مجد الدين الفيروز أبادي صاحب القاموس شرح (صحيح البخاري) وسماه (منح الباري في شرح البخاري) كَمُل ربع العبادات منه في عشرين مجلدًا، ولم يَكْمُل باقي الكتاب، وعلى هذا لو كَمُل الكتاب فقد يصل إلى خمسين أو ستين مجلدًا، قال التقي الفاسي: (لكنه -يعني الفيروز أبادي- ملأه بغرائب المنقولات لا سيما لَمَّا اشتهر باليمن مقالة ابن عربي - القول بوحدة الوجود- وغلب ذلك على علماء تلك البلاد، وصار يدخل في شرحه من فتوحاته -الفتوحات المكية لابن عربي- الكثير، ما كان سببًا لشين شرحه عند الطاعنين فيه)، والمجد الفيروز أبادي لا يقول بهذه المقالة كما هو معروف، لكنه من أجل أن يَرُوج الكتاب نقل عن ابن عربي هذه المقالة، وأشان كتابه بما نقله من (الفصوص) و(الفتوحات) من أجل رواج الكتاب؛ لأن هذه المقالة اشتهرت وانتشرت في اليمن، واعتنقها كثير من الناس، وهذا الصنيع يفعله بعض من يُصنّف في أي بلاد من البلدان التي اشتهر فيها مذهب من المذاهب، فمن أجل أن يَرُوج الكتاب فإنه يذكر ما لا يراه من أقوال تلك المذاهب التي لا يعتد بها في الإجماع والخلاف مثل مذاهب الشيعة والزيدية ومنهم الهادوية، وكُتُب الصنعاني والشوكاني وغيرهما من أهل تلك النواحي مملوءة بهذه المذاهب، فلما كان غالب سكان اليمن في زمن الصنعاني –رحمه الله- من الهادوية شَهَر أقوالهم، وذكرها من أجل أن يَرُوج الكتاب. وقد يكون الأمر بالعكس؛ فقد تطوى بعض المذاهب والآراء وإن كانت الحاجة إليها قائمة وماسة من أجل رواج الكتاب، كما فعل ابن أبي العز –رحمه الله- في شرح الطحاوية في نقوله الكثيرة عن شيخ الإسلام وابن القيم -رحمهما الله تعالى-، فقد نقل كثيرًا من كتب شيخ الإسلام، بل اعتمد عليه اعتمادًا كليًا في غالب مباحثه، وعلى تلميذه ابن القيم، ولم يذكر ولم يصرح باسميهما من أجل أن يَرُوج الكتاب، فهذا الصنيع لا شك أن فيه نوعًا من التماس المصلحة، فلا مانع من أن يُكْنى عن الشخص أو ينسب أو يُعمَّى ولا يذكر اسمه إذا خشي على الكتاب من عدم الرواج، وإن كان فيه شبه مما يسمى في مصطلح الحديث بتدليس الشيوخ، لكن مثل هذا لا يترتب عليه عمل ولا حكم من الأحكام، فلا مانع من أن يُنسب الكتاب إلى شخصٍ لا يكون في نسبته إليه كذب، وكثير من كتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- التي وزعت في الأقطار يقال: تأليف محمد بن سليمان التميمي، سليمان جَدُّه، مفتي نجد قبله، واسمه: سليمان بن علي.وأما ما فعله وصنعه المجد الفيروز أبادي في شرحه على (صحيح البخاري) من إدخاله لمقالة ابن عربي في وحدة الوجود، فإنه لا مبرر له، وإن اشتهرت هذه المقالة؛ لأن هذه المقالة أمرها خطير وعظيم، تفوق مصلحة رواج الكتاب، ولو لم يؤلف الكتاب فالناس ليسوا بحاجةٍ إليه أصلًا، وقد يكون في الكتاب فوائد لكن ضرره أكثر من نفعه، وحينئذٍ فإذا كان الكتاب بهذه المثابة فإنه يُحذّر منه، بخلاف ما إذا كان نفعه أكثر من الضرر المترتب عليه، كما هو الغالب على التفاسير التي يعتمد عليها المتأخرون، وغالب شروح الحديث التي وجد فيها- مع الأسف الشديد- ما يقدح فيها، يقول ابن حجر عن شرح الفيروز أبادي على (صحيح البخاري): أنه رأى القطعة التي كملت في حياة مؤلفه –عشرون مجلدًا- قد أكلتها الأرضة بكمالها، بحيث لا يُقدر على قراءة شيءٍ منها وهي النسخة الوحيدة، وهذه من نعمة الله على المؤلف قبل غيره، فلله الحمد والمنة.