كتاب الشهادات من المحرر في الحديث - 02

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعدُ، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- في "كتاب الشهادات": "عن زيد بن خالد الجهني -رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ- أن النبي قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها». رواه مسلم".

ثم قال: "وعن عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ- أن رسول الله قال: «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا، «ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون»"، وهذا هو الشاهد من الحديث، وفيه نوع معارضة واختلاف مع الحديث الذي قبله: "«الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها»".

 وفي الحديث الثاني: «ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون»، وهذا بناءً على أن معناه يُدلون بشهاداتهم قبل أن يُسألوها، وحينئذٍ يكون فيه نوع اختلاف مع قوله في الحديث السابق: "«ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها»"، هذا سياق مدح، وإلا هذه في حديث عمران: "«قوم يشهدون ولا يستشهدون»"، على القول بأن معناه أنهم يدلون بشهاداتهم قبل أن يسألوها، سياقه مساق ذم، وحينئذ يكون الحديث معارضًا ومخالفًا لما سبق.

ونحتاج للتوفيق بين الحديثين، مثل هذا النوع من الاختلاف يحتاج إلى جمع، وهو أن الذي يُدلي بشهادته ويأتي بشهادته قبل أن يُسألها إذا لم تكن هذه الشهادة عند غيره، ويخشى بعدم إدلائه بها والإخبار بما عنده من علم بهذا الدين أو هذا الحق أن يضيع على صاحبه، أن يضيع الحق على صاحبه، فحينئذ يؤدي هذه الشهادة؛ خشية أن يضيع الحق على صاحبه. وأولئك "«يشهدون»" قبل أن تُطلب منهم، مع أن الأمر معروف عند غيرهم، ولا يُخشى من ضياع الحق؛ لأن العجلة مذمومة في كل شيء، والعجلة من الشيطان.

هذا على القول بالتعارض.

 وبعضهم يقول: "«قوم يشهدون ولا يستشهدون»"، "«يشهدون»" بما لا علم لهم به فتكون شهادتهم حينئذ شهادة زور، وحينئذ لا معارضة بينه وبين الحديث السابق.

وعلى كل حال: على المسلم أن يتأنى فيما فيه مجال للتأني، ولا يدلي بشهادته قبل أن يسألها؛ لئلا يُتهم، إذا لم يخشَ ضياع الحق على صاحبه، فإن خشي فعليه أن يبادر؛ لئلا يضيع الحق على صاحبه.

"«إن خيركم قرني»"، يعني خير الأمة كلها قرنه –عليه الصلاة والسلام–، وهم أصحابه الذين عاشوا معه، والقرن قوم تشابهوا في الوقت والسن، ويشملهم زمن واحد. واختُلف في مدة القرن، قالوا: من عشر سنين إلى مائة وعشرين، قالوا: من عشر سنين، منهم من قال: القرن عشر، ومنهم من قال: عشرون، ومنهم من قال: ثلاثون... إلى آخره، إلى مائة وعشرين، مع أن ابن حجر شكك في التسعين والمائة والعشرين، يقول: لا يُعرف قائل بهما، ما يُعرف قائل بأن القرن تسعون سنة، ولا يعرف من قال بأن القرن مائة وعشرون. أما التسعون فكلامه مضطرد وصحيح ما قال به أحد، لا يُعرف من قال به. وأما المائة والعشرون فذكره صاحب القاموس عن قوم، فذكره صاحب القاموس عن قرن.

واختار ابن حجر في فتح الباري السبعين سنة، لماذا؟ لأنه يقول في على رأس المائتين والعشرين انتشرت الفرق كلها، الفرق والبدع المكفرة والكبيرة والصغيرة انتشرت على رأس مائتين وعشرين، وحصل بها امتحان الأئمة من أجل البدع، فتكون نهاية للقرون المفضلة؛ هكذا قال –رحمه الله–. والسبعون قال بها جمع غفير من أهل العلم، لكن الكثرة الكاثرة من أهل العلم يرون أن القرن مائة سنة، ويستشهدون لهذا بحديث أن النبي قال لغلام: «تعيش قرنًا»، فعاش مائة وعشرين سنة، وهو حديث بطرقه محسن عند أهل العلم.

على كل حال: القرن والساعة والأمور التي تتعلق بالأزمان، أقرب ما تكون إلى العرف. الساعة الآن وهي ستون دقيقة هي الساعة المعروفة في زمنه – عليه الصلاة والسلام –؟ لا، ليست هي الساعة المعروفة في زمانه – عليه الصلاة والسلام –، يتحدث ساعة ممكن تصير ربع ساعة أو ساعة وربع.

على كل حال: السبعون لها وجه، وفي استدلال ابن حجر فيه قوة، والقول بالمائة معتمد عند جماهير أهل العلم، وعليه ألفوا التواريخ: المائة الأولى، المائة الثانية، القرن الأول، القرن الثاني، إلى آخره. ويبعث الله -جل وعلا- على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، والمائة السنة القرن. وأُلف عند أهل العلم التواريخ مرتبة على القرون، ما حصل في القرن الأول، ما حصل في القرن الثاني، المائة، وما حصل في الثالث، وألفوا تواريخ مرتبطة مستقلة بهذه القرون، والبدر الطالع لمن جاء بعد القرن السابع، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، والضوء اللامع في أعيان القرن التاسع، وهكذا، اعتمدوا هذا، أهل العلم اعتمدوه، وله وجه، وله دليل من قوله – عليه الصلاة والسلام –: «إنك تعيش قرنًا»، فعاش مائة سنة.

لكن إذا نظرنا إلى أن نهاية القرن الثالث الذي جاء فيهم التفضيل في القرون المفضلة لم يمتد إلى سنة ثلاثمائة، فالقرن الأول هم الصحابة –رضوان الله عليهم-، وهم خير الأمة على الإطلاق، ثم يليهم التابعون، ثم يليهم تابعو التابعين. فالصحابة أفضل الأمة على الإطلاق، والتابعون أفضل ممن جاء بعدهم في الجملة، وكذلك تابعوهم. فهذا يعني أن كل فرد من أفراد الصحابة أفضل من كل فرد ممن يأتي بعدهم، وهذا قول الجمهور، جمهور أهل العلم، أنه لا يأتي من بعد الصحابة لا عمر بن عبد العزيز ولا الحسن البصري ولا سفيان ولا غيره أفضل من أقل الصحابة شأنًا.

وقال قوم، ومنهم ابن عبد البر، يرون أن التفضيل إجمالي، عموم الصحابة أفضل من عموم من يأتي بعدهم لا بالنظر إلى الأفراد، ومقتضى ذلك أنه يأتي من بعد الصحابة من هو أفضل من بعض أفراد الصحابة، وهذا القول قول مردود، والأدلة ترد عليه، واستدل بحديث: «أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره»، لكن هذا فيه تفضيل لهذه الأمة، وأن الخير موجود فيها، وأنه قد يوجد في بعض القرون من يفضل من سبقه من القرون إجمالاً، ولا يعني هذا إفرادًا؛ لأنه «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه».

وأما ما استدل للقول الثاني حديث في السنن والمسند وغيرهما: «أن العامل في آخر الزمان له أجر خمسين من الصحابة»، عامل واحد فرد واحد يعمل بجد وإخلاص، ويسعى لنصر الدين بكل ما أوتي من قدرة يكون له أجر خمسين من الصحابة، والحديث مصحّح عند أهل العلم مقبول، ما فيه إشكال، ومعناه حينئذ عند من يفضل الصحابة تفضيلاً على غيرهم يقول: إن الأعمال تتفاوت، قد يأتي متأخر بعمل يأتي صحابي بمثله، فيكون أجره أعظم منه، لما يحتف بذلك من أمور، وأوضح هذه الأمور التي وُجِّه بها الحديث لفضل من يأتي في آخر الزمان: قلة المعين، وأنتم مررتم بأطوار ومراحل وبلدان تختلف ظروفها عن بعض، إذا أردت أن تعمل في بلد تهيأ لك ووُجد من يعينك على الأعمال الصالحة بخلاف بعض البلدان الأخرى؛ ولذلكم من يأتي من بلاد المسلمين فضلاً عن غيرها إلى هذه البلاد يرتاح في عبادته، في عقيدته، في دعوته، في علمه وتعليمه، يجد معينًا، وفي عهد الصحابة ومن بعدهم المعين كثير؛ لأن الناس كلهم على الخير، بخلاف من يأتي في آخر الزمان، يكثر الشر، ويكثر أهله، ويكثر الصد عن دين الله، ورأيتم هذا عيانًا في جميع البلدان: الشرور تزداد، والخير موجود في أمة محمد إلى قيام الساعة.

على كل حال: الصحابة أفضل ممن يأتي بعدهم.

"«إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، قال عمران"، وقد تكلمنا في أول الحديث، وترجمنا لعمران بن الحصين، وذكرنا عنه أشياء في الدرس الماضي.

 فـ"قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا، «ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون»".

 وقلنا: إن المعنى يحتمل أنهم يشهدون قبل أن يُستشهدوا، وعرفنا كيف نوفّق بينه وبين الحديث الذي قبله، أو أنهم يشهدون مبادرة منهم على أمور لا يعرفونها، ولم يطلعوا عليها، فيتركون من باب شهادة الزور.

"«ويخونون ولا يُؤتمنون»"، والخيانة كما تكون في الأموال والودائع تكون أيضًا في خيانة النفس، وخيانة من يعول ومن يمول، وخيانة الحاكم لرعيته، وخيانة الشخص لأهل بيته وهو مؤتمن عليهم، وخيانته لنسائه وبناته، فكل ما يضاد الأمانة داخل في حيز الخيانة، وما اؤتمن عليه الإنسان ممن يرعاه خيانة وغش لهذه الرعية. فعلى الإنسان أن يحرص على براءة ذمته مما أُمِّن.

"«يخونون ولا يُؤتمنون، وينذرون ولا يوفون»"، "«وينذرون ولا يوفون»" المدح ليس للنذر بقدر ما هو للوفاء بالنذر، وإلا فالنذر أصله مكروه، ويستخرج به من البخيل، والوفاء به ممدوح؛ بل واجب: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}  [الإنسان: 7]، فالوفاء بالنذر واجب وإن كان أصله مكروهًا، وهذا باب من العلم كما يقول أهل العلم غريب: كيف تكون المقدمة مكروهة والنتيجة واجبة؟

يقولون: هذا غريب، لكن مع ذلك جاءت النصوص بهذا، جاءت بكراهية إبرام النذر، وأنه يستخرج به من البخيل، وجاء الأمر بالوفاء: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه».

"«ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمَن»"، في السابق يندر أن تجد رجلاً سمينًا، لقلة ذات اليد، وقلة المأكول، وكثرة الأعمال، إذا أكل شيئًا عمل عملاً يحرقه بسرعة. الآن العكس: الأكل كثير، والعمل قليل، وحينئذ ظهر فيهم السمن، ظهر السمن المفرط حتى وصل بعضهم إلى المائتين –نسأل الله العافية-، بل بعضهم زاد في ذلك، وهو نادر، لكن ما دون ذلك كثير، وهو كثير، وصار الناس يعانون من هذه السمنة، ويعتبرونها مرضًا، يعدونها مرضًا، وهي مظنة للأمراض، مظنة لأن يبتلى صاحبها بأمراض، لكن الآن يعدونها بذاتها مرضًا وداءً، ولذلك كثرت العلاجات من العقاقير ومن الحميات ومن أنواع الرياضات، كلها لمكافحة هذه السمنة.

تظهر فيهم السمن، تجد الإنسان عنده ميزان عند رأسه في منامه، يزن نفسه قبل النوم، ويزن نفسه بعد النوم هل زاد أم نقص؟ صار مسار اهتمام للناس، ما كان الناس يهتمون بهذه الأمور، ما كان الناس ينظرون لهذه الأمور؛ لأنهم أكلهم قليل؛ نظرًا لقلة ذات اليد، وأعمالهم ومشاغلهم كثيرة تحرق الأكل مهما كان، ومع ذلك لا يُذكر في الأجيال السابقة من يحمل اللحم والشحم إلا القليل النادر.

 وفي الجملة السمنة تدل على شيء من التساهل، وشيء من الركون إلى الدنيا، والاهتمام بها وبشهواتها وملذاتها، فطالب الآخرة غالبًا لا يكون سمينًا، طالب الآخرة لا يكون في الغالب سمينًا.

ثم قال: "وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه –رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ–"، أبو بكرة اسمه: نُفيع بن الحارث.

"قال: «كنا عند رسول الله فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا»"، يعني الكبائر ثلاث، أم كرر الكلام ثلاثًا؟

طالب: ........

الكبائر ثلاث؟

طالب: ........

قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر»، يعني جاب حرف التنبيه «ألا»، للاهتمام بما سيئول؛ لينتبه له السامعون، وكرَّره، كرَّر الكلام من أجل ذلك.

"«أكبر الكبائر»"، هذا يدل على أن الذنوب فيها كبائر، وفيها صغائر، وفيها كبائر، وفيها أكبر، وإلا فالكبائر تتفاوت أيضًا. وبعضهم ذكر الكبائر بالعد؛ أخذًا مما جاء في النصوص، وبعضهم جعل لها ضوابط وقواعد تُعرف بها، ومن خلالها تعرف ما الصغائر التي هي دون ذلك، فما ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو صُدر بلعن أو مقت أو غضب أو ما أشبه ذلك أو نفي الإيمان (لو زاد حفيد المجد أو جاء وعيده بنفي لإيمان أو بلعن المبعد)، على كل حال هذه ضوابط تعرف بها الكبائر من الصغائر.

ومنهم من يقول: لا يُنظر إلى العمل، فإذا نظرنا إلى من عصى صارت كلها كبائر؛ لأنه انتهاك لحرمة الله كلها، إذا عصيت سواء كانت بصغيرة وكبيرة، وهؤلاء الذين يقولون: لا يوجد صغائر. وعلى كل حال الذنوب متفاوتة: فيها ما تُوعد عليه بوعيد شديد وفيه ما نُهي عنه نهيًا مجردًا عن الوعيد، فلا شك أن مثل هذا يختلف حكمه.

"«ثلاثًا: الإشراك بالله»"، هذا أعظم الذنوب الذي لا يُقبل معه عمل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}  [الفرقان: 23]، لو يصلي الليل والنهار وينفق الملايين، ولا يفتر من الصيام وعنده شرك –نسأل الله العافية- {هَبَاءً مَنْثُورًا} ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}  [النساء: 48]. والإشراك بالله يشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر، وإن كان الخلاف بين أهل العلم في الأصغر هل يقبل المغفرة أو لا يقبل؟ وهل يدخل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}  [النساء: 48]؟ قال به جمع من أهل العلم، وأنه لا يعذر، بل لا بد أن يعذّب، لكنه ليس مثل الشرك الأكبر الذي صاحبه مخلد في النار، يُعذب على قدر شركه كما يُعذب على قدر كبيرته إن لم يغفر الله له. وبعضهم يقول: إن حكم الشرك الأصغر حكم الكبائر، فهو داخل تحت المغفرة.

"«وعقوق الوالدين»"، العقوق جاءت النصوص القطعية فيه، وفي القطيعة قطيعة الرحم، نصوص كثيرة جدًّا: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}  [محمد: 22، 23]، نسأل الله العافية. هذا في القطيعة، والعقوق أشد من القطيعة، إذا كانت قطيعة الرحم في الأقارب فالعقوق للوالدين وحقهم أعظم من حقوق غيرهم، فالأمر عظيم جدًّا، ولذا استحق أن يكون من أكبر الكبائر.

"«وشهادة الزور، وقول الزور»"، من الازورار، وهو الانحراف عن الحق والصدق، أو عن التزوير والتمويه؛ لأن شاهد الزور يُموه ويلبس في القضية بكذبه بحيث يشهد كذبًا وزورًا وبهتانًا لهذا أن له حقًّا أو على هذا؛ لأن عليه حقًّا أو هكذا، نسأل الله العافية.

"«وشهادة الزور -أو قول الزور-، وكان رسول الله متكئًا فجلس»"، للاهتمام.

"«وكان رسول الله متكئًا فجلس»"، تغيير الجلسة يدل على التعظيم، تعظيم الأمر، هل الإنسان يستقبل الناس على مستوى واحد؟ إذا كان في بيته ومجلسه ومتكئًا أو مضطجعًا دخل عليه من أولاده أو من بناته يغير الجلسة؟ لا يغير الجلسة؛ لأنه لا يهتم بشأنهم. لكن لو دخل شخص له شأن وله قدر يغير الجلسة. فالنبي ذكر الشرك وعقوق الوالدين وهو متكئ، ثم لما ذكر شهادة الزور أو قول الزور غيَّر هيأته؛ تعظيمًا لشأن شهادة الزور وقول الزور. ليس معنى هذا أنه أعظم من الشرك أو أعظم من العقوق؟ لا يلزم ذلك؛ لأن الناس يتعاظمون الشرك، ولا يتعاطون أسبابه؛ لأنهم يعلمون أن فاعله خالد مخلد في النار. ويتحاشون عقوق الوالدين؛ لعلمهم بما ورد فيه من النصوص. لكن قول الزور وشهادة الزور أمرها سهل عند كثير منهم. الآن الغيبة والنميمة على كثرة ما جاء فيها، كثير من الناس، بل من ظاهره الصلاح والخير يتعاطاهما بكل أريحية وبكل بساطة، لا يحمل لهما همًّا؛ لأنه اعتاد ذلك. وقول الزور وشهادة الزور إما أن يعطى أجرة أو يكون له صاحب يريد أن ينفعه، أو يكون له عدو يريد أن ينتقم منه فيشهد عليه، هذه دوافع تدفع الناس، ولذلك توجد شهادة الزور خلاف، مع أن الإشراك موجود، والعقوق موجود، لكن اهتمام النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– بشهادة الزور وتغيير هيأته من أجلها سببه هذا: أن الناس يلتفتون إلى أمور الدنيا، ويشهدون شهادة الزور، ولا يتورعون عنها، وتورعهم عن الإشراك والعقوق أكثر.

"«حتى قلنا: ليته سكت»"، إشفاقًا عليه –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ–؛ لأنه أخذ يكرر هذه الجملة حتى شق عليه ذلك، فأشفقوا عليه، فتمنوا سكوته –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ–.

"متفق عليهما، واللفظ لمسلم".

"وعن عمر بن الخطاب –رَضِيَ اللهُ عنهُ– قال: «إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ، وإن الوحي قد انقطع»"، يعني هذا في عهد عمر. "«إن ناسًا»"، وفي عهد أبي بكر، لكن القائل عمر –رَضِيَ اللهُ عنهُ–. "«إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله »"، يأتي الوحي يخبر النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– بأن فلانًا قال أو فعل مما فيه مخالفة، وجاء هذا كثير في المنافقين وأعلمهم الله -جَلَّ وعَلا- نبيه –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– وأخبر عنهم النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– وخص حذيفة بأشياء لم يطلع عليها غيره، ولذلك عمر بن الخطاب –رَضِيَ اللهُ عنهُ– يستشهد حذيفة بالله هل ذكر للنبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– منهم؟ فيقول له: له، ولن أخبر أحدًا بعدك. النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– يخبره بالوحي عما يقولون، والركب الذين كانوا يتحدثون ويطعنون في النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– ومن معه في قصة غزوة تبوك ونزل فيهم القرآن: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ}  [التوبة: 66]، النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– ما سمعهم، وإنما جاء الوحي يخبره بهم.

"«إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي»"، بما ينزل على النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ–، فلما تحدث النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– عن المنافقين قالوا: ألا تقتلهم؟ قالوا: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»، وهذا من باب درء المفاسد.

"«وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم»"، نعامل الناس على الظاهر. المؤيد بالوحي يأتيه الوحي ويخبره عن السرائر، لكن غيره؟ لا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب.

"«وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم»"، كل يُحاسب على حسب عمله.

"«فمن أظهر لنا خيرًا أَمِنَّاهُ»"، وفي رواية: «أَمَّنَّاهُ»، يعني ضبط لهذه الكلمة: «أَمَّنَّاهُ»، يعني اتخذناه أمينًا ووثقنا به، واللفظ الآخر: "«أَمِنَّاهُ»" من الأمانة. "«وقربناه»"؛ لأنه ينبغي أن يقرَّب من المعينين والمستشارين، ويستعمل من المعاونين الأمناء: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}  [القصص: 26].

"«وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء»"، إذا جاء يريد العمل وظاهره الصلاح أو يريد شهادة وما أشبه ذلك ظاهره الصلاح قبلنا منه، وليس لنا إلا الظاهر. الظنون والأوهام والاحتمالات والبناء على مقدمات غير صحيحة أو بناء على ذلة أو هفوة حصلت يُهدم كل ما يُعرف منه من خير، هذا الكلام ليس بمنهج شرعي.

"«وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته»"، هذا غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله. هناك قرائن ودلائل يستدل بها على ما يخفى، هذه مقبولة، لكن ليست قطعية حتى يظهر الخفي.

"«ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه»"، ما لنا إلا الظاهر، هذا عمل صالح فحاسبناه على ما ظهر لنا، وهذا يعمل السيئات والجرائم والمنكرات فنحاسبه على ما يظهر لنا. بعض الناس إذا أُنكر  عليه الأعمال المحرمة الظاهرة يقول: التقوى ها هنا التقوى ها هنا، كم من واحد ظاهره الصلاح وهو خبيث؟

نحن ما ندري، ما لنا إلا الظاهر وليس لنا حكم إلا على الظاهر. التقوى ها هنا، لكن التقوى لها علامات ودلائل تظهر على الجوارح، أما أن... طيب، من أظهر المنكرات بغير تعداد ما له داعٍ أن نعدد، ثم قال: التقوى ها هنا، ما تعريف التقوى؟

فعل الواجبات وترك المحرمات، وأنت ترتكب محرمات وتقول: التقوى ها هنا؟ أنت كاذب في دعواك، الدعوى مقرونة بما يكذبها؛ لأن التقوى فعل الواجبات وترك المحرمات، أنت ترتكب محرمًا، تعريف وحد التقوى لا ينطبق عليك.

"«ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة»"؛ لأن قوله مكذَّب بفعله.

"رواه البخاري".

"وقال" من؟

طالب: البخاري.

البخاري، "وقال: قال لي علي بن المديني"، وأحيانًا يقول: قال علي بن المديني لي. وعلي بن المديني شيخه، لقيه وسمعه، وسمع منه أحاديث، وحدَّث عنه بصيغة التحديث وهو شيخه، وعلى هذا فالسند متصل.

 .......... .. أمَّا الَّذِي     لِشَيْخِهِ عَزَا بـ (قالَ) فَكَذِي

عَنْعَنَةٍ كخَبَرِ المْعَازِفِ     لا تُصْغِ لاِبْنِ حَزْمٍ المُخَالِفِ

 إذا روى البخاري عن شيخه بقال فحكمه (فكذي عنعنة) كأنه معنعن، يقبل، ويحكم له بالاتصال بالشرطين المعروفين كالعنعنة، فيكون مقبولاً متصلاً إلا ثبت لقاء الراوي لمن روى عنه، وقد ثبت هنا وفي حديث المعازف وسلم الراوي من التدليس، وابن القيم في إغاثة اللهفان يقول: والبخاري– رَحِمَهُ اللهُ– أبعد خلق الله عن التدليس. لو قال ابن القيم: من أبعد خلق الله لكان أدق.

على كل حال السند متصل.

بعضهم يقول: إن البخاري لا يروي بقال إلا ما رواه في حال المذاكرة لا في مجال التحديث، وهذا القول مردود ولا يوجد ما يدل عليه. إذا قال البخاري: قال لي، خلاص انتهى الإشكال. ما الفرق بين أن يقول له الخبر وبين أن يحدثه به؟

ما فيه فرق.

وللبخاري أن يقول: سمعت؛ لأنه قال له إياه، لكن البخاري عنده دقة نظر في بعض العبارات التي يقولها، قالوا: إنه لا يعدل عن حدثنا إلى قال لي إلا لنكتة في الإسناد، وهي غير مؤثرة، لكنها موجودة.

"وقال: قال لي علي بن عبد الله"، يعني شيخه علي بن عبد الله بن المديني الإمام الحافظ الكبير.

"حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن محمد بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس"، السند أيش؟

طالب: ........

سباعي. كم عدد الرواة؟

طالب: ........

كم؟

طالب: ........

سبعة: علي بن المديني، ويحيى بن آدم بن أبي زائدة، محمد بن أبي القاسم، عبد الملك بن سعيد، عن أبيه عن ابن عباس. سند سباعي، وهذا بالنسبة للبخاري نازل، النزول والعلو في الأسانيد معروف عند طلاب العلم، فإذا كثر الرواة بين البخاري والنبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– قيل: نازل، وإذا قلوا صاروا عاليًا، وأعلى ما في البخاري الثلاثيات، من بينه وبين النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– ثلاثة، وعدتها اثنان وعشرون حديثًا. وأنزل ما عنده التساعي، حديث واحد، حديث زينب: «ويل للعرب من شر قد اقترب». وهذا سباعي يعني نازل.

أيهما أفضل النازل أو العالي؟

العالي. بعضهم من الأئمة، أئمة الحديث الكبار عن أمنيته، وهو في الاحتضار ماذا يتمنى؟ قال: بيت خالٍ وسند عالٍ، هذه الأمنية في الدنيا، لماذا بيت خالٍ؟ ليتفرغ للعلم والعبادة والمناجاة ويأنس بالله وبذكره، الآن لو يجلس شخص منفردًا بعد خروج أهله من البيت بعد صلاة العصر مثلًا ضاقت به الدنيا، ولسان حال النساء جملة إلا مَن مَنَّ الله عليها بلزوم البيت اتباعًا لقوله -جَلَّ وعَلا-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}  [الأحزاب: 33]، تكثر الشكوى ليلة الجمعة، وليلة الجمعة ونحن جالسون بالبيت. طيب، هو سجن؟ سبحان الله! كأنه سجن.

طالب: ........

البيت، لا عند الرجال ولا عند النساء على حد سواء. سند عالٍ وبيت خالٍ، هذه هي الأمنية في الدنيا، ولو قيل للواحد منا ما يتمنى؟ كل ينظر في نفسه، الله المستعان.

"عن ابن عباس قال: «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بَداء»"، "«تميم الداري»،" صحابي جليل وراوي حديث «الدين النصيحة»، وراوي حديث الجثاثة، وروى أحاديث كثيرة، وهو صحابي جليل، وكنيته أبو رقية. كيف تثبت هذه الكنى لهذه الأسماء؟ احفظ الأربعة عن النووي تعرف الكنى؛ لأن النووي يهتم بالكنى، ويهتم بالأنساب، ويهتم بالألقاب.

عن أبي حفص عمر بن الخطاب، ذكر نسبه إلى آخر عن فلان إلى آخره، عن أبي رقية تميم بن أوس الداري.

"«وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جامًا»"، إناء أو صحن "«من فضة مخوصًا من ذهب»"، أهله يعرفون تركته، يعرفون الأثاث الذي ذهب به، فلما جاء أثاثه ما وُجد هذا الجام.

"«ففقدوا جامًا من فضة مخوصًا من ذهب، فأحلفهما رسول الله »"، أحلف تميم الداري وعدي بن بداء وهما من الصحابة وكانا نصرانيين.

"«فأحلفهما رسول الله ، ثم وجدوا الجام بمكة، فقالوا»"، يعني سأل: من أين لكم هذا الجام؟ قالوا: "«ابتعناه من تميم وعدي»"، الآن إذا فُقد شيء وراح صاحب هذا الشيء المفقود إلى الحراج وجده يباع يسكت؟ من أين لك هذا؟ فيدلهم على من اشتراه منه.

"«فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهم فحلفا»"، تميم وعدي حلفا، استحلفهما النبي –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– "«فحلفا»".

"«فقام رجلان من أولياء السهم فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما»"، على نسق ما جاء في آية المائدة.

"«لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم»" السهمي الذي مات.

"«وفيهم نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106]»" إلى آخره.

يعني مات في أرض ليس فيها مسلم، ما فيها إلا كفار، فتقبل شهادتهما إذا انتفت التهمة، ودلت القرائن على صدقهم؛ لأنه لا يوجد غيرهم، إن لم نقبل شهادة الكافر مثلاً في الأصل لا تُقبل؛ لأن العدالة شرط: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}  [الطلاق: 2]، والكافر ليس بعدل، والفاسق المسلم ليس بعدل، فكيف بالكافر؟

لكن إذا لم يوجد إلا هذا وإلا يضيع الحق، واحتفت به قرائن، وأعيدت القضية على الطرف الآخر، واستقصى القاضي وعرف الحق، فإنه يحكم به ولو كان الشاهد كافرًا. وقل مثل هذا في الصبي أنه يُقبل في حال التحمل، لكن لا يُقبل في حال الأداء، لا يُقبل إلا بالغ؛ لأن الصبي غير مكلف، وحينئذ لا يتورع عن الكذب وشهادة الزور. فإذا لم يوجد إلا الصبي أو الصبيان وتحرى القاضي، ودلت القرائن على صدقه، فإنه يقبل شهادته حينئذ.

قد يقول قائل: صحابة وسرقوا؟

نعم، ليسوا بمعصومين، وُجد في عصره –عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ– من زنا، ووجد في عصره من شرب الخمر، ووجدت المعاصي بعصره، لكنها نادرة في مجتمعه وعصره، نادرة جدًّا، وحصلت ممن حصلت منه، ومنهم من قدم نفسه للحد، وبذلك طهره الله من أثر الذنب، ومنهم من له أعمال صالحة غمرت هذه السيئة أو النقيصة في بحار الحسنات التي فعلها، ومنهم من تاب وندم، ومنهم من عفا الله عنه وغفر له.

على كل حال: ليسوا بمعصومين، لكنهم يوفقون للتوبة وللأعمال الصالحة الماحية.

"وعن عطاء بن يسار عن أبي هريرة –رَضِيَ اللهُ عنهُ–: «أنه سمع رسول الله يقول: لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية»"، يعني بدوي على حضري لا تجوز الشهادة.

"رواه أبو داود وابن ماجه ورواته ثقات. قال البيهقي: وهذا الحديث مما تفرد به محمد بن عمرو بن عطاء عن عطاء بن يسار".

على كل حال الحديث مقبول في درجة الحسن، والأعراب جاء وصفهم في كتاب الله -جَلَّ وعَلا-، مما يدل على الرقة في دينهم، وفيهم الجفاء: من بدا جفا، ولكن منهم من استثناه الله -جَلَّ وعَلا- فوصفه بالصفات التي تدل على دينه وورعه وتقواه.

المقصود أن الغالب في البادية أنهم يغلب فيهم الجهل، وتغلب فيهم العصبية، وكثيرًا ما يكون بينهم وبين الحاضرة مناكفات ومشادات، وتصير عداوات وإحن تمنع من قبول شهادتهم في بعض الأحيان؛ ولذلك إذا شهد أعرابي على حضري يُتثبت من شهادته، وفي الحديث: "«لا تقبل أو لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية»" لما يكون بينهم في الغالب من المناكفات والمشاحنات والإحن والعداوات.

طيب، ما جاء في المقابل: لا تجوز شهادة قروي على بدوي؟ الغالب أن أصحاب القرى والمدن والحاضرة يكثر فيهم التعلم، وفيهم اللين في طباعهم، ويختلف وضعهم عن وضع الأعراب. والله- جَلَّ وعَلا- ذكر: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}  [التوبة: 97]، ثم ذكر بعض أوصافهم، ثم ذكر منهم من مدحه -جَلَّ وعَلا-.

"وقال البيهقي: وهذا الحديث مما تفرد به محمد بن عمرو بن عطاء عن عطاء بن يسار وعن محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو"، وهو جده. "عن عبد الله بن عمرو"، وتكلمنا على هذه السلسلة بدرس مضى، قريبًا قبل أسبوع أو أسبوعين.

 "قال: قال رسول الله "، وقلنا: إن الرأي الوسط في الحكم على هذه السلسلة: إنه إذا صح السند إلى عمرو فإنها لا تنزل عن درجة الحسن، وبعضهم يصححها في أدنى الصحيح. على كل حال هي في حيز المقبول.

"«لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة»".

طالب: ........

عن جده، له فيه لا، خمسة أحاديث صُرح فيها بالجد، عن جده عبد الله بن عمرو، صرح فيه، لكن يبقى أن الأب من هو؟ شعيب، في سماعه عن عبد الله بن عمرو ما قال: حدثنا؛ لأن هناك أحاديث صرح فيها قال: سمعت عبد الله بن عمرو.

"«لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة»"، الخائن الذي هو ضد الأمين، والأمانة مطلوبة في قبول الشهادات، وهذا الخائن غير مؤتمن على ما يدلي من شهادة.

"«ولا ذي غمر»"، وهو الحقد، شخص حاقد أو في قلبه ضغن على شخص ما، لا تقبل شهادته عليه. وبالمقابل: من كان بينه وبين آخر ما يُتهم في قبول شهادته له كالأب لولده والولد لوالده، هنا الجمهور لا يقبلون الشهادة في المقابل؛ لأنه لا يؤتمن، بل يُخشى أن يشهد لوالده أو لولده. أما شهادته على والده وعلى ولده فهذه لا تَرد لأن التهمة منتفية.

"«ولا ذي غِمْر على أخيه»"، بعضهم يضبطها بفتحتين: غَمَر، «ولا ذي غَمَر على أخيه»، والأكثر على أنه «غِمْر»، وهو الحقد وزنًا ومعنًى.

"«ولا تجوز شهادة القانع»"، الخادم الذي يخدم في البيت وينفقون عليه ويحسنون إليه، مثل هذا يتهم بأن يشهد لهم.

"«ولا شهادة القانع لأهل البيت، وتجوز شهادته لغيرهم»"، يعني إذا توافرت فيه الشروط شروط قبول الشهادة.

"والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت"، حقيقته هو الخادم الذي يخدمهم وينفقون عليه.

يقول: "رواه أحمد وهذا لفظه وأبو داود ومحمد وسليمان"، محمد بن راشد وسليمان بن موسى "صدوقان، وقد تكلم فيهما بعض الأئمة". الصدوق اختلفوا في قبوله عند أهل العلم، فمنهم من يقبله؛ لأنه يقول: لا يتوافر فيه شرط الضبط، قد يكون صدوقًا، لكن الضبط عنده لا يتوافر. وعلى هذا أبو حاتم الرازي، وأيده ابن الصلاح وجمع من أهل العلم، والذي استقر عليه الاصطلاح عند المتأخرين أن الصدوق فيه نوع حفظ، وإلا لما استحق أن يوصف بصيغة المبالغة، فيقبل خبره، ويكون من قبيل الحسن، وهذا الذي اعتمده المتأخرون.

"وقد تكلم بعض الأئمة".

قال المصنف ابن عبد الهادي في كتابه التنقيح: إسناده جيد، وقال ابن حجر في التلخيص: إسناده قوي.

"وقال البخاري في صحيحه: وقال أنس: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً"، يعني لا تشترط الحرية في قبول الشهادة، وإن اشترطها الجمهور، لا تشترط؛ لأن العبد بطبعه يمكن أن يؤثَّر عليه.

"وقال أنس: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً"، بهذا الشرط، والجمهور على عدم قبولها وإن جازت روايته. فرق بين الرواية والشهادة، والنبي قد طلب الشهادة من بريرة في قصة الإفك، دخل على بريرة وسألها وقال: ما تقولين في عائشة، هل رابك منها شيء أو كذا أو كذا؟ فأدلى بما عندها، فطلب الشهادة منها وهي أَمة؛ مما يدل على صحة شهادة العبد والأمَة، كروايتهما، كتب السنة مليئة بالرواية من عن أو عن الأرقاء من رجال ونساء، هذا كثير في الصحيحين وغيرهما.