شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (057)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: توقفنا عند حديث عبد الله بن مسعود، قال المصنِّف -رحمه الله-: "عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّنا لم يَظلِم؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13]".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحديث عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في نزول قوله -عز وجل-: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] استشكال الصحابة -رضوان الله عليهم- لمعنى الظلم، وجواب النبي -عليه الصلاة والسلام- بالمراد، بمراد الله -عز وجل- من هذا الظلم في هذه الآية، وأنه الشرك، يبيِّن ذلك بآية لقمان.

وراوي الحديث هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن من السابقين الأولين ومن كبار علماء الصحابة، أسلم بمكة قديمًا، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة وشهد بدرًا، والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

روى عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أحاديث كثيرة، ومناقبه وجلالته وعظم منزلته وكثرة فقهه أشهر من أن تذكر، استوطن الكوفة، وتوفي بها سنة اثنتين وثلاثين، وقال جماعة: بل توفي بالمدينة ودفن بالبقيع -رضي الله عنه وأرضاه-.

هذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: باب ظلم دون ظلم.

قال ابن حجر: دون يحتمل أن تكون بمعنى: (غير) أي أنواع الظلم متغايرة، أو بمعنى الأدنى (دون) يعني الأدنى، أي بعضها أخف من بعض، وهو أظهر في مقصود المصنِّف.

واستدل المصنف -رحمه الله تعالى- على التغاير بالحديث المرفوع يعني حديث ابن مسعود، ووجه الدلالة منه أن الصحابة -رضوان الله عليهم- فهموا من قوله: {بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي –عليه الصلاة والسلام-، وإنما بين لهم أن المراد أعظم أنواع الظلم وهو الشرك، فدل على أن للظلم مراتب متفاوتة. ومناسبة إيراد هذا عَقِب ما تقدم من أن المعاصي من أمر الجاهلية، وأن المعاصي غير الشرك لا ينسب صاحبها إلى الكفر المخرج عن الملة على هذا التقرير ظاهرة.

ظلم دون ظلم فالظلم مراتب، كما أن المعاصي درجات، وإن كانت من أمر الجاهلية إلا أنها متفاوتة، وأيضًا الاقتتال كبيرة وموبقة، لكنه لا يُخرِج من الملة إلا إذا استُحِل.

يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-: ومعنى هذا أن الظلم يختلف، ففيه ظلم ينقل عن الملة كما في قوله -جل وعلا­-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13] وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة 254] فإن الظلم وضْع الشيء في غير موضعه، وأعظم ذلك أن يوضَع المخلوق في مقام الخالق، ويجعَل شريكًا له في الربوبية وفي الإلهية سبحانه وتعالى عما يشركون.

وأكثر ما يَرِد في القرآن وعيد الظالمين يراد به الكفار، كقوله -جل وعلا-: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [سورة إبراهيم 42] الآيات، وقوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} [سورة الشورى 44] ومثل هذا كثير.

كما أنه يراد بالظلم ما لا ينقل عن الملة، كما في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [سورة فاطر 32] وقوله: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة 229] {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [سورة فاطر 32] لماذا لا يقال إن المراد بالظلم هنا الأكبر المخرج عن الملة؟ يعني في كلام ابن رجب يقول: ويراد بالظلم ما لا يَنقُل عن الملة كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [سورة فاطر 32] ويكون داخلاً في قوله -جل وعلا-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13] يعني كما في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [سورة إبراهيم 42] المراد بهم الكافرون {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سورة الشورى 44] ما الدليل على أن الظلم في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [سورة فاطر 32] هو ما دون الشرك؟ ما دون الظلم الأكبر؟ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} [سورة فاطر 32] قوله -جل وعلا-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [سورة فاطر 32] فهؤلاء الظالمون لأنفسهم من المصطفَين، كما قَرَّر ذلك ابن القيم في طريق الهجرتين بأوضح بيان.

وحديث ابن مسعود هذا صريح في أن المراد بقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام 82] أن الظلم هو الشرك، وجاء في بعض الروايات زيادة: قال «إنما هو الشرك».

يقول الخطابي: إنما قالت الصحابة هذا القول لأنهم فهموا من الظلم ظاهره الذي هو الافتيات بحقوق الناس، أو الظلم الذي ظلموا به أنفسهم من ركوب معصية، أو إتيان محرم كقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} [سورة آل عمران 135] الآية، وذلك حق الظاهر فيما كان يصلح له هذا الاسم، يعني إذا أُطلِق الظلم عرفًا بين الناس، يعني هل الصحابة فهموا من الآية أن الظلم ما دون الشرك لأنه حق الظاهر فيما كان يصلح له هذا الاسم؟ هذا حق الظاهر في كلام الخطابي، ويحتمله المعنى، ولم تكن الآية نزلت بتسمية الشرك ظلمًا، وكان الشرك عندهم أعظم من أن يلقَّب بهذا الاسم، يعني الشرك أعظم من أن يقال ظلم؛ لأن السامع إذا سمع الظلم ينصرف ذهنه إلى ما دون الشرك، لكن سيأتي أن الصحابة إنما استدلوا بعموم لفظ الظلم؛ لأنه نكرة في سياق إيش؟ في سياق النفي.

يقول الخطابي أيضًا: ولم تكن الآية نزلت بتسمية الشرك ظلمًا، وكان الشرك عندهم أعظم من أن يلقَّب بهذا الاسم، فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فنزل قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان 13] فسمى الشرك ظلمًا، وعظم أمره في الكذب والافتراء على الله -عز وجل-، وذلك أن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن أشرك بالله -عز وجل- وجعل الربوبية مستحقةً لغيره، أو عدل به شيئًا واتخذ معه ندًّا فقد أتى بأعظم الظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه ومستقرِّه. هذا كلام الخطابي.

يقول الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد:

بابُ فضل التوحيد وما يكفِّر من الذنوب وقوله الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [سورة الأنعام 82] كيف دلت هذه الآية على فضل التوحيد وتكفيره الذنوب؟ سيأتي في كلام أهل العلم ما يبين ذلك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: الذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أَمْن ولا اهتداء إلا لمَن لم يظلم نفسه، فبيَّن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله -عز وجل-، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء.

يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: لما أشكل على الصحابة -رضي الله عنهم- المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن مَن ظلَم نفسه أي ظلم كان لم يكن آمنًا ولا مهتديًا أجابهم -صلوات الله وسلامه عليه- بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك.

يقول ابن القيم: وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل، ويروي الغليل، فإن الظلم التام هو الشرك الذي هو وضْع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق هما الأمن في الدنيا والآخرة، والهدى إلى الصراط المستقيم، فالظلم المطلق التام رافع للأمن والاهتداء المطلق التام، ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعًا من مطلق الأمن ومطلق الهدى فتأمله، فالمطلق للمطلق، والحِصَّة للحِصَّة. هذا كلام ابن القيم، ما معنى هذا؟

الظلم متفاوت كما في ترجمة الإمام البخاري، ويدل عليه الحديث دلالة صريحة، متفاوت، ظلم دون ظلم، الأمن أيضًا متفاوت، الاهتداء أيضًا متفاوت، هذا محصَّل كلام ابن القيم أن الظلم متفاوت، الأمن متفاوت، الاهتداء متفاوت، فيحصل للمرء من الأمن والاهتداء بقدر ما حَصَل له من مفارقة الظلم، يقول: فالمطلق للمطلق، والحصة للحصة؛ لأن من حصل له الظلم الأكبر انتفى عنه الأمن بالكلية، وانتفى عنه الاهتداء بالكلية؛ لأن الظلم الأكبر رافع لمطلق الأمن والاهتداء، من حصل له شيء من الظلم، يعني ما يتناوله عموم الآية من أنواع الظلم سواءً كان ظلم العبد لنفسه، ظلم العبد لغيره من إنسان أو بهيمة تعديه على حقوق الآخرين، أيضًا رافع بقدْره من ذلك الأمن وذلك الاهتداء، ولذا يقول: الحصة للحصة.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأنعام 82] أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.

الشيخ صالح الفوزان في إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد يقول: قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [سورة الأنعام 82] هل المراد به الأمن المطلق، يعني أنهم لا يعذبون أبدًا، أو المراد مطلق الأمن أي أنهم وإن عذبوا فلا بد أن يدخلوا الجنة؟ الآية محتملة، وعلى كلا التفسيرين الآية تدل على فضل التوحيد؛ لأنه بضدها تتبين الأشياء، إذا كان الظلم هذه منزلته، فالذي لا يقترف شيئًا من أنواع الظلم وعلى رأسها الشرك الذي هو نقيض التوحيد، أقول: الترجمة واضحة من الشيخ محمد باب فضل التوحيد، وفي كلام الشيخ صالح ما يوضح ذلك، يقول: وعلى كلا التفسيرين فالآية تدل على فضل التوحيد، وأنه أَمْنٌ من العذاب، إما مطلقًا، وإما يؤمن من العذاب المؤبد، فالآية فيها فضل التوحيد، وأنه يمنح الله لأصحابه الأمن على حسب درجاتهم في التوحيد، والسلامة من الذنوب والمعاصي.

يقول: ودلت الآية بمفهومها على أن من أشرك بالله وخلط في توحيده بشرك، أو خلط توحيده بشرك أنه ليس له أمن -والعياذ بالله-، فهذا فيه خطر الشرك، وأن من عبد الله ولكنه يدعو مع الله غيره، ويستغيث بالموتى، ويذبح للقبور، ويطوف بالأضرحة مستعينًا بها، فهذا خلط إيمانه بشرك، وليس له أمن أبدًا حتى يتوب إلى الله -عز وجل-، ويخلص التوحيد، فليس المقصود أن الإنسان يعبد الله فقط، بل لا بد أيضًا أن يجتنب الشرك، وإلا فالمشركون لهم عبادات، كانوا يحجون، وكانوا يتصدقون، وكانوا يطعمون الأضياف، وكانوا يكرمون الجيران، ولهم أعمال لكنها ليست مبنية على التوحيد، فهي هباء منثور، لا تنفعهم شيئًا يوم القيامة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [سورة الفرقان 23] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [سورة النــور 39] وقال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [سورة إبراهيم 18].

وبهذا نعرف مطابقة الآية لما ترجم به الشيخ -رحمه الله تعالى-، باب فضل التوحيد وما يكفِّر من الذنوب، إذا عرفنا عِظَم الشرك، وأنه ينفي الأمن المطلق، وينفي الاهتداء المطلق، فإن التوحيد بضده، يحصِّل الأمن المطلق، ويحصِّل الاهتداء المطلق كما تقدم تقرير ذلك أيضًا في كلام ابن القيم -رحمه الله-.

إذا عرفنا هذا فالظلم كما بين أهل العلم ثلاثة أنواع:

النوع الأول -وهو أعظمها-: ظلم الشرك كما في حديث الباب.

النوع الثاني: ظلم العبد نفسه بالمعاصي، فالعاصي ظالم لنفسه، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة فاطر 32].

النوع الثالث: ظلم العبد للناس بالتعدي على أبدانهم، أو أعراضهم، أو أموالهم.

وبهذا نعرف مطابقة الحديث للترجمة، وأن الظلم مراتب، وهناك ظلم دون ظلم، كما أن هناك كفر دون كفر، وفسق دون فسق، كما روى ذلك محمد بن نصر المرْوَزي عن عطاء.

المقدم: هذا الترتيب الذي ذكرتم مراد -أحسن الله إليكم-؟

في ماذا؟

المقدم: في أنواع الظلم الثلاثة، هذا الترتيب مراد منكم بهذه الصورة؟

أما النوع الأول بلا شك أنه هو الأول لعظمه، وهو ظلم الشرك، أما ظلم العبد نفسه وظلم العبد للناس فهذا متفاوت، قد يكون ظلم العبد لنفسه أعظم من ظلمه لبعض الناس لعظم هذا وخفة هذا، وقد يكون العكس، ظلمه لبعض الناس -نسأل الله العافية- كقذف أو اعتداء على محارم أو تعدي على بدن أعظم من ظلمه لنفسه من الضرر اللازم، يقرر أهل العلم في الجملة أن الضرر المتعدي أعظم من الضرر اللازم.

المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ يعني من سَلِم من أجناس الظلم الثلاثة كان له الأمن التام والاهتداء التام يوم القيامة، أي يظلم العبد نفسه بالشرك أو بالمعاصي أو ظلم الناس، أو من سَلِم من الشرك فظلم نفسه أو ظلم غيره له الأمن المطلق والاهتداء المطلق، هل هذا متجه -عفا الله عنكم-؟

تقدم في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما يبيِّن هذا، أن من سَلِم من الشرك وسَلِم من ظلمه لنفسه بأنواع المعاصي والبدع، وسَلِم من ظلم الناس والتعدي على أموالهم وأعراضهم وأبدانهم هذا له الأمن التام؛ لأنه جاء بالشرط تامًّا الذي رُتِّب عليه الأمن التام، أما من خالف فإن جاء بالظلم الأعظم وهو الشرك فلا أمن له ولا اهتداء بالكلية، وإن اقترف من النوع الثاني والثالث ما اقترف فإنه يفوته من الأمن والاهتداء بحسبه.

قد يقول قائل: أنواع الظلم ثلاثة كما قرر أهل العلم لماذا لا تكون نوعين، ويدخل الأول وهو الشرك في ظلم العبد نفسه؟

المقدم: السبب عظم هذا النوع.

نعم، يُفرَد للعناية به والاهتمام به، يُفرَد للعناية به، يعني نظير ما قال بعضهم في قول أهل العلم أنه يُشترَط لصحة كل عبادة شرطان: الإخلاص والمتابعة، يقول: نكتفي بالمتابعة؛ لماذا نشترط الإخلاص؟ لأن العمل إذا لم يكن خالصًا فليس بمتابِع لعمل النبي -عليه الصلاة والسلام-، ليس عليه أمر النبي -عليه الصلاة والسلام-، إذًا لا حاجة لذكر الإخلاص، لكن يفرده أهل العلم للعناية به، لشدة الاعتناء به.

في كلام عطاء الذي ذكره محمد بن نصر ظلم دون ظلم، كفر دون كفر، فسق دون فسق، يقول ابن رجب في توضيحه: يعني أن الفسق قد يكون ناقلاً عن الملة، كما قال تعالى في حق إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [سورة الكهف 50] هذا فسق ناقل عن الملة، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} [سورة السجدة 20] وقد لا يكون الفسق ناقلاً عن الملة، كقوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [سورة البقرة 282] يعني مضارَّة الكاتب والشهيد هذا مُخرِج عن الملة؟ لا، هذا ظلم للغير لكنه ليس بناقل عن الملة، وقوله في الذين يرمون المحصنات: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النــور 4] وقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [سورة البقرة 197] فَسَّرت الصحابة الفسوق في الحج بالمعاصي كلها، ومنهم من خصَّها بما ينهى عنه في الإحرام خاصة.

وكذلك الشرك منه ما ينقل عن الملة، واستعماله في ذلك كثير في الكتاب والسنة، ومنه ما لا ينقل، كما جاء في الحديث: «من حلف بغير الله فقد أشرك» وفي الحديث: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل» سُمِّي الرياء شركًا.

المقصود أن الشرك متفاوت، منه ما ينقل عن الملة، ومنه ما لا ينقل كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في معنى قوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء 48] وأن أهل العلم مطْبِقُون على أن الشرك الأكبر داخل في هذه الآية، ومختلفون في الشرك الأصغر.

وتأوَّل ابن عباس على ذلك قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [سورة يوسف 106] قال: إن أحدهم يشرك حتى يشرك بكلبه، يقول: لولا الكلب لسُرِقنا الليلة، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف 110] أي شرك، أدنى شرك.

وقد روي أنها نزلت في الرياء في العمل، وقيل للحسن: يشرك بالله؟ قال: لا؛ ولكن يشرك بذلك العمل عملاً يريد به الله والناس، فذلك يُرَد عليه.

وهناك الكفر المخرج عن الملة، ومنه الكفر الأصغر دون الأكبر، كما تقدم في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «يكفرن العشير» وغير ذلك من النصوص التي أطلق فيها الكفر على بعض المعاصي التي لا يخرج فاعلها من الملة بفعلها، هذا ظاهر أن هناك ظلم دون ظلم كما هنا، وشرك دون شرك فالشرك فيه الأكبر والأصغر، والكفر أيضًا فيه الأكبر والأصغر، والفسق أيضًا فيه المخرج عن الملة، وفيه ما لا يخرج عن الملة كما هو الأصل.

وقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ} [سورة الأنعام 82] بكسر الباء في المضارع وفتحها في الماضي لَبَس يلْبِس، أي يخْلِطوا، وضد هذا الضبط في لُبْس الثوب، لَبَس يلْبِس لَبْسًا أي خَلَط، ولَبِس يلبَس لُبسًا هذا في الثوب ونحوه.

المقدم: إذًا الماضي بالكسر في لبس الثوب؟

لَبِس نعم.

وقوله: "أينا لم يظلم" مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، وإنما قالوا ذلك لأنهم حملوا الظلم على العموم؛ لأنه نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، فبيَّن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الظاهر غير مراد، بل هو من العام الذي أريد به الخاص، وأن المراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك.

الآن هم استدلوا بالعموم، ولا أنكر عليهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، فدل على أن العام يُعمَل به ما لم يَرِد ما يخصصه، وفيه دليل على أن المعاصي لا تُسمَّى شركًا، وأن من لم يشرك بالله شيئًا فله الأمن وهو المهتدي، ولا يقال: إن العاصي قد يُعذَّب فما هذا الأمن والاهتداء الذي حصل له به؟ لا يقال: إن العاصي قد يعذب فكيف نقول إنه حصل له الأمن، وهو لم يشرك؟ يقول: فما هذا الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ يقول:

لأنا نقول: إنه أَمِن من التخليد في النار، وهو مهتدٍ إلى طريق الجنة.

المقدم: أحسن الله إليكم.

إذًا لعلنا نرجئ الحديث -الحقيقة- عن بعض ألفاظ الحديث وبعض معانيه في حلقة قادمة لانتهاء وقت هذه الحلقة.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. كان معنا صاحب الفضيلة الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

شكر الله لفضيلته، شكرًا لكم أنتم على حسن استماعكم، لنا بكم لقاء في حلقة قادمة -بإذن الله تعالى- لنستكمل الحديث حول هذا الحديث الشريف. حتى ذلكم الحين أستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.