيح لا يُختلف في عدالة رواته، وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال: سألني النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما في إداوتك؟» فقلت: نبيذ، فقال: «تمرة طيبة وماء طهور» قال: فتوضأ منه، قال أبو عيسى: وإنما روي هذا الحديث عن أبي زيد عن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا نعرف له رواية غير هذا الحديث، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ منهم سفيان وغيره، وقال بعض أهل العلم: لا يُتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال إسحاق: إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحبَّ إليّ.

قال أبو عيسى: وقول من يقول: لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه؛ لأن الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} [سورة النساء: 43]، وهذه المسألة مطولة في كتب الخلاف، وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في المائدة بيانه، والله أعلم.

الثانية عشرة: لما قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [سورة الفرقان:48] وقال: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [سورة الأنفال:11] توقف جماعة في ماء البحر؛ لأنه ليس بمنزل من السماء حتى رووا عن عبد الله بن عمر وابن عمرو معًا أنه لا يتوضأ به؛ لأنه نار، ولأنه طبق جهنم، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن حكمه حينما قال لمن سأله: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» أخرجه مالك، وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم أبو بكر وعمر وابن العباس لم يروا بأسًا بماء البحر، وقد كره بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الوضوء بماء البحر منهم ابن عمر وعبد الله بن عمرو، وقال عبد الله بن عمرو: هو نار.

قال أبو عمر: وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سليم فقال: هو عندي حديث صحيح، قال أبو عيسى: فقلت للبخاري: هُشيم يقول فيه أبي ابن برزة".

ابن أبي برزة.

نعم؟

مقلوب أم؟

يقول فيه بقول.

فقلت للبخاري.

فقلت للبخاري: هَشِيم يقول.

هُشَيم.

"فقلت للبخاري: هُشيم يقول فيه أبي ابن برزة".

طالب: ابن أبي برزة.

نعم مقلوب فيه.

أحسن الله إليك.

"فقلت للبخاري: هُشيم يقول فيه ابن أبي برزة فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبي بردة، قال أبو عمر: لا أدري ما هذا من البخاري -رحمه الله-، ولو كان صحيحًا لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده ولم يفعل؛ لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد، وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيح؛ لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه.

وقد أجمع جمهور من العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار من الفقهاء: أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء به جائز إلا ما روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما كرها الوضوء بماء البحر، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك، ولا عرَّج عليه ولا التفت إليه؛ لحديث هذا الباب، وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم، وعملهم به، وقبولهم له، وهو أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة لمعنىً ترده الأصول، وبالله التوفيق."

الحديث إذا تُلُقِّي بالقبول من قبل أهل العلم ازداد قوة، واكتسب القطعية، وصار أقوى من حديثٍ يروى من طرقٍ كثيرة متباينة؛ لأن التلقي بالقبول وحده أقوى من مجرد تعدد الطرق عند أهل العلم.

"قال أبو عمر: وصفوان بن سليم مولى حُميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري من عُبَّاد أهل المدينة وأتقاهم لله، ناسكًا كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير، كثير العمل خائفًا لله يكنى أبا عبد الله، سكن المدينة لم ينتقل منها، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يُسأل عن صفوان بن سليم فقال: ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين، وأما سعيد بن سلمة فلم يروِ عنه فيما علمت إلا صفوان، والله أعلم، ومن كانت هذه حاله فهو مجهول، لا تقوم به حجة عند جميعهم".

لم يروِ عنه إلا واحد فهو مجهول العين، مجهول العين عند أهل العلم، لكن أثبت أهل العلم أنه روى عنه غير واحد، فارتفعت جهالته.

"وأما المغيرة بن أبي بردة فقيل عنه: إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة، وقيل: ليس بمجهول، قال أبو عمر: المغيرة بن أبي بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب، وكان موسى يستعمله على الخيل، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر، وروى الدارقطني من غير طريق مالك عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله» قال إسناده حسن.

الثالثة عشرة: قال ابن العربي: توهَّم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضلة لا يُتوضأ به، وهو مذهب باطل فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت: أجنبت أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة، فجاء رسول الله ليغتسل منه، فقلت: إني قد اغتسلت منه، فقال: «إن الماء ليس عليه نجاسة أو إن الماء لا يجنب» قال أبو عمر: وردت آثار في هذا الباب مرفوعة في النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وزاد بعضهم في بعضها: ولكن ليغترفا جميعًا، فقالت طائفة: لا يجوز أن يغترف الرجل مع المرأة في إناء واحد؛ لأن كل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه، وقال آخرون: إنما كره من ذلك أن تنفرد المرأة بالإناء ثم يتوضأ الرجل بعدها بفضلها، وكل واحد منهم روى بما ذهب إليه أثرًا.

والذي ذهب إليه الجمهور من العلماء وجماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وتتوضأ المرأة من فضله، انفردت المرأة بالماء أو لم تنفرد".

معروف عند الحنابلة أن الماء الذي تخلو به المرأة لطهارة كاملة عن حدث أنه لا يرفع حدث الرجل، ومعروف في هذا حديث عن رجلٍ صحب النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال: «لا يتوضأ الرجل بفضل المرأة، ولا المرأة بفضل الرجل» فقالوا: بشقّه الأول ولم يقولوا بشقّه الثاني، يعني عملوا بالنهي عن وضوء الرجل بفضل المرأة، لكنهم لم يعملوا بالشق الثاني الذي فيه النهي عن طهارة المرأة بفضل الرجل، ولا شك أن هذا تفريقًا بين المتماثلين، فإما أن يعملوا بالجملتين، أو يطرحوا الجملتين؛ تبعًا لثبوت الخبر وعدمه، وما هو أصحّ من ذلك، ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- توضأ بفضل بعض نسائه، توضأ مع نسائه، فالذي يظهر أنه لا مانع ولا بأس أن تتوضأ المرأة بفضل الرجل والعكس.

"وفي مثل هذا آثار كثيرة صحاح، والذي نذهب إليه أن الماء لا ينجسِّه شيئًا إلا ما ظهر فيه من النجاسات".

لا ينجسِّه شيءٌ.

أحسن الله إليك.

 "أن الماء لا ينجسِّه شيء إلا ما ظهر فيه من النجاسات أو غلب عليه منها، فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال، والله المستعان.

روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد من الجنابة، قال هذا حديث حسن صحيح، وروى البخاري عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، يقال له: الفرق. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بفضل ميمونة. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- في جفنة، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتوضأ منه فقالت: يا رسول الله، إني كنت جنبًا، قال: «إن الماء لا يجنب» قال: هذا حديث حسن صحيح وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي.

وروى الدارقطني عن عَمرة عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: كنت أتوضأ أنا والنبي- صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك، قال: هذا حديث حسن صحيح، وروى أيضًا عن رجل من بني غفار قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن فضل طهور المرأة، وفي الباب عن عبد الله بن سرجس، وكره بعض الفقهاء فضل طهور المرأة، وهو قول أحمد وإسحاق.

الرابعة عشرة: روى الدارقطني عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب كان يسخَّن له الماء في قمقمة ويغتسل به، قال: وهذا إسناد صحيح، وروي عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد سخنت ماءً في الشمس فقال: «لا تفعلي يا حميراء؛ فإنه يورث البرص» رواه خالد بن إسماعيل المخزومي."

حديث ضعيف، وضعفه شديد، حديث في غاية الضعف.

"رواه خالد بن إسماعيل المخزومي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وهو متروك، ورواه عمرو بن محمد الأعشم عن فليح عن الزهري عن عروة عن عائشة، وهو منكر الحديث، ولم يروه غيره عن فليح ولا يصح عن الزهري، قاله الدارقطني.

الخامسة عشرة: كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة؛ لنهي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذهما؛ وذلك -والله أعلم- للتشبه بالأعاجم والجبابرة لا لنجاسة فيهما، ومن توضأ فيهما أجزأه وضوؤه، وكان عاصيًا باستعمالهما، وقد قيل: لا يجزئ الوضوء في أحدهما، والأول أكثر، قاله أبو عمر. وكل جلد ذُكّي فجائز استعماله للوضوء وغير ذلك، وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، وقد تقدم في النحل."

أما ما جاء في الذهب والفضة فالشرب فيهما والأكل جاء به الحديث الصحيح الصريح، وقياس سائر الاستعمالات التي منها الوضوء على الشرب وكذلك الأكل يراه بعضهم أنه من قياس الأولى فالشرب قد يحتاج إليه، الحاجة إليه داعية للإناء، أما سائر الاستعمالات فالحاجة إليها أقل، فمنع الاستعمال أولى من استعمال الأكل والشرب فقط للحاجة الداعية إلى ذلك، ومنهم من لا يقيس، يقول: يمنع الأكل والشرب وتباح سائر الاستعمالات، ولا شك أن هذا توسع، وأمور الدنيا جاءت النصوص بعدم التوسع فيها، فالمتجه منع جميع الاستعمالات إلا ما استُثنى بالنصوص.

وأما مسألة الدباغ وهي المسألة التي تليها فلا شك أن الدباغ طهور «أيّما إهابٍ دبغ فقد طهر» ويشمل جميع الأهب، إلا ما نُهي عن استعماله مع كونه يطهر كجلود السباع التي نهينا عن اتخاذها والجلوس عليها، فهذه وإن طهرت بالدباغ إلا أنه لا يجوز استعمالها، وما عدا ذلك فإنه يدبغ ويستعمل ويطهر، ويستعمل في المائعات واليابسات على حدٍ سواء، خلافًا لمن فرق بين ذلك، والله أعلم.

وصلى الله على محمد.

اللهم صلّ وسلم عليه.

"
هذا يسأل يقول: ما هي الطريقة الجيدة التي تجعل قارئ التفاسير المطولة يفهم المراد ويبقى مستحضرًا في ذهنه لأقصى مدة؟

الطريقة الجيدة أن يكون بيده قلم، يضع علامات على ما يريده مما يذكره المفسر حول هذه الآية، ثم ينقل هذا الذي وضع عليه العلامة إلى مذكرته، ويراجعه متى ما أراد؛ لأن في كتب التفاسير المطولة أشياء مكررة، وأشياء قد لا يحتاجها طالب العلم، لكنه مع ذلك يوجد في ثنايا كلامه الكثير المطول كلام جيد، يحتاج إلى ترديد، مثل هذا يوضع عليه علامات فيردد إما في الكتاب نفسه أو بعد نقله إلى مذكرة.

هذا يقول: هل كل كبيرة داخل تحت مسمى الكفر دون كفر؟ وهل كل كبيرة مثل شرب الخمر والزنا تعتبر كفرًا دون كفر؟

لا يسمى من المعاصي كفرًا إلا ما جاء النص بتسميته كفرًا، فإن كان ما أُطلق عليه الكفر مما يخرج من الملة فهو الكفر الأكبر، وإلا فهو الأصغر الذي يقول عنه أهل العلم كفر دون كفر، أما ما لم يطلق عليه في النصوص الشرعية كفر فلا يدخل تحت مسمى الكفر لا الأكبر ولا الأصغر، وإنما يسمى معصية، إما كبيرة أو صغيرة.