شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب صلاة التراويح وفضل ليلة القدر (عام 1428 هـ) - 30

 

ا

المُقَدِّم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أيُّها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم، طابت أوقاتكم جميعًا بكل خير، مع مطلع هذه الحلقة في برنامجكم يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المُقَدِّم: كنا وعدنا الإخوة باستكمال بقية المسائل في ليلة القدر، نستكملها، أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ما العمل في ليلة القدر؟ هل تستغرق الليلة بالصلاة مثلًا، أو بالدعاء، أو بالذكر، أو بالتلاوة، أو ينوع فيها العمل من هذه الأعمال الفاضلة؟ وهل يُقتصر فيها على الأعمال الخاصة، أو يشمل ذلك الأعمال المتعدية؟

يقول ابن رجب- رحمه الله تعالى- في اللطائف: وأمَّا العمل في ليلة القدر فقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»، وقيامها إنَّما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة، وقد أمر عائشة بالدعاء فيها، ماذا قال لها؟ اللهم إنَّك عفو تحب العفو فاعف عني. قال سفيان: "الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة، قال: وإذا كان يقرأ ويدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق" انتهى، ومراده أنَّ كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسنًا. يعني إذا اجتمعت هذه الأمور، أطال القراءة في الصلاة، وأطال الركوع والسجود والتضرع إلى الله- جلَّ وعلا- لا شك أنَّ مثل هذا أكمل. وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يتهجد في ليالي رمضان ويقرأ قراءة مرتلة، لا يمر فيها بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها، والله أعلم. وقد قال الشعبي في ليلة القدر: ليلها كنهارها، ليلة القدر ليلها كنهارها، وقال الشافعي في القديم: استحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها، وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ليله ونهاره، والله أعلم. لكن لا شك أنَّ الليل أفضل عند أهل العلم، ولها مزية، هذا لا يختلفون فيه، حتى إنَّ من أهل العلم من فضَّل نهار عشر ذي الحجة على نهار عشر رمضان، نعم، قالت عائشة- رضي الله عنها- هذا أيضًا من كلام ابن رجب في موضع متأخر، قالت عائشة- رضي الله عنها-: أرأيت إن وافقت- للنبي عليه الصلاة والسلام-، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»، العفو من أسماء الله تعالى ويتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارهم عنهم، وهو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك».

«غفر له ما تقدم من ذنبه» أي مما يتعلق بحقوق الله- عزَّ وجلَّ- غير ما يتعلق بحقوق الآدميين؛ لأنَّ الإجماع قائم على أنَّها لا تسقط إلا برضاهم، شريطة أن يكون الذنب مما هو تحت المشيئة، فيخرج الشرك الذي أخبر الله- عزَّ وجلَّ- أنَّه لا يغفره.

وهل تُغفر الكبائر؟ ظاهر اللفظ نعم؛ لأنَّ (ما) من صيغ العموم، وقال الكرماني: الذنب عام؛ لأنَّه ليس من جنس المضاف. جاء عند النسائي في السنن الكبرى بعد رواية حديث: «من قام ليلة القدر غفر له ما تقدم من ذنبه» جاء عند النسائي وفي حديث قتيبة، بعد أن ذكر الحديث قال: وفي حديث قتيبة «وما تأخر»، وهذه الزيادة صححها المنذري في الترغيب والترهيب، وقال ابن عبد البر في التمهيد: زيادة منكرة.

قال الألباني- رحمه الله- في حاشيته على صحيح الترغيب: هذه الزيادة شاذة، خالف بها قتيبة الثقات، وقال ابن حجر في الفتح: ليس هو بمنكر، فقد تابعه يعني حامد بن يحيى قتيبة وهشام بن عمار، والحسين بن الحسن المروزي، ويوسف بن يعقوب النجاحي، أخرجه أبو بكر بن المقرئ في فوائده كلهم عن سفيان، والمشهور عن الزهري بدونها، وقد وقعت هذه الزيادة أيضًا في حديث عبادة بن الصامت عند الإمام أحمد من وجهين وإسناده حسن. يقول ابن حجر: وقد استوعبت الكلام على طرقه في كتاب الخصال المكفرة للذنوب المُتقَدِّمة والمتأخرة، لكن هذا محصل الكلام.

المُقَدِّم: قال- رحمه الله-: عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ».

راوية الحديث أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق مرَّ ذكرها مرارًا، والحديث هذا ترجم عليه الإمام- رحمه الله تعالى- الإمام البخاري بقوله: باب العمل في العشر الأواخر من رمضان. قال ابن حجر: في رواية المستملي "في رمضان"، في العشر هذه الظرفية ظاهرة، " من رمضان" تبعيضية، نعم، وأمَّا في العشر الأواخر في رمضان يعني العمل ظرفه العشر الأواخر، والعشر ظرفها.

المُقَدِّم: رمضان.

رمضان. وقال العيني: أي هذا باب في بيان الاجتهاد في العمل في العشر الأواخر من رمضان، ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إنَّ شدَّ المئزر وإحياء الليل وإيقاظ الأهل، كلها من العمل في العشر الأواخر.

«إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ» أي الأخير، وصرح به في حديث علي عند ابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق عاصم بن ضمرة. وكأنَّ العشر صارت، علمًا.

المُقَدِّم: العشر الأواخر.

نعم، علم حدده العرف.

المُقَدِّم: صحيح.

لأنَّها العشر الأواخر من رمضان، فإذا انتهت العشر الأواخر ومدحت العشر، وقيل في العشر، فالمراد بها العشر ذي الحجة.

«شَدَّ مِئْزَرَهُ» قال الكرماني: المئزر الإزار، كقولهم: مِلْحَف ولِحاف، وهو كناية إمَّا عن ترك الجماع، وإمَّا عن الاستعداد للعبادة، والاجتهاد لها زائدًا على ما هو عادته- صلى الله عليه وسلم-. وإمَّا عنهما كليهما.

المُقَدِّم: شو العلاقة بين ترك اللحاف مع المئزر، إذا شد مئزره يترك اللحاف؟

المئزر الإزار.

المُقَدِّم: طيب.

كقولهم: مِلْحَف ولِحاف. مئزر ملحف.

المُقَدِّم: طيب.

إزار، لحاف، يأتون بمثل هذا لتوضيح الوزن

المُقَدِّم: لضبط، نعم.

يأتون بالنظير في الوزن؛ لأنَّ قد تكون اللفظة غير دارجة بالنسبة للسامع، فيؤتى بلفظ.

المُقَدِّم: قريب منه.

على وزنه، على زنته عندهم، وهو كناية إمَّا عن ترك الجماع.

المُقَدِّم: هذا واضح.

وإمَّا عن الاستعداد للعبادة، والاجتهاد لها زائدًا على ما هو عادته- صلى الله عليه وسلم-، وإمَّا عنهما كليهما معًا. ولا يُنافي إرادة الحقيقة أيضًا بأن «شَدَّ مِئْزَرَهُ» ظاهرًا أيضًا، يعني شد المئزر ربطه، وكل من أراد أن يتهيأ لعمل.

المُقَدِّم: يشده.

يشد المئزر حقيقة ومعنًى. في فتح الباري: «شدّ مِئْزَرَه» أو «شدُّ مِئْزَرِه» أَي اعتزال النِّسَاءَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ

عَنِ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ

وَذَكَرَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ نَحْوَهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجِدَّ فِي الْعِبَادَةِ كَمَا يُقَالُ: شَدَدْتُ لِهَذَا الْأَمْرِ مِئْزَرِي أَيْ تَشَمَّرْتُ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ التَّشْمِيرُ وَالِاعْتِزَالُ مَعًا، وهذا مقتضى الاتجاه لهذه العبادة في هذه الليالي يتجه الإنسان بكليته، ومقتضاه ولازمه أن يغفل عن غيره، قال الخطابي:  يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجِدَّ فِي الْعِبَادَةِ كَمَا يُقَالُ: شَدَدْتُ لِهَذَا الْأَمْرِ مِئْزَرِي أَيْ تَشَمَّرْتُ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ التَّشْمِيرُ وَالِاعْتِزَالُ مَعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْحَقِيقَة وَالْمجَاز كمن يَقُولُ: طَوِيلُ النِّجَادِ لِطُولِ قامته، يحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز، كيف؟ يراد به الجد هذا المجاز، يراد به الحقيقة الربط شد المئزر. قال: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْحَقِيقَة وَالْمجَاز كمن يَقُولُ: طَوِيلُ النِّجَادِ لِطُولِ قامته، ومقتضى طول القامة.

المُقَدِّم: يقتضي الجد.

نعم، طول النِّجَادِ حَقِيقَةً، فَيَكُونُ الْمُرَادُ شَدَّ مِئْزَرَهُ حَقِيقَةً فَلَمْ يَحُلَّهُ وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ، يعني ما حلَّ المئزر.

المُقَدِّم: من أجل النساء.

لا للنساء، واستفاد منه قوة الظهر الذي شده عليه، فَلَمْ يَحُلَّهُ وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ، وَشَمَّرَ لِلْعِبَادَةِ قُلْتُ- يقول ابن حجر-: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ الْمَذْكُورَةِ: «شَدَّ مِئْزَرَهُ وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ»، فَعَطَفَهُ بِالْوَاوِ، فيتقوى الِاحْتِمَال الأول.

وفي عمدة القاري نقلًا عن التلويح: المئزر والإزار ما يأتزر به الرجل من أسفله، وهو يُذكَّر ويؤنث، وهو كناية عن الجد والتشمير في العبادة، وعن الثوري قال: إنَّه من ألطف الكنايات عن اعتزال النساء، يعني قد يُكنى بالاعتزال عن النساء بالالتفات إلى العبادة إن كان الرجل عابدًا، أو إلى الدنيا إن كان من أهلها، فامرأة ابن عمر قالت للنبي- عليه الصلاة والسلام-: إنَّ عبد الله صوام بالنهار، قوام بالليل، يعني مقتضاه.

المُقَدِّم: أنَّه معتزل المرأة.

أنَّه معتزل المرأة. أيضًا إذا قيل: فلان في الأسواق ليل نهار، إذا قالت المرأة: فلان في الأسواق ليل نهار.

المُقَدِّم: يعني معتزل، منشغل بدنياه.

منشغل بدنياه عن أهله. وقال القرطبي: قد ذهب بعض أئمتنا إلى أنَّه عبارة عن الاعتكاف. قال: وفيه بُعد؛ لقوله: «وأَيْقَظَ أَهْلَهُ»، وهذا يدل على أنَّه كان معهم في البيت، «أَيْقَظَ أَهْلَهُ» يعني معهم في البيت، ومقتضى الاعتكاف.

المُقَدِّم: أنَّه في المسجد.

أنَّه في المسجد، وهذا يدل على أنَّه كان معهم في البيت، وهو كان في حال اعتكافه في المسجد، وما كان يخرج منه إلا لحاجة الإنسان، على أنَّه يصح أن يوقظهنَّ من موضعه من باب الخوخة التي كانت له إلى بيته في المسجد. وقال صاحب التلويح: يحتمل أيضًا أن يكون قوله: «يوقظ أهله».

المُقَدِّم: يرسل من يوقظهم.

أي المعتكفة، «يوقظ أهله» أي المعتكفة معه في المسجد؛ لأنَّ بعض النساء اعتكفن معه، ويحتمل أن يوقظهن إذا دخل البيت لحاجته؛ لأنَّه يدخل البيت لحاجته.

«وأَيْقَظَ أَهْلَهُ» قال ابن حجر: أَيْ لِلصَّلَاةِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يُطِيقُ الْقِيَامَ إِلَّا أَقَامَهُ.

«وأَحْيَا لَيْلَهُ» أي سهر ليله فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه؛ لأنَّ النوم أخو الموت، جاء هنا إحياء الليل، وجاء أنَّه- عليه الصلاة والسلام- يكره النوم قبلها والحديث بعدها، ويكره أيضًا السهر، وجاء عنه السمر أيضًا في العلم كما تقدم في كتاب العلم، وهنا لا شك أنَّ استغلال مثل هذه الليالي لا يُعارض به ما جاء من أنَّ النوم بالليل هو السُّنَّة الكونية، وأنَّه لا ينبغي هذا معارض راجح. «وأَحْيَا لَيْلَهُ» أي سهر ليله فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه؛ لأنَّ النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعًا؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ إِذَا حيي باليقظة أَحْيَا لَيْلَهُ بِحَيَاتِهِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا» أَيْ لَا تَنَامُوا فَتَكُونُوا كَالْأَمْوَاتِ فَتَكُونَ بُيُوتُكُمْ كَالْقُبُورِ. انتهى من فتح الباري، وفي الكرماني قوله: «أَحْيَا لَيْلَهُ» فيه وجهان، أحدهما أنَّه راجع إلى العابد؛ لأنَّه إذ ترك النوم الذي هو أخو الموت للعبادة فكأنَّه أحيا نفسه. وثانيهما أنه عائد إلى الليل فإنَّ ليله لمَّا قام فيه فكأنما أحياه بالطاعة كقوله تعالى: {كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [سورة الروم:50]. نعم. وقال العيني: يعني باجتهاده في العشر الأواخر من رمضان لاحتمال أن يكون الشهر إمَّا تامًّا، وإمَّا ناقصًا، فإذا أحيا ليالي العشر كلها لم يفته منها شفع ولا وتر، وقيل: لأن العشر آخر العمل فينبغي أن يحرص على تجويد الخاتمة. قال شيخنا العيني يقول: قال شيخنا وهو الحافظ العراقي: وفي حديث عائشة في الصحيح: «أحيا الليل كله»، والله أعلم أنَّ المراد به معظم الليل، بدليل قولها في الحديث الصحيح «ما علمته قام ليلة حتى الصباح».

قال شيخنا: وفي حديث عائشة في الصحيح: «أحيا الليل كله»، والله أعلم معظم الليل، بدليل قولها في الحديث الصحيح «ما علمته قام ليلة حتى الصباح». وقال النووي: وقوله «أحيا الليل» أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها، وقال: وفيه استحباب إحياء لياليه بالعبادات.

قال: وأمَّا قول أصحابنا: يكره قيام الليل- يعني كله- فمعناه الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلة أو ليلتين والعشر؛ ولهذا اتفقوا على استحباب إحياء ليلتي العيد وغير ذلك. هذا كلام النووي. نأتي إلى مسألة إحياء الليل كله في العشر، (أَحْيَا لَيْلَهُ) مقتضى الحديث أنَّه كله، وقول عائشة «ما علمته قام ليلة حتى الصباح» يعني نفي على حد علمها، وبناءً على غالب أحواله- عليه الصلاة والسلام-.

المُقَدِّم: صلى الله عليه وسلم.

ولا يعني أنَّه في هذه الليالي العشر لا ينام، قوله: وأمَّا قول أصحابنا- يقول النووي-: يُكره قيام الليل- يعني كل الليل- فمعناه الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلة أو ليلتين والعشر، يعني تخصيص ليلة أو ليلتين لابد من مخصص بعينها، لكن كونه نشط لإحياء ليلة من الليالي ووجد في نفسه راحة وخفة، ووجد في بعض الليالي ثِقلًا وتفاوت قيامه من ليلة إلى ليلة من غير قصد لليلة بعينها هذا لا إشكال فيه.

قال: ولهذا اتفقوا على استحباب إحياء ليلتي العيد وغير ذلك. أقول: استحباب إحياء ليلتي العيدين معوله على حديث: «من أحيا ليلتي العيدين لم يمت قلبه حين تموت القلوب، أو يوم تموت القلوب» وهو ضعيف لا تقوم به حجة، ولا تثبت به عبادة، لكن على رأي الأكثر أنَّ الضعيف تثبت به فضائل الأعمال، نجد كثيرًا من أهل العلم يقرر هذه المسألة، والحديث فيها لا يثبت.

في اللطائف- لطائف المعارف لابن رجب- يقول في المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان: في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أَهْلَهُ» هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: «أحيا الليل، وأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وشد المئزر»، وفي رواية لمسلم عنها قالت: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره»، كان النبي- صلى الله عليه وسلم -يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، فمنها إحياء الليل، فيحتمل أنَّ المراد إحياء الليل كله.

وقد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ: «وأحيا الليل كله»، وفي المسند من وجه آخر عنها قالت: «كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر- يعني الأخير- شمَّر وشدَّ المئزر»، وخرج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس قال: «كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعًا وعشرين لم يذق غمضًا». وقال الحافظ إنَّه فيه ضعف، ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه، وقد روي عن بعض المتقدمين من بني هاشم- أظنه الراوي أبا جعفر محمد بن علي- أنَّه فسر ذلك بإحياء نصف الليل، وقال: من أحيا نصف الليل فقد أحيا الليل، وقد سبق مثل هذا في قول عائشة- رضي الله عنها-: «كان النبي- صلى الله عليه وسلم-، يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا». ويؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت: ما أعلمه قام ليلة حتى الصباح.

وذكر بعض الشافعية في إحياء ليلتي العيدين أنَّه لا تحصل فضيلة الإحياء بمعظم الليل قال: وقيل: تحصل بساعة، وقد نقل الشافعي في الأم عن جماعة من خيار أهل المدينة ما يؤيده، ونقل بعض أصحابهم عن ابن عباس أنَّ إحياءها يحصل بأن يصلي العشاء في جماعة.

المُقَدِّم: الحديث.

نعم، ويعزم على أن يصلي الصبح في جماعة، وقال مالك في الموطأ: بلغني أنَّ ابن المسيب قال: من شهد العشاء ليلة القدر-يعني في جماعة- فقد أخذ بحظه منها، صحيح أخذ بحظه، لكن ما قامها، يعني لا تُسمع هذه الأقوال ويُقال هذه أقوال لأهل العلم والحمد لله صلينا العشاء في جماعة فلا داعي أن نسهر..، لا يقول مثل هذا إلا محروم. وكذا قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها، وقد رُوي هذا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من صلى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر» خرّجه أبو الشيخ الأصبهاني ومن طريقه أبو موسى المديني، وذكر أنَّه رُوي من وجه آخر عن أبي هريرة نحوه.. إلى آخر ما ذكره- رحمه الله-. ثم قال: ويُروى من حديث علي بن أبي طالب مرفوعًا، لكن إسناده ضعيف جدًّا، هذه ميزة الحافظ ابن رجب أنَّه يصحّح ويضعِّف، يعني ما يترك هذه الأحاديث وإن كان موضوعها الترغيب، الفضائل، يتركها تمر هكذا. لكن إسناده ضعيف جدًّا ويروى من حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلاً أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أتى عليه رمضان صحيحًا مسلمًا صام نهاره وصلى وردًا من ليله، وغض بصره، وحفظ فرجه ولسانه ويده، وحافظ على صلاته في الجماعة، وبكر إلى الجمعة فقد صام الشهر، واستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الرب- عزَّ وجلَّ-»، قال أبو جعفر: جائزة لا تشبه جوائز الأمراء، خرّجه ابن أبي الدنيا.

قال: ولو نذر قيام ليلة القدر لزمه أن يقوم من ليالي شهر رمضان ما يتيقن به قيامها، فمن قال من العلماء: إنَّها في جميع الشهر يقول: يلزمه قيام جميع ليالي الشهر، ومن قال: هي في النصف الآخر من الشهر، قال: يلزمه قيام ليالي النصف الأخير منه، ومن قال: هي في العشر الأواخر من الشهر قال: يلزمه قيام ليالي العشر كلها، وهو قول أصحابنا، وإن كان نذره كذلك، وقد مضى بعض ليالي العشر فإن قلنا: .. إلى آخر كلامه. ومعلوم أنَّ النذر مرده إلى العرف، يعني لا يتم قيامه إلا بما يحصل به القيام.

نسأل الله- جلَّ وعلا- أن يوفقنا والإخوة السامعين وجميع المسلمين إلى قيام هذه الليلة التي من حُرمها فقد حُرم الخير كله، وقيامها يعدل بل هو خير من ألف شهر، وقُدِّر ألف الشهر بأكثر من ثمانين سنة ليس فيها ليلة القدر. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المُقَدِّم: اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله. إذًا أيُّها الإخوة والأخوات نصل وإيَّاكم في نهاية هذه الحلقة إلى ختام هذا الكتاب في شرح كتاب الصوم، وكتاب أيضًا فضل ليلة القدر، نسأل الله- تبارك وتعالى- أن يتقبل منا ومنكم، وأن يعيننا وإيَّاكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، شكرًا لطيب المتابعة، لقاؤنا بكم بإذن الله تعالى في حلقات قادمة ومناسبات أخرى وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.