كتاب الغصب والشفعة من المحرر في الحديث - 06

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال -رحمه الله تعالى-: "وعن ابن عَوْن عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أصاب عمرُ أرضًا بخيبر، فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به"، هذا سبق شرحه، قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها»، حبست أصلها بحيث لا يسوغ لك التصرف فيها، يعني أنها تكون صدقة، وحبس مؤبَّد، وهذه هي حقيقة الوقف.

 "قال: فتصدق بها عمر، تصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع" لا يباع، ولا يشترى، وهذه حقيقة الوقف أنه لا يجوز بيعه، كما أنه لا يجوز شراؤه.

 "ولا يورَث" لا يباع أصله، الوقف لا يجوز بيعه، وهذا قول عامة أهل العلم، والمذهب عند الحنفية التخفيف في مثل هذا، ومنهم، من أئمتهم من قال: لو أن الإمام بلغه، وفي رواية البخاري، ما جاء في البخاري، كما سيأتي من رواية صخر بن جويرية عن نافع فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- تصدق بأصله، لا يباع، ولا يورَث؛ لأن اللفظ الأول لا يباع أصله، ولا يبتاع، يحتمل أن يكون موقوفًا من قول عمر -رضي الله عنه-، أما الرواية الأخيرة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تصدق بأصله، لا يباع، ولا يوهب»، وهذه لا كلام لأحد معه مرفوع صريحًا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-.

 «لا يباع أصلها، ولا يبتاع» لا يباع ولا يشرى، فيه كتاب موقوف بيد طالب علم، أراد أن يبيعه، نقول له: لا يجوز بيعه، وهناك طالب علم آخر محتاج إلى هذا الكتاب، ورفض من بيده الكتاب أن يعطيه إياه قال أهل العلم إنه يتسامَح بالشراء للحاجة، للحاجة، يعني الشراء أسهل من البيع، قال: «لا يباع أصلها، ولا يبتاع»، الأصل أن البيع والشراء حرام على حد سواء، لكن البائع لا عذر له في البيع، لكن المشتري محتاج ومضطر إلى هذا الكتاب، مثل ما قال الحنابلة في المصحف إنه لا يجوز بيعه؛ لأنه امتهان، لكن من احتاج إلى المصحف، ولم يجد من يبذل له مصحفًا مجانا ساغ له أن يدفع للحاجة.

 قالوا: الكلب لا يجوز بيعه؛ لأن ثمن الكلب خبيث، لا يجوز بيعه، لكن من احتاج إليه في صيد أو حراسة أو زرع أو ماشية جوَّز له أهل العلم الشراء؛ للحاجة، فهناك صوَر مستثناة، الأصل أن البيع والشراء الحكم واحد، وما حرم أخذه حرم دفعه، ما حرم أخذه حرم دفعه، لكن يستثنى من ذلك مثل هذه الصور التي ذكرناها للحاجة، كشراء الوقف بخلاف بيعه، وكشراء المصحف عند من يقول بأنه لا يجوز بيعه، وكذلك شراء ما يحتاج إليه مما لا يسوغ بيعه.

 "لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورَث، وتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها" هذا الكلام الظاهر من لفظه أنه من قول عمر -رضي الله عنه-: «ولا يورَث»؛ لأنه ليس بملك للميت بحيث ينتقل كسائر تركته إلى ورثته، خرج من يده، وليس ملكًا له، «ولا يورَث، ولا يوهَب»؛ لأن الواقف أخرجه من يده لله -جل وعلا-، فلا يجوز أن يهبه لأحد بحيث يتملكه الموهوب، بل تبقى رقبته وأصله وقفًا حبسًا مؤبَّدًا، ولا يوهَب، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء، يعني غلة الوقف ونتاجه يوزَّع على الفقراء.

 "وفي القربى" قربى عمر -رضي الله عنه- أقارب عمر، "وفي الرقاب" في إعتاق الرقاب وفكاك الأسرى، "وفي سبيل الله" الغزو والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، هذه كلها أبواب خير، "وابن السبيل" الذي انقطعت به السبل بعيدًا عن أهله وماله وذويه، وليس لديه مال ينفق منه على نفسه.

 "وابن السبيل والضيف" أيضًا الضيف جاء الأمر بإكرامه، «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»، فهذا أيضًا من أبواب الخير وأبواب البر.

 "لا جناح على من وليها" يعني ولي النظارة في الوقف وصار وكيلاً على هذا الوقف، "لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، يأكل منها بالمعروف" يعني فقيرًا كان أو غنيًّا يأكل بالمعروف بمقابل تعبه على هذا الوقف، ولو قيل بمنع ذلك لتعطلت النظارة عليه لا شك أن من يتبرع فيلي الأوقاف، ويلي أموال اليتامى ويصلحها، ويتبرع بذلك من غير مقابِل لا شك أن هذا أفضل وأكمل، وأجره على الله موفور، إن شاء الله عند الله، لكن إذا قال: أنا لا أحبس نفسي، ولا أضيع وقتي إلا بمقابل، آكل منها بالمعروف قال: «لا جناح» يعني لا إثم على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، يعني فيما يتعارف الناس أن مثل هذا لا يتشاحّون فيه، ما يقال: والله أنت أكلت كثيرًا، وقال: لا، أنا قليل في المتعارف عليه بين الناس.

 "أو يطعم صديقا غير متمول فيه" يعني هو يأكل من ولي الوقف لا مانع، لكن مره صديق له لا مانع أن يطعم صديقه غير متموِّل فيه، يعني لا يأخذ شيئًا له بال، له شأن، بحيث يعتبر مالًا لا يجوز له أن يأخذ شيئًا بحيث يبيعه أو تتموله، لكن يأكل لا مانع.

 "قال: فحدثت بهذا الحديث محمدًا" يعني ابن سيرين كما صُرِّح به في الصحيح عند البخاري وغيره، "قال: فحدثت بهذا محمدًا، فلما بلغت هذا المكان غير متموِّل فيه قال" ابن سيرين "لما بلغت هذا المكان غير متمول فيه قال محمد: غير متأثِّل مالاً، غير متأثِّل مالاً" يعني غير متخذ مالًا، والخلاف يسير بين اللفظين، يعني ما يترتب عليه اختلاف في الحكم، لكن هذا من دقة الرواة لاسيما ابن سيرين الذي يمنع الرواية بالمعنى، عامة أهل العلم على جواز الرواية بالمعنى بالشرط المعروف عند أهل العلم أن يكون الراوي عارفًا بمدلولات الألفاظ عالمًا بما يحيل المعاني ابن سيرين يمنع الرواية بالمعنى مطلقًا، ولذلك ما فيه فرق بين غير متمول وغير متأثل، لكنه نبه على هذا الاختلاف قصدًا منه بإيراد الحديث بلفظه.

 "متفق عليه، واللفظ لمسلم، وللبخاري من رواية صخر بن جويرية عن نافع" في الحديث السابق يعني عن ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا إلى آخره فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: تصريح بالرفع  إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- «تصدق بأصله» أمر «تصدق بأصله» يعني هل يجب الوقف؟

هو جاء يستشير النبي -عليه الصلاة والسلام- يعني ما أصنع به؟ قال: «تصدق به» إشارة منه إلى أفضل وجوه ما يفعل بمثل هذا المال «تصدق بأصله لا يباع، ولا يوهَب، ولا يورَث، ولكن ينفق ثمره»، الأصل باقٍ مؤبَّد محبَّس موقوف، لا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا إذا تعطلت منافعه فأهل العلم عندهم أن الوقف إذا تعطلت منافعه أنه يباع، ويصرف فيما ينفع الميت الموقِف وينفع غيره، ويكون له غلة تكون مصارف الوقف من هذه الغلة.

 «لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن يُنفَق ثمره» فتصدق به عمر الحديث، فتصدق به عمر، يعني أكمل الحديث على ما مر على ما جاء في الرواية السابقة، وذكر أن هذا المال كان نخلاً بخيبر، أو بثمغ كما جاء في الرواية الأخرى في الصحيح الوقف لا شك أنه من أفضل الأعمال التي يتركها الميت، والصدقة الجارية التي جاء ذكرها في الحديث السابق «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية».

 هذا الوقف جارٍ؛ لأنه ثابت، أصله ثابت، ما ينقطع ثابت الأصل والثمرة والغلة يتصدق بها؛ لأنها تتكرر، لكن بعض الناس يمتثل مثل هذه الأمور، ويتصدق صدقة جارية ويوقِف مالاً من نخل أو غيره أو محلات أو دكاكين أو عمارات غلتها في وجوه البر، لكن قد يسيء مَن ينظر، يعني الناظر على الوقف يسيء إلى الوقف، وهو يشعر أو لا يشعر، محل فيه مائة دكان يسمونه قيصرية مثلاً، وتباع فيها السلع التي منها المباح وغير المباح، هل في هذا إحسان للوقف، وتباع المحرمات في هذا الوقف الذي تصرف غلته في وجوه البر لاسيما إذا كانت الأوقاف كبيرة أوقاف بالملايين، وأوقاف بالمليارات وبعض الناس يتسمح ويفتي بأنه إذا كان هذا النشاط متعدد الأغراض فلا مانع أن يؤجَّر على شخص، ولا يُبحَث عن نشاطه.

 هذا خلاف مراد الواقف، مراد الواقف الخير ونشر الخير ودعم الخير، وتزاوَل العقود المحرمة في هذا المكان؟! وقف يؤجر لبنك ربوي؟! نعوذ بالله! أو يؤجَّر محل آلات لهو أو محلات تبيع ما حرم الله، هل هذا يحقق الهدف الشرعي من الوقف؟! هل هذا يحقق الهدف الشرعي من الوقف؟!

لا، شيخ الإسلام في الاختيارات يقول: الوقف إذا لم يحقق الهدف الشرعي منه فليس بوقف، مصحف يوقَف على ضريح أو كتاب علم صحيح البخاري أو مسلم أو غيرهما يوقف على زاوية صوفية! ما يستفاد منه، خلاص متعطل المنافع، إما أن ينقل إلى مكان بحيث يستفاد منه الفائدة التي يرجوها الواقف، الواقف قد يكون قصده حسنًا يسمع الناس أن هذا محل فاضل، ومحل يجتمع فيه هؤلاء العباد، ولا يدري عن حقيقتهم، هذا لا يحقق الهدف، وقلنا: إن مثل هذا الوقف إما أن يقال: إن الوقف باطل، وحينئذ يباع الموقوف، أو يقال: إن هدف الواقف وقصد الواقف الخير، فيصحَّح وينقَل إلى مكان يستفاد منه كالوقف إذا تعطلت منافعه وكالوصية المتضمنة لجنف هذه تعدل، فمثل هذا يعدَّل وينقل إلى مكان يستفاد منه.

نعم.

"بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

 اللهم اغفر لشيخنا ولجميع المسلمين.

باب الهبة:

 عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أنه قال: إن أباه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟» فقال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فارجعه»، وفي لفظ قال: تصدقت على أبي ببعض ماله."

تصدق عَلَيَّ أبي..

"تصدق عَلَيَّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانطلق أبي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفعلتَ هذا بولدكَ كلهم؟» قال: لا، قال: «اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم»، فرجع أبي فرد تلك الصدقة، متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفي لفظ له: «أكل بنيك نحلته مثل ما نحلت النعمان؟» قال: لا، قال: «فأشهد على هذا غيري»، ثم قال: «فيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى، قال: «فلا إذًا»."

كمِّل كمِّل إلى آخر الباب.

"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «العائد في هبته كالكلبُ يقيء».."

كالكلبِ..

"«ثم يعود في قيئه»، متفق عليه.

 وللبخاري عن عكرمة عن ابن عباس قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس مثْل السوء».."

مثَل..

"«ليس لنا مثَل السوء، الذي يعود في هبته كالكلبِ يعود في قيئه».

 وعن عمرو بن شعيب عن طاوس أنه سمع ابن عمر وابنُ عباس.."

سمع ابنَ.. وابنَ..

"سمع.."

ابنَ..

"ابنَ عمر وابنَ عباس -رضي الله عنهم- يحدثان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحل للرجل المسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالدَ فيما يعطي»."

إلا الوالدُ، إلا الوالدُ..

"«إلا الوالدُ فيما يعطي ولدُه..»"

ولدَه..

"«ومثْل الذي يرجع في عطيته..»"

مثَل..

"«ومثَل الذي يرجع في عطيته كمثَل الكلب أكل حتى شبع، أكل حتى شبع..»"

حتى إن شبع قاء..

"«أكل..»."

حتى إن شبع قاء..

"«حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه»، رواه الإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي، وهذا لفظه، وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم، وقد روي مرسلاً.

 وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية ويثيب عليها، رواه البخاري.

 وعن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: وهب رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأثابه عليها فقال: «رضيت؟» قال: لا، فزاده فقال: «رضيت؟» قال: لا، فزاده فقال: «رضيت؟» قال: نعم، قال -صلى الله عليه وسلم-: «لقد هممتُ ألا أتَهَب..»."

أتَّهِبَ..

"«أتَّهِبَ هبة إلا من أنصاري أو قرشي أو ثقفي»، رواه أحمد والطبراني وابن حاتم البستي.."

وأبو وأبو..

"وأبو حاتم البستي، وقد روي نحوه من حديث أبي هريرة.

 وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «العمرى لمن وُهبَت له»، متفق عليه.

 ولمسلم عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإن أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه».

 وله عنه: إن العمرى التي أجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها. قال معمر: وكان الزهري يفتي به. وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تُرقِبوا ولا تُعمِروا، فمن أُرقِب..»."

أَرقَب..

"«فمن أَرَقب شيئًا فهو لورثته»، رواه أبو داود والنسائي وهذا لفظه، ورواته ثقات.

 وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه، فظننت أنه باعه برخص، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.."

أنه بائعه، فظننت أنه..

"باعه.."

بائعه..

"بائعه برخص، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: «لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم، ولا تُعِد في صدقتك»."

تَعُد تَعُد..

"«ولا تَعُد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه»، متفق عليه، واللفظ لمسلم."

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "باب الهِبَة، باب الهِبَة" الهِبَة هي عطية جائز التصرف ماله لغيره من غير مقابِل، الهبة والعطية والهدية كلها بدون مقابل، أن يهب أو يعطي شريطة أن يكون جائز التصرف، ماله من غير مقابل، فإذا أعطاه إياه من غير مقابل صارت هبة، ولا يرجو بذلك ثواب دنيا، فإن كانت بقصد الثواب على ما سيأتي فلها حكم البيع؛ لأن بعض الناس يقدِّم شيئًا لغيره، لكنه يرجو أن يعطيه ويثيبه على هذه الهدية، أو على هذه الهبة، هذه يقرر أهل العلم أن لها أحكام البيع، أما الهبة أو الهدية بقصد الثواب من الله -جل وعلا- يقصد بها المسلم، ويرجو بها ثواب الله؛ لأنها تزرع المحبة، والمودة في قلوب الناس، وفي الحديث: «تهادَوا تحابُّوا».

"عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أنه قال: إن أباه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن أباه" ما قال: إن أبي، ما قال: إن أبي أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا التفات من التكلم إلى الغَيبة، وهذا مستعمل كثيرًا في النصوص وفي لغة العرب، وكثيرًا ما يُعدَل عن لفظ الشخص في حديثه عن نفسه إلى الغَيْبَة إذا كان في كلامه ما يُنتَقد، فالراوي لا يستسيغ أن ينسب الكلام إلى نفسه وإن كان في الأصل لغيره، يعني في حديث أبي طالب لما حضرته الوفاة والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «يا عمِّ قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله»، وجلساء السوء يقولون له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، أصل العبارة وفي حديثه عن نفسه أنه ينسب الكلام إلى نفسه: إني، أو أنا، لكن الراوي يستقبح مثل هذا الكلام أن يضيفه إلى نفسه، وإن كان ناقلاً للكلام عن غيره.

 "أن أباه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني نحلتُ" يعني أعطيتُ ووهبتُ، "ابني هذا" الأب اسمه بشير بن سعد، والابن النعمان بن بشير، "إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي، إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ أكل ولدك نحلته مثل هذا؟»"؛ لأن له أولادًا وله بنات ذكور وإناث، "فقال: لا"، يعني ما أعطيت إلا النعمان، ما نحلت إلا هذا النعمان، "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فأرجعه»" أعد هبتك وأعد نحلتك، أرجعها إلى مالك.

 "وفي لفظ قال" يعني النعمان: "تصدَّق عليَّ أبي ببعض ماله" تصدق يعني أعطاه "تصدَّق عليَّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم"- أخشى أن يرجع، فإذا أشهد النبي -عليه الصلاة والسلام- وثبتت شهادته -عليه الصلاة والسلام- على هذه العطية لا يستطيع أن يرجع، ما قالت: أشهد فلانًا أو فلانًا أو علانًا؛ لأن شهادتهم مهما كثروا ليست في القوة والثبوت مثل شهادة النبي -عليه الصلاة والسلام-، خلاص إذا شهد النبي ما تسول له نفسه أن يرجع في عطيته.

 "لا أرضى حتى تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فانطلق أبي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليشهده على صدقتي، ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفعلتَ هذا»" يعني أعطيت ونحلت، «أفعلت هذا بولدك كلهم؟»، والولد يشمل الذكر والأنثى، قال: لا، قال: «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، اتقوا الله واعدلوا في أولادكم»، فرجع أبي فرد تلك الصدقة، يعني أعادها امتثالاً لقوله: «فأرجعه»؛ لأنها عطية أو هدية باطلة، ليس فيها تسوية بين الأولاد، فيلزم إرجاعها، تجب التسوية في العطية بين الأولاد، والتسوية بعض الروايات: «اتقوا الله، سووا بين أولادكم»، التسوية فهم منها بعض العلماء أن الذكر والأنثى على حد سواء يسوى بينهم، ومنهم من قال: إن مقتضى التسوية العدل بينهم، ومقتضى العدل أن يكون على قسمة الله -جل وعلا- للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا شك أن حرفية التسوية المساواة بين الذكر والأنثى.

 «اتقوا الله، سووا بين أولادكم»، والله -جل وعلا- وهو العليم الحكيم الذي قسم الميراث في كتابه، ولم يكِل قسمته إلى خلقه، قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [سورة النساء:11]، والله أعلم بمصالح العباد، وأن الذكر يتحمَّل من النفقات والمصاريف أكثر مما تتحمله المرأة، هذا هو الأصل، الأصل في هذا أن الرجل هو المنفِق، والمرأة منفَق عليها، والنفقة لها أثر في التفضيل والقوامة؛ {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ} [سورة النساء:34]، هذه هي القاعدة والجادة الشرعية، ومع ذلك يأبى الناس إلا أن يقولوا: الذكر والأنثى سواء، محادّة لله ورسوله.

الله -جل وعلا- الذي خلق الخلق هو أعرف وأعلم وأحكم، هو الرؤوف الرحيم العليم الخبير، ويأبون إلا أن يقولوا: لا، الذكر مثل الأنثى، الأنثى مثل الذكر، هذه مناقضة لحكم الله -جل وعلا-، الله -جل وعلا- يقول: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [سورة النساء:11] ماذا عليها من النفقات؟

 نعم، قد يوجَد امرأة عندها أيتام تنفق عليهم، ليس لهم أب، لكن إذا وُجِد الأب فالنفقة عليه، ليست عليها، هذا هو الأصل.

 المقصود أن من قسم بين أولاده على ما رضيه الله -جل وعلا- في كتابه لخلقه فما ظلم وفي الوصية يقول أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-: رضيتُ بما رضي به الله -جل وعلا- لنفسه، فأوصى بخمس ماله، وفي حديث سعد «الثلث، والثلث كثير، الثلث، والثلث كثير»، بما دل على أن ما دونه وهو الأرفق بالورثة أولى منه.

 "«أفعلتَ هذا بولدك كلهم؟» قال: لا، قال: «اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم»، فرجع أبي فرد تلك الصدقة، متفق عليه، واللفظ لمسلم.

 وفي لفظ له قال: «أكل بنيك نحلته مثل ما نحلت النعمان؟»"، ولذا على القاضي والمفتي إذا جيء له ليوثِّق العقود أن يستفصل، أن يستفصل، فما وافق الشرع أقره، وما خالف الشرع رفضه، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- رفض الشهادة بعدما استفصل، «أكل بنيك نحلتهم مثل ما نحلت النعمان؟» استفصل، "قال: لا، قال: «فأشهد على هذا غيري»وفي رواية: «لا تشهدني على جور»، جور، الجَور ظلم، فقوله: «فأشهد على هذا غيري» ليس دليلاً على الإباحة كما قال بعضهم أنه إذا كان يجوز الإشهاد وتوثيق العقد عند غيره -عليه الصلاة والسلام- فإنه يجوز التفضيل بينهم، هذا الكلام ليس بصحيح، والسياق يأباه، وروايات الحديث إذا جمعت: «أرجعه»، «لا أشهد على جَور»، «أتريد أن يكونوا لك في البر سواء؟»، هذا يأبى أن يكون قوله: «أشهد على هذا غيري» مما يدل على الجواز.

 "ثم قال: «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى، قال: «فلا إذًا»"، يعني لا تفعل، "«أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى"، نعم كلهم يرجو أن يكونوا بررة، ما فيه أحد يتمنى أن يكون بعض ولده بارًّا، وبعضهم عاقًّا، لا، فإذا أردت أن يكونوا في البر سواء فابذل السبب، فابذل السبب، وهذا خطاب موجَّه للآباء وللأمهات أيضًا، ولمن ولي ولايات عليه أن يعدل بين من وليه عليهم؛ ليكون إخلاصهم في العمل سواء مدير مدرسة مثلاً يعطي هذا عشر حصص، وهذا خمسة عشر حصة، وهذا عشرين حصة، ويريد ويرجو أن يكون أداؤهم في العمل سواءً؟! ما يمكن، النفوس لها حظوظ، وإن كان الطرف الآخر مطالَب بأن يسعى لإبراء ذمته، وأن يؤدي عمله على الوجه التام بإخلاص، لكن أيضًا هذا المدير الذي ما عدل بين المدرسين يتوقَّع أن لا يكون الأداء واحدًا. «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم».

 "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «العائد في هبته»" يعني كل له من خطاب الشرع ما يخصه، كل له من خطاب الشرع ما يخصه، ليس معنى هذا أن المدرس المظلوم الذي أعطي أكثر من غيره أنه لا يخلص، ولا ينصح، ولا يؤدي ما وكل إليه بإخلاص تبرأ به ذمته، لا، هو مطالب بشيء، والطرف الثاني مطالب بشيء، فكل له من خطاب الشرع ما يخصه، لكن مثل هذا هل معنى هذا أنه إذا أعطي ولد وترك الآخر أن الثاني يسوغ له العقوق؟ لا، عليه أن يؤدي ما عليه، ويسأل الله -جل وعلا- الذي له، حتى الولد المظلوم الذي فضل أخوه عليه لا يجوز له أن يعق، لكنها نتائج طبيعية في البشر، والنفوس لها حظوظ، وهذه مقدمات لها نتائجها كما هو معتاد في حياة الناس، فلا تتسبب في عقوق ابنك لك أو في تضييق بعض المنسوبين إلى إدارتك أو رئاستك أو وزارتك تضييع للحقوق؛ بسبب حيفك وجَورك وتفضيلك بعضهم على بعض.

يقول: هل العدل بين.. يكون في كل شيء؟

يعني مثال: تعطي فسحة المدرسة الولد خمسة ريالات والبنت ثلاثة هذا داخل في النفقات، والنفقات لا شك أنها تقدَّر بقدرها، الصغير يعطى ما يكفيه، والكبير يعطى ما يحتاجه، الولد عمره عشرون سنة، وآخر خمس، أعطى هذا سيارة يعطي الثاني سيارة يلزمه؟ لا، اشترى للبنت ذهبًا يشتري للولد ذهبًا؟ لا، هذا داخل في النفقات المربوطة بالحاجات، فكل يعطى ما يحتاجه ويليق به، مثل هذا الفسحة، الولد في الصف السادس، والبنت كذلك، هل نقول: لا، البنت ثلاثة والولد ستة؟ لا، لا، حاجتهم واحدة، حتى إذا قُدِّم الطعام وأكلت البنت نصف ما يأكل الولد نقول: خلاص، قفي ما تكملين؟ لا، هذا ما هو بصحيح، هذا مرده إلى الحاجة، فكل يعطى حاجته.

"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «العائد في هبته كالكلب، العائد في هبته كالكلب يقيء»" يعني يأكل الطعام على ما سيأتي حتى إن شبع قاءه واستفرغه، ثم عاد إليه فأكله، هل فيه أحد يرضى أن يشابه الكلب في هذه الصورة؟! لا شك أن هذا أسلوب تنفير، ومفاده التحريم، يعني كما قال الله -جل وعلا- في الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [سورة الحجرات:12]، هذا لا شك أنه يدل على التحريم.

 "«العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»، متفق عليه، وللبخاري عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس لنا مثل السوء، ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يعود في قيئه»"، هذا أخذ منه أهل العلم التحريم، تحريم العَود في الهبة، وأبعَدَ من فهم منه الجواز، وأبعد من فهم منه الجواز يقول: المثال كالكلب أو التشبيه هل يحرم على الكلب أن يعود في قيئه؟! هل يحرم على الكلب أن يعود في قيئه؟! هل يأثم بذلك؟! هذا غير مكلَّف، يقولون: مادام ما يحرم عليه العود والمشبَّه مثل المشبَّه به في الحكم، وهذا بُعْد في الاستنباط وضعف في الفقه؛ لأن التشبيه لا يلزم أن يتطابق المشبَّه مع المشبَّه به في وجه الشبه من كل وجه، لا يلزم التطابق في وجه الشبه من كل وجه، أول زمرة تدخل الجنة كالقمر ليلة البدر، القمر له عينان؟ له أنف؟ له فم؟ هل يستطيع أن يقول أحد: إن أول زمرة تدخل الجنة بلا عيون وبلا أنف وبلا فم وبلا.. لأن المشبَّه به كذا؟! يمكن أن يقال؟! لا يلزم مطابقة المشبَّه بالمشبَّه به من كل وجه.

«ليس لنا مثل السوء»، وإذا مُثِّل بالحيوان لا شك أن هذا أسلوب تنفير كما جاء في المنهيات في الصلاة نقر الغراب، وإقعاء الكلب، وتذبيح الحمار إلى غير ذلك مِن الأفعال التي يفعلها بعض المصلين مما يشبه بها بعض الحيوانات، لا شك أن هذا يدل على التحريم؛ لأن مثل سَوْء والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يعود في قيئه».

 "وعن عمرو بن شعيب عن طاوس أنه سمع ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- يحدثان عن النبي -صلى الله عليه وسلم"- رضي الله عنهم، الضمير يعود إلى الجمع، ويحدثان تثنية، ضمير الجمع يعود إلى عمر وابنه والعباس وابنه أربعة، والتثنية تعود إلى من روى الحديث وهما اثنان: ابن عمر وابن عباس.

 "عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحل للرجل المسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، لا يحل للرجل المسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها»هذا أيضًا يدل على التحريم، ومعلوم أن العطية الهدية والهبة لا تثبت إلا بالقبض، لا تثبت إلا بالقبض، فإذا قبضها المعطى الموهوب المهدى إليه حرم الرجوع فيها لهذه الأحاديث، يُستثنى من ذلك ما في حديث النعمان بن بشير إذا حصل جَور، حصل ظلم، فإنها تُرجَع، ويعود فيها الواهب لاسيما إذا كانت...