التعليق على تفسير سورة الذاريات من تفسير الجلالين (02)

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في قول الله -جل وعلا-: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ} [(7) سورة الذاريات] {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ} هذا قسم بالسماء الموصوفة بأنها ذات الحبك، يقول: "جمع حبيكة كطريقة وطرق أي صاحبة الطرق في الخلقة" فالحبك طرق والحبيكة والطريقة الحبك: الطرق، والحبيكة الطريقة وزناً ومعنىً، وزناً ومعنى، قال: "جمع حبيكة كطريقة وطرق" هل يقصد بذلك الوزن فقط؟ لأنهم يأتون بالكلمة ثم يبينون وزنها بما يوافقها في الميزان الصرفي، إذا قيل: قائم كنائم، يعني في الوزن لا في المعنى، وقد يأتون بالنظير من حيث المعنى دون الوزن، فيقولون مثلاً بالمعنى دون الوزن فيقولون: حرام ابن عثمان بلفظ ضد الحلال، فلا يقصدون بذلك الوزن، وإنما يضبطونه بأمر معروف، ومتداول بين الناس، ضد الحرام هل يختلف أحد في ضبطه؟ يمكن أن يقال: حِلال وإلا حُلال وإلا خلال وإلا جلال؟ ما يمكن، خلاص ضد الحرام: حلال انتهى الإشكال، كل الناس يعرفون هذا، فهم لهم طرق في ضبط الكلمات بالنظائر وبالضد، فهذا الذي يضبطون به أحياناً يوافق في اللفظ دون المعنى، وأحياناً يوافق في المعنى دون اللفظ، وأحياناً يوافق بالأمرين معاً فيكون الكلمة مساوية للأخرى وزناً ومعنى.

هنا قال: "جمع حبيكة كطريقة وطرق" كطريقة وطرق، لو انتهينا على هذا لقلنا: من حيث الوزن، لكنه قال: "أي صاحبة الطرق في الخلقة" صاحبة الطرق، فالحبك هي الطرق وزناً ومعنى "كالطريق في الرمل" على هذا تكون السماء فيها طرق، وفيها أيضاً مسارات وهي أيضاً طرائق، لكن هذه الطرائق مضبوطة متقنة محبوكة؛ لأن الحبك يدل على الإتقان والحسن وبديع الصنع، يعني كما يقال: ثوب محبوك، يعني متقن في صناعته، ولعل أخذ حبك الكتاب من هذا، يعني تجليد الكتاب يسمونه حبك، يعني إتقان وضبط لهذا الكتاب بعد أن تكون أوراقه متناثرة يضم بعضها إلى بعض فتجلد وتحبك، والحبك ما زال دارج ومعروف، ولعله من هذا، ويعنى بذلك ويقصد بذلك الضبط والإتقان والحسن، أيضاً التجليد فيه جمال للكتاب، يعطي الكتاب جمال وبهاء ورونق غير ما لو كان أوراق متناثرة، نعم قد يوجد بعض المجلدين الذين لا ذوق لهم يضبطونه من حيث القوة والمتانة لكن الجمال ما فيه، هذا موجود، لكن العبرة بمن يحبك ويجلد على الأصول، فتجد الكتاب متقن مضبوط، فيه بهاء وفيه جمال وفيه رونق، يشد القارئ، يشد المقتني، يشد المشتري، وهنا   {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ} [(7) سورة الذاريات] يعني المتقنة التي فيها من الإتقان والضبط وبديع الصنع ما يرجع بعده الطرف حسير، الطرف الذي يبحث عن العيوب، يبحث عن الفتوق، يبحث عن الشقوق يرتد حسير، ما يجد فيها شيء مما يعاب، فهي من أعظم الأدلة على عظم الخالق -جل وعلا-، من أعظم الأدلة على عظم الخالق، ورفعت هذه السماء بغير عمد ترونها، بغير عمد ترونها، وهذا من أعظم الأدلة على عظمة الخالق، يعني السماء جرم عظيم عظيم لا يقدر قدره، لا يمكن أن تحد مساحته، ومع ذلك بغير عمد ترونها، والخلاف في العمد هل هي موجودة أو بدون عمد أصلاً؟ يعني هل هناك عمد لكنها لا ترى أو ليس هناك عمد أصلاً؟ يعني ركبت على هواء، وفي كلا الاحتمالين ما يدل على عظمة الخالق، يعني كون هذا الجرم العظيم على غير عمد، الإنسان إذا أراد أن يبني عشرة في عشرة ثم سقفه لا بد أن يكون له عمد؛ لأن الجسور ما تتحمل هذه السعة عشرة في عشرة، اللهم إلا إذا احتيط في الجسور وضوعفت، ضوعفت هذه الجسور نعم تتحمل عشرة في عشرة، وإذا ضوعفت مرة ثانية تحملت أكثر، أما أن تكون من الأصل بلا عمد ما يمكن، فضلاً عن أن تكون البناية أكثر من ذلك، يعني ألف متر مثلاً لا يتصور أن يقوم بغير عمد إلا بمشقة عظيمة جداً على البناء، وعلى صاحب البناية، فكيف بهذه المسافات والمساحات الشاسعة طولاً وعرضاً؟! لا يمكن أن يحيط بها مخلوق، ومع ذلك بغير عمد أصلاً، على هذا القول أو بعمد لكنها لا ترى، وأيضاً هذا أيضاً من أعظم الدلالات على عظمة الخالق، يعني كون الشيء مخفي ما يرى، والمعول معتمد عليه، المرتكز عليه هذا أيضاً شيء عظيم، والخلاف في هذا معروف عند أهل العلم، ففي قوله: {تَرَوْنَهَا} [(10) سورة لقمان] هل هو وصف له مفهوم أو ملغى لا مفهوم له؟ على كل حال المسألة خلافية، وأكثر أهل العلم على أنها بغير عمد البتة، ويكون ترونها وصف كاشف لا مفهوم له، ومنهم من يقول: له مفهوم، وقد تكون الدلالة على عظمة الله أكبر، أكبر من كونها بلا عمد أصلاً؛ لأن كون الشيء يعتمد عليه يعني في المحسوسات، كون الشيء يعتمد عليه ثم بعد ذلك يكون هذا خفي لا يرى مع إمكان الرؤية، هذا لا شك أن دلالته على عظمة الخالق شيء عظيم جداً، لا يمكن أن يدركه الإنسان بعقله، فإذا تأمله وتدبره عرف واعتبر وادكر، عرف قدر نفسه من جهة، وما هو إلا شيء حقير جداً بالنسبة لهذه المخلوقات، وما عظمة الخالق -جل وعلا- من خلال هذه المخلوقات العظيمة إلا شيء لا يمكن الإحاطة به، يعني قد يقول قائل: استطاع الناس أن يؤسسوا أمور ينتفعون بها وهي لا ترى، يعني بإمكانك أن تضع يديك هكذا وتغسل، ما تشوف مواصير ولا تشوف شيء، ألا يوجد مثل هذا؟ الآن الموجود مواصير لكن ما فيها أقفال، ما في شيء تقفله ولا ذا، موجود أيضاً على مستوى أعلى من هذا ما في مواصير، ضع يدك بس وغسل، ما في مواصير ترى، لكن في مواصير لو فتحت ما يحول دونك ودون الجدار الأصلي وجدت هذه المواصير لكنها مخفية، يعني ما رحنا بعيد، يعني قدرة البشر هي قدرة البشر، يعني يستطيع أن يغطي إلى حد، لكن يغطي بالكلية بحيث لو بحث الباحث ما وجد، لو رفع هذا الساتر لظهرت المواصير وظهر كل الأسباب التي تجلب هذا الماء، ولم يكن ذلك إلا للخالق -جل وعلا-، الله المستعان.

{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} [(7-8) سورة الذاريات] "إنكم يا أهل مكة في شأن النبي -عليه الصلاة والسلام- والقرآن لفي قول مختلف" لم يتفقوا على وصفه بوصف واحد، "وكفاهم عيباً تناقض قولهم"، "إنكم يا أهل مكة في شأن النبي -عليه الصلاة والسلام- والقرآن لفي قول مختلف، قيل: شاعر، ساحر، كاهن" هذا بالنسبة للنبي -عليه الصلاة والسلام- وقيل في القرآن: أنه شعر، أو سحر، أو كهانة، يختلفون ما يتفقون على شيء؛ لأنهم لو اتفقوا على شاعر، العرب تعرف الشعر وموازين الشعر، وهم أهل الشعر، لا شك أن بعضهم سوف يرد على بعض وقد حصل، الوليد بن المغيرة لما سمع القرآن قال: هذا ليس بالشعر، ولو قالوا: كاهن العرب يعرفون الكهانة، ولو اتفقوا على هذا لوجدوا من يرد عليهم، ولو قالوا: سحر كذلك، فهم اختلفوا لينشغل كل فرقة وطائفة بما جنحوا إليه، وينشغل بعضهم عن بعض، وكل هذه الأقاويل باطلة؛ لأن بمقدورهم أن يقولوا الشعر لماذا لم يقولوا ولم يأتوا بمثل هذا القرآن؟ ولم يكن شاعرهم مثل النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ ولو قالوا: ساحر لو كان ساحراً وما جاء به سحر هم يعرفون السحر، وفيهم سحرة {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} [(8) سورة الذاريات] اختلفوا فيه -عليه الصلاة والسلام-، اختلفوا فيما جاء به.

{يُؤْفَكُ} [(9) سورة الذاريات] "يصرف {عَنْهُ} عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن، أي عن الإيمان بهما {مَنْ أُفِكَ} يعني صرف عن الهداية في علم الله -جل وعلا-" يعني من علم الله -جل وعلا- أنه لا يهديه هذا مصروف، هذا مصروف لأي شيء؟ لما سبق له في الكتاب من أنه شقي، وهل هو بهذا الصرف مظلوم؟ لا، ليس بمظلوم، يصرف بسبب منه هو، الله -جل وعلا- بين له الطريقين، وضح له الصراط المستقيم، هداه النجدين، ومع ذلك اختار طريق الغواية، ولم يختر الهداية، جعل الله فيه -جل وعلا- من التركيب وحرية الاختيار ما يجعله يختار؛ لئلا يقول قائل: يؤفك يعني يصرف عنه عن النبي -عليه الصلاة والسلام- القرآن وعن الإيمان به من صرف عن الهداية في علم الله تعالى، فيأتي هذا على مذهب الجبرية، قد يستدل به الجبرية، فيقولون: ما دام الصرف من الله -جل وعلا- فكيف يعاقب ويعذب والله -جل وعلا- هو الذي حال دونه ودون الهداية؟ نقول: نعم هذا في سابق علم الله -جل وعلا-، لكن ما الذي يمنعك من أن تختار طريق الهداية؟ يعني لو سمع الإنسان المؤذن، الإنسان سمع المؤذن وفي المكان ثلاثة، واحد قام مع الأذان، وواحد قام مع الإقامة، والثالث ما قام أصلاً، صلى في البيت، والرابع ما صلى أصلاً، إيش الفرق بين هؤلاء؟ هل في ما يمنع الإنسان..؟ هل قيد الرابع عن الصلاة؟ ألا يستطيع أن يقوم متى شاء؟ يستطيع أن يقوم متى شاء، فعنده حرية، وعنده اختيار، وليس بمجبور، وليست حركته كحركة الرياح ولا الورق، أوراق الشجر في مهب الرياح، إنما هو مختار، قادر، لديه قدرة وله حرية وله اختيار وله مشيئة، لكن كل ذلك في إطار قدرة الله -جل وعلا- ومشيئته {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} [(17) سورة الأنفال] يعني ما أصبت إذ حذفت الحجر، لكن الله -جل وعلا- هو الذي أصاب، لكن أثبت له الرمي، وأما الإصابة فمن الله -جل وعلا-، ومن أعظم ما يصرف -ننتبه لهذا الأمر- {يُؤْفَكُ} [(9) سورة الذاريات] يصرف {عَنْهُ} عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن وعن الإيمان به {مَنْ أُفِكَ} من صرف عن الهداية في علم الله -جل وعلا- وأعظم من يصرف المتكبر {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [(146) سورة الأعراف] وهل هذا من فعله أو مجبر عليه؟ الكبر من فعله وإلا مجبر عليه؟ من فعله بطوعه وحريته واختياره يتكبر، فيستحق الصرف عن هذا، يستحق الصرف، المعتزلة يقولون: إن العرب لديهم القدرة على معارضة القرآن، والإتيان بمثله، والقرآن من هذه الحيثية ليس بمعجز؛ لأن العرب يستطيعون، لكن الله صرفهم عن ذلك، ويقولون: بالصرفة، الصرفة هي صرف العرب عن معارضة القرآن، القدرة موجودة، يستطيعون أن يأتوا بمثل القرآن، أو قد يتطاول بعضهم ويقول: أعظم، لكن الله -جل وعلا- حال بينهم وبين ما يستطيعون، نقول: هذا الكلام باطل، هذا الكلام باطل، لو كان بعضهم لبعض ظهيراً ما استطاعوا، لو اجتمع الجن والإنس ما استطاعوا أن يعارضوه، المحاولات التي حصلت لمعارضة القرآن يعني نزلت عن الحد المعقول، نزلت عن العقل إلى السفه والجنون، يعني في كلام مسيلمة ما يضحك الأطفال، فضلاً عن العقلاء، يضحك منه الأطفال كل هذا لأنه تصدى إلى معارضة القرآن، وهو ليس بأهل ولا يستطيع، والله -جل وعلا- أخبر أنهم لن يستطيعوا ذلك، للمعري كتاب اسمه: (الآيات البينات في مواعظ البريات) هو في الأصل: في معارضة الآيات، في معارضة الآيات، فقيل له: إن هذا الكتاب لن يروج ما دام فيه معارضة القرآن لن يقبله مسلم، فغير العنوان، والمعري معروف أنه من الزنادقة المعروفين، ملحد، نسأل الله العافية، كما جاء عن الزمخشري أنه افتتح كتابه بقوله: "الحمد لله الذي خلق القرآن" الذي خلق القرآن، ثم قيل له: إن الكتاب لن يروج على المسلمين بهذه الافتتاحية، فالحمد لله خالق القرآن، ثم عدل إلى الحمد لله جاعل القرآن، فجاء بعض من جاء لكي يروج الكتاب؛ لأن جعل تأتي بمعنى خلق، وجاء من جاء ثم غير اللفظة إلى الحمد لله الذي.. نسيتها الآن، من أجل أن يروج الكتاب، مثل هذه الأمور لا شك أن فيها تطاول على كلام الله -جل وعلا-، ومع ذلك إذا حصل مثل هذا لا بد أن يخذل الفاعل، ووجد من الأدباء المعاصرين يعني قبل خمسين وستين سنة من تطاول على القرآن، وزعم أنه قابل للتصحيح والتعديل كغيره، وأن قلمه الأحمر لم يسلم منه شيء حتى القرآن، ومع ذلك عوقب بنقيض قصده، نسأل الله العافية، نزل في أدبه الذي يزعمه نزولاً وأسفّ فيه إسفافاً جعل الجهال لا يقبلونه.

{يُؤْفَكُ} [(9) سورة الذاريات] أي "يصرف {عَنْهُ} عن النبي –عليه الصلاة والسلام- والقرآن، أي عن الإيمان به {مَنْ أُفِكَ} صرف عن الهداية في علم الله تعالى"، {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [(10) سورة الذاريات] قتل الخراصون: يعني "لعن الكذابون أصحاب القول المختلف" الذين سبقت الإشارة إليهم: إنكم لفي قول مختلف، هؤلاء هم الخراصون الأفاكون، فقتل: لعن، والقتل يأتي بمعنى اللعن ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يعني لعنهم، وجاء في الحديث الصحيح ((لعن المؤمن كقتله))، ((لعن المؤمن كقتله)) فهؤلاء قتلوا يعني لعنوا، الكذابون أصحاب القول المختلف، هم الخراصون الكذابون، وأهل الظن والحدس والخرص يتخرصون ويتخبطون ويكذبون أيضاً، "{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [(10) سورة الذاريات] لعن الكذابون أصحاب القول المختلف".

{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} [(11) سورة الذاريات] في "جهل يغمرهم" يعني يغطيهم كما تغطي غمرات الماء العميقة من يدخل فيها، غمرة: جهل وغفلة وسهو عما خلقوا له من أمر الآخرة، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} [(11) سورة الذاريات]  يعني في جهل يغمرهم.

{سَاهُونَ} [(11) سورة الذاريات] "غافلون عن أمر الآخرة" ويدخل في هذا دخولاً أولياً الكفار الذين غفلتهم تامة، ويخشى على من غفل عما خلق له أن يخرج منه وهو لا يشعر، وإن كان ممن ينتسب إلى القبلة؛ لأن هذه الغمرات، وهذه الغفلة نسبية، يعني يدخل الماء الذي يغطي عقبيه ثم يقتحم إلى ركبتيه، ثم لا يلبث أن يغمره الماء فيغرقه، هذا الغافل عما خلق له، يغفل عن الواجبات، ثم يبتلى بارتكاب محظورات، ثم يعاقب بارتكاب ما هو أعظم منها إلى أن ينسلخ من دينه بالكلية، فهذه الغفلة وهذا السهو عما خلق له الإنسان لا شك أنه يعرض الإنسان للانسلاخ؛ ليكون من جنس أولئك الخراصين.

والعقوبات الإلهية لمن خالف الأوامر والنواهي لا شك أنها واقعة ومحسوسة؛ لأن الإنسان قد يضعف في فعل المستحب، يعني يتساهل في الرواتب، يتساهل في قيام الليل ثم لا يلبث أن تدعوه نفسه إلى ترك..، إلى التساهل في الواجبات، ثم إذا تساهل في الواجبات دعته نفسه إلى ما هو أوجب منها وهكذا، وكذلك في المحظورات، يعني مثل نشوء البدع، نشأت يعني يسيرة، فعوقب أهلها بما هو أشد منها، بأن أصروا عليها وألزموا بلوازم، أصروا عليها ودعوا إليها، وألزموا بلوازمها فالتزموا، فالتزموا، ثم بعد ذلك أخذتهم العزة بالإثم وأصروا على هذه اللوازم ثم عوقبوا بما هو أعظم منها، عوقبوا بما هو أعظم منها، يعني الإنسان يسمع كلام من المبتدعة ما يصدر ولا عن مجنون، يعني شراح ومفسرين يشرحون ويفسرون كلام الله -جل وعلا-، ويشرحون كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- ومع ذلك يذكرون في هذه الكتب أشياء مضحكة، يعني لديهم عقول، ولديهم أفهام، ولديهم تحليل يعني يبهر القارئ، لكن أحياناً يعاقب بشيء فيأتي بكلام مضحك، يعني الأشعرية حينما قالوا -وهذا موجود في شروح البخاري- حينما يقولون: إن أعمى الصين يجوز أن يرى بقة الأندلس، هذا يعني لو سمعه الإنسان أول مرة قال: جنون هذا ما في إشكال، ما يستطيع البقة إذا أبعدت عنه متر، إذا أبعدت متر واحد ما شافها، وكل عاد على حسبه في قوة النظر، لكن عشرة أمتار على أي حال ما ترى البقة صغار البعوض، كيف أعمى الصين في أقصى المشرق يرى بقة الأندلس؟! يعني هل يمكن أن يخطر على قلب عاقل مثل هذا الكلام؟ إلا أنهم ألغوا الأسباب تأثير الأسباب، وقالوا: إن البصر سبب، والشيء يحصل عنده لا به، ثم استدرجوا إلى أن قالوا ما قالوا، فمثل هذه الأمور يخشاها الإنسان ويقف عندها، ولا يتعدى النص؛ لأن العصمة إنما هي بالكتاب والسنة، يعني شيء لا يخطر على البال حينما يقرأ لابن عربي:

ألا بذكر الله تزداد الذنوبُ

 

وتنطمس البصائر والقلوبُ

هذا كيف يزعم أنه مسلم؟ والله -جل وعلا- يقول: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [(28) سورة الرعد] وهو يقول: تزاد الذنوب؟ وإن أوله من أوله من أتباعه، لكن يبقى أن الإنسان أول ما يصل من هذا الكلام، يقول: نسبته ليست صحيحة إلا إذا كان كافر غير مسلم، لكنه صحيح وثابت ومدون في كتبه، فعلى الإنسان ألا يبتعد لا يمين ولا شمال، لا أمام ولا خلف في دائرة الاستقامة والالتزام، في دائرة الاعتصام بالكتاب والسنة ليحفظ، ليحفظ في علمه، يحفظ في دينه، أهم المهمات كونه يزيغ ويضل ولو حفظ في ماله، ولو حفظ في بدنه هذه أمور منتهية، العبرة بمن يحفظ في دينه، بمن يحفظ في علمه، لا يزل ولا يَضل، ولا يُضل، ولا يكون ممن يكون سبباً لغواية الناس -نسأل الله السلامة والعافية-، وأنتم سمعتم وقرأتم من كان يفتي الناس على الجادة وبقال الله وقال رسوله، ثم بعد ذلك حصل أن زل، مثل هذه الأمور على الإنسان أن يحتاط لها، سواءً كانت في العلم أو في العمل.

يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- سؤال مجرد سؤال للفائدة {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [(12) سورة الذاريات] ليس بسؤال إفادة، وإنما هو سؤال استهزاء، ومتى هذا اليوم الذي تذكر؟ متى؟ سؤال استفهام واستهزاء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- واستبعاد لهذا اليوم، واستحالة في نظرهم لوقوع هذا اليوم {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [(12) سورة الذاريات] أي متى؟ متى يوم الدين الذي تذكر؟ إن كان لنا شيء يا الله الآن، {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [(12) سورة الذاريات] "أي متى مجيئه؟" حدد لنا إن كنت صادق؟ لكن هذا اليوم أخفاه الله -جل وعلا- عن جميع المخلوقات، عن كل أحد سواه، حتى أنه كاد أن يخفيه على نفسه {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [(15) سورة طـه] يعني حتى عن نفسي، وهذه الأمور التي قطع الشرع بعدم وقوعها لا تدخل تحت امتحان ولا تحت مطالبة، لا يقول: والله أيان يوم الدين؟ ما أجاب، إذن كيف نسأله ولا يجيب؟ لماذا؟ إذن كيف نسلم؟ نعم، يعني هل عدم إجابته -عليه الصلاة والسلام- مبرر لعدم استجابتهم لدعوته؟ ليس بمبرر؛ لأن مثل هذا لا يدخل تحت القدرة ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل)) يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام- استفهام استهزاء {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [(12) سورة الذاريات] "أي متى مجيئه؟" وجوابهم: يجيء" {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [(13) سورة الذاريات] أي يعذبون فيها، هم يسألون عن الساعة التي ذكرها النبي -عليه الصلاة والسلام-، يسألون عن البعث الذي أنكروه، وهنا قال: "جوابهم: يجيء" {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [(13) سورة الذاريات]" يعني هل هذا جواب أو هذا من باب أسلوب الحكيم؟ وهو إجابة السائل بغير ما سأل عنه مما هو أنفع له، يعني لو قيل أيان يوم الدين؟ قيل: سنة ألف وخمسمائة مثلاً، هل هذا أنفع لهؤلاء وأبلغ في الموعظة أو قوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [(13) سورة الذاريات]؟ لا شك أن ما أجيبوا به أنفع لهم وأبلغ في موعظتهم إن كان في قلوبهم شيء من الوازع، شيء من الحياة، لا شك أن هذا في غاية البلاغ والإبلاغ والتبليغ، {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [(13) سورة الذاريات] أي يعذبون فيها، أنت لا تنظر إلى المقدمات، انظر إلى النتيجة، انظر إلى النتيجة، قيام الساعة والبعث مقدمة للجنة والنار، مقدمة لشقي أو سعيد، مقدمة لدخول الجنة أو لدخول النار، إن كنت لا تسأل عن مقدمات ماذا تستفيد؟ ماذا أعددت لهذا اليوم؟ يعني لو نظرنا إلى شخص مهتم لموعد الامتحان متى موعد الامتحان يسأل؟ والله إلى الآن ما بعد صدر شيء في موعد الامتحان، ومهتم للجدول، ويش المقدم؟ ويش المؤخر؟ ويش عندنا أول يوم ولا يذاكر هذا يستفيد؟ لو عرف أن أول يوم تفسير أو رياضيات ما استفاد، العبرة بما يفيدك وينفعك، يعني كون الامتحان يبدأ في يوم كذا، أو يبدأ في مادة كذا هذا ما يفيدك ما دام لن تذاكر ادخل الامتحان في أي يوم وفي أي مادة ما في فرق، والنتيجة معروفة، فإذا كان هذا في امتحان الدنيا التي يمكن يسلك الإنسان بعض الحيل وبعض المسالك ويمشي نفسه، أو يمر عليه معلومات خطفها أو تلقفها من يمين أو يسار قد يستفيد، لكن في أمور الآخرة صفر، ما في، إذا ما عملت لهذا اليوم واستعديت، وتم الاستعداد التام فلن تستفيد حتى ولو عرفت التاريخ، علماً بأن التاريخ لن يستطيع معرفته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهم يسألون أيان يوم الدين، وجوابهم بأسلوب حكيم: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [(13) سورة الذاريات] يعذبون، وإذا أريد فتنة الذهب هل هو سليم أو مغشوش؟ هل هو خالص أو مشوب؟ إنما يكون ذلك بعرضه على النار، وكذلك هؤلاء يفتنون ويختبرون ويمتحنون بعرضهم على النار.

{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [(13) سورة الذاريات] "أي يعذبون فيها، ويقال لهم" من باب الزيادة في التقريع والتبكيت "حين التعذيب {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [(14) سورة الذاريات] ذوقوا فتنتكم يفتنون يعذبون، فتنتكم: تعذيبكم، تعذيبكم هذا التعذيب الذي كنتم به تستعجلون في معرفة وقته في الدنيا، هذا ما قال هذه، ذوقوا فتنتكم هذه؛ لأن الضمير يعود على الفتنة، والمراد بالفتنة العذاب وهو مذكر، فعادت الإشارة إلى المعنى لا إلى اللفظ، وإلا فاللفظ مؤنث، ذوقوا فتنتكم تعذيبكم هذا التعذيب الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا، تستعجلون عن معرفة وقته {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [(12) سورة الذاريات] ثم بعد أن ذكر حال الأشقياء ومآلهم ذكر حال أو ثنى بحال السعداء، وهذا وجه من وجوه تسمية القرآن بالمثاني، يعني يذكر حال الأشقياء ثم يثني بحال السعداء والعكس قد يذكر حال السعداء ثم يثني بحال الأشقياء، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} [(15) سورة الذاريات] المتقون هم من لازم التقوى، والتقوى فعل الأوامر واجتناب النواهي، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} [(15) سورة الذاريات] يعني بساتين واسعة يعني من بساتين الدنيا؟ لا، بستان الدنيا يعني قد يوجد بستان في الدنيا ومشروع كبير بالكيلوات لكنه لا شيء بالنسبة لثمرة واحدة من صنف واحد مما في جنات النعيم، يعني لو قرنت الدنيا نعيم الدنيا من بدء الخلق إلى قيام الساعة بثمرة واحدة بحبة عنب أو تفاح أو شيء من هذا...... لا شيء، فكيف إذا كان نصيب آخر من يدخل الجنة، آخر من يدخل الجنة يخرج من النار يقال له: تمن، تنقطع به الأماني ويش يقول؟ يعني كأنه لسان حاله يقول: والله ما لي وجه أتمنى، فيقال له: أترضى أن يكون لك كملك أعظم ملك من ملوك الدنيا؟ يقول: إي وربي، إي يا رب، الملك؟ يعني اعتبر ملك هارون الرشيد مثلاً الذي ملك غالب الأرض، أو ملك ذو القرنين، أو ملك سليمان الذي لا ينبغي لأحد من بعده تمنى مثل هذا ، قال: هو لك، ومثله، ومثله ومثله، إلى عشرة أمثاله، ملك أعظم ملك من ملوك الدنيا، وفيه في هذا الملك العظيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكنه النعيم المقيم الذي لا ينتهي، نعيم أبدي سرمدي، يعني لو عمر الإنسان مائة سنة ثم جاءت مقدمات الموت وعلاماته يسأل، يعني نوح سئل ما مثل هذه الدنيا، ولبث في قومه في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً، والله أعلم كم بعد لبث قبلها؟ يقول: كأنها دار دخلت من باب وخرجت من باب، والأعمال لا تقاس بالأعمار، الأعمال لا تقاس بالأعمار، فكم من شخص عمر أكثر من مائة سنة ولا أثر له في الوجود، لا في نفسه ولا في غيره، ولا في أقرب الناس إليه، والأنبياء والرسل أثرهم وفضلهم وشرفهم باقٍ إلى قيام الساعة، العلماء انظر إلى أثرهم قرون وأعمارهم قليلة جداً، يعني الإمام الشافعي كم تبعه من وقته إلى يومنا هذا من الأتباع؟ الإمام الشافعي من أكثر الأئمة تبع، يعني لو قيل: إنه بعد الحنفي، هو بعد الحنفي بالفعل في الأتباع، ولكن كم عمر الإمام الشافعي يوم أن مات؟ أربعة وخمسين سنة، أربعة وخمسين سنة، والواحد منا يبلغ هذا السن ويخطط ويفكر للمستقبل، يقول: اللي راح إلى الله المشتكى ما حصلنا شيء، لكن المستقبل تخطيط للمستقبل، من أجل أن يكون عالم يبدأ يخطط من هذا السن، والإمام الشافعي تبعه الملايين من البشر منذ نهاية القرن الثاني إلى يومنا هذا كم؟ أكثر من اثنا عشر قرن، والأئمة من أئمة الشافعية يتبعونه ويلهجون بالترحم عليه، والثناء عليه، والدعاء له، وكم من شخص استفاد من علمه وعلم أتباعه، يعني أجور لا تخطر على البال، والعمر أربعة وخمسين سنة ولد سنة مائة وخمسين، ومات سنة مائتين وأربعة، وتسأل واحد أربعين سنة....... أربعة وخمسين سنة تو ما بعد صار شيء، ما بعد صار شيء، الأعمار بيد الله، يعني هناك على النقيض من يقول : ما بقي بالعمر كثر ما مضى أنا والله ما أنا بمشتغل، أتعب على لا شيء، ما بيجيب العمر........ والله قد يعمر، وقد يعمر، يعني شخص توفيت زوجته سنة الرحمة، سنة سبعة وثلاثين، قيل له: لماذا لا تتزوج يا فلان؟ قال: ما بيجيب العمر كثر ما مضى، وبقي من العمر مرتين كثر ما مضى، عمر سبعين سنة بعدها، وبالمقابل ناس يخططون لما بعد التقاعد، والمنايا تتخطف الناس الصغار والوفيات فيهم والشباب أكثر من الكهول والشيوخ، فعلى الإنسان أن يهتم لهذا الأمر

ويغتنم، ما يقول: والله أنا الآن في عصر شباب، ما زلنا خلنا إذا وصلنا الأربعين وبلغنا الأشد واتجهنا، كثير من أهل العلم إذا وصل الأربعين اعتزل الناس، من يؤمنك إلى أن تصل الأربعين، وإذا تجاوز الأربعين قال: خلاص الستين أعذر الله لامرئ بلغه الستين، إذا وصلنا الستين انقطعنا، من يؤمنك أن تصبح بعد ما أمسيت، أو تمسي بعدما أصبحت؟ والله المستعان.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} [(15) سورة الذاريات] بساتين {وَعُيُونٍ} تجري فيها، تجري من تحتها الأنهار، من تحتها، ما يحتاج إلى والله تركب دآبة وإلا تركب سيارة وإلا تركب وسيلة لتذهب إلى الأنهار الجارية من تحتك تمشي، ما تقول: والله الآن الثيل مرشوش ما يصلح نجلس عليه، كما نفعل الآن إذا رشوا الثيل قال: خلاص ما يصلح للجلوس، لا، تجري تحتك الأنهار.

أنهارها في غير أخدود جرت

 

سبحان ممسكها عن الفيضانِ

ما تفيض ولا تسيح لا يمين ولا يسار وهي بغير أخاديد، تجري هكذا، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} [(15) سورة الذاريات] بساتين، {وَعُيُونٍ}  تجري فيها {آخِذِينَ} [(16) سورة الذاريات] حال من الضمير في خبر (إن) حال من الضمير في خبر (إن) (إن) حرف توكيد ونصب، ينصب المبتدأ ويرفع الخبر {فِي جَنَّاتٍ} جار ومجرور متعلق بمحذوف هو الخبر، كائنون أو مستقرون، كائنون أو مستقرون {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [(15) سورة الذاريات] {آخِذِينَ} حال من الضمير في خبر (إن) حال من الضمير في خبر (إن) الذي هو إيش؟ الواو، كائنون أو مستقرون واو الجماعة في خبر (إن) {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ} [(16) سورة الذاريات] يعني أعطاهم ربهم من الثواب والجزاء، {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ} يعني ما أعطاهم ربهم من الثواب والجزاء على إعمالهم الصالحة، الجنة لا تنال بالعمل، إنما تنال برحمة أرحم الراحمين، تنال برحمة أرحم الراحمين، لكن منازل هذه الجنة تنال بالأعمال، تنال بالأعمال.

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} [(16) سورة الذاريات] أي قبل دخول الجنة {مُحْسِنِينَ} محسنين لأعمالهم، والإحسان إحسان العمل المعول عليه في القبول {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [(30) سورة الكهف] ما في من أكثر، لا، من أحسن، فالمعول على الإحسان {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [(16) سورة الذاريات] قبل دخول الجنة محسنين في الدنيا، والإحسان يشمل العمل اللازم والعمل المتعدي، محسنين لصلواتهم، متقنين لها، مقيمين لها، محسنين لسائر عباداتهم من صيامهم وحجهم، محسنين أيضاً للأعمال المتعدية لزكواتهم، لكسبهم الأموال من حلها، وصرفها فيما يرضي الله -جل وعلا-، فالإحسان ملازم لهم في جميع تصرفاتهم، إنهم كانوا قبل ذلك، قبل دخول الجنة محسنين أي في الدنيا، ثم بين بعض أعمالهم.

{كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [(17) سورة الذاريات] كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، يقول: "ينامون" والهجوع هو النوم الخفيف "ينامون، وما زائدة" يعني كانوا قليلاً من الليل يهجعون، زائدة يعني صلة كما يقول المفسرون كالطبري وغيره يقولون: صلة، ويريدون بذلك زائدة، لكن من الأدب أن لا يقال: زائدة؛ لأن القرآن مصون ومحفوظ من الزيادة والنقصان ولو باللفظ، يعني لا يقول قائل: إنها مادامت زائدة لماذا لا نمسحها؟ لو مسحتها كفرت، حتى الذي يقول: زائدة لو يمسحها كفر، إنما تزاد بعض الحروف دعامة للكلام، دعامة للكلام وتقوية له.

{كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [(17) سورة الذاريات] احذف ما من الكلام وكانوا قليلاً من الليل يهجعون، ينامون قليل، ويستغلون باقي الليل فيما ينفعهم في العلم في التعليم في الذكر في الصلاة ثم بعد ذلك إذا بقي الشيء اليسير من الليل وقت السحر يستغل بالاستغفار، وختم الأعمال بالاستغفار يقضي على داء الكبر، وداء العجب، يقضي عليه؛ لأن الإنسان إذا عمل عملاً قد يراه في نفسه ويعجب به، ويظن أنه ليس بحاجة للاستغفار، الآن جاء من صلاة كيف يستغفر؟ لكن ختم الأعمال الصالحة بالاستغفار تذكيراً بالتواضع لله -جل وعلا-، وأن العبرة بما في القلوب لا في الصور ولا في الأعمال، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر، وكم من نائم أفضل من ألف قائم، لكن لا يعني هذا أننا نبرر للنائمين أو لأنفسنا أن ننام ونقول: نحن بنومنا أفضل من بعض من قام، لا، لا، كل إنسان له ما يخصه من خطاب الشرع، أنت قم واحرص لأن هذا من أعظم الأسباب لدخول الجنة ونيل المنازل، {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [(17) سورة الذاريات] يعني يهجعون قليلاً، ويصلون كثيراً، ويصرفون كثيراً من أوقات الليل فيما يقرب إلى الله -جل وعلا- من الصلاة والتلاوة والذكر لا سيما الاستغفار في آخره.

منهم من يقول: إن هذه (ما) نافية وليست زائدة، يعني كانوا قليلاً من الليل ما ينامون، يعني لا ينامون، لا ينامون قليل من الليل معناه أنهم ينامون كثير ويقومون قليل عكس المعنى السابق، ومعلوم أن النوم لا يمدح به، فهذا القول وإن اعتمده كثير من المفسرين إلا أنه من حيث المعنى ضعيف، يعني ينامون طويلاً فإذا بقي شيء قليل قاموا، حتى قال بعضهم: إن المشار إليه في هذا وما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء، حتى قال بعضهم إن هذه الآية في صلاة العشاء فقط، {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [(17) سورة الذاريات] المدح بالقيام وإلا بالنوم؟ بالقيام، لكن إذا كان النوم في مقابل ضياع الأوقات حتى في المباح أو حتى أو في المكروه أو في المحرم من باب أولى فالنوم يمدح به، الليل سكن، يمدح به في المقابل، لكن من يسهر لعلم، لتعليم لمدارسة، لحفظ، لفهم، لصلاة، لذكر، هذا لا شك أنه أفضل من النائم، ولا مقارنة بينهم هنا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد يسمر في العلم، وترجم عليه البخاري: "باب: السمر في العلم" فقضاء الأوقات في ما ينفع في العبادات لا شك أنه أفضل من قضائه في المباحات ومنها النوم، النوم نعم يستعان به على طاعة الله فإذا كان في مقابل مباح فالنوم أفضل، في مقابل مكروه النوم أفضل، لكن في مقابل فاضل، يعني صلى العشاء ومسك التفسير وإلا الحديث وإلا كتاب ينفعه في علمه، ينفعه في علاج قلبه هذا لا شك أنه أفضل من النوم، لو قدر أنه مشى على قيام داود، نام نصف الليل وقام ثلثه ونام سدسه، هذا أيضاً أفضل القيام، لكن قيام الليل يقدر بالوقت، بالزمن، يعني في سورة المزمل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [(2-4) سورة المزمل] للتقدير بالأوقات، التقدير بالوقت، فكلما زدت الله  أكثر، لكن عليك أن تحفظ هذا الوقت، ما تقول: والله أنا قايم الليل وأنت كل شوي يعني تصلي لك ركعتين ثم تذهب للي يسمرون وتجلس معهم وتسمع حديثهم وتقول: أنا والله قمت الليل كله، ما هو بصحيح، نعم قد تستعمل ما ينشطك على القيام، تكون عندك أشياء تنشطك، هذا مما يستعان به على الطاعة فهو طاعة، هذا ما فيه إشكال، لكن مع ذلك لا تقول: والله أنا قمت الليل، وأنت أكثر الليل إما في استراحة وإلا في مجلس سمر وإلا شيء، هذا ما هو بقيام، القيام الذي يستغل فيما ينفع، هب أنك جلست مع أهلك وسمرت معهم ووجهتهم لما ينفعهم، هذا قيام، أو جلست في استراحة مع جمع من أصحابك ونفعتهم بفائدة ووجهتم، وتكلم بعضهم بما لا ينفع فوجهته لما ينفع هذا قيام {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [(17) سورة الذاريات] ومنهم من يقول: إن (ما) مصدرية، تؤول مع ما بعدها بمصدر، فتكون: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم، يعني نومهم، وهذا جيد، قليل من الليل هجوعهم، شوف لما كان قيام الليل يحصل في خفاء يكون الجزاء أيضاً من جنس العمل، قيام الليل دأب الصالحين في الأمم كلها، و((نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)) {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [(16) سورة السجدة] {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [(17) سورة السجدة] أخفي الجزاء كما أخفي العمل، والقيام مثل ما ذكرنا، وهذه الآية وغيرها مما جاء في معناها لسنا من أهلها، لسنا من أهلها، نسأل الله -جل وعلا- أن يحيي هذه القلوب الميتة، الإنسان والله يقولها من حرقة، كلام صحيح؛ لأن الإنسان هذا هو الواقع والله لسنا من أهلها، والعالم وطالب العلم إنما يتميز بهذا، إنما يتميز بهذا، فإذا كان محروماً في هذا الباب ليجزم ويعلم أن في طلبه، في علمه، في تعليمه خلل {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(9) سورة الزمر] يعني وين؟ الذين يعلمون هم الذين تتجافى جنوبهم، وهم الذين قليلاً من الليل ما يهجعون، وهم الذين يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله بقيام الليل، {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [(17) سورة الذاريات] "ينامون، وما زائدة" ويهجعون، خبر كان، كانوا قليلاً اسمها الضمير الواو واو جماعة، ويهجعون خبرها، وقليلاً ظرف أي ينامون في زمن يسير من الليل ويصلون أكثره.

من أهل العلم من المفسرين من يقول: {كَانُوا قَلِيلًا} [(17) سورة الذاريات] ويقف {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا} [(15-17) سورة الذاريات] الذين هذه أوصافهم قلة، يعني عددهم قليل، ثم الاستئناف {مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [(17) سورة الذاريات] لكنه قول ضعيف؛ لأن هذا يقطع أول الكلام عن آخره، وقيام الليل من أوصاف المتقين الذين يستحقون هذا الجزاء العظيم، وينامون في زمن يسير من الليل ويصلون أكثره.

قد يقول قائل: السنة الإلهية أن الليل سكن، والنهار معاش، فهل يلام الإنسان إذا قلب هذه السنة الإلهية لعمل صالح؟ يقول: أنا والله بالليل أنشط لي، وأقل الوارد كانوا قبل سنين قبل ثلاثين سنة شيء أدركناه الليل ما في طلعة خلاص، الانتشار الآن كله في الليل، وقلبت السنن الإلهية على لا شيء، لكن من أراد أن يقلب هذه السنة الإلهية لكن على شيء، يقول: أنا أصلي العشاء وأجلس في البيت وأقسم الوقت من صلاة العشاء إلى أذان الصبح فيما ينفع، أقسمه أثلاث أو أرباع أو على حسب ما يسع بعضه قراءة، وبعضه مراجعة، وبعضه حفظ، وبعضه صلاة، وبعضه ذكر، وبعضه إلى أن..، هذا أنشط لي؛ لأن النهار يعني يلاحظ في عصرنا هذا النهار في الحقيقة بعد القلب الذي حصل لا سيما من ليس لديه عمل معين، ما هو مرتبط بعمل، وفي الإجازات يتضح هذا، تجد أكثر الناس يسهر الليل إلى صلاة الفجر، ثم ينام إلى صلاة الظهر، ومرتاح مبسوط، لكن خله ينام الليل إلى الفجر ثم يقوم إلى صلاة الظهر يتلفت يمين يسار يبي أحداً يكلمه يبي أحداً يتصل عليه ما في، فإذا كان قلب السنة الإلهية لمجرد القلب وأن عمله في النهار هو عمل الليل ما يصلح، لكن إذا كان عمله بالليل أنشط فيما يقربه إلى الله -جل وعلا- فالنبي -عليه الصلاة والسلام- في العشر الأواخر يحيي الليل، يستغل هذه الأوقات، وإذا أردت أن تستغل أوقات الغفلات فيما ينفعك فلا تلام، إذا كان أنشط لك الليل وأردت أن تقسم هذا الليل كما كان يفعل كثير من السلف لكنهم يهجعون قليلاً، يهجعون قليلاً ينامون قليلاً من أجل أن يستعينوا بهذه الهجعة على ما بعد صلاة الصبح من أعمال.

{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [(18) سورة الذاريات] وبالأسحار: يعني آخر الليل يستغفرون، فيقولون: اللهم اغفر لنا، ومنهم من يقول: بالأسحار يصلون، يعني تتصل صلواتهم وعباداتهم إلى طلوع الفجر، لكن اللفظ وإن كان الاستغفار من أعمال الصلاة إلا أن حقيقته المطابقة قول: "اللهم اغفر لي"، "استغفر الله، استغفر الله" ينوع، ثم يأتي بسيد الاستغفار، ثم..، المقصود أنه يأتي بالاستغفار بصيغه الواردة في الأدلة والأحاديث الصحيحة، يستغفر، ويستحضر أنه مهما بلغ ومهما عمل من الأعمال..، مهما عمل من الأعمال أنه جميع أعماله لن تدخله الجنة ((ولن يدخل أحدكم الجنة بعمله)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)) فالأعمال لا تدخل الجنة، إنما دخول الجنة برحمة أرحم الراحمين، فأنت تجلس تستغفر وتنكسر بين يدي ربك في آخر الليل عسى الله ولعل الله أن يقبل عملك، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة].

{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [(19) سورة الذاريات] في أموالهم، أضيفت الأموال إليهم إضافة ملك، يملكونها، وإن كان هو وما يملك ملك لله -جل وعلا-، {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ} [(33) سورة النــور] فالمال لله، ويملكه باعتبار الملك البشري، بحيث أنه يسوغ له شرعاً أن يتصرف فيه تصرفاً مضبوطاً بضوابط شرعية، ليس بتصرف مطلق أو مرسل عن الضوابط الشرعية لا، فهو ماله باعتبار أنه يتصرف فيه، لكنه مال الله بحيث لا يتصرف فيه إلا على ضوء مراد الله -جل وعلا-.

{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} [(19) سورة الذاريات] حق واجب وحق مندوب، وجاء من حديث عائشة: ((إن في المال حق سوى الزكاة)) وجاء عنها أيضاً: ((ليس في المال حق سوى الزكاة)) فالمراد بالمثبت في المال حق سوى الزكاة المندوب، حق مندوب، وليس في المال حق يعني واجب سوى الزكاة، وعلى كل حال الصدقات منها، والزكوات منها، والنفقات منها المندوب ومنها الواجب، وفي هذه الآية {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [(19) سورة الذاريات] الذي لا يسأل يتعفف، السائل الذي يتعرض للناس، الذي يتعرض للناس، والمحروم الذي لا يتعرض للناس، ولا يتكفف الناس، ولا يسأل، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ومنهم من يقول: إن المحروم الذي حرم من الانتفاع بماله بأن جاءت جائحة وقضت عليه، وليس المحروم المعروف عند الناس عرفاً، الذي أمواله وأرصدته في البنوك ولا يستفيد منها لبخله وشحه، لا، ليس هذا هو المحروم الوارد في النصوص، لا يجوز أن يدفع له شيء هذا، هذا عليه زكوات وعليه صدقات، فإذا بخل بما أوجب الله عليه يعطى من الزكاة؟ أبداً، ولو مات، ما يعطى من الزكاة مثل هذا، وإن شاع عرفاً أن هذا محروم، لكن ليس هو المراد بالنصوص.

من أهل العلم من يقول: إن الآية في الزكاة، إذا قارنها بالآية الأخرى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [(24-25) سورة المعارج] فالمعلوم والمحدد شرعاً هو الزكاة هي التي لها أنصبة ولها فروض ولها..، هي المعلوم، حق المعلوم بالتحديد من الشارع إنما هو في الزكاة، أما الصدقات المندوبة ليس لها ضابط يضبطها تأتي من ((ولو بشق تمرة)) إلى أن تبرع أبو بكر بجميع ماله، هذا كله من المندوب، وليس بمعلوم، يعني سواءً تصدقت بشق تمرة، ((ولو بفرسن شاة محرق)) إلى أن يصل إلى أن تتصدق بجميع مالك كما فعل أبو بكر -رضي الله عنه-، الآن نكتفي بهذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"