التعليق على تفسير القرطبي - سورة النور (07)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [(32) سورة النــور].

فيه سبع مسائل:

الْأُولَى: هَذِهِ الْمُخَاطَبَةُ تَدْخُلُ فِي بَابِ السَّتْرِ وَالصَّلَاحِ، أَيْ زَوِّجُوا مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ طَرِيقُ التَّعَفُّفِ، وَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ. وَقِيلَ: لِلْأَزْوَاجِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ إِذْ لَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ: " وَانْكِحُوا" بِغَيْرِ هَمْزِ، وَكَانَتِ الْأَلِفُ لِلْوَصْلِ.

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُنْكِحَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ."

مما يدل على ضعف القول الثاني، وأن الخطاب للأزواج عطف الصالحين، فإذا تيسر للأزواج أن ينكحوا الأيامى، فكيف يتيسر لهم أن ينكحوا الصالحين من عبادهم؟ والله المستعان.

" وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا زَوَّجَتِ الثيب أو البكر نفسها بغير ولي كفأً لَهَا جَازَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ مستوفى."

وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا نكاح إلا بولي»، وعنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل»، فالصحيح قول جمهور أهل العلم أن الولي شرط لصحة النكاح، أما الحنفية فلا يرونه شرطًا، لكن لا بد أن يكون الزوج كفأً، وعند المالكية: الشريفة لا يزوجها إلا الولي، بخلاف غيرها، ولو كان قولهم بالعكس لكان أوجه، والله المستعان.

" الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خَوْفِ الْعَنَتِ، وَمِنْ عَدَمِ صَبْرِهِ، وَمِنْ قُوَّتِهِ عَلَى الصَّبْرِ وَزَوَالِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ عَنْهُ. وَإِذَا خَافَ الْهَلَاكَ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا أَوْ فِيهِمَا فَالنِّكَاحُ حَتْمٌ. وَإِنْ لَمْ يَخْشَ شَيْئًا وَكَانَتِ الْحَالُ مُطْلَقَةً فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ مُبَاحٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ. تَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ قَضَاءُ لَذَّةٍ فَكَانَ مُبَاحًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «من رغب عن سنتي فليس مني»."

يعني حكم النكاح يعتريه الأحكام الخمسة، وهو واجب بالنسبة لمن خاف العنت، وسنة ومستحب على الأصل لمن لم يخف العنت على نفسه؛ لأنه سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو مباح في بعض الصور والأحوال إذا كان لا رغبة له في النساء وحاجته إليهن ضعيفة، ولا يغلب على ظنه أنه يمتع نفسه أو يمتع المرأة يعني على حدٍ سواء، وأما إذا تزوج امرأة للإضرار بها فهذا حرام، وهو مكروه لمن يخشى منه ضرر المرأة ولم يتحقق.

الثالثة: قوله تعالى: {الْأَيَامَى مِنكُمْ} أَيِ الَّذِينَ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَاحِدُهُمْ أَيِّمٌ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَيَامَى مَقْلُوبُ أَيَايِمَ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أن الأيم في الأصل هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، حَكَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا. تَقُولُ الْعَرَبُ: تَأَيَّمَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَقَامَتْ لَا تَتَزَوَّجُ. وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «أنا وامرأة سفعاء الخدين تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا، أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة»."

مخرج؟

طالب: قال: تقدم.

ما خُرِّج في الطبعة الثانية؟ ولا أحال على رقم ولا صفحة ولا شيء؟

"وقال الشاعر:

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي

 

وإن كنت أفتى منكم أتأيمُ

ويقال: أيمٌ بيِّن الأيمة، وقد آمت هي، وإمت أنا، قال الشاعر:

لقد إمت حتى لامني كل صاحب

 

رجاءً بسلمى أن تئيم كما إمتُ"

هذا ينتظرها، علّها أن تطلق أو يموت زوجها، فهو ينتظرها، لا يزال أيمٌ حتى تتأيم هي.

"قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ رَجُلٌ أَيِّمٌ وَامْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ، وَهُوَ كَالْمُسْتَعَارِ فِي الرِّجَالِ. وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: لله در بني علي أيم منهم وناكح."

وقال قوم: هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [(3) سورة النــور] وقد بيناه في أول السورة، والحمد لله."

يعني هذا التحريم، تحريم نكاح الزانية على المؤمنين منسوخ بهذه الآية {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} فهي أيم، لكن عليها أن تتوب قبل ذلك.

طالب: النسخ صحيح؟

لا، ما يلزم منه النسخ، لكن جاء على أسلوب التنفير، وهو خبر أيضًا، خبر كما تقدم تقريره أن الزانية لا يقدم عليها في الغالب إلا زانٍ، أو مشرك الذي يستبيح ما هو أشد من الزنا، وكذلك العكس.

"الرابعة: المقصود من قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} الحرائر والأحرار، ثم بين حكم المماليك فقال: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}، وَقَرَأَ الْحَسَنُ" وَالصَّالِحِينَ مِنْ عَبِيدِكُمْ"، وَعَبِيدٌ اسْمٌ لِلْجَمْعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ" وَإِمَاءَكُمْ" بِالنَّصْبِ، يَرُدُّهُ عَلَى {الصالحين} يعني الذكور والإناث، والصلاح والإيمان."

والصلاح الإيمان، يعني المؤمنين.

" وَالصَّلَاحُ الْإِيمَانُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ فِي تَزْوِيجِ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ إِذَا كَانُوا صَالِحِينَ فَيَجُوزُ تَزْوِيجُهُمْ، وَلَكِنْ لَا تَرْغِيبَ فِيهِ وَلَا اسْتِحْبَابَ، كَمَا قَالَ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [(33) سورة النــور]، ثُمَّ قَدْ تَجُوزُ الْكِتَابَةُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي الْعَبْدِ خَيْرًا، وَلَكِنَّ الْخِطَابَ وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ وَالْاسْتِحْبَابِ، وإنما يستحب كتابة من فيه خير."

لأن الذي لا خير فيه يكون عالةً على غيره، ولا يستفيد لا هو ولا غيره من هذا النكاح ولا المكاتبة.

"الخامسة: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكْرِهَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ ضَرَرًا. وروي نحوه عن الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكْرِهَ الْعَبْدَ عَلَى النِّكَاحِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يُكْرِهُونَ الْمَمَالِيكَ عَلَى النِّكَاحِ، وَيُغْلِقُونَ عَلَيْهِمُ الْأَبْوَابَ."

يغلقون عليهم الأبواب خشيةً من كراهيتهم لهذا النكاح أن يأبقوا ويشردوا وينفروا، فهو يزوجه أمة، ثم بعد ذلك يغلق عليه الباب؛ لئلا يهرب.

"تَمَسَّكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَقَالُوا: الْعَبْدُ مُكَلَّفٌ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَامِلٌ مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَمْلُوكِيَّةُ فِيمَا كَانَ حَظًّا لِلسَّيِّدِ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُ لَهُ حَقُّ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي بُضْعِهَا لِيَسْتَوْفِيَهُ، فَأَمَّا بُضْعُ الْعَبْدِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ."

إذا كان للعبد ملك الرقبة والمنفعة، بالنسبة للرقيق ذكرًا كان أو أنثى فالمنفعة هذه سواء كانت بالنتاج البدني– العمل– أو بالنتاج من حيث النسل، هذه منفعة، فهو يملك منفعته، فيملك تزويجه من غير إذنه، ويجبره على ذلك.

"وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا تُبَاحُ السَّيِّدَةُ لِعَبْدِهَا. هَذِهِ عُمْدَةُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ، وَعُمْدَتُهُمْ أَيْضًا الطَّلَاقُ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِتَمَلُّكِ عَقْدِهِ. وَلِعُلَمَائِنَا النُّكْتَةُ الْعُظْمَى فِي أَنَّ مَالِكِيَّةَ الْعَبْدِ اسْتَغْرَقَتْهَا مَالِكِيَّةُ السَّيِّدِ."

يعني: ملك داخل ملك، يعني يتصرف العبد في هذه الملكية التي هي الطلاق، وما جاء في حكمه داخل تصرف السيد، فهو ملك داخل ملك.

"وَلِذَلِكَ لَا يَتَزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ بِإِجْمَاعٍ. وَالنِّكَاحُ وَبَابُهُ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَمَصْلَحَةُ الْعَبْدِ مَوْكُولَةٌ إِلَى السَّيِّدِ، هُوَ يَرَاهَا وَيُقيمُهَا لِلْعَبْدِ."

السادسة: قوله تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [(32) سورة النــور] رجع الكلام إلى الأحرار، أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة، {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وَهَذَا وَعْدٌ بِالْغِنَى لِلْمُتَزَوِّجِينَ طَلَبَ رِضَا اللَّهِ، وَاعْتِصَامًا مِنْ مَعَاصِيهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْتَمِسُوا الْغِنَى فِي النِّكَاحِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ عُمَرُ-رضي الله عنه-: عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَيْضًا. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاثة كلهم حق على الله عونه: المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء» أخرجه ابن ماجه في سننه، فإن قيل: فقد نجد الناكح لا يستغني، قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على الدوام."

مخرج؟

طالب: يقول: حسن، أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي كلهم من حديث أبي هريرة وإسناده حسن، ومحمد بن عجلان روى له مسلم وتابعه وهو صدوق، والحديث حسنه الألباني.

قد يوجد العكس، أحيانًا يتزوج الإنسان ويفتقر بسبب هذه المرأة بعينها، ووعد الله لا يتخلف، فيجيب عنه المؤلف.

"فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَجِدُ النَّاكِحَ لَا يَسْتَغْنِي، قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى الدَّوَامِ، بَلْ لَوْ كَانَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ لَصَدَقَ الْوَعْدُ. وَقَدْ قِيلَ: يُغْنِيَهُ، أَيْ يُغْنِي النَّفْسَ. وَفِي الصَّحِيحِ  «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس»، وقد قيل: ليس وعد لا يقع فيه خلف، بل المعنى أن المال غادٍ ورائح، فارجوا الغنى، وقيل: المعنى يغنهم الله من فضله إن شاء، كقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} [(41) سورة الأنعام]، وقال تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء} [(62) سورة العنكبوت]، وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ إِلَى النِّكَاحِ يغنهم الله بالحلال؛ ليتعففوا عن الزنا.

السابعة: هذه الآية دليل على تزويج الفقير."

لكن ظاهر الآية أنه وعد من الله -جل وعلا- لمن تزوج، ولا يختص هذا بالزواج الأول أو الثاني أو الثالث، المقصود أن من تزوج هو موعود بالغنى، والزواج سبب من أسباب الغنى، قد يعارضه مانع، فلا يترتب أثره عليه.

طالب: في الخبر (إن يكن الشؤم ففي ثلاثة.. وذكر المرأة)؟

والمرأة أيضًا، هذا إن وجد، هذا لا يعني أنه موجود، لكن إن كان فأقرب الأمور إليه هذه الثلاثة.

طالب: يعني معناه خبر؟

استبعاد.

" هذه الآية دليل على تزويج الفقير، وَلَا يَقُولُ: كَيْفَ أَتَزَوَّجُ وَلَيْسَ لِي مَالٌ، فَإِنَّ رِزْقَهُ عَلَى اللَّهِ. وَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَرْأَةَ الَّتِي أَتَتْهُ تَهَبُ لَهُ نَفْسَهَا لِمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا إِزَارٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَسْخُ النِّكَاحِ بِالْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ."

دخلت عليه على علمٍ بحاله، أما لو دخلت عليه على خلاف ذلك، بأن ظنته غنيًّا أو تظاهر بالغنى، ثم تبين لها أنه فقير لها أن تفسخ، إذا عجز، إذا أعسر وعجز عن النفقة، أما إذا دخلت على بيّنة، وعرفت أنه فقير وقبلته على هذا الأساس فليس لها الفسخ بعد ذلك.

"وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْيَسَارِ فَخَرَجَ مُعْسِرًا، أَوْ طَرَأَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ لَا صَبْرَ عَلَيْهِ، قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا. وَقَالَ النَّقَّاشُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَاضِيَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ} وَلَمْ يَقُلْ يُفَرَّقُ. وَهَذَا انْتِزَاعٌ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ هَذِهِ الْآيَةُ حُكْمًا فِيمَنْ عَجَزَ عَنِ النَّفَقَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَعْدٌ بِالْإِغْنَاءِ لِمَنْ تَزَوَّجَ فَقِيرًا".

والإغناء والفقر، الإغناء قد يكون بقدر زائد على مجرد النفقة، والفقر هو العجز عن الإنفاق، فقد يكون ليس بغني وليس بفقير، بمعنى أنه يجد ما ينفق، ولكن ليس له غنىً يجعله يعد من الأغنياء، وليس بفقير فقرًا يعجزه عن النفقة، فهما ليسا متقابلين، ومنهم من يرى أن من يملك الخمسين درهمًا يكون غنيًّا، هذا في تحديد الغنى والفقر عند أهل العلم.

وعلى كل حال المرد في ذلك إلى القدرة على النفقة وعدم القدرة عليه، فإن قدر على نفقتها ولو لم يكن غنيًّا، إذا صارت عنده أموال زائدة على هذا القدر فلا فسخ، حينئذٍ لا فسخ، أما إذا عجز عن الإنفاق عليها، وتضررت من البقاء معه فإنه يفرق بينهما؛ {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلًا مِّن سَعَتِهِ} [(130) سورة النساء].

"فَأَمَّا مَنْ تَزَوَّجَ مُوسِرًا وَأَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلًا مِّن سَعَتِهِ} ونفحات الله تعالى مأمولة في كل حال موعود بها."

يعني ليس الفقر أو الغنى وصف لازم للمرء لا يفارقه، بل يعرض هذا ويطرأ هذا، ويزول هذا، ويتصف بهذا الوصف حينًا وبالآخر حينًا آخر، والله المستعان.

طالب: هل النية لها أثر كبير في هذا الوعد؟

يعني من دخل رجاء هذا الوعد

طالب: الناكح يريد العفاف.

نعم، الذي يريد إعفاف نفسه، بهذا القصد.

طالب: لكن لو دخل لقصد الغنى؟

يعني يجعله من المقاصد، إذا ذكر الثواب المرتب على العمل سواء كان دنيويًّا أو أخرويًّا فقصده لا يضر، فمثلًا لو أن إنسانًا جاء بذكر رتب عليه أجور حسنات، وقصد هذه الأجور، هل نقول: هذا يقدح في إخلاصه؟ لا، كذلك لو رتب عليه أمر من أمور الدنيا، حفظ مثلًا، حفظه الله من الشيطان، حفظه الله من كذا، وقصد هذا الحفظ، وكان في ذمة الله حتى يمسي، أو في ذمة الله حتى يصبح، وقصد هذا لا يؤثر في العبادة؛ لأنه لو كان مؤثرًا لما ذكر في النص، التنصيص عليه يدل على أنه لا يؤثر قصده.

قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ} الْخِطَابُ لِمَنْ يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ، لَا لِمَنْ زِمَامُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَقُودُهُ إِلَى مَا يَرَاهُ، كَالْمَحْجُورِ عليه قولًا واحدًا، والأمة والعبد على أحد قولي العلماء.

الثانية: و" استعفف" وَزْنُهُ اسْتَفْعَلَ، وَمَعْنَاهُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كُلَّ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ وَلَا يَجِدُهُ بِأَيِّ وَجْهٍ تَعَذَّرَ أن سيتعفف."

من الوجوه الممكنة سؤال الناس مثلًا، هو فقير، ولا يمكن أن يتزوج إلا بأن يسأل الناس، ويتكفف الناس، ويأخذ من الزكوات والصدقات، هل نقول لمثل هذا: عليه أن يستعفف؟ {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} هذا ما وجد ليستعفف، فقير ما عنده شيء، وإذا بذل أحد له المهر فهل يلزمه أخذه أو لا يلزمه؛ لأن فيه منّة؟ على كل حال إذا كان الدافع إلى النكاح قويًّا وخشي على نفسه العنت، فليسلك كل مسلك مباح لتحصيله، من زكوات وصدقات وهبات وأعطيات، وتأجير نفسه لأحدٍ يعمل عنده، فعليه أن يبذل؛ ليعفّ نفسه.

أما إذا كان الداعي أقل، ورغب أن يستعفف حتى يغنيه الله من فضله، فمثل هذا لا يلام -إن شاء الله تعالى-.

"ثم لما كان أغلب الموانع عن النكاح عدم المال، وعد بالإغناء من فضله، فيرزقه ما يتزوج به."

طالب: أليس يا شيخ وعد بالإغناء من فضله...؟

من فضله، من فضله.

لكن يبقى هل بين هذه الآية والتي قبلها تعارض؟ الأولى: أمر بالنكاح ووعد بالغنى، والثانية: أمر بالاستعفاف لعدم القدرة؟

طالب: لا يوجد تعارض.

ولا في الظاهر بين الآيتين؟ هناك قال: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فأمر بالنكاح مع وجود الفقر، ووعد بالغنى، وهنا قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} فيه تعارض في الظاهر أو ما فيه؟ هناك أمر بالنكاح مع وجود الوصف، الذي هو الفقر، والوعد بالغنى، وهنا أمر بالاستعفاف وعدم النكاح حتى يحصل الوصف الذي يمكنه من النكاح.

طالب: الفقر في الآية الأولى -يا شيخ- فقر يستطيع معه النكاح؟

يعني قادر على المهر، ولا يستطيع النفقة.

طالب: والفقر في هذه الآية لا يستطيع أبدًا الإنفاق.

لا يقدر على المهر ولا على النفقة.

"أَوْ يَجِدُ امْرَأَةً تَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنَ الصَّدَاقِ، أَوْ تَزُولُ عَنْهُ شَهْوَةُ النِّسَاءِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ  -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاثة كلهم حق على الله -عز وجل- عونهم: المجاهد في سبل الله، والناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب الذي يريد الأداء»."

في حديث عبد الله بن مسعود: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج» فعلق الأمر بالزواج على الاستطاعة، ومن لم يستطع ما قال: يتزوج يغنيه الله من فضله، الذي لا يستطيع الباءة، يعني القدرة على تكاليف النكاح فعليه بالصوم، والذي لا يستطيع ما جاءه الأمر فليتزوج يغنه الله من فضله، كما جاء في الآية التي تقدمت.

"الثالثة: قوله تعالى: {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أَيْ طَوْلَ نِكَاحٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَقِيلَ: النِّكَاحُ ها هنا مَا تُنْكَحُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، كَاللِّحَافِ اسْمٌ لِمَا يُلْتَحَفُ بِهِ. وَاللِّبَاسُ اسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ، فَعَلَى هَذَا لَا حَذْفَ فِي الْآيَةِ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}،  فَظَنُّوا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالِاسْتِعْفَافِ إِنَّمَا هُوَ مَنْ عَدِمَ الْمَالَ الَّذِي يَتَزَوَّجُ بِهِ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ تَخْصِيصُ الْمَأْمُورِينَ بِالِاسْتِعْفَافِ، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ، بَلِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِعْفَافِ مُتَوَجِّهٌ لِكُلِّ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ بِأَيِ وَجْهٍ تَعَذَّرَ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الرَّابِعَةُ: مَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى النِّكَاحِ فَإِنْ وَجَدَ الطَّوْلَ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الطَّوْلَ فَعَلَيْهِ بالاستعفاف، فإن أَمْكَنَ وَلَوْ بِالصَّوْمِ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ، كما جاء في الخبر الصحيح، ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى، وفي الخبر: «خيركم الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد» وقد تقدم جواز نكاح الإماء."

لا شك أن مثل هذا الخفيف الحاذ أقل تبعات ممن لديه النساء، ولديه الأولاد، ولديه الأموال، لا شك أن عليه تبعات من أهله، سواء كان من زوجته أو ولده أو بناته أو غير ذلك، فهذا الخفيف حسابه أقل، لكن الذي يتزوج ويكثر من الزواج على مراد الله ومراد الرسول وعلى شرعه وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، يكثر من النساء، ويكثر من الأولاد، ويبذل الأسباب في وقايتهم من النار، لا شك أن هذا أجره أعظم، لكن المسألة مفترضة بين شخص يقول: أنا لا أستطيع أن أَقوّم الزوجة، ولا أأطرها على أمر الله، وإذا رزقنا أولادًا لا أستطيع تربيتهم، فهو يعيش بدون زواج، وآخر يعيش بالزواج وكثرة النساء، وكثرة الأولاد ويهملهم، لا شك أن هذا أقل تبعة ومسؤولية، لكن الذي يكثر من الزواج، ويكثر من الأولاد «خير أمتي أكثرها نساءً» «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» وجاء الأمر بالتكاثر، لكن مع الشرط وهو وقايتهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [(6) سورة التحريم]. بالتربية الصالحة على مراد الله، وعلى منهج الله، هذا الأكمل بلا شك.

الطالب: صحة الخبر، أحسن الله إليكم.

ماذا يقول؟

طالب: قال: حديث باطل، أخرجه ابن الجوزي في الواهيات والخطيب من حديث حذيفة، وقال ابن الجوزي: قال الدراقطني: وتفرد به رواد وهو ضعيف، وقال أحمد: روى أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم في العلل: هذا حديث باطل، وانظر المقاصد الحسنة، والحديث في ضعيف الجامع.

على كل حال الحديث لا يصح، لكن يبقى أن من تزوج وأهمل وضيَّع، وأنجب الأولاد وضيَّعهم، وعرَّضهم للفتن، ولم يراقبهم، وجعلهم يتأذون ويؤذون الناس، مثل هذا عدم زواجه أولى.

مثل المال شخص يجمع المال من حله ومن غير حله، ويفسد فيه، وشخص فقير لا مال له عاش على الزكوات، وعلى أوساخ الناس، لا شك أن هذا أفضل، وأما القسم الثالث وهو أفضل منهما، من كسب المال في حله، وأنفقه في وجوه البر.

طالب: حديث:....

لا لا، هذا ضعيف.

"وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَازُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ لِلْحُرَّةِ فِي" النِّسَاءِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلَمَّا لم يجعل الله له بين الْعِفَّةِ وَالنِّكَاحِ دَرَجَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عداهم محرم، ولا يدخل فيه ملك اليمين؛ لأنه بنص آخر مباح، وهو قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [(3) سورة النساء]، فجاءت فيه زيادة، وَيَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءُ رَدًّا عَلَى أَحْمَدَ".

يعني كما قرره في أوائل سورة المؤمنون، وأن الجمهور على تحريمه ومنعه، ونسب للإمام أحمد أنه يجيزه- على ورعه- على كل حال هو قول في المذهب، والمعمول به عندهم أن من استمنى بيده لغير حاجةٍ عُزِّر، فيدل على أنه محرم.

"وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه، وقد تقدم هذا في أول المؤمنون.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}[(33) سورة النــور].

فيه ست عشرة مسألة:

الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ}  الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَعِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ؛ لِأَنَّ بَعْدَهُ أَمْرًا. وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فِيمَا سَبَقَ وُصِلَ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ إِنْ طَلَبَ الْكِتَابَ فَالْمُسْتَحَبُّ كِتَابَتُهُ، فَرُبَّمَا يَقْصِدُ بِالْكِتَابَةِ أَنْ يَسْتَقِلَّ وَيَكْتَسِبَ وَيَتَزَوَّجَ إِذَا أَرَادَ، فَيَكُونَ أَعَفَّ لَهُ. قِيلَ: نزلت في  غلام لحويطب بن عَبْدِ الْعُزَّى يُقَالُ لَهُ صُبْحٌ- وَقِيلَ: صُبَيْحٌ- طَلَبَ مِنْ مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَأَبَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَكَاتَبَهُ حُوَيْطِبٌ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا فَأَدَّاهَا، وَقُتِلَ بِحُنَيْنٍ فِي الْحَرْبِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ صُبَيْحٌ الْقِبْطِيُّ غُلَامُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَنْ يُكَاتِبَ مِنْهُمْ كُلُّ مَنْ لَهُ مَمْلُوكٌ وَطَلَبَ الْمَمْلُوكُ الْكِتَابَةَ وَعَلِمَ سَيِّدُهُ مِنْهُ خَيْرًا.

الثَّانِيَةُ: الْكِتَابُ وَالْمُكَاتَبَةُ سَوَاءٌ، مُفَاعَلَةٌ مِمَّا لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مُعَاقَدَةٌ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ، يُقَالُ: كَاتَبَ يُكَاتِبُ كِتَابًا وَمُكَاتَبَةً، كَمَا يُقَالُ: قَاتَلَ قِتَالًا وَمُقَاتَلَةً. فَالْكِتَابُ فِي الْآيَةِ مصدر كالقتال والجلاد والدفاع. وقيل: الكتاب ها هنا هُوَ الْكِتَابُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَاتَبُوا الْعَبْدَ كَتَبُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كِتَابًا. فَالْمَعْنَى يَطْلُبُونَ الْعِتْقَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْكِتَابُ فَيُدْفَعُ إِلَيْهِمْ.

الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ فِي الشَّرْعِ: هُوَ أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ مُنَجَّمًا عَلَيْهِ، فَإِذَا أَدَّاهُ فَهُوَ حُرٌّ. وَلَهَا حَالَتَانِ:

الْأُولَى: أَنْ يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ وَيُجِيبَهُ السَّيِّدُ، فَهَذَا مطلق الآية وظاهرها. الثانية: أن يطلبها العبد ويأباها السيد، وفيها قولان: الأول لعكرمة وعطاء و مسروق وعمرو بن دينار والضحاك بن مزاحم، وجماعة أهل الظاهر أن ذلك واجب على السيد.

وهو ما يقتضيه الأمر {فَكَاتِبُوهُمْ} على الشرط المذكور –إن علمتم–، والأصل في الأمر الوجوب.

"وقال علماء الأمصار: لا يجب ذلك."

لا يجب ذلك؛ لأن المكاتبة أقل من العتق، والعتق ليس بواجب إلا في الكفارات، ما دام العتق ليس بواجب فالمكاتبة مثله، وهذا قول علماء الأمصار.

"وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَهَا بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَأَفْعَلَ بِمُطْلَقِهِ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يَأْتِيَ الدَّلِيلُ بِغَيْرِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَاحْتَجَّ دَاوُدُ أَيْضًا بِأَنَّ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْكِتَابَةَ وَهُوَ مَوْلَاهُ فَأَبَى أَنَسٌ، فَرَفَعَ عُمَرُ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ، وَتَلَا {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}، فَكَاتَبَهُ أَنَسٌ. قَالَ دَاوُدُ: وَمَا كَانَ عُمَرُ لِيَرْفَعَ الدِّرَّةَ عَلَى أَنَسٍ فِيمَا لَهُ مُبَاحٌ أَلَّا يَفْعَلَهُ. وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَإِنْ ضُوعِفَ لَهُ فِي الثَّمَنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: أَعْتِقْنِي أَوْ دَبِّرْنِي أَوْ زَوِّجْنِي لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ، فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، فَلَا تَصِحُّ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ. وَقَوْلُهُمْ: مُطْلَقُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ صَحِيحٌ، لَكِنْ إِذَا عَرِيَ عَنْ قَرِينَةٍ تَقْتَضِي صَرْفَهُ عَنِ الْوُجُوبِ، وَتَعْلِيقُهُ هُنَا بِشَرْطِ عِلْمِ الْخَيْرِ فِيهِ، فَعُلِّقَ الْوُجُوبُ عَلَى أَمْرٍ بَاطِنٍ وَهُوَ عِلْمُ السَّيِّدِ بِالْخَيْرِيَّةِ. وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: كَاتِبْنِي، وَقَالَ السَّيِّدُ: لَمْ أَعْلَمْ فِيكَ خَيْرًا، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوِيٌّ فِي بَابِهِ.

الرَّابِعَةُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قوله تعالى: {خَيْرًا} فقال ابن عباس وعطاء: المال".

يعني كما جاء في الوصية، إن ترك خيرًا الوصية، المراد بها المال.

"مجاهد: المال والأداء الحسن، والنخعي: الدين والأمانة، وقال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقولون: هو القوة على الاكتساب والأداء."

القدرة على كسب المال الذي يؤديه في مقابل مكاتبته، وإلا في الأصل هو لا مال له، ولا يملك عند الجمهور، وإن ملكه مالك بالتمليك.

"وعن الليث نحوه وهو قول الشافعي، وقال عَبِيدَةُ السلماني: إقامة الصلاة والخير، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْمَالُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ لِمَوْلَاهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مَالٌ. وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ، وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ يُعَامِلُونَكُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِالْوَفَاءِ لَكُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْكِتَابَةِ وَالصِّدْقِ فِي الْمُعَامَلَةِ فَكَاتِبُوهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْخَيْرَ هُنَا الْمَالُ أَنْكَرَ أَنْ يُقَالَ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ مَالًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: عَلِمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَالْأَمَانَةَ، وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُ فِيهِ الْمَالَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ علمت عنده المال.

قلت: وحديث بريرة يرد قول من قال: إن الخير المال على ما يأتي.

الخامسة: اختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له."

وقد كوتبت، ولم تكاتب إلا بعد أن تحقق الوصف فيها، وهو علم الخير، ولا مال لها؛ لأنها جاءت تطلب من عائشة -رضي الله عنها- فدل على أن الخير هنا ليس هو المال، وإنما هو القدرة على تحصيل المال، والقدرة على النفع والانتفاع، انتفاع الناس بهذا الرقيق، يعني علمت في هذا الرقيق خير أنه ينتفع بنفسه، يطلب العلم ويتفرغ للعلم وينفع الأمة هذا خير، ولو لم يقدر على تحصيل المال لم يتسنَ له المال، ممكن بواسطة الزكاة؛ لأنه من الرقاب المأمور بعتقها، فإذا علم فيه خير، أي خيرٍ كان، لو كان بتحصيل علم، بتحصيل مال، بنفع المسلمين، بقدرته على التعامل مع الناس بوضوح وصراحة، وعدم غش ولا خيانة، هذا فيه خير -إن شاء الله تعالى-.

" الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كِتَابَةِ مَنْ لَا حِرْفَةَ لَهُ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حِرْفَةٌ، وَيَقُولُ: أَتَأْمُرُنِي أَنْ آكُلَ أَوْسَاخَ النَّاسِ؟ وَنَحْوُهُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ.".

أتأمرني أن آكل أوساخ الناس، من الذي يقول هذا؟ المكاتِب أو المكاتَب؟ ابن عمر السيد؛ لأن هذا الرقيق اضطر إلى أن يأخذ إلى الزكوات، وهي أوساخ الناس، ثم يدفعها إلى السيد، فيكون مآل أوساخ الناس إلى هذا السيد.

"وَرَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَقَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى عُمَيْرِ بْنِ سعد: أما بعد! فانه مزن قِبَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُكَاتِبُوا أَرِقَّاءَهُمْ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّاسِ. وَكَرِهَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- أن ابن التياح -مؤذنه- قال له: أكاتب وليس لي مال؟ قال: نعم، ثم حض الناس على الصدقة عليّ  فأعطوني ما فضل عن مكاتبتي، فأتيت عليًّا، فقال: اجعلها في الرقاب، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَا حِرْفَةَ لَهَا يُكْرَهُ مُكَاتَبَتُهَا لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ فَسَادِهَا. وَالْحُجَّةُ فِي السُّنَّةِ لَا فِيمَا خَالَفَهَا. رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- قالت: دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين كل سنة أوقية، فأعينيني.. . الْحَدِيثَ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يكاتب عبده وهو لا شي مَعَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ عَائِشَةَ تُخْبِرُهَا بِأَنَّهَا كَاتَبَتْ أَهْلَهَا وَسَأَلَتْهَا أَنْ تُعِينَهَا، وَذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ كِتَابَتِهَا قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِنْهَا شَيْئًا، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْأَمَةِ، وَهِيَ غَيْرُ ذَاتِ صَنْعَةٍ وَلَا حِرْفَةٍ وَلَا مَالٍ."

لكن لا بد من أن يكون عدم وقوعها في الفاحشة وتعريضها للفتنة يكون غلبة ظن، بحيث يغلب على الظن أنها لا تزاول الفاحشة، ولا تكون مثار فتنة بين الناس، فإذا تحقق هذا فلا مانع من كتابتها، أما إذا خشي أن تكون مثار فتنة للناس، ومحل تحرش بها لأنها لا يوجد من يحميها، أو أنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها فلا.

طالب: فترة الكتابة إن طالت الكتابة إلى سبع سنوات -مثلًا- هل تكون في خدمة سيدها؟

لا لا، خدمة نفسها، تبحث عما تسدد به، نجوم الكتابة، يترك الرقيق إذا كوتب، وإن كان رقيق ما بقي عليه درهم، هو ما زال في حكم الرق، لكن الخدمة لا، يترك الأمر له ليكتسب ويسدد.

ولم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- هَلْ لَهَا كَسْبٌ أَوْ عَمَلٌ وَاصِبٌ  أَوْ مَالٌ، وَلَوْ كَانَ هَذَا وَاجِبًا لَسَأَلَ عَنْهُ لِيَقَعَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ مُبَيِّنًا مُعَلِّمًا-صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا الحديث ما يدل على أن من تأول في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [(33) سورة النــور] أَنَّ الْمَالَ الْخَيْرُ، لَيْسَ بِالتَّأْوِيلِ الْجَيِّدِ، وَأَنَّ الْخَيْرَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْقُوَّةُ عَلَى الِاكْتِسَابِ مَعَ الْأَمَانَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

السَّادِسَةُ: الْكِتَابَةُ تَكُونُ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَتَكُونُ عَلَى أَنْجُمٍ؛ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ. وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ولم يذكر أجلاً نجمت عَلَيْهِ بِقَدْرِ سِعَايَتِهِ وَإِنْ كَرِهَ السَّيِّدُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَجَلٍ، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةُ أَنْجُمٍ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَتْ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُجِيزُونَهَا عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ، وَلَا تَجُوزُ حَالَّةً الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِتْقٌ عَلَى صِفَةٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَدَّيْتَ كَذَا وَكَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ وَلَيْسَتْ كِتَابَةً. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ وَالسَّلَفُ فِي الْكِتَابَةِ إِذَا كَانَتْ حَالَّةً عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا كَاخْتِلَافِهِمْ.

وَالصَّحِيحُ فِي النَّظَرِ أَنَّ الْكِتَابَةَ مُؤَجَّلَةٌ، كَمَا وَرَدَ بِهَا الْأَثَرُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ حِينَ كَاتَبَتْ أَهْلَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، وَكَمَا فَعَلَتِ الصَّحَابَةُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ كِتَابَةً؛ لِأَنَّهَا تُكْتَبُ وَيُشْهَدُ عَلَيْهَا، فَقَدِ اسْتَوْسَقَ الِاسْمَ وَالْأَثَرَ، وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمَالَ إِنْ جَعَلَهُ حَالًّا وَكَانَ عِنْدَ الْعَبْدِ شي فَهُوَ مَالُ مُقَاطَعَةٍ وَعَقْدُ مُقَاطَعَةٍ لَا عَقْدُ كِتَابَةٍ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى مَالٍ مُعَجَّلٍ كَانَ عِتْقًا عَلَى مَالٍ، وَلَمْ تَكُنْ كِتَابَةً. وَأَجَازَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْكِتَابَةَ الْحَالَّةَ وَسَمَّاهَا قِطَاعَةً، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ فُسْحَةٌ لِلْعَبْدِ فِي التَّكَسُّبِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْمُنَجَّمِ عَلَيْهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ لَوَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يأخذه ويتعجل للمكاتب عتقه. وبجواز الكتابة الحالة قال الكوفيون."

هذا الكلام يجري على مذهب مالك، وهو القول بأن العبد يملك، وأما على قول الجمهور وأن العبد لا يملك فلا يمكن مكاتبته على مبلغٍ حال ولا يترك له فرصة يتكسب فيها، وقول الجمهور على أنه لا يملك فلا بد من ترك فرصة بحيث يغلب على الظن أنه يستطيع جمع ما كتب عليه في هذه الفرصة.

طالب: هل يوجد فرق بين الكتابة والعتق في الأحكام؟

العتق ينفذ من وقته، من وقته يكون حرًّا من التلفظ به، أما المكاتبة فلا تكمل الحرية حتى يؤدي جميع النجوم، ولو أدى عشرة نجوم وبقي واحد فإنه ما زال رقيقًا.

طالب: لو مات السيد....؟

لو مات السيد وأرادوا أن يبطلوا العقد هل المكاتبة عقد لازم أو جائز؟ هل هي عقد لازم كالإجارة أو جائز؟ بمعنى أن لكل واحدٍ من الطرفين أن يلغيه في آخر لحظة؟ لأن السيد له أن يقول: ما دام العبد رقيقًا ولي عليه شيء ولو كان درهمًا كما جاء في الخبر، يقول: لي ما دام رقيقًا فأنا أتصرف وما اكتسبه فهو في مدة ملكي له، ما تحرر بعد، فهو من نصيبي، له أن يقول هذا أو ليس له أن يقول؟ له أن يفسخ أو ليس له أن يفسخ؟ كما أنه بالمقابل للعبد أن يعجز نفسه، يقول: عجزت عن تسديد نجوم الكتابة، فأعود رقيقًا، فيلغي المكاتبة، فهل تلغى من الطرفين أو من طرفٍ واحد؟ يعني ليس للسيد أن يلغيه؟ إذا كاتب واتفقوا على نجوم، والحديث يدل على أنه رقيق، ما زال رقيقًا حتى تنتهي هذه النجوم، والسيد يقول: ما دام رقيقًا إلى أن تنتهي، فقبل أن تنتهي هو يسعى ويكتسب وما زال في ملكي، فسعيه وأجرته وما يكتسبه لي، تبعًا له، تبعًا للرقيق نفسه، فهل هي عقد جائز أو لازم؟

طالب: مثل عقد التبرعات؟

هذا فيه معاوضة.

طالب: المكاتبة ما يكون فيها شروط؟

إلا كتابة، فيها كتابة بين الطرفين.

طالب: إذًا العقد لازم.

طالب آخر: المسلمون على شروطهم.

المسلمون على شروطهم، لكن يقول الأخ: ما فائدة الكتابة والإشهاد؟ إذا كان لكل واحدٍ أن يلغي العقد، فما الفائدة من الكتابة والإشهاد عليها؟!

طالب: إذا بلغ المبلغ، إذا أدى العبد المبلغ خلاص؟

طالب: العبد له أن يفسخ إذا عجز، أما السيد فليس له.

يعني لازم من وجهٍ دون وجه، لكن السيد أن يقول: ما دام الحديث يقول: «المكاتب رقٌّ ما بقي عليه درهم» فهو رقيق إلى آخر نجم، ما دام ما سلم آخر نجم فهو رقيق، وهذه النجوم التي اكتسبها وأداها إليّ من حقي، هو اكتسبها في ظل ملكي له.

لكن الغنم مع الغرم، والخراج بالضمان، إن كان ينفق عليه أثناء تأديته نجوم الكتابة، ويؤديه ويسكنه، ويصرف مطعمه وملبسه فهو في حكم الرقيق، وما جمعه في هذه المدة لسيده، ولسيده حينئذٍ أن يتصرف مثل هذا التصرف؛ لأنه ينفق عليه، والخراج بالضمان، أما إذا كاتبه وقال: لا تعرفني ولا أعرفك إلا في كل شهر أو في كل سنة، تعطيني هذا المبلغ، ولا ينفق عليه ولا يؤويه ولا يلبسه مما يلبس، ولا يطعمه مما يطعم، مثل هذا ليس فله عليه كلام.

طالب: التعاون معه،.... العبد قن ما بقي عليه درهم. ما زال قنًّا.

نعم حكمًا هذا، هو في حكم القن، لكن هل لسيده أن يستخدمه؟

الطالب: لا.

وهو ما يكد عليه، ولا ينفق عليه، ولا يسكنه؟ هذا ينافي مقتضى عقد الكتابة، إذا قال له: أكاتبك على اثني عشر ألفًا في كل شهر تعطيني ألفًا، لكن تجيء تعمل عندي في المحل، ما دام ما سددت، أنت قن لا زلت، هل له أن يقول ذلك؟ يقول: كيف أكتسب لك وأجيء لك بما اتفقنا عليه وأنا أشتغل عندك؟ لا شك أنه ليس له عليه سلطان في هذه المدة.

طالب: كذلك الورثة ليس لهم أن يفسخوا العقد؟

هو ما دام العقد لازمًا مع أبيهم فهم في حكمه.

"قال الْكُوفِيُّونَ. قُلْتُ: لَمْ يَرِدْ عَنْ مَالِكٍ نَصٌّ فِي الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ، وَالْأَصْحَابُ يَقُولُونَ: إِنَّهَا جَائِزَةٌ، وَيُسَمُّونَهَا قِطَاعَةً. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهَا لَا تَجُوزُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْجُمٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَجَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَجُوزُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ خَمْسَةِ نُجُومٍ".

يعني تحديد لم يرد به الشرع، فللخصم أن يدعي من التحديد غير ما حدده خصمه.

"لَا يَجُوزُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ خَمْسَةِ نُجُومٍ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ النُّجُومِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ  -صلى الله عليه وسلم- في بريرة، وعلم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقضى فيها، فكان بصواب الحجة أولى."

تقدم في قصة بريرة أنه على تسع أواقٍ في تسعة نجوم، فهي تسعة نجوم لا خمسة.

"رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَعَلَيْهَا خَمْسَةُ أَوَاقٍ نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ ... الْحَدِيثَ."

وتقدم قبل ذلك أنها تسع أواق في تسع سنين، وقد رواه الأئمة.

"كَذَا قَالَ اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: وَعَلَيْهَا خَمْسَةُ أَوَاقٍ نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ. وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، الحديث.. وظاهر الروايتين تَعَارُضٌ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ هِشَامٍ أَوْلَى؛ لِاتِّصَالِهِ وَانْقِطَاعِ حَدِيثِ يُونُسَ؛ لِقَوْلِ الْبُخَارِيِّ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، وَلِأَنَّ هِشَامًا أَثْبَتُ فِي حَدِيثِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

السَّابِعَةُ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الكتابة شيء؛ لِقَوْلِهِ -عليه السلام-: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم» أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وروي عنه أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أيّما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد»، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ وَالطَّبَرِيِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وُجُوهٍ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ- رضي الله عنهم-، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَعَطَاءٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكْنَا بِبَلَدِنَا يَقُولُ ذَلِكَ.

وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الشَّطْرَ فَهُوَ غَرِيمٌ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَالْإِسْنَادُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، خَيْرٌ مِنَ الْإِسْنَادِ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أَدَّى الشَّطْرَ فَلَا رِقَّ عَلَيْهِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا يَعْتِقُ مِنْهُ بقدر ما أدى."

فيكون مبعضًا، إذا أدى الشطر يكون حينئذٍ مبعضًا على هذا القول.

"وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْعَتَاقَةَ تَجْرِي فِيهِ بِأَوَّلِ نَجْمٍ يُؤَدِّيهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا أَدَّى ثُلُثَ الْكِتَابَةِ فَهُوَ عَتِيقٌ غَرِيمٌ، وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَوْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ مِائَتَيْ دِينَارٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَةُ دِينَارٍ، فأدَّى العبد المائة لَّتِي هِيَ قِيمَتُهُ عُتِقَ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ أَيْضًا. وَقَوْلٌ سَابِعٌ: إِذَا أَدَّى الثَّلَاثَةَ الْأَرْبَاعَ وَبَقِيَ الرُّبْعُ فَهُوَ غَرِيمٌ وَلَا يَعُودُ عَبْدًا، قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ بِنَفْسِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ، وَهُوَ غَرِيمٌ بِالْكِتَابَةِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى الرِّقِّ أَبَدًا. وَهَذَا الْقَوْلُ يَرُدُّهُ حَدِيثُ بَرِيرَةَ؛ لِصِحَّتِهِ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ، وَلَوْلَا ذَلِكَ ما بيعت بريرة، ولو كان فيها شيء مِنَ الْعِتْقِ مَا أَجَازَ بَيْعَ ذَلِكَ؛ إِذْ مِنْ سُنَّتِهِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا أَلَّا يُبَاعَ الْحُرُّ. وَكَذَلِكَ كِتَابَةُ سَلْمَانَ وَجُوَيْرِيَةَ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم لجميعهم بالرق حتى أدوا الكتابة، وهي حجة للجمهور في أن المكاتب عبد ما بقي عليه شي.

وَقَدْ نَاظَرَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَيْد بْنَ ثَابِتٍ فِي الْمُكَاتَبِ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَكُنْتَ رَاجِمَهُ لَوْ زَنَى، أَوْ مُجِيزًا شَهَادَتَهُ لَوْ شَهِدَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا. فَقَالَ زَيْدٌ: هُوَ عبد ما بقي عليه شيء. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهم- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى، ويقام عليه الحد بقدر ما أدى، ويرث بقدر ما عتق منه، وإسناده صحيح."

مخرج؟

طالب: قال: أخرجه النسائي في... من حديث علي وابن عباس ورجاله رجال مسلم، سوى محمد بن عيسى النقاش شيخ النسائي فإنه مقبول، بل إسناده لين، وصدر الحديث يتقوى بشواهده، وأما عجزه فغريب وهو ضعيف، والحديث في الإرواء، ولكن ما نظرت فيه.

"وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ، وَيَعْتَضِدُ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ نَبْهَانَ مُكَاتَبِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه» وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مَعَ زَوْجَاتِهِ، أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ فِي حَقِّهِنَّ، كَمَا قَالَ لِسَوْدَةَ: «احتجبي منه» مع أنه قد حكم بأخوتها له، وبقوله لعائشة وحفصة: «أنتما ألستما تبصرانه؟» يعني: ابن أم مكتوم، مع أنه قال لفاطمة بنت قيس: «اعتدي عند ابن أم مكتوم»، وقد تقدم هذا المعنى".

تقدم هذا المعنى قريبًا، قبل درس أو درسين أن المرأة مأمورة أن تحتجب عن الأعمى، وأضفنا فيما تقدم أن الحديث فيه ضعف، وأما أمرها بالاعتداد عند أم مكتوم فلأنه رجل أعمى، فإذا احتاجت المرأة أن تسكن مثل ما ذكرنا سابقًا عند أسرة بدون خلوة، ورب هذه الأسرة أعمى فهو أفضل من ما لو كان مبصرًا؛ لأنه لا يراها، وإذا أرادت النظر إلى الرجل يستوي في ذلك الأعمى والمبصر، هذا من قبلها، لا يجوز للمرأة أن تنظر نظر شهوة إلى الرجال، لا المبصرين ولا العميان، وأما بالنسبة للرجل الأعمى، فلا شك أن الحاسة مفقودة عنده فهو خير من المبصرين في هذه المسألة بالنسبة للنساء.

"الثامنة: أجمع العلماء عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ مِنْ نُجُومِهِ أَوْ نَجْمَانِ أَوْ نُجُومُهُ كُلُّهَا فَوَقْفَ السَّيِّدُ عَنْ مُطَالَبَتِهِ وَتَرْكَهُ بِحَالِهِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَنْفَسِخُ مَا دَامَا عَلَى ذَلِكَ ثَابِتَيْنِ.

التَّاسِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ فَذَلِكَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُمَكَّنُ مِنْ تَعْجِيزِ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْأَدَاءِ."

بل يُلزم بما اشترط، إذا كان قادرًا.

"وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ، عُلِمَ لَهُ مَالٌ أَوْ قُوَّةٌ عَلَى الْكِتَابَةِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ، فَإِذَا قَالَ: قَدْ عَجَزْتُ وَأَبْطَلْتُ الْكِتَابَةَ فَذَلِكَ إِلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَكُلُّ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ سَيِّدُهُ قَبْلَ الْعَجْزِ حِلٌّ لَهُ، كَانَ مِنْ كَسْبِهِ أَوْ مِنْ صَدَقَةٍ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا أُعِينَ بِهِ عَلَى فِكَاكِ رَقَبَتِهِ فَلَمْ يَفِ ذَلِكَ بِكِتَابَتِهِ كَانَ لِكُلِّ مَنْ أَعَانَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَعْطَى أَوْ تَحَلَّلَ مِنْهُ الْمُكَاتَبُ."

لأن هذا كالمشروط، إذا أعطي المال ليدفعه إلى سيده الذي كاتبه بهذا القيد، يعطيه التاجر المال ويقول: اقضِ به دين الكتابة، فانحلت الكتابة وارتفع الوصف، لا يحل له أن يأخذ لا هو ولا السيد من هذا المال شيئًا، ومثل هذا لو أعطي شخص لعمل برٍّ من الأعمال، إما لبناء مسجد، أو لتفطير صائم، أو لشراء شيء للفقراء أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يُصرف إلا في هذه المصارف، فلو بقي منه شيء، أعطي عشرة آلاف لتفطير الصوام خلال شهر رمضان فكفاهم خمسة آلاف، يقول: هذه الخمسة نحتاجها في ترميم المسجد، أو شراء بعض الآلات التي يحتاجها المصلون؟ نقول: لا، الذي أعطاك المال، أعطاك على أساس أنه لتفطير الصائم، فكأنه اشترط عليك، فإما أن تعيده إليه، أو تستأذنه في أن يصرف في غير هذا المصرف، ومثل هذا لو أعطي العبد لسداد نجوم الكتابة، ثم بعد ذلك عجز عنها، أنه لا يحل له، ولا يحل لسيده.

طالب: يعاد المال؟

يعاد المال، إلا إذا طابت به نفس صاحبه، ولم يكن زكاة.

طالب: لو كان المصرف الثاني أكثر نفعًا؟

ولو كان، ما دام خصصه المعطي لا يتجاوز به ما خصص؛ لأن له نظرًا في ماله غير نظر غيره.

طالب: وإن كان من مسجد إلى مسجد؟

المقصود أنه إذا لم يحتج إليه في المصرف نفسه ووجد مصرف مثل مصرفه، يعني أعطي تفطير صائم لهذا المسجد، اكتفى هذا المسجد فيفطر به صائم في مسجدٍ آخر، المصرف واحد، فأعطي لهذا المسجد لشراء أدوات، فتبرع شخص آخر وبادر وأمن هذه الأدوات، يصرف في نفس المصرف، وإن لم يوجد يعاد إلى صاحبه.

طالب: الأوقاف؟

الأوقاف التي ينص على مصرفها، مثله.

طالب: لو تعطلت منافعها؟

أما إذا تعطلت منافع الوقف بالكلية، فهذا يُنقل.

طالب: هل ينقله الناظر، أولا بد أن يرجع إلى ولي الأمر؟

لا بد من الرجوع، لا يتصرف أحد من نفسه؛ لأن تقدير هذه المسألة، تقدير تعطل المنافع وغيرها إنما هو له، النظر له أو لمن ينيبه.

طالب: إذا كانت الأموال من عدة أشخاص، مثلًا تفطير صائم في هذا المسجد، فجمعوا جماعة المسجد فبقي المال؟

يصرف تفطير صائم في مسجدٍ آخر؛ لأنه من نفس المصرف الذي هو التفطير.

طالب: يؤخر إلى سنة قادمة؟

على كل حال إذا لم يجد من يحتاجه في هذا الوقت وأخَّره لمصلحة المستفيد منه، وهو الصائم لا مانع- إن شاء الله تعالى-.

 " وَلَوْ أَعَانُوهُ صَدَقَةً لَا عَلَى فِكَاكِ رَقَبَتِهِ فَذَلِكَ إِنْ عَجَزَ حَلَّ لِسَيِّدِهِ وَلَوْ تَمَّ بِهِ فِكَاكُهُ وَبَقِيَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ. فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْفِكَاكِ رَدَّهَا إِلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ أَوْ يُحَلِّلُونَهُ مِنْهَا. هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَا قَبَضَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَمَا فَضَلَ بِيَدِهِ بَعْدَ عَجْزِهِ

مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، يَطِيبُ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ كُلِّهِ. هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمَا وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ شُرَيْحٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَجْعَلُ السَّيِّدُ مَا أَعْطَاهُ فِي الرِّقَابِ، وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ وَالنَّخَعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ شُرَيْحٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَا قَبَضَ مِنْهُ السَّيِّدُ فَهُوَ لَهُ، وَمَا فَضَلَ بِيَدِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ فَهُوَ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يمْلكُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: مَا أُعْطِيَ بِحَالِ الْكِتَابَةِ رُدَّ عَلَى أَرْبَابِهِ."

لأنه أعطي لهذا الأمر، وعلق بهذا الوصف، ما دام الوصف موجودًا ساغ أو مضت العطية، وإذا ارتفع الوصف تعاد هذه العطية.

"الْعَاشِرَةُ: حَدِيثُ بَرِيرَةَ عَلَى اخْتِلَافِ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ بَرِيرَةَ وَقَعَ فِيهَا بَيْعٌ بَعْدَ كِتَابَةٍ تَقَدَّمَتْ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَيْعِ الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ (بَابَ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ). وَإِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ لِلْعِتْقِ إِذَا رَضِيَ الْمُكَاتَبُ بِالْبَيْعِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا، ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالدَّاوُدِيُّ، وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ  وَأَبُو الزِّنَادِ وَرَبِيعَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْبَيْعِ عَجْزٌ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ مَا دَامَ مُكَاتَبًا حَتَّى يَعْجَزَ، وَلَا يَجُوزَ بَيْعُ كِتَابَتِهِ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِمِصْرَ".

على كل حال في مثل هذه الصورة يلاحظ مصلحة الرقيق، فإن كان بيعه بعد مكاتبته لمن أراد أن يستعمله ويعيده رقيقًا، فهذا ليس من مصلحته، أما بيعه لمن يعتقه فهذا من مصلحته، وهو ما تدل عليه قصة بريرة.

"وَكَانَ بِالْعِرَاقِ يَقُولُ: بَيْعُهُ جَائِزٌ، وَأَمَّا بَيْعُ كِتَابَتِهِ فَغَيْرُ جَائِزَةٍ. وَأَجَازَ مَالِكٌ بَيْعَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّاهَا عتقَ، وَإِلَّا كَانَ رَقِيقًا لِمُشْتَرِي الْكِتَابَةِ"

كأنه بيع مشروط، أبيعك هذا الغلام إن عجز عن تسديد نجوم الكتابة، فيكون كأنه بيع بشرط.

"ومنع من ذلك أبو حنيفة؛ لأنه بيع غرر."

لأنه ما يدرى ما مآل هذا العبد، هل يثبت عقده أو لا يثبت؟.

"وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ بِالْمَنْعِ وَالْإِجَازَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَنْ يَمْضِيَ فِي كِتَابَتِهِ، فَإِنْ أَدَّى عُتِقَ وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَوْ عَجَزَ فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُبَاعُ الْمُكَاتَبُ إِلَّا لِلْعِتْقِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُبَاعَ قَبْلَ عَجْزِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ إِجَازَةُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَكُنْ عَاجِزًا عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْعَ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا بِالْعَجْزِ؛ لِأَنَّ بَرِيرَةَ لَمْ تَذْكُرْ أَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ، وَلَا أَخْبَرَتْ بِأَنَّ النَّجْمَ قَدْ حَلَّ عَلَيْهَا، وَلَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَعَاجِزَةٌ أَنْتِ أَمْ هَلْ حَلَّ عَلَيْكِ نَجْمٌ. وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ مَا قَدْ حَلَّ لَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قد سألها أعاجزة هي أم لا؟ وما كان ليأذن في شرائها إلا بعد علمه -صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا عَاجِزَةٌ وَلَوْ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ قَدْ حَلَّ عَلَيْهَا. وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْبَابِ حُجَّةً أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ هَذَا، ولم يُروَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء يعارضه، ولا في شيء من الأخبار دليل على عجزها.

اسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ بِأُمُورٍ: مِنْهَا أَنْ قَالُوا: إِنَّ الْكِتَابَةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَكُنِ انْعَقَدَتْ، وَأَنَّ قَوْلَهَا كَاتَبْتُ أَهْلِي مَعْنَاهُ أَنَّهَا رَاوَضَتْهُمْ عَلَيْهَا ."

يعني مجرد وعد بينهما، ولم يتم العقد، هذا جواب من يرى منع بيع المكاتب، والصواب جواز بيعه لمن أراد أن يعتقه، إذا كان به حظ للمكاتب؛ لأن الشرع يتشوف إلى العتق بخلاف العكس، أما من أراد أن يعيده إلى الرق فلا يباع عليه.

" وَقَدَّرُوا مَبْلَغَهَا وَأَجَلَهَا وَلَمْ يَعْقِدُوهَا. وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ خِلَافُ هَذَا إِذَا تُؤُمِّلَ مَسَاقُهَا. وَقِيلَ: إِنَّ بَرِيرَةَ عَجَزَتْ عَنِ الْأَدَاءِ فَاتَّفَقَتْ هِيَ وَأَهْلُهَا عَلَى فَسْخِ الْكِتَابَةِ، وَحِينَئِذٍ صَحَّ الْبَيْعُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ تَعْجِيزَ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ إِذَا اتَّفَقَ الْعَبْدُ وَالسَّيِّدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ. وَقَالَ سحْنُونٌ: لَا بُدَّ مِنَ السُّلْطَانِ، وَهَذَا إِنَّمَا خَافَ أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى تَرْكِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَنَّهَا عَجَزَتْ مَا رُوِيَ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتِكِ فَعَلْتُ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جَمِيعَ كِتَابَتِهَا أَوْ بَعْضَهَا اسْتُحِقَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى مِنَ الْحُقُوقِ إِلَّا مَا وَجَبَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

هذه التأويلات أشبه ما لهم فيها من الدخل ما بينَّاه، وقال ابن المنذر: ولا أعلم حجة لمن قال ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول: لعل بريرة عجزت، قال الشافعي: وأظهر معانيه أن لمالِك المكاتَب بيعه."

لأن عائشة اشترت بريرة، فالدليل يدل على جواز بيع المكاتب، لكن هذا ليس على إطلاقه يباع من أي أحد، كما أنه لا يجوز بيعه لمن يظلمه أو يُخشَى منه أن يستعمله استعمالًا غير شرعي لا يجوز بيعه عليه، فكذلك في مثل هذه الصورة لا يباع على من أراد إعادته إلى الرق، إنما يباع على من أراد عتقه؛ لأن الشرع يتشوف إلى العتق.

"الحادية عشرة: المكاتب إذا أدى كتابته عتق، ولا يحتاج إلى ابتداء عتق من السيد."

يعني يعتق بمجرد سداد نجوم الكتابة، ولا يحتاج أن يُتلفظ بأنه عتق، فلا يقول السيد: أعتقتك وأنت حر بعد ذلك.

" كذلك وَلَدُهُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ، يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهِ وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمَتِهِ بِمَثَابَتِهِ اعْتِبَارًا بِالْحُرِّ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمَا وَلَدٌ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكِتَابَةِ إِلَّا بِشَرْطٍ.

 الثَّانِيَةَ عشرة: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [(33) سورة النــور]."

لكن لو كان وقت الكتابة حملًا، ثم ولد بعد الكتابة، حُمل به قبل الكتابة ثم ولد بعدها، هل تشمله الكتابة أو لا بد من التنصيص عليه؟ لأنه يقول هنا: "كذلك ولده الذين ولدوا في كتابته من أمته، يعتقون بعتقه ويرقون برقه؛ لأن ولد الإنسان من أمته بمثابته اعتبارًا بالحر، وكذلك ولد المكاتبة، فإن كان لهما ولد قبل الكتابة لم يدخل في الكتابة إلا بشرط"، يعني فرق بينما كان قبل الكتابة وبينما كان بعده، ما كان بعده يدخل، وما كان قبله لا يدخل، لكن إذا كان قبله حملًا، هو حمل قبل، وولد بعد الكتابة، فهل العبرة بالحمل به أو العبرة بولادته؟

طالب: إذا عرف.....؟

يعني تبعًا لما تترتب عليه أحكامه هو، وأحكام الحمل إنما تترتب على نفخ الروح، فلا يصلى عليه ولا يغسل ولا يكفن إلا إذا نفخت فيه الروح، وأما أحكام الأم فهي تترتب على تخليقه، إذا ظهر فيه خلق الإنسان، والمراد ما يتعلق به هو من نفخ الروح.

الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[(33) سورة النــور] هَذَا أَمْرٌ لِلسَّادَةِ بِإِعَانَتِهِمْ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ، إِمَّا بِأَنْ يُعْطُوهُمْ شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ- أَعْنِي أَيْدِيَ السادة- أو يحطوا عنهم شيئًا مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ. قَالَ مَالِكٌ: يُوضَعُ عَنِ الْمُكَاتَبِ مِنْ آخِرِ كِتَابَتِهِ. وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ عُمَرَ خَمْسَةَ آلَافٍ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَاسْتَحْسَنَ عَلِيٌّ -رضي الله عنه- أن يكون ذلك ربعَ الكتابة.

قال الزهراوي: روي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ ثُلُثَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: عُشْرُهَا. قال ابْنُ جُبَيْرٍ: يُسْقِطُ عَنْهُ شَيْئًا، وَلَمْ يَحُدَّهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَحْسَنَهُ الثوري. قال الشافعي: والشيء أقل شي يقع عليه اسم شيء."

يعني مثل متعة المرأة المطلقة، مأمور بها لكن لا تحد بشيء، يرجع فيها إلى يسار الزوج وعسره، ومثل هذا في المكاتبة يرجع فيه إلى يسر السيد وعسره.

" وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ السَّيِّدُ وَيَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَى الْوَرَثَةِ إِنْ مَاتَ السَّيِّدُ. وَرَأَى مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هَذَا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وَلَمْ يَرَ لِقَدْرِ الْوَضْعِيَّةِ حَدًّا. احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمُطْلَقِ الأمر في قوله:" وَآتُوهُمْ"، وَرَأَى أَنَّ عَطْفَ الْوَاجِبِ عَلَى النَّدْبِ مَعْلُومٌ فِي الْقُرْآنِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى}[(90) سورة النحل] وما كان مثله.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَكَرَهُ قَبْلَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، جَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْإِيتَاءَ وَاجِبًا، وَالْكِتَابَةَ غَيْرَ وَاجِبَةٍ، فَجَعَلَ الْأَصْلَ غَيْرَ وَاجِبٍ وَالْفَرْعَ وَاجِبًا، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ، فَصَارَتْ دَعْوَى مَحْضَةً. فَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ لَا يَجِبُ فَإِذَا انْعَقَدَ وَجَبَتْ أَحْكَامُهُ، مِنْهَا الْمُتْعَةُ. قُلْنَا: عِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ فَلَا مَعْنَى لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ كَاتَبَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدَهُ وَحَلَفَ أَلَّا يَحُطَّهُ ... ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ."

التنظير المطابق لمثل هذا في النذر، أصل النذر ليس بواجب بل مكروه، ولا يأتي بخير، لكن إذا ثبت لزم ووجب.

قلت: وقد قال الحسن والنخعي وبريدة: إنما الخطاب بقوله: {وَآتُوهُم} لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ فِي أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَى الْمُكَاتَبِينَ، وَأَنْ يُعِينُوهُمْ فِي فِكَاكِ رِقَابِهِمْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّمَا الْخِطَابُ لِلْوُلَاةِ بِأَنْ يُعْطُوا الْمُكَاتَبِينَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ حَظَّهُمْ، وَهُوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ}[(60) سورة التوبة]، وعلى هذين القولين فليس لسيد المكاتب أن يضع شيئًا عن مكاتبه، وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ حَطَّ شي مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ لَقَالَ وَضَعُوا عَنْهُمْ كَذَا."

لقال:.. ماذا؟

الطالب: لقال وضعوا عنهم.

خبر أو أمر؟

الطالب: أمر.

كاتبوهم وضعوا.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ السَّادَةُ فَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ نُجُومِهِ، مُبَادَرَةً إِلَى الْخَيْرِ خَوْفًا أَلَّا يُدْرِكَ آخِرَهَا. وَرَأَى مَالِكٌ -رحمه الله تعالى- وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الْوَضْعُ مِنْ آخِرِ نَجْمٍ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وَضَعَ من أول نجم ربما عجز العبد، فَرَجَعَ هُوَ وَمَالُهُ إِلَى السَّيِّدِ، فَعَادَتْ إِلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَهِيَ شِبْهُ الصَّدَقَةِ. وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الله بن عُمَرَ وَعَلِيٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَتْرُكُ لَهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ."

إذا كاتبه على اثني عشر نجمًا مثلًا، كل نجم ألف، ووضع عنه من كل نجمٍ مائة، صار المجموع ألفًا ومائتين، أو وضع عنه النجم الأول أو النجم الأخير، إن خفف عنه من كل نجمٍ مائة لا شك أن هذا قد يكون أيسر، وإن خفف عنه الأخير لا سيما وأنه في أول الأمر سوف يسعى ويجتهد ويجد في الأشهر الأولى ويحصل النجم كاملًا، وقد يزيد عليه، لكنه في الآخر قد يتراخى فيحتاج إلى مساعدة ومعاونة، يكون في الأخير.

"قال ابن العربي: والأقوى عندي أن يكون في آخرها؛ لأن الإسقاط أبدًا إنما يكون في أخريات الديون."

وفيه حفز للمدين أن يسدد؛ لأنه إذا وُعِد بأن يسقط عنه النجم الأخير حرص على السداد، لكن إذا أسقط عنه النجم الأول تراخى.

"الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْمُكَاتَبُ إِذَا بِيعَ لِلْعِتْقِ رِضًا مِنْهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَقَبَضَ بَائِعُهُ ثَمَنَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، سَوَاءٌ بَاعَهُ لِعِتْقٍ أَوْ لِغَيْرِ عِتْقٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَالسَّيِّدِ يُؤَدِّي إِلَيْهِ مُكَاتَبٌ كِتَابَتَهُ فَيُؤْتِيهِ مِنْهَا، أَوْ يضع عنه من آخره نَجْمًا أَوْ مَا شَاءَ، عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْمُرْ مَوَالِيَ بَرِيرَةَ بِإِعْطَائِهَا مِمَّا قَبَضُوا شَيْئًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَاعُوهَا لِلْعِتْقِ.

الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: صِفَتُهَا أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ، فِي كَذَا وَكَذَا نَجْمًا، إِذَا أَدَّيْتَهُ فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ يَقُولَ لَهُ: أَدِّ إِلَيَّ أَلْفًا فِي عَشَرَةِ أَنْجُمٍ وَأَنْتَ حُرٌّ. فَيَقُولُ الْعَبْدُ: قَدْ قَبِلْتُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَمَتَى أَدَّاهَا عَتَقَ."

لأنها متضمنة للإيجاب والقبول.

" وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْعَبْدُ: كَاتِبْنِي، فَقَالَ السَّيِّدُ: قَدْ فَعَلْتُ، أَوْ قَدْ كَاتَبْتُكَ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَا يَقْتَضِيهِ وَالْحَالُ يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ وَفُرُوعُهُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أُصُولِهِ جُمْلَةً، فِيهَا لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ.

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: فِي مِيرَاثِ الْمُكَاتَبِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أقوال: فمذهب مالك أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا هَلَكَ وَتَرَكَ مَالًا أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ وَلَهُ وَلَدٌ وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ أَوْ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ، وَرِثُوا مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ قَضَاءِ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُمْ كَحُكْمِهِ، وَعَلَيْهِمُ السَّعْيُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ كِتَابَتِهِ لَوْ لَمْ يُخَلِّفْ مَالًا، وَلَا يُعْتَقُونَ إلا بعتقه، ولو أدّى عنهم ما رجع بذلك عليهم؛ لأنهم يعتقون عليه، فهم أولى بميراثه؛ لأنهم مساوون له في جميع حاله."

الكتابة دين من الديون مقدمة على الإرث كما هو معلوم.

"وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤَدّي عَنْهُ مِنْ مَالِهِ جَمِيعَ كِتَابَتِهِ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ حُرًّا، وَيَرِثُهُ جَمِيعُ وَلَدِهِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ حُرًّا قَبْلَ مَوْتِهِ مِنْ وَلَدِهِ ومن كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته؛ لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَوَوْا فِي الْحُرِّيَّةِ كُلُّهُمْ حِينَ تَأَدَّتْ عَنْهُمْ كِتَابَتُهُمْ. رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ جَمِيعَ كِتَابَتِهِ فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا، وَكُلُّ مَا يُخَلِّفُهُ مِنَ الْمَالِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، وَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ، لَا الْأَحْرَارُ وَلَا الَّذِينَ مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ جَمِيعَ كِتَابَتِهِ فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا وَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ، فَلَا يَصِحُّ عِتْقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُعْتَقَ عَبْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَعَلَى وَلَدِهِ الَّذِينَ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ أَوْ وُلِدُوا فِي كِتَابَتِهِ أَنْ يَسْعَوْا فِي بَاقِي الْكِتَابَةِ، وَيَسْقُطَ عَنْهُمْ مِنْهَا قَدْرَ حِصَّتِهِ، فَإِنْ أَدَّوْا عُتِقُوا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا تَبَعًا لِأَبِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدُّوا ذَلِكَ رَقُّوا. هذا قول الشافعي، وبه قال أحمد بن حَنْبَلٍ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ."

إذا مات المكاتب وبقي عليه نصف نجوم الكتابة، وله أولاد إما إن أعتقوا عتقًا لا كتابة وتحرروا، وبقي والدهم مكاتبًا فمات بعد سداد نصف النجوم فهل عليهم أن يؤدوا ليكون حرًّا؟ تتم حريته؟ أو ليس عليهم ذلك ليموت رقيقًا ويكون من مال سيده؛ لأنه ما زال رقيقًا ما دام من نجوم الكتابة شيء باقٍ؟ يلزمهم أو ما يلزمهم؟ يعني: هل هو كالدين العادي؟ يعني لو أن المكاتب مات، هل نقول: إن حكمه حكم المدين؟ بمعنى أنه مرتهن بدينه، ويكفر عنه كل شيء إلا هذا الدين دين الكتابة، أو نقول: هذا عقد إرفاق، ولا يدخل في المعاوضات، ولا يكون حكمه حكم الديون التي قد يكون أخذها تكثرًا؟ لا شك أن هذا في شراء الإنسان نفسه يختلف عن سائر الديون.

قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [(33) سورة النــور] رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَتَانِ إِحْدَاهُمَا تُسَمَّى مُعَاذَةَ وَالْأُخْرَى مُسَيْكَةَ، وَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزنا وَيَضْرِبُهُمَا عَلَيْهِ؛ ابْتِغَاءَ الْأَجْرِ وَكَسْبِ الْوَلَدِ، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى -صلى الله عليه وسلم- فنزلت الآية فيه، وفيمن فعل فعله من المنافقين، ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوجها.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا أُمَيْمَةُ، فَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزنا ، فشكتا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله -عز وجل-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء} إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} رَاجِعٌ إِلَى الْفَتَيَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَتَاةَ إِذَا أَرَادَتِ التَّحَصُّنَ فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ مُكْرِهًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُنْهَى عَنِ الْإِكْرَاهِ. وَإِذَا كَانَتِ الْفَتَاةُ لَا تُرِيدُ التَّحَصُّنَ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ لِلسَّيِّدِ: لَا تُكْرِهْهَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يتصور فيها وهى مريدة للزنا."

إن أردن تحصنًا عن الزنا بهذا الشخص بعينه، أو أردن تحصنًا عن الزنا مطلقًا؟ لأنها قد تريد التحصن عن الزنا بهذا الرجل الذي أكرهت عليه، فيتصور الإكراه لها وهي لا تريد التحصن؛ لأنها تريد الزنا من غيره، فهذا وصف حينئذٍ كاشف لا مفهوم له، وحينئذٍ لا تكره على الزنا مطلقًا، إن أرادت التحصن أو لا تريد التحصن.

"فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه، وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي فَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِرَادَةَ التَّحَصُّنِ مِنَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ الْإِكْرَاهَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ هِيَ رَاغِبَةً فِي الزنى لَمْ يُتَصَوَّرْ إِكْرَاهٌ، فَحَصّلُوهُ. وَذَهَبَ هَذَا النَّظَرُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} راجع إلى الأيامى، قال الزجاج والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير: أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم، إن أردن تحصنًا، وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: {إِنْ أَرَدْنَ} ملغى، ونحو ذلك مما يضعف، والله الموفق.

قوله تعالى: {لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [(33) سورة النــور] أي الشيء الذي تكسبه الأمة بفرجها، والولد ليسترقَّ فيباع، وقيل: كان الزاني يفتدي ولده من المزني بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها.

قوله تعالى: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ} أي يقهرهن، {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ} لهن، {رَّحِيمٌ} بهن، وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير: لهنَّ غفور، بزيادة لهن."

في كلام أبي حيان في البحر المحيط ما يفهم منه أن المغفرة هذه، فإن الله من بعد إكراههن غفور لهم، للمكرهين، رحيم بهم، لكن هذا مشروط بالتوبة، أما إذا أكرهوا فعليهم العذاب لا الرحمة ولا المغفرة، عليهم هذا الوعد.

وقد مضى الكلام في الإكراه في النحل، والحمد لله. ثم عَدَّدَ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعَمَهُ فِيمَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْمُنِيرَاتِ وَفِيهَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنْ أَمْثَالِ الْمَاضِينَ مِنَ الْأُمَمِ لِيَقَعَ التَّحَفُّظُ مما وقع أولئك فيه.

 اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.

طالب: العبد إذا أراد أن يسدد ما بقي عليه من النجوم دفعة واحدة له ذلك؟

له ذلك؛ لأن التنجيم من مصلحته، فإذا تنازل فالأمر لا يعدوه.

"