التعليق على تفسير القرطبي - سورة هود (06)

قال الإمام القرطبي- رحمه الله تعالى-:

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} " الَّذِينَ " اسْمُ إِنَّ، وَ" آمَنُوا" صِلَةٌ، أَيْ صَدَّقُوا. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَتُوا أَنَابُوا. قال مُجَاهِدٌ: أَطَاعُوا. قال قَتَادَةُ: خَشَعُوا وَخَضَعُوا. قال مُقَاتِلٌ: أَخْلَصُوا. قال الْحَسَنُ: الْإِخْبَاتُ الْخُشُوعُ لِلْمَخَافَةِ الثَّابِتَةِ فِي الْقَلْبِ، وَأَصْلُ الْإِخْبَاتِ الِاسْتِوَاءُ، مِنَ الْخَبْتِ، وَهُوَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْوَاسِعَةُ، فَالْإِخْبَاتُ الْخُشُوعُ وَالِاطْمِئْنَانُ، أَوِ الْإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُسْتَمِرَّةُ ذَلِكَ عَلَى اسْتِوَاءٍ.

 {إِلَى رَبِّهِمْ} قَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَى رَبِّهِمْ وَلِرَبِّهِمْ وَاحِدٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَجَّهُوا إِخْبَاتَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ. " أُولَئِكَ" خَبَرُ إِنَّ".

بسم الله الرحمن الرحيم.

 اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.

 يقول المفسر -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} معروف المراد بالإيمان وأنه في أصل اللغة التصديق، وفي الشرع زاد على هذه الحقيقة قيودًا على مجرد التصديق باللسان، اعتقاد بالجنان والعمل بالأركان، وهو اسم إن. و"آمَنُوا" صلة الموصول، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} صلة المعطوف، وعطف العمل على الإيمان الشرعي، للاهتمام به والعناية بشأنه، وَأَخْبَتُوا" معطوف على الذين عملوا الصالحات، وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ" جاء في تفسير المخبتين {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الحج: 34- 35] ، وخير ما يفسر به كلام الله كلامه، أولى وجوه التفسير تفسير القرآن بالقرآن، وهذا منه، فهذه من أوصاف المخبتين وجل القلب، والخوف، عند ذكر الله سبحانه وتعالى، ذكر أسمائه وصفاته، وآلائه، أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده تجل القلوب، تفزع إليه مع إقامة بقية شرائع الدين.

 الإخبات منزلة مما ذكره ابن القيم في مدارج السالكين، من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5]، وهي منزلة رفيعة، منه من يقول: هي التواضع، مأخوذة من الخبت وهي الأرض المنخفضة هنا يقول: الأرض المستوية، هناك قال: الأرض المنخفضة، فكون الإنسان يخفض جناحه ويتواضع فهو مخبت، خاشعٌ لله سبحانه وتعالى خاضعٌ له.

 لو رأيتِ أخاكِ ببطن خبتٍ

طالب:.......

ببطن خبت، هنا أرض منخفضة وهنا يقول: وَأَصْلُ الْإِخْبَاتِ الِاسْتِوَاءُ، مِنَ الْخَبْتِ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْوَاسِعَةُ. وعلى كلِّ الإخبات يطلق على هذا، ويطلق على ذاك، كله موجود في كتب اللغة، فالإخبات الخشوع والاطمئنان، الاطمئنان إلى الله وبذكر الله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28]، وأخذ الإخبات من السعة، يعني ظاهر، تتسع الصدور والقلوب إلى ما جاء عن الله سبحانه وتعالى من أجل قبوله والعمل به، والانقياد إليه. {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.

ثم قال: أَوِ الْإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، الإنابة: الرجعة، الرجوع إلى الله، فالمنيب هو الراجع إلى الله –سبحانه وتعالى- الإنابة إلى الله –عز وجل- المستمرة ذلك على استواء، يعني حياته على وتيرة واحدة، ليس يومًا كذا، ويومًا كذا فيها اضطراب، لا، بل هو مستمر على تلك الإنابة.

 إلى ربهم، قال: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَى رَبِّهِمْ، وَلِرَبِّهِمْ وَاحِدٌ، يعني سواء عُدي بإلى أو باللام فالمعنى واحد، فهنا إلى بمعنى اللام، ولو ضمن الفعل فعلًا يتعدى بإلى بدلًا من أن يضمن الحرف على ما اختاره شيخ الإسلام- رحمه الله-، فضمن الفعل معنى فعل يتعدى إلى، وقد يكون المعنى وجهوا إخباتهم إلى ربهم.

 أولئك خبر إن، إلى آخره، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. هذا خبر إن.

 "قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} ابْتِدَاءٌ، وَالْخَبَرُ "كَالْأَعْمَى" وَمَا بَعْدَهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ كَمَثَلِ الْأَعْمَى. النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ مَثَلُ فَرِيقِ الْكَافِرِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ، وَمَثَلُ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِ كَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} فَرَدَّ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَهُمَا اثْنَانِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَعْمَى وَالْأَصَمُّ مَثَلٌ لِلْكَافِرِ، وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ مَثَلٌ لِلْمُؤْمِنِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ؟ وَهَلْ يَسْتَوِي الْأَصَمُّ وَالسَّمِيعُ؟ "مَثَلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فِي الْوَصْفَيْنِ وَتَنْظُرُونَ".

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} فريق من آمن بالله، وفريق من كفر به، كالأعمى والبصير، وكالأصم والسميع، تقرير مثل الكافر كالأعمى والأصم، ومثل الفريق المؤمن كالسميع والبصير، وجاء وصف الكفار بأنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}[البقرة:18]، لماذا؟

 لأنهم وإن كانت لهم أعين، لكنهم لا يبصرون بها الحق، ولهم آذان، لكن لا يسمعون بها الحق، لهم قلوب، لكنهم لا يفقهون ولا يعقلون بها، ولهذا قال: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} يعني هذا الفريق مع ذلك الفريق، فهما اثنان، وإن تعددت ألفاظ كل فريق، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}[الحجرات:9] الطائفة جمع، فرد الضمير إلى الاثنين، وإن كان أفراد كل طائفة جمعًا.

 قَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَعْمَى وَالْأَصَمُّ مَثَلٌ لِلْكَافِرِ، وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ مَثَلٌ لِلْمُؤْمِنِ، وهذا ظاهر، وَقِيلَ: الْمَعْنَى هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ؟ وَهَلْ يَسْتَوِي الْأَصَمُّ وَالسَّمِيعُ؟ ما فيه أحد يقول: نعم، فالجواب: لا يستويان،  وهذا على سبيل المثال، مثلًا، وإن أقررتم بذلك فعليكم أن تقروا بأنه لا يستوي المؤمن مع الكافر.

 مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيز، في بعض النسخ: على التفسير، ومر مرارًا تسمية التمييز تفسيرًا، وهذا اصطلاح متقدم، يعني يأتي مثله في كتاب سيبويه، التعبير عن التمييز بالتفسير، يأتي في تفسير الطبري، وغيرهما من كتب المتقدمين يقولون: منصوبٌ على التفسير، المراد به التمييز، فلابد من معرفة اصطلاحهم؛ لأن الذي لا يعرف إطلاقاتهم للألفاظ يتعثر في فهم مرادهم.

 {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فِي الْوَصْفَيْنِ، وَتَنْظُرُونَ نظرًا يفيدكم، وينفعكم، فترجعوا من غيكم وضلالكم؟

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

كيف؟

طالب:.........

لا، ما يلزم، ما فيه عطف خاص على عام؟ ما يجيء؟ وعطف عام على خاص؟

طالب:.........

نعم؛ للاهتمام به والعناية بشأنه.

طالب:.........

نعم، للاهتمام به والعناية بشأنه.

طالب:.........

لكنه داخل مسمى الإيمان وهو جزء منه.

نعم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى مُلَازَمَةِ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ إِلَى أَنْ يَكْفِيَهُ اللَّهُ أَمْرَهُمْ".

تسلية للنبي -عليه الصلاة والسلام-، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف:9] لست بالرسول المبتدع، بل شأنك شأنهم، تدعو إلى ما يدعون إليه، وتؤذى مثلما يؤذون، فذكر له الله سبحانه وتعالى هذه القصص؛ تسلية له -عليه الصلاة والسلام-.

"{إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أَيْ فَقَالَ: إِنِّي؛ لِأَنَّ فِي الْإِرْسَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ".

تحذف قال كثيرًا من السياق إذا دل عليها الكلام، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ}[آل عمران:106]، يعني يقال لهم: أكفرتم؟

"وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: "أَنِّي" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ أَرْسَلْنَاهُ بِأَنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَلَمْ يَقُلْ: "إِنَّهُ "؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى خِطَابِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ، كَمَا قَالَ: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، ثُمَّ قَالَ: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ}.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أَيِ اتْرُكُوا الْأَصْنَامَ فَلَا تَعْبُدُوهَا، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَحْدَهُ. وَمَنْ قَرَأَ "إِنِّي" بِالْكَسْرِ جَعَلَهُ مُعْتَرِضًا فِي الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى أَرْسَلْنَاهُ بِأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}".

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} هذا مقول قول نوح، وهذه خلاصة دعوته، تفصيلها {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، يعني إن عبدتم غيره، إن عبدتم سواه، فـ{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، وهذا الخوف محقق إن عبدوا غيره، وقبل وقوعه يبقى على أصله، قبل وقوع العبادة؛ لأنه يخاف عليهم إن ظلوا بهذا القيد، وعبدوا غيره، ولم يقل إنه، يقول: لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح قومه، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ} هذا غائب، "قومه إني لكم: يعني خاطبهم، لكن إذا قلنا: إن {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} من قول الله سبحانه وتعالى، وقول: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} من قول الله سبحانه  وتعالى على لسان نوح، يعني قال لهم نوح: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} هذا فيه التفات أم ما فيه التفات؟

طالب:......... 

هذا قائل، وهذا قائل، ليس القائل واحدًا فيكون التفتًا من خطاب إلى خطاب، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} هذا من قول الله سبحانه وتعالى، فقال لهم نوح: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} إذا كان المتكلم واحدًا، على لسان واحد، فجاء بالخطاب بعد الغيب صار فيه التفات، ولذا قال ابن عطية: وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبته لقومه، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، يعني لو كان الكلام على وتيرة واحدة، كلام المتكلم واحدًا، صار فيه التفات، لكن  لما اختلف المتكلم، في الجملة الأولى الله سبحانه وتعالى ذكر أنه أرسل نوحًا إلى قومه، ثم واجههم نوح، هذا ليس من كلامه، الأول ليس من كلام نوح، ثم واجههم نوح بقوله: {إِنِّي لَكُمْ}، لما أرسل ذهب إليهم فقال لهم: {إِنِّي لَكُمْ}، فيه التفات؟ ما فيه التفات، {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} كله خطاب نوح لقومه مواجهة، مباشرة.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}. فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلَأُ} قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: الْمَلَأُ الرُّؤَسَاءُ أَيْ هُمْ مَلِيئُونَ بِمَا يَقُولُونَ".

هم علية القوم، في الغالب هم أهل الكبر، قال الملأ الذين استكبروا من قومه، في الغالب هم علية القوم الذين يرون أنفسهم ويستكبرون، ويأنفون من قبول الحق.

"وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي " الْبَقَرَةِ " وَغَيْرِهَا".

طالب:.........

في قوله تعالى: {ألم تر إلى الملأ}؟

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

يقتسم أم أين؟ هذه بالبقرة؟

طالب:.........

لا لا الكلام في البقرة.

طالب:.........

المهم أنهم العلية سواء كانوا بحق أو بباطل.

طالب:.........

يعني واثقون من كلامهم، كلامهم فيه قوة وثبات؛ نظرًا لتجبرهم واستكبارهم، وتغطرسهم؛ لأن المتكبر يتكلم بملء فيه، بخلاف المستكين المتواضع الذي يخاف ويوجل.

 "{مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} أَيْ آدَمِيًّا. "مِثْلَنَا " نُصِبَ عَلَى الْحَالِ . وَ"مِثْلَنَا" مُضَافٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ يُقَدَّرُ فِيهِ التَّنْوِينُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

يَا رُبَّ مِثْلِكِ فِي النِّسَاءِ غَرِيرَةٌ".

يقول: مثلنا مضاف إلى معرفة، هل يجوز أن يأتي الحال معرفة، أم لابد أن يكون نكرة؟

يأتي الحال معرفة؟

طالب:.......

كيف؟

طالب:.........

الحال لا يأتي إلا نكرة.

             والحال إن عرف لفظًا فاعتقد         تنكيره معنىً كوحدك اجتهد.

لابد أتموا الصف الأول فالأول، يعني مرتبين، لابد من التأويل في مثل هذا.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أَرَاذِلُ جَمْعُ أَرْذُلٍ، وَأَرْذُلٌ جَمْعُ رَذْلٍ مِثْلُ كَلْبٍ وَأَكْلُبٍ وَأَكَالِبَ. وَقِيلَ: وَالْأَرَاذِلُ جَمْعُ الْأَرْذَلِ، كَأَسَاوِدَ جَمْعُ الْأَسْوَدِ مِنَ الْحَيَّاتِ. وَالرَّذْلُ النَّذْلُ، أَرَادُوا اتَّبَعَكَ أَخِسَّاؤُنَا وَسَقَطُنَا وَسَفِلَتُنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: نَسَبُوهُمْ إِلَى الْحِيَاكَةِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الصِّنَاعَاتِ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الدِّيَانَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْأَرَاذِلُ هُمُ الْفُقَرَاءُ، وَالَّذِينَ لَا حَسَبَ لَهُمْ، وَالْخَسِيسُو الصِّنَاعَاتِ.

وهم أتباع الأنبياء، كما في حديث أبي سفيان في قصة هرقل: هم أتباع الأنبياء؛ لأن أشراف الناس وسادتهم يتكبرون، ويأنفون من قبول الحق لأول وهلة، لأول وهلة يستنكف ويستكبر، وهذا عام شامل، غالب الناس وعلى كافة المستويات، تجد  من عنده شيء من العلم إذا سأل لا يقنع بسرعة، علك أن توافقه فيما عنده بينما العامي تعطيه الحكم ويمشي، كبير القوم إذا أردت أن تبدي له وجهة نظر ناقشك وأتعبك، وإن أذعن في الأخير؛ لأن عنده شيئًا يعتد به ويرجع إليه، وإن كان في أول الأمر يجادل وينازع، ويعرف أن الحق مع غيره، لكن قبول الحق لأول وهلة ممن عنده شيء من هذا النوع من الكبر بقبول الحق والإذعان إليه فيه ما فيه، موجود، ولذا كان غالب أتباع الأنبياء هم غير أشراف الناس، هذا في الغالب، ولا يرد على هذا مثل أبي بكر وعمر، كبار الصحابة الذين تبعوا النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنهم ندرة، ولذا لما سأل هرقل أبا سفيان: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، ضعفاء الناس هم أتباع الأنبياء؛ لأنه في الغالب ما عنده شيء يخشى عليه، ولذا لما ركن الناس إلى الدنيا صار لهم شيء يؤولون إليه، ويخافون عليه، ويحوطونه بعنياتاهم صعب عليهم الجهاد، لذا جاء الربط بين ترك الجهاد مع الزرع، اتباع أذناب البقر، والله المستعان.

"وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّهُمْ كَانُوا حَاكَةً وَحَجَّامِينَ».

طالب:.........

من الإسرائيليات.

 "وَكَانَ هَذَا جَهْلًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَابُوا نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا لَا عَيْبَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- إِنَّمَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ تَغْيِيرُ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ، وَهُمْ يُرْسَلُونَ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا، فَإِذَا أَسْلَمَ مِنْهُمُ الدَّنِيءُ لَمْ يَلْحَقْهُمْ مِنْ ذَلِكَ نُقْصَانُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْبَلُوا إِسْلَامَ كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ.

قُلْتُ: الْأَرَاذِلُ هُنَا هُمُ الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَقَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِاسْتِيلَاءِ الرِّيَاسَةِ عَلَى الْأَشْرَافِ، وَصُعُوبَةِ الِانْفِكَاكِ عَنْهَا، وَالْأَنَفَةِ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْغَيْرِ".

نعم؛ لأنهم قبل الانقياد والإذعان لقبول الحق كان هناك تمايز بينهم وطبقات، كلٌّ يرى نفسه في موقع لائق به، لكن إذا أذعنوا للحق وقبلوه فهم سواسية، لا فرق بينهم، وقد يكون الفقير الذي لا حسب له ولا نسب ولا مال بالتقوى أرفع من ذلك الشريف الذي لديه الحسب والنسب والمال، والقوة.

"وَالْفَقِيرُ خَلِيٌّ عَنْ تِلْكَ الْمَوَانِعِ، فَهُوَ سَرِيعٌ إِلَى الْإِجَابَةِ وَالِانْقِيَادِ. وَهَذَا غَالِبُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا.

الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ السَّفِلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ؛ فَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ السَّفِلَةَ هُمُ الَّذِينَ يَتَقَلَّسُونَ، وَيَأْتُونَ أَبْوَابَ الْقُضَاةِ وَالسَّلَاطِينِ يَطْلُبُونَ الشَّهَادَاتِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: السَّفِلَةُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِدِينِهِمْ، قِيلَ لَهُ: فَمَنْ سَفِلَةُ السَّفِلَةِ؟ قَالَ: الَّذِي يُصْلِحُ دُنْيَا غَيْرِهِ بِفَسَادِ دِينِهِ".

نعم، السفلة هؤلاء الذين هم الطبقة السفلى من القوم، هم الذين يبقون الدنيا بالدين، وتحتهم طبقة هم خلاصتهم الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه، يعني الذي يأكل الدنيا بالدين في الظاهر مستفيد دنيا، لكن الذي يفسد دينه بدنيا غيره، هذا نقصان، نسأل الله العافية، في العقل وفي الدين.

"وَسُئِلَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ السَّفِلَةِ فَقَالَ: الَّذِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا غَلَبُوا، وَإِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يُعْرَفُوا. وَقِيلَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: مَنِ السَّفِلَةُ؟ قَالَ: الَّذِي يَسُبُّ الصَّحَابَةَ".

 

لا شك؛ لأن الذي يسب الرفيع من أجل رفعته فهو وضيع، من سب الرفيع فهو وضيع، ولو كان رفيعًا لترفَّع عن سب الرفيع، والصحابة أرفع الأمة وأعلاها قدرًا، فالذي يسبهم في الطرف المقابل هم السفلة.

"وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الْأَرْذَلُونَ الْحَاكَةُ وَالْحَجَّامُونَ. وقال يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: الدَّبَّاغُ وَالْكَنَّاسُ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ".

الْأَرْذَلُونَ الْحَاكَةُ وَالْحَجَّامُونَ. هذه نظرة أرباب الدنيا، الحاكة والحجامون، نعم جاء في الحديث الصحيح: «كسب الحجام خبيث» لكن الرسول احتجم، وأعطى الحجام، فأقر الحجامة، والبحث عما يقيم حياة الإنسان ويعفه عن الناس، ولو كانت المهنة يدوية، يباشرها الإنسان بنفسه، فعليه أن لا يستنكف من هذه المهنة، نعم عليه أن يختار المهنة المناسبة بقدر الإمكان، لكن إن لم يتيسر له إلا ذلك، وخير من سؤال الناس، قول يحيى بن أكثم: الدباغ والكناس إذا كان من غير العرب، هؤلاء هم السفلة، إذا كان من غير العرب دباغ وكناس، طيب إذا كان من العرب؟

الظاهر أنه أولى على اصطلاحهم هم من حيث وجهة نظرهم، يعني هل الشريف يؤثر في المهنة شرف؟ هذا إذا قلنا: إن العرب أشرف من غيرهم، يعني ترتفع المهنة بهذا الرجل؟ بدلًا من أن تكون وضيعة تكون شريفة، على هذا يستمر إذا كان الدباغ والكناس من غير العرب يصير سفلى، هذا الكلام لا قيمة له، الكناس والدباغ هذه المهن تعف الإنسان وتغنيه عن غيره، وتصون ماء وجهه وإن كان فيها ما فيها من وجهة نظر الناس.

"الرَّابِعَةُ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: يَا سَفِلَةُ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ مِنْهُمْ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى التِّرْمِذِيِّ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي قَالَتْ لِي: يَا سَفِلَةُ، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتُ سَفِلَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَا صِنَاعَتُكَ؟ قَالَ: سَمَّاكٌ، قَالَ: سَفِلَةٌ وَاللَّهِ، سَفِلَةٌ وَاللَّهِ سَفِلَةٌ. قُلْتُ: وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ".

السماك مهنة وضيعة؟ سواء كان الذي يصيد السمك، أو يبيع السمك، على قول ابن المبارك السابق لما ذكره عن سفيان لا تطلق؛ لأن المهن مهما بلغت من الضعف في أعين الناس إلا أنها تصون الإنسان، تحميه من تكفف الناس، فلا تطلق.

"قُلْتُ: وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ. عَنْ سُفْيَانَ لَا تُطَلَّقُ، وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ، وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.

 قوله: {بَادِيَ الرَّأْيِ} أَيْ ظَاهِرَ الرَّأْيِ".

طالب:.......

نعم.

طالب:.........

الذي يغلب على الظن أنه الحكيم. ما دام الناقل النقاش يغلب على الظن أنه الحكيم.

"بَادِيَ الرَّأْيِ أَيْ ظَاهِرَ الرَّأْيِ، وَبَاطِنُهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. يُقَالُ: بَدَا يَبْدُو. إِذَا ظَهَرَ، كَمَا قَالَ:

فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ"

بادي الرأي يعني اقتنعوا بمجرد ما سمعوا، مجرد ما ظهرت لهم هذه الدعوة اتبعوا، الذين ينظرون إلى بواطن الأمور وخفاياها ما اتبعوا، هذا مقتضى كلامه، ولذا قال: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} يعني مباشرة يتبعون من غير نظر ولا روية ولا تذكر، لكن أهل الروية والتذكر ما اتبعوك.

"وَيُقَالُ لِلْبَرِيَّةِ: بَادِيَةٌ؛ لِظُهُورِهَا. وَبَدَا لِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا، أَيْ ظَهَرَ لِي رَأْيٌ غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ فِيمَا يَبْدُو لَنَا مِنَ الرَّأْيِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ بَدَأَ يَبْدَأُ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ، وَحَقَّقَ أَبُو عَمْرٍو الْهَمْزَةَ فَقَرَأَ: "بَادِئَ الرَّأْيِ " أَيْ أَوَّلَ الرَّأْيِ، أَيِ اتَّبَعُوكَ حِينَ ابْتَدَءُوا يَنْظُرُونَ، وَلَوْ أَمْعَنُوا النَّظَرَ وَالْفِكْرَ لَمْ يَتَّبِعُوكَ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى هَاهُنَا بِالْهَمْزِ وَتَرْكِ الْهَمْزِ. وَانْتَصَبَ عَلَى حَذْفِ "فِي" كَمَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ}".

يعني من قومه، فانتصب لما حذف الجار؟

"{وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أَيْ فِي اتِّبَاعِهِ، وَهَذَا جَحْدٌ مِنْهُمْ لِنُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

{بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} الْخِطَابُ لِنُوحٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ".

إذا كذب التابع فالمتبوع من باب أولى؛ لأن رأيه من رأي متبوعه.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أَيْ عَلَى يَقِينٍ، قَالَهُ أَبُو عِمْرَانَ الْجُوْنِيُّ".

الجَوني.

طالب: ضمة.

الجَوني.

طالب:.........

شف الترجمة.

طالب:.........

ما ذكر اسمه؟

طالب: ذكره...

نعم. الجوني.

" قَالَهُ أَبُو عِمْرَانَ الْجُوْنِيُّ، وَقِيلَ: عَلَى مُعْجِزَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْأَنْعَامِ" هَذَا الْمَعْنَى، {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أَيْ نُبُوَّةً وَرِسَالَةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ رَحْمَةٌ عَلَى الْخَلْقِ. وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ إِلَى اللَّهِ بِالْبَرَاهِينِ. وَقِيلَ: بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أَيْ عُمِّيَتْ عَلَيْكُمُ الرِّسَالَةُ وَالْهِدَايَةُ فَلَمْ تَفْهَمُوهَا. يُقَالُ: عَمِيتُ عَنْ كَذَا، وَعَمِيَ عَلَيَّ كَذَا أَيْ لَمْ أَفْهَمْهُ. وَالْمَعْنَى: فَعَمِيَتِ الرَّحْمَةُ، فَقِيلَ: هُوَ مَقْلُوبٌ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ لَا تَعْمَى إِنَّمَا يُعْمَى عَنْهَا؛ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَدْخَلْتُ فِي الْقَلَنْسُوَةِ رَأْسِي".

مقتضى السياق أن يقول: أدخلتُ القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخف في رجلي، أما أدخل رأسه في القلنسوة فصحيح، ما فيه قلب، أدخلت القلنسوة في رأسي.

"وَدَخَلَ الْخُفُّ فِي رِجْلِي".

خرق الثوب المسمار.

طالب:......

ماذا؟

طالب:.........

الخف صحيح نعم، أدخلت الخف في رجلي، مقتضاه أن يكون فتح الرجل وأدخل الخف فيها، كما أن مقتضى العبارة الأولى أدخلت القلنسوة في رأسي يعني في جوف رأسي، مع أن المراد أدخلت رأسي في القلنسوة، وأدخلت رجلي في الخف.

" وَقَرَأَهَا الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَعُمِّيَتْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ فَعَمَّاهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَكَذَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فَعَمَّاهَا ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيُّ.

 {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} قِيلَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: الْهَاءُ تَرْجِعُ إِلَى الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: إِلَى الْبَيِّنَةِ، أَيْ أَنُلْزِمُكُمْ قَبُولَهَا، وَأُوجِبُهَا عَلَيْكُمْ؟! وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَضْطَرَّكُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَإِنَّمَا قَصَدَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ –".

لأنه لو استطاع أن يلزم أحدًا لألزم ابنه، وامرأته، لكن ليس عليك إلا البلاغ.

" بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: أَنُلْزِمْكُمُوهَا بِإِسْكَانِ الْمِيمِ الْأُولَى تَخْفِيفًا، وَقَدْ أَجَازَ مِثْلَ هَذَا سِيبَوَيْهِ، وَأَنْشَدَ:

فَالْيَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ           إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ

وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ يُونُسَ".

لأنه نذر، حلف أن لا يشرب الخمر حتى يأخذ ثأره من قاتل أبيه، فلما وفَّى بنذره شرب، الآن طاب له وآن له أن يشرب، نعوذ بالله.

 "وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ يُونُسَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ: أَنُلْزِمُكُمُهَا، يَجْرِي الْمُضْمَرُ مَجْرَى الْمُظْهَرِ، كَمَا تَقُولُ: أَنُلْزِمُكُمْ ذَلِكَ، {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أَيْ لَا يَصِحُّ قَبُولُكُمْ لَهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ عَلَيْهَا. قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ لَوِ اسْتَطَاعَ نَبِيُّ اللَّهِ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَأَلْزَمَهَا قَوْمَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ".

هذا معروف، يعني نصح الأنبياء لقومهم أمرٌ معروف ومتواتر ومستفيض، لا يحتاج إلى برهان، بل حرصهم شديد على أن يؤمن القوم، أنتم من أقوامهم، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}[الكهف:6].

 المقصود أنه لو استطاع أن يلزم لألزم، وهناك وجوه في مقدوره أن يلزم بها، كالجهاد مثلًا، هذا وجه إلزام، الجهاد إلزام، لكن لعله في شريعته لم يشرع، لكن ومع الجهاد يعرض عليهم بدائل، إن كانوا من أهل الجزية، والجزية أيضًا نوع من الإلزام، ونوع من الضغط، وهذا كله من باب الحرص على إيمان من بُعث إليهم الرسول، لكن لا يملك القلوب إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستطيع أحد أن يؤثر إلا الله سبحانه وتعالى، فهو مصرف القلوب.

 

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أَيْ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ {أَجْرًا} أَيْ مَالًا فَيَثْقُلُ عَلَيْكُمْ. {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} أَيْ ثَوَابِي فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو} سَأَلُوهُ أَنْ يَطْرُدَ الْأَرَاذِلَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، كَمَا سَأَلَتْ قُرَيْشٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَطْرُدَ الْمَوَالِيَ وَالْفُقَرَاءَ، حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي "الْأَنْعَامِ" بَيَانُهُ  فَأَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِعْظَامِ لَهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَام، أَيْ لَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَخَاصَمُونِي عِنْدَ اللَّهِ، فَيُجَازِيهِمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَيُجَازِي مَنْ طَرَدَهُمْ. وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ فِي اسْتِرْذَالِكُمْ لَهُمْ، وَسُؤَالِكُمْ طَرْدَهُمْ".

 

نعم، طرد الذين آمنوا؛ لضعفهم، وفقرهم، ليس بوارد، بل مجرد الميل إلى الأغنياء دون الفقراء، جاء العتاب عليه، {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى}[عبس: 1-2]، قد يقول قائل: إن مصلحة الدعوة مثلًا أن تعتني بفئة دون فئة، وأنه إذا أسلم هذا، أو آمن هذا، أو اهتدى هذا يهتدي بهدايته آخرون، لكن كلٌّ له نصيبه من الهداية، فلا يقدم أحد، ولا تدري لعل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا الذي هو في نظرك أقل مستوى، أقل تأثيرًا في قومه أكثر من ذاك، ما يدريك؟ عليك أن تسعى لهداية البشر والخلق كلهم، «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم»، ما تقدم أحدًا على أحد تقول: إذا هداه الله نفع الله به، تقدير المصالح في مثل هذا، لله سبحانه وتعالى، وأما طردهم فليس بوارد إطلاقًا، ولا يجوز الإعراض عنهم.

طالب:.........

نعم، لكن ليس على حساب غيره.

طالب:.........

لا لا، لا يجوز أن يهمل الفقير أبدًا، بل له نصيب من الدعوة. ولذا جاء العتاب {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى}[عبس: 1-2].

طالب:.........

لا لا، لا يهملون، لكن ليس على حساب غيرهم، لكن لا تدري مستقبلًا هل يكون النفع على يد هذا أو ذاك.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِهِ. "إِنْ طَرَدْتُهُمْ" أَيْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ. {أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ . وَيَجُوزُ حَذْفُهَا فَتَقُولُ: تَذَكَّرُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أَخْبَرَ بِتَذَلُّلِهِ وَتَوَاضُعِهِ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-". وَأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ مِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ؛ وَهِيَ إِنْعَامُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -.

ولا أقول لكم عندي خزائن الله، أستطيع أن أوسع عليكم في أمور دنياكم بشيء لم يرده الله لكم، لا، خزائن الله عنده، وهي ملآى لا تغيضها نفقة، لكن الله يبتلي بالشدة، كما يبتلي بالرخاء، فخزائنه بيده، وأيضًا لا أعلم الغيب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله –عز وجل-، غيب لا يعلمه إلا الله –سبحانه وتعالى-.

 وبعض أفراد المغيبات قد يطلع الله سبحانه وتعالى بعض البشر من الأنبياء بوحي، فيعرفونه بتعريف الله سبحانه وتعالى إياه، وإلا فالأصل أن غير الله سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب، لا يعلم الغيب إلا الله –عز وجل-، فالذين يدعون أن النبي- عليه الصلاة والسلام- يعلم الغيب أو غيره كمن يدعي في الأئمة أنهم يعلمون الغيب، ومن يدعي أن الأولياء يعلمون الغيب، يصرفون الكون، يعرفون حاجات الناس، هذا كله -نسأل الله العافية- من الكفر الأكبر، كفر أعظم، فلا يعلم الغيب إلا الله –سبحانه وتعالى-. ولو كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعلم من الغيب شيئًا لما حبس الناس من أجل العقد الذي هو تحت الراحلة، حبسهم على غير ماء، والعقد تحت الراحلة، لو كان يعلم الغيب {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}[الأعراف:188]، الله المستعان.

"وَأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ مِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ، وَهِيَ إِنْعَامُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -. {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أَيْ لَا أَقُولُ إِنَّ مَنْزِلَتِي عِنْدَ النَّاسِ مَنْزِلَةُ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ: الْفَائِدَةُ فِي الْكَلَامِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنّ َالْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِدَوَامِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَاتِّصَالِ عِبَادَاتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي "الْبَقَرَةِ ".

مسألة المفاضلة بين الأنبياء والبشر مسألة خلافية بين أهل العلم، ولكلٍّ قول أدلته، ولكن المرجح أن الأنبياء أفضل من الملائكة، ومن سواهم من البشر كل على منزلته، فالملائكة باعتبارهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، من هذه الحيثية أفضل بلا شك، والبشر باعتبار أنهم ركبت فيهم الغرائز، الملائكة سلبت منهم الغرائز، فلا يعصون، وطاعتهم بمنزلة النفس، أما البشر فركبت فيهم الغرائز، فمن حفظ هذه الغرائز، ولم يعص الله –سبحانه وتعالى- لا شك أنه أفضل من الملائكة، لكن من عصى لا.

فهي مسألة خلافية بين أهل العلم، وأما المفاضلة بين الأنبياء والملائكة، فالأنبياء هم أفضل عند جمهور العلماء.

طالب:.........

نعم.

 طالب:.........

لكن لها أدلتها، {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}، {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف: 20] يعني ترتقيان من مرتبة البشر؛ خشية من ارتقائكما إلى الملائكة، هذه حجة من يفضل الملائكة.

طالب:.........

هي ما لها فائدة عملية لكن الخلاف ينبني على الأدلة، والأدلة موجودة، والاستنباط بابه مفتوح، {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، قد يستنبط من آية حكم لم يستنبطه السابقون، ليس هناك مانع.

"{وَلَا أَقُولُ للَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} أَيْ تَسْتَثْقِلُ وَتَحْتَقِرُ أَعْيُنُكُمْ، وَالْأَصْلُ تَزْدَرِيهِمْ حُذِفَتِ الْهَاءُ وَالْمِيمُ لِطُولِ الِاسْمِ. وَالدَّالُّ مُبْدَلَةٌ مِنْ تَاءٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَزْدَرِي تَزْتَرِي".

تذدريه، العائد في الصلة والموصول متى يحذف؟ إن يستطل فالحذف نذرٌ، المقصود أن لطول الصلة حذف العائد، وقد يحذف للعلم به، أو لمراعاة السياق مثلاً، يشرب مما تشربون يعني منه.

"لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَزْدَرِي تَزْتَرِي".

يعني تاء الافتعال تقلب عند الثقل، ثقل الكلمة.

"وَلَكِنَّ التَّاءَ تُبَدَّلُ بَعْدَ الزَّايِ دَالًا؛ لِأَنَّ الزَّايَ مَجْهُورَةٌ وَالتَّاءُ مَهْمُوسَةٌ، فَأُبْدِلَ مِنَ التَّاءِ حَرْفٌ مَجْهُورٌ مِنْ مَخْرَجِهَا. وَيُقَالُ: أَزْرَيْتُ عَلَيْهِ إِذَا عِبْتُهُ. وَزَرَيْتُ عَلَيْهِ إِذَا حَقَّرْتُهُ".

لكن لو جاء بأي، أزريتُ عليه أي عبتُه، أما إذا جاء بإذا فيفتح.

"وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:

              يُبَاعِدُهُ الصَّدِيقُ وَتَزْدَرِيهِ            حَلِيلَتُهُ وَيَنْهَرُهُ الصَّغِيرُ

لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا أَيْ لَيْسَ لِاحْتِقَارِكُمْ لَهُمْ تَبْطُلُ أُجُورُهُمْ، أَوْ يُنْقَصُ ثَوَابُهُمْ. {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ، وَيُؤَاخِذُهُمْ بِهِ".

نعم، الله وحده يعلم بما وقر في قلوبهم فيجازيهم عليه، بقدر ما وقر في قلوبهم من الإيمان يعطيهم من الثواب، {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ} [هود:31]، وبقدر ما فيها من شك وارتياب ينالهم العقاب.

"{إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ إِنْ قُلْتُ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَ "إِذًا " مُلْغَاةٌ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ".

ملغاة؛ يعني من حيث العمل، لو قال: "إني لمن الظالمين" يختلف الكلام؟ فإذًا {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} يقول: لأنها متوسطة، لو تقدمت {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}؟ إذًا أنها ملغاة؛ لأنها متوسطة.

طالب:.........

 كيف؟

طالب:.....

إذًا يقول: ملغاة؛ لأنها متوسطة، لو تقدمت إِذًا إِنِّي لَمِنَ الظَّالِمِينَ؟

طالب:.........

الآن اللام في "لمن" خبر إن أو في جواب القسم؟

طالب:.........

إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما ويلغى الثاني، أليس من هذا، فكأن الجملة في جواب شرط مقدر "والله إني لمن الظالمين، فتلغى إذًا حينئذٍ، إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق، ويلغى الثاني، ولذا قال: إنها ملغاة؛ لأنها متوسطة، يعني متأخرة عن القسم بين القسم وجوابه.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أَيْ خَاصَمْتَنَا فَأَكْثَرْتَ خُصُومَتَنَا وَبَالَغْتَ فِيهَا. وَالْجَدَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخُصُومَةِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَدْلِ وَهُوَ شِدَّةُ القتل".

الفتل.

طالب:.........

نعم الفتل.

طالب:.........

ماذا؟

طالب:.........

الفتل معروف.

طالب:.........

"وهو شدة الْفَتْلِ، وَيُقَالُ لِلصَّقْرِ أَيْضًا أَجْدَلُ لِشِدَّتِهِ فِي الطَّيْرِ؛ وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي "الْأَنْعَامِ" بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَأَكْثَرْتَ جَدَلَنَا" ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَالْجَدَلُ فِي الدِّينِ مَحْمُودٌ؛ وَلِهَذَا جَادَلَ نُوحٌ وَالْأَنْبِيَاءُ قَوْمَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ الْحَقُّ، فَمَنْ قَبِلَهُ أَنْجَحَ وَأَفْلَحَ، وَمَنْ رَدَّهُ خَابَ وَخَسِرَ. وَأَمَّا الْجِدَالُ لِغَيْرِ الْحَقِّ حَتَّى يَظْهَرَ الْبَاطِلُ فِي صُورَةِ الْحَقِّ فَمَذْمُومٌ، وَصَاحِبُهُ فِي الدَّارَيْنِ مَلُومٌ".

الجدال، إن كان من أجل الحق وإعلائه فهو ممدوح، وإن كان لرفع الباطل وإزهاق الحق فهو مذموم، كما البيان، إن من البيان لسحرًا، يحتمل المدح، ويحتمل الذم، إن كان استخدام هذا البيان لنصر الحق، وإظهارها فهو ممدوح، وإن كان على الضد من ذلك فهو مذموم.

طالب:.......

نعم.

طالب:.........

مثل هذا الجدال في الأمور العادية التي لا يترتب عليها نصر الحق، ولا رفع باطل، يعني جدال حضر فلان، ما حضر فلان، ما ترتفع شيئًا حضر أو ما حضر.

طالب:........

على حسب ما يترتب عليه من المصالح، إذا كان الإنسان على ثقة من نفسه، ومعرفة ما طلب منه، بحيث لا يهضم الحق بسببه، ويعرف من طالب الجدال أنه يريد الحق، أما من لا يريد الحق فهذا لا يدخل معه في شيء، إن كان قصده مجرد إظهار نفسه، وإظهار بدعته، ونحلته، على أن الجدال ينبغي أن لا يكون علنًا، ينبغي أن لا يكون معلنًا؛ لأنه إذا أعلن لا يعدم أن يوجد من يتأثر بهذا الجدال ولو من بعد، يتأثر بقول المبطل، ولو من بعد.

 على كل حال على حسب الآثار المترتبة عليه، إذا قدر أن شخصًا صاحب باطل طلب أن يناظر أهل الحق، وكلهم رفضوا ذلك، ترتب عليه أن الناس يقولون: إنه على حق، مثل هذا تجب مجادلته؛ دفعًا لشره، لكن هي تتعين على من يستطيع ذلك، بحيث لو وجد شخص تبرع بالجدال، وهو أقل من المستوى المطلوب، بحيث تظهر حجة الخاصم عليه مثل هذا يضر أكثر مما ينفع، فيبحث عن الشخص المناسب، وينظر في الآثار المترتبة على الجدال.

"{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أَيْ مِنَ الْعَذَابِ، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فِي قَوْلِكَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} أَيْ إِنْ أَرَادَ إِهْلَاكَكُمْ عَذَّبَكُمْ، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَيْ بِفَائِتِينَ. وَقِيلَ:  بِغَالِبِينَ بِكَثْرَتِكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أُعْجِبُوا بِذَلِكَ؛ كَانُوا مَلَئُوا الْأَرْضَ سَهْلًا وَجَبَلًا عَلَى مَا يَأْتِي.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} أَيْ إِبْلَاغِي وَاجْتِهَادِي فِي إِيمَانِكُمْ، {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} أَيْ لِأَنَّكُمْ لَا تَقْبَلُونَ نُصْحًا؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "بَرَاءَةٌ " مَعْنَى النُّصْحِ لُغَةً".

النصح والنصيحة من قولهم: نصح الخياط الثوب، القصار الثوب، إذا نظفه وأزال ما عليه، إذا نصحت العسل خلصته من الشوائب إذا خلصته من الشوائب، فالنصيحة معناها حيازة الحظ للمنصوح، بإزالة ما علق بذهنه من هذه الشوائب، كما ينصح العسل، وكما ينظف الثوب من الأوساخ، وهي كلمة جامعة لخير الدنيا والآخرة.

"{إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أَيْ يُضِلَّكُمْ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا؛ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَعْصِيَ الْعَاصِي، وَلَا يَكْفُرَ الْكَافِرُ، وَلَا يَغْوِيَ الْغَاوِي؛ وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}".

تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، تعالى الله على أن يكون في ملكه ما لا يريده، فالله سبحانه وتعالى مريد، {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[هود:107]، أراد من المؤمن أن يؤمن، وأراد من الكافر أن يكفر، لما علمه الله سبحانه وتعالى في طبعه وجبلته من أنه لا يؤمن، وأعطاه الله سبحانه وتعالى من حرية الاختيار ما يختار به أحد الطريقين، وليس بمجبور، فيه اختيار، وله حرية وله اختيار، وله مشيئة، لكنها تابعة لإرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته، فإرادة الله سبحانه وتعالى هي الغالبة، وهي فوق كل شيء، ومشيئته نافذة، وليس العبد مجبورًا، ولا شك أن مثل هذه المسائل من مضائق الأنظار، ومن عضل المسائل، وأشكلت على كثير من الناس، حتى صاروا فيها على طرفي نقيض، فمنهم من يزعم أن العبد لا إرادة له ولا مشيئة، وحركته كحركة ورق الشجر في مهب الريح، ومنهم من هو على النقيض من ذلك، فقال: العبد يتصرف، وإرادته مستقلة، وتوسط أهل السنة والجماعة فقالوا: له إرادة ومشيئة، لكنها خاضعة لإرادة الله سبحانه وتعالى، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، هذا يستدل به من يقول إيش؟

بالجبر {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} الله سبحانه وتعالى أثبت له الرمي، والمقصود ما أصبت إذ حذفت؛ لأن الرمي منسوب إليه، لكن الإصابة إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن الله أصاب، فالرمي منسوب للعبد، والإصابة إلى الله سبحانه وتعالى. فله قدرة، وله حرية، وله مشيئة، وله إرادة، لكنها ليست مستقلة، هي تابعة لإرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته، والله سبحانه وتعالى قضى عليه وحكم عليه بما يعرفه من طبعه.

"وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي "الْفَاتِحَةِ" وَغَيْرِهَا. وَقَدْ أَكْذَبُوا شَيْخَهُمُ اللَّعِينَ إِبْلِيسَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ".

في الفاتحة حينما نسب الضلال إلى اليهود {غير المغضوب عليهم وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7] نسبه إليهم، وهو من فعل الله سبحانه وتعالى، تابعٌ لإرادته ومشيئته.

"وَقَدْ أَكْذَبُوا شَيْخَهُمُ اللَّعِينَ إِبْلِيسَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَعْرَافِ" فِي إِغْوَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ حَيْثُ قَالَ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}".

 يقولون: كذب إبليس، ما أغواه الله سبحانه وتعالى، لكنه غوى، لكن إذا تسنى لهم تكذيب إبليس فكيف يكذبون نوح؟ {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] يعني إذا قبل منهم تكذيب إبليس، وهو أهل للكذب، مع أن الله سبحانه وتعالى ساق كلامه يعني مقررًا له {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}، فالإغواء من الله سبحانه وتعالى ،هو غوي بإغواء الله سبحانه وتعالى إياه، هنا في قول نوح: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}، يعني لهم شبهة في تكذيب إبليس؛ لأنه كذوب، الشيطان كذوب، لكن أنى لهم، وأين المحيص من قول نوح -عليه السلام-: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}؟

 "وَلَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْ قَوْلِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}، فَأَضَافَ إِغْوَاءَهُمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ إِذْ هُوَ الْهَادِي وَالْمُضِلُّ؛ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَاحِدُونَ وَالظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقِيلَ: أَنْ يُغْوِيَكُمْ يُهْلِكَكُمْ؛ لِأَنَّ الْإِضْلَالَ يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ. قاله الطَّبَرِيُّ".

لا، الطبري فيما يأتي، قيل: انتهى إلى الهلاك. قال الطبري...

" قال الطبري: "يُغْوِيَكُمْ" يُهْلِكَكُمْ بِعَذَابِهِ؛ حُكِيَ عَنْ طَيِّئٍ: أَصْبَحَ فُلَانٌ غَاوِيًا أَيْ مَرِيضًا، وَأَغْوَيْتُهُ أَهْلَكْتُهُ؛ وَمِنْهُ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. {هُوَ رَبُّكُمْ} فَإِلَيْهِ الْإِغْوَاءُ، وَإِلَيْهِ الْهِدَايَةُ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ".

على كلٍّ تفسير الطبري وما جاء بعده تفسير باللازم، الإغواء شيء يترتب عليه الهلاك، وليس هو عين الهلاك؛ إذ هو سبب الهلاك.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يَعْنُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. افْتَرَى افْتَعَلَ؛ أَيِ اخْتَلَقَ الْقُرْآنَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نُوحٍ وَقَوْمِهِ؛ قَالَه مُقَاتِل، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:  هُوَ مِنْ مُحَاوَرَةِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ، وَهُوَ أَظْهَرُ".

لأن السياق واحد، ولم يأت للنبي – عليه الصلاة والسلام- ذكر، فالسياق واحد.

"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مِنْ مُحَاوَرَةِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ إِلَّا ذِكْرُ نُوحٍ وَقَوْمِهِ؛ فَالْخِطَابُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} أَيِ اخْتَلَقْتُهُ وَافْتَعَلْتُهُ، يَعْنِي الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي أَيْ عِقَابُ إِجْرَامِي، وَإِنْ كُنْتُ مُحِقًّا فِيمَا أَقُولُهُ فَعَلَيْكُمْ عِقَابُ تَكْذِيبِي. وَالْإِجْرَامُ مَصْدَرُ أَجْرَمَ، وَهُوَ اقْتِرَافُ السَّيِّئَةِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَيْ جَزَاءُ جُرْمِي وَكَسْبِي. وَجَرَمَ وَأَجْرَمَ بِمَعْنًى، عَنِ النَّحَّاسِ وَغَيْرِهِ قَالَ:

طَرِيدُ عَشِيرَةٍ وَرَهِينُ جُرْمٍ        بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وَجَنَى لِسَانِي

وَمَنْ قَرَأَ "أَجْرَامِي" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ جَمْعُ جُرْمَ، وَذَكَرَهُ النَّحَّاسُ أَيْضًا، {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أَيْ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ".

يعني مما تكتسبون مما تجنيه أيديكم وتكتسبه جوارحكم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} "أَنَّهُ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ".

أوحي أنه، الجملة أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل، أوحي إلى نوح عدم إيمان قومه، المصدر المنسبك من أن وما دخلت عليه في محل رفع نائب فاعل.

 "وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِ" أَنَّهُ". وَ" آمَنَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ "يُؤْمِنُ" وَمَعْنَى الْكَلَامِ الْإِيَاسُ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَاسْتِدَامَةُ كُفْرِهِمْ، تَحْقِيقًا لِنُزُولِ الْوَعِيدِ بِهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ : فَدَعَا عَلَيْهِمْ لَمَّا أُخْبِرَ بِهَذَا فَقَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}".

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِ" أَنَّهُ". كيف يكون في موضع نصب، ويكون التقدير بأنه؟

طالب:.......

ماذا؟

طالب:.........

يعني على نزع الخافض.

إذًا ما نائب الفاعل؟

طالب:.........

الذي هو إيش؟

طالب:.........

 

على نوح، وإذا قلنا: إن الخافض مقدر بأنه، وقلنا إلى نوح جار ومجرور، وبأنه جار ومجرور ما صار الثاني أولى من الأول بالنيابة عن الفاعل، يكون أولى منه إذا لم يكن شبه جملة، جار ومجرور أو ظرف، وهما مستويان إذا قدرنا بأن، من هذه الحيثية قال: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِ" أَنَّهُ"، وإذا دخل عليه الجار صار هو وقوله: إلى نوح على حد سواء، مع أن المتقدم أولى بالنيابة عن الفاعل من المتأخر.

"وَقِيلَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ حَمَلَ ابْنَهُ عَلَى كَتِفِهِ، فَلَمَّا رَأَى الصَّبِيُّ نُوحًا قَالَ لِأَبِيهِ: أعْطِنِي حَجَرًا؛ فَأَعْطَاهُ حَجَرًا ، وَرَمَى بِهِ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَأَدْمَاهُ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}.

{فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أَيْ فَلَا تَغْتَمَّ بِهَلَاكِهِمْ حَتَّى تَكُونَ بَائِسًا؛ أَيْ حَزِينًا. وَالْبُؤْسُ الْحُزْنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَكَمْ مِنْ خَلِيلٍ أَوْ حَمِيمٍ رُزِئْتُهُ          فَلَمْ أَبْتَئِسْ وَالرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلٌ"

على كلٍّ ثبتت هذه القصة أو لم تثبت، يعني هي من المتقدمين، فنوح لما دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، لما صار على يأس تام من إيمانهم، أخبر {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}، فإما أن تستمر معهم إلى دعوتهم، أو تدعو عليهم، كل نبي له دعوة مستجابة، دعا عليهم، لما أيس منهم {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح:26]، والنبي -عليه الصلاة والسلام- ادخر دعوته لأمته يوم القيامة.

"يُقَالُ: ابْتَأَسَ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ. وَالِابْتِئَاسُ حُزْنٌ فِي اسْتِكَانَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} أَيِ اعْمَلِ السَّفِينَةَ لِتَرْكَبَهَا أَنْتَ وَمَنْ آمَنَ مَعَكَ. {بِأَعْيُنِنَا} أَيْ بِمَرْأًى مِنَّا وَحَيْثُ نَرَاكَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: بِحِفْظِنَا إِيَّاكَ حِفْظَ مَنْ يَرَاكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: بِحِرَاسَتِنَا؛ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ؛ فَعَبَّرَ عَنِ الرُّؤْيَةِ بِالْأَعْيُنِ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ بِهَا. وَيَكُونُ جَمْعُ الْأَعْيُنِ لِلْعَظَمَةِ لَا لِلتَّكْثِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}.

وَقَدْ يَرْجِعُ مَعْنَى الْأَعْيُنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا إِلَى مَعْنَى عَيْنٍ؛ كَمَا قَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَذَلِكَ كُلُّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِدْرَاكِ وَالْإِحَاطَةِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَوَاسِّ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّكْيِيفِ؛ لَا رَبَّ غَيْرَهُ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِأَعْيُنِنَا أَيْ بِأَعْيُنِ مَلَائِكَتِنَا الَّذِينَ جَعَلْنَاهُمْ عُيُونًا عَلَى حِفْظِكَ وَمَعُونَتِكَ؛ فَيَكُونُ الْجَمْعُ عَلَى هَذَا التَّكْثِيرِ عَلَى بَابِهِ. وَقِيلَ: "بِأَعْيُنِنَا" أَيْ بِعِلْمِنَا؛ قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ: "بِأَعْيُنِنَا" بِأَمْرِنَا. وَقِيلَ: بِوَحْيِنَا. وَقِيلَ: بِمَعُونَتِنَا لَكَ عَلَى صُنْعِهَا." وَوَحْيِنَا " أَيْ عَلَى مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ صَنْعَتِهَا. وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أَيْ لَا تَطْلُبْ إِمْهَالَهُمْ فَإِنِّي مُغْرِقُهُمْ".

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} بأعيننا يعني بمرأى منا، وحيث نراك، هذا لازم إثبات البصر الرؤية، والله سبحانه وتعالى يسمع ويبصر، سميع بصير، وليس بأعور، كما جاء في وصف الدجال، فإثبات العين لله سبحانه وتعالى كإثبات اليد وغيرها من الصفات الثابتة له بالكتاب والسنة.

 على كلٍّ الذي جعلهم يرتكبون مثل هذا أنه جاء بصيغة الجمع، يعني كما جاء في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47]، قالوا: بقوة، ولو أراد اليد الحقيقية لما جمع. وعلى كل حال الجمع والمفرد قد يعتريه التأويل، لكن التثنية بيديه لا يمكن أن يعتريها التأويل، فإذا ساغ لهم أن يؤول ما جاء بصيغة الجمع فلا يتسنى لهم أن يؤولوا ما جاء بلفظ المثنى، وعلى كل حال إثبات العين لله سبحانه وتعالى لا إشكال فيه، ومن لازم إثبات العين وإثبات البصر المرأى والإحاطة والحفظ، ولذا قال: {بِأَعْيُنِنَا} أَيْ بِمَرْأًى مِنَّا وَحَيْثُ نَرَاكَ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: بِحِفْظِنَا إِيَّاكَ حِفْظَ مَنْ يَرَاكَ، والله سبحانه وتعالى يرى، ويحيط بالمرء، لكن لا يحاط به. ويُرى يوم القيامة ولا يُرى في الدنيا، بخلاف رؤية النبي -عليه الصلاة والسلام- لربه، الخلاف بين الصحابة كما هو معروف، ولذا جاء في الحديث الصحيح: «نور أنا أراه» «حجابه من نور- وفي رواية- من نار، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».

المقصود أن له بصرًا، وله سمعًا، على ما يليق بجلاله وعظمته، على ضوء ما جاء في النصوص فيلزم إثبات ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، وما أثبته له رسوله على ما يليق بجلاله، ويكون جُمِع للعظمة لا للتكثير، كما قال تعالى: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، وعلى كل حال هو عظيم، فيعبر عن نفسه بما شاء، والعرب تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع، كما نقله البخاري وغيره.

 المقصود أن إثبات الصفات أمر متقرر، عند أهل السنة والجماعة، خلافًا لما تقول به الطوائف المبتدعة كالجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، والمؤلف في هذا الباب غالبًا ما ينحو منحى الأشعرية، والله المستعان.

طالب:......

هذه طريقته، التنزه عن الحواس والجوارح هذه طريقة الأشعرية.

طالب:.........

أين؟

طالب:.........

يعنون بأمرنا.

طالب:.........

على كلٍّ إذا نقل التأويل باللازم عن شخص عرف عنه الإثبات، وسلوك مسلك السلف فما فيه إشكال، لكن إذا نقل اللازم عن شخص لا يثبت صار تأويلاً وفرارًا من إثبات الصفات، يعني لو قال النووي مثلاً: والذي نفسي بيديه: روحي في تصرفه، قلنا: فر من إثبات اليد، لكن لما يقولها شيخ الإسلام وابن القيم، ما نقول: فر من إثبات اليد، فما أحد يقول إن روح الناس ليست في تصرف الله –عز وجل-، فنعتني بهذا وننتبه له.

طالب:.........

نعم.

طالب:.........

{فثم وجه الله} هذه آية صفات أم جهة؟

طالب:.........

نعم، يعني ليست من آيات الصفات، والمعول عليه كلام السلف، ونحن ندور معهم حيث داروا؛ لأنهم فهموا عن الله سبحانه مراده أكثر من غيرهم، فهم الذين بهم يقتدى وبأثرهم يهتدى، وعرفوا النصوص بفهمها، ولذا أولوا المعية بالعلم، بل اتفقوا على ذلك، ولو لم يردنا عن السلف تأويلهم للمعية بالعلم ما استطعنا تأويلها بالعلم، ولقلنا: إن تأويل المعية بالعلم مثل تأويل اليد بالقدرة، ما الفرق؟

لكن هم المعول على فهمهم، فما جاءنا منهم فهو على العين والرأس.

طالب:.........

لا، ما له وجه.

"قولُهُ تَعَالَى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} أَيْ وَطَفِقَ يَصْنَعُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مَكَثَ نُوحٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِائَةَ سَنَةٍ يَغْرِسُ الشَّجَرَ وَيَقْطَعُهَا وَيُيَبِّسُهَا، وَمِائَةَ سَنَةٍ يَعْمَلُهَا. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنِ ابْنِ أَشْرَسَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ مَلَئُوا الْأَرْضَ، حَتَّى مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ، فَمَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَنْزِلُوا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا هَؤُلَاءِ أَنْ يَصْعَدُوا إِلَى هَؤُلَاءِ فَمَكَثَ نُوحٌ يَغْرِسُ الشَّجَرَ مِائَةَ عَامٍ لِعَمَلِ السَّفِينَةِ".

 يعني تصور أن عمر الواحد منهم ألف سنة، ألفا سنة، ألف وخمسمائة سنة، يعني ولادات دون موت، فيريدون السهل والوعر، يعني الموت بطيء، والولادة كثيرة.

طالب:.........

كيف؟

طالب:.........

ولو كانت. في الألوف المؤلفة من السنين يملؤون السهل والوعر. فمثلاً شخص عنده تجارة مصروفه أكبر من دخله، فيكثر ماله، والعكس بالعكس.

"فَمَكَثَ نُوحٌ يَغْرِسُ الشَّجَرَ مِائَةَ عَامٍ لِعَمَلِ السَّفِينَةِ، ثُمَّ جَمَعَهَا يُيَبِّسُهَا مِائَةَ عَامٍ، وَقَوْمُهُ يَسْخَرُونَ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَأَوْهُ يَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فِيهِمْ مَا كَانَ.

وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: عَمِلَ نُوحٌ سَفِينَتَهُ بِبِقَاعِ دِمَشْقَ، وَقَطَعَ خَشَبَهَا مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمَّا اسْتَنْقَذَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَاصْنَعِ الْفُلْكَ} قَالَ: يَا رَبِّ مَا أَنَا بِنَجَّارٍ، قَالَ: بَلَى، فَإِنَّ ذَلِكَ بِعَيْنِي، فَأَخَذَ الْقَدُومَ فَجَعَلَهُ بِيَدِهِ، وَجَعَلَتْ يَدَهُ لَا تُخْطِئُ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَارَ نَجَّارًا؛ فَعَمِلَهَا فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً.

وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ وَأَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّخَذَ نُوحٌ السَّفِينَةَ فِي سَنَتَيْنِ. زَادَ الثَّعْلَبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ صَنْعَةُ الْفُلْكِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعْهَا كَجُؤْجُؤِ الطَّائِرِ. وَقَالَ كَعْبٌ: بَنَاهَا فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

ولا سبيل إلى العلم في مقدار المدة التي مكثها يصنع السفينة، والأقوال متباينة، مائتي سنة أو سنتين، فالفرق كبير، أربعون سنة، مائة سنة، لا سبيل إلى العلم؛ لأنه لا نص صحيح يفسر ذلك، ولا حاجة لنا للعلم به، ولو كان مما يحتاج إليه لما سكت الله عنه، لبينه، لكن لما لم يبينه عرفنا أنه لا حاجة لنا به.

 المقصود أنه صنع السفينة، وحمل فيها من أرد الله نجاته، فسواء صنعها في يومين، في سنتين، في قرنين، سيان.

"قال الْمَهْدَوِيُّ: وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تُعَلِّمُهُ كَيْفَ يَصْنَعُهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي طُولِهَا وَعَرْضِهَا؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: كَانَ طُولُهَا ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا خَمْسُونَ، وَسُمْكُهَا ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا؛ وَكَانَتْ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ. وَكَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: كَانَ طُولُهَا ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَالذِّرَاعُ إِلَى الْمَنْكِبِ. قَالَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ طُولَ السَّفِينَةِ أَلْفُ ذِرَاعٍ وَمِائَتَا ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي كِتَابِ الْعَرَائِسِ.

وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: لَوْ بعث".

لو بعثت، بدليل رجل.

"بَعَثْتَ لَنَا رَجُلًا شَهِدَ السَّفِينَةَ يُحَدِّثُنَا عَنْهَا، فَانْطَلَقَ بِهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى كَثِيبٍ مِنْ تُرَابٍ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، قَالَ أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا كَعْبُ حَامِ بْنِ نُوحٍ، قَالَ: فَضَرَبَ الْكَثِيبَ بِعَصَاهُ وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يَنْفُضُ التُّرَابَ مِنْ رَأْسِهِ، وَقَدْ شَابَ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَهَكَذَا هَلَكْتَ؟ قَالَ: لَا بَلْ مُتُّ وَأَنَا شَابٌّ؛ وَلَكِنَّنِي ظَنَنْتُ أَنَّهَا السَّاعَةُ فَمِنْ ثَمَّ شِبْتُ. قَالَ: أَخْبِرْنَا عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ؟ قَالَ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَكَانَتْ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ: طَبَقَةٌ فِيهَا الدَّوَابُّ وَالْوَحْشُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الْإِنْسُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الطَّيْرُ. وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى".

وما يروى ويذكر عن بني إسرائيل لا يلزم تصديقه ولا تكذيبه.

طالب:.......

نعم؟

طالب:.........

عمن؟

طالب:.........

يروي إسرائيليات نعم، أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، يروي.

طالب:.........

معروف، المقصود أن الخبر فيه ما فيه، فيه نكارة.

"وَقَالَ الْكَلْبِيُّ فِيمَا حَكَاهُ النَّقَّاشُ: وَدَخَلَ الْمَاءُ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ، وَكَانَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ؛ بَابٌ فِيهِ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ، وَبَابٌ فِيهِ الْوَحْشُ، وَبَابٌ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. ابْنُ عَبَّاسٍ جَعَلَهَا ثَلَاثَ بُطُونٍ؛ الْبَطْنُ الْأَسْفَلُ لِلْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ، وَالْأَوْسَطُ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَرَكِبَ هُوَ فِي الْبَطْنِ الْأَعْلَى، وَحَمَلَ مَعَهُ جَسَدَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُعْتَرِضًا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ دَفَنَهُ بَعْدُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَهُمْ فِي الْكَوْثَلِ".

يعني مؤخر السفينة.

"وَقِيلَ: جَاءَتِ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ لِدُخُولِ السَّفِينَةِ فَقَالَ نُوحٌ: لَا أَحْمِلُكُمَا؛ لِأَنَّكُمَا سَبَبُ الضَّرَرِ وَالْبَلَاءِ، فَقَالَتَا: احْمِلْنَا فَنَحْنُ نَضْمَنُ لَكَ أَلَّا نَضُرَّ أَحَدًا ذَكَرَكَ؛ فَمَنْ قَرَأَ حِينَ يَخَافُ مَضَرَّتَهُمَا سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ لَمْ تَضُرَّاهُ؛ ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّارِيخِ لَهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي: صَلَّى اللَّهُ عَلَى نُوحٍ، وَعَلَى نُوحٍ السَّلَامُ لَمْ تَلْدَغْهُ عَقْرَبٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ».

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلَّمَا} ظَرْفٌ. مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ يُقَالُ: سَخِرْتُ بِهِ وَمِنْهُ. وَفِي سُخْرِيَتِهِمْ مِنْهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ يَبْنِي سَفِينَتَهُ فِي الْبَرِّ، فَيَسْخَرُونَ بِهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ وَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ صِرْتَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ نَجَّارًا. الثَّانِي: لَمَّا رَأَوْهُ يَبْنِي السَّفِينَةَ وَلَمْ يُشَاهِدُوا قَبْلَهَا سَفِينَةً بُنِيَتْ قَالُوا: يَا نُوحُ مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: أَبْنِي بَيْتًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ؛ فَعَجِبُوا مِنْ قَوْلِهِ وَسَخِرُوا مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الطُّوفَانِ نَهْرٌ وَلَا بَحْرٌ؛ فَلِذَلِكَ سَخِرُوا مِنْهُ؛ وَمِيَاهُ الْبِحَارِ هِيَ بَقِيَّةُ الطُّوفَانِ.

 قَالَ: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} أَيْ مِنْ فِعْلِنَا الْيَوْمَ عِنْدَ بِنَاءِ السَّفِينَةِ، {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} غَدًا عِنْدَ الْغَرَقِ. وَالْمُرَادُ بِالسُّخْرِيَةِ هُنَا الِاسْتِجْهَالُ؛ وَمَعْنَاهُ إِنْ تَسْتَجْهِلُونَا فَإِنَّا نَسْتَجْهِلُكُمْ كَمَا تَسْتَجْهِلُونَنَا".

يعني يدعون جهله، يبني السفينة لأي شيء؟ يصنع السفينة وما عنده بحر! {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}، هم سخروا منه؛ لأنهم يرونه بعد مقامه الذي قام به بينهم في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى رأوه نجارًا، ما يعرفون السبب، ولا يعرفون ماذا يراد بهذه السفينة، يظنونه من ضياع الوقت، لا بحر عندهم ولا نهر، لأمر يريده الله سبحانه وتعالى. نعم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} تَهْدِيدٌ، وَ"مَنْ" مُتَّصِلَةٌ بِـ"سَوْفَ" تَعْلَمُونَ وَ"تَعْلَمُونَ" هُنَا مِنْ بَابِ التَّعْدِيَةِ إِلَى مَفْعُولٍ؛ أَيْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ الَّذِي يَأْتِيهِ الْعَذَابُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ "مَنْ" اسْتِفْهَامِيَّةً؛ أَيْ أَيُّنَا يَأْتِيهِ الْعَذَابُ؟. وَقِيلَ: "مَنْ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَ"يَأْتِيهِ" الْخَبَرُ، وَ" يُخْزِيهِ" صِفَةٌ لِ"عَذَابٌ ". وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: سَو تَعْلَمُونَ".

يعني بدلًا من سوف.

 "وَقَالَ مَنْ قَالَ: سَتَعْلَمُونَ أَسْقَطَ الْوَاوَ وَالْفَاءَ جَمِيعًا. وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ: سَفْ تَعْلَمُونَ؛ وَلَا يَعْرِفُ الْبَصْرِيُّونَ إِلَّا سَوْفَ تَفْعَلُ، وَسَتَفْعَلُ لُغَتَانِ لَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى. {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ بِهِ. {عَذَابٌ مُقِيمٌ} أَيْ دَائِمٌ، يُرِيدُ عَذَابَ الْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} اخْتُلِفَ فِي التَّنُّورِ عَلَى أَقْوَالٍ سَبْعَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَجْهَ الْأَرْضِ تَنُّورًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَارْكَبْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَنُّورُ الْخُبْزِ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ؛ وَكَانَ تَنُّورًا مِنْ حِجَارَةٍ، وَكَانَ لِحَوَّاءَ حَتَّى صَارَ لِنُوحٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ يَفُورُ مِنَ التَّنُّورِ فَارْكَبْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ. وَأَنْبَعَ اللَّهُ الْمَاءَ مِنَ التَّنُّورِ، فَعَلِمَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: يَا نُوحُ فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ؛ فَقَالَ: جَاءَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِمَاعِ الْمَاءِ فِي السَّفِينَةِ؛ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَنُورُ الصُّبْحِ؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَوَّرَ الْفَجْرُ تَنْوِيرًا، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَسْجِدُ الْكُوفَةِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا؛ وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ نَاحِيَةَ التَّنُّورِ بِالْكُوفَةِ. وَقَالَ: اتَّخَذَ نُوحٌ السَّفِينَةَ فِي جَوْفِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ التَّنُّورُ عَلَى يَمِينِ الدَّاخِلِ مِمَّا يَلِي كِنْدَةَ. وَكَانَ فَوَرَانُ الْمَاءِ مِنْهُ عَلَمًا لِنُوحٍ، وَدَلِيلًا عَلَى هَلَاكِ قَوْمِهِ".

لكن هل هناك كوفة في وقت نوح، أو المقصود مكانه؟ معروف أن البصرة والكوفة مما اختطها المسلمون بعد الإسلام، في زمن عمر- رضي الله عنه-، إن كان المقصود في المكان الذي اختطت فيه الكوفة يحتمل، وإلا فمسجد الكوفة، في جوف مسجد الكوفة، أصلًا الكوفة ما وجدت إلا بعد الإسلام، فكيف تكون هناك فار التنور من مسجد الكوفة؟

 "قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ أُمَيَّةَ:

فَارَ تَنُّورُهُمْ وَجَاشَ بِمَاءٍ         صَارَ فَوْقَ الْجِبَالِ حَتَّى عَلَاهَا

السَّادِسُ: أَنَّهُ أَعَالِي الْأَرْضُ، وَالْمَوَاضِعُ الْمُرْتَفِعَةُ مِنْهَا؛ قَالَهُ قَتَادَةَ. السَّابِعُ: أَنَّهُ الْعَيْنُ الَّتِي بِالْجَزِيرَةِ "عَيْنُ الْوَرْدَةِ" رَوَاهُ عِكْرِمَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ ذَلِكَ تَنُّورُ آدَمَ، وَإِنَّمَا كَانَ بِالشَّامِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: "عَيْنُ وَرْدَةٍ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: فَارَ تَنُّورُ آدَمَ بِالْهِنْدِ.

 قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِمُتَنَاقِضَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَخْبَرَنَا أَنَّ الْمَاءَ جَاءَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَ: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا}. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَجْتَمِعُ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَامَةً. وَالْفَوَرَانُ الْغَلَيَانُ. وَالتَّنُّورُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ، وَهُوَ عَلَى بِنَاءِ فَعَّلَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ بِنَائِهِ تَنَّرَ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نُونٌ قَبْلَ رَاءٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى "فَارَ التَّنُّورُ " التَّمْثِيلُ لِحُضُورِ الْعَذَابِ، كَقَوْلِهِمْ: حَمِيَ الْوَطِيسُ إِذَا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ. وَالْوَطِيسُ التَّنُّورُ. وَيُقَالُ: فَارَتْ قِدْرُ الْقَوْمِ إِذَا اشْتَدَّ حَرْبُهُمْ؛ قَالَ شَاعِرُهُمْ:

 

               تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ لَا شَيْءَ فِيهَا              وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ تَفُورُ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} يَعْنِي ذَكَرًا وَأُنْثَى؛ لِبَقَاءِ أَصْلِ النَّسْلِ بَعْدَ الطُّوفَانِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) بِتَنْوِينِ كُلٍّ أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ زَوْجَيْنِ. وَالْقِرَاءَتَانِ تَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ: شَيْءٌ مَعَهُ آخَرُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ. وَيُقَالُ لِلِاثْنَيْنِ: هُمَا زَوْجَانِ، فِي كُلِّ اثْنَيْنِ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجًا يُقَالُ: لَهُ زَوْجَا نَعْلٍ إِذَا كَانَ لَهُ نَعْلَانِ. وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ زَوْجَا حَمَامٍ، وَعَلَيْهِ زَوْجَا قُيُودٍ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}. وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: هِيَ زَوْجُ الرَّجُلِ، وَلِلرَّجُلِ هُوَ زَوْجُهَا. وَقَدْ يُقَالُ لِلِاثْنَيْنِ: هُمَا زَوْجٌ، وَقَدْ يَكُونُ الزَّوْجَانِ بِمَعْنَى الضَّرْبَيْنِ".

يقال المرأة: زوج هذا هو الكثير الدارج، ويقال لها أيضًا: زوجة، وجاء في الحديث الصحيح «هذه زوجتي»، وجاء أيضًا في كلام العرب، لكنه قليل، يحتاج إليه في الفرائض للتمييز، بحيث لا يجوز أن يوضع أحدهما بمكان الآخر، وقد يكون الزوجان بمعنى الصنفين، "من أنفق زوجين في سبيل الله" يعني اثنين، اثنين اثنين من كل شيء.

"وَقَدْ يَكُونُ الزَّوْجَانِ بِمَعْنَى الضَّرْبَيْنِ وَالصِّنْفَيْنِ، وَكُلُّ ضَرْبٍ يُدْعَى زَوْجًا".

الضربين والصنفين، والجنسين، والنوعين، ألفاظ متقاربة.

 "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أَيْ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ وَصِنْفٍ. وَقَالَ الْأَعْشَى:

          وَكُلُّ زَوْجٍ مِنَ الدِّيبَاجِ يَلْبَسُهُ             أَبُو قُدَامَةَ مَحْبُوُّ بِذَاكَ مَعَا

أَرَادَ كُلَّ ضَرْبٍ وَلَوْنٍ. وَ"مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ"احْمِلْ". اثْنَيْنِ تَأْكِيدٌ.

"وَأَهْلَكَ" أَيْ وَاحْمِلْ أَهْلَكَ.

إِلَّا مَنْ سَبَقَ "مَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ.

"عَلَيْهِ الْقَوْلُ" مِنْهُمْ أَيْ بِالْهَلَاكِ؛ وَهُوَ ابْنُهُ كَنْعَانُ، وَامْرَأَتُهُ وَاعِلَةُ كَانَا كَافِرَيْنِ.

وَمَنْ آمَنَ قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: أَيِ احْمِلْ مَنْ آمَنَ بِي، أَيْ مَنْ صَدَّقَكَ؛ فَ " مَنْ " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ " احْمِلْ". وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ ثَمَانُونَ إِنْسَانًا".

من هؤلاء الذين ملئوا الأرض والسهل والجبل والوعر صار هؤلاء لا يستطيعون أن يصعدوا إلى أولئك وأولئك لا يستطيعون أن ينزلوا إلى هؤلاء، ما آمن إلا ثمانون أو أقل.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ ثَمَانُونَ إِنْسَانًا مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِيهِ؛ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، وَثَلَاثُ كَنَائِنَ لَهُ. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ بَنَوْا قَرْيَةً، وَهِيَ الْيَوْمُ تُدْعَى قَرْيَةُ الثَّمَانِينَ بِنَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ.

وَوَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ كَانَ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانِيَةُ أَنْفُسٍ؛ نُوحٌ وَزَوْجَتُهُ غَيْرَ الَّتِي عُوقِبَتْ، وَبَنُوهُ الثَّلَاثَةُ وَزَوْجَاتُهُمْ؛ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ؛ فَأَصَابَ حَامٌ امْرَأَتَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَدَعَا نُوحٌ اللَّهَ أَنْ يُغَيِّرَ نُطْفَتَهُ فَجَاءَ بِالسُّودَانِ. قَالَ عَطَاءٌ: وَدَعَا نُوحٌ عَلَى حَامٍ أَلَّا يَعْدُوَ شَعْرُ أَوْلَادِهِ آذَانَهُمْ، وَأَنَّهُمْ حَيْثُمَا كَانَ وَلَدُهُ يَكُونُونَ عَبِيدًا لِوَلَدِ سَامٍ وَيَافِثَ.

 وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانُوا سَبْعَةً؛ نُوحٌ وَثَلَاثُ كَنَائِنَ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ؛ وَأَسْقَطَ امْرَأَةَ نُوحٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا عَشَرَةً سِوَى نِسَائِهِمْ: نُوحٌ وَبَنُوهُ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، وَسِتَّةُ أُنَاسٍ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ، وَأَزْوَاجُهُمْ جَمِيعًا. وَ"قَلِيلٌ" رُفِعَ بِ"آمَنَ"، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَبْلَهُ لَمْ يَتِمَّ، إِلَّا أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي دُخُولٍ إِلَّا وَمَا لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: آمَنَ مَعَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ قَدْ آمَنَ؛ فَإِذَا جِئْتَ بِمَا وَإِلَّا، أَوْجَبْتَ لِمَا بَعْدَ إِلَّا وَنَفَيْتَ عَنْ غَيْرِهِمْ".

يفيد الحصر، الاستثناء بعد النفي يفيد الحصر، ومن هذا أنه لم يؤمن غيرهم وإلا لو قيل: إنه آمن معه فلان وفلان آمن معه قليل، يعني وآمن معه غيرهم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

"