شرح الموطأ - كتاب الاعتكاف

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.
أحسن الله إليك.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لشيخنا واجزه عنا خير الجزاء، واغفر للسامعين يا ذا الجلال والإكرام.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

كتاب: الاعتكاف

باب: ذكر الاعتكاف

حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان".

وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة -رضي الله عنها- كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي لا تقف.

قال مالك -رحمه الله-: "لا يأتي المعتكف حاجته، ولا يخرج لها، ولا يعين أحدًا، إلا أن يخرج لحاجة الإنسان، ولو كان خارجًا لحاجة أحد لكان أحق ما يخرج إليه عيادة المريض، والصلاة على الجنائز وإتباعها".

قال مالك: لا يكون المعتكف معتكفًا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف من عيادة المريض، والصلاة على الجنائز ودخول البيت إلا لحاجة الإنسان.

وحدثني عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن الرجل يعتكف هل يدخل لحاجته تحت سقف؟ فقال: نعم لا بأس بذلك.

قال مالك: الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه، ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها، إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة، أو يدعها، فإن كان مسجدًا لا يجمع فيه الجمعة، ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه، فإني لا أرى بأسًا بالاعتكاف فيه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [(187) سورة البقرة] فعم الله المساجد كلها، ولم يخص شيئًا منها.

قال مالك: فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد التي لا يجمع فيها الجمعة إذا كان لا يجب عليه أن يخرج منه إلى المسجد الذي تجمع فيه الجمعة.

قال مالك: ولا يبيت المعتكف إلا في المسجد الذي اعتكف فيه إلا أن يكون خباؤه في رحبة من رحاب المسجد، ولم أسمع أن المعتكف يضرب بناء يبيت فيه إلا في المسجد أو في رحبة من رحاب المسجد، ومما يدل على أنه لا يبيت إلا في المسجد قول عائشة -رضي الله عنها-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، ولا يعتكف فوق ظهر المسجد، ولا في المنار -يعني الصومعة-.

وقال مالك: يدخل المعتكف المكان الذي يريد أن يعتكف فيه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها حتى يستقبل باعتكافه أول الليلة التي يريد أن يعتكف فيها، والمعتكف مشتغل باعتكافه لا يعرض لغيره مما يشتغل به من التجارات أو غيرها، ولا بأس بأن يأمر المعتكف ببعض حاجته بضيعته ومصلحة أهله، وأن يأمر ببيع ماله أو بشيء لا يشغله في نفسه، فلا بأس بذلك إذا كان خفيفًا أن يأمر بذلك من يكفيه إياه.

قال مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطًا، وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال مثل الصلاة والصيام والحج، وما أشبه ذلك من الأعمال، ما كان من ذلك فريضة أو نافلة، فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل بما مضى من السنة، وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه المسلمون، لا من شرط يشترطه ولا يبتدعه، وقد اعتكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعرف المسلمون سنة الاعتكاف.

قال مالك -رحمه الله-: والاعتكاف والجوار سواء، والاعتكاف للقروي والبدوي سواء.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الاعتكاف:

وقد مضى نظائره من ذكر البسملة قبل الترجمة، والأصل أن يبدأ بها، وذكرنا مرارًا أنها قد تقدم الترجمة على البسملة أحيانًا، وهذا يوجد في البخاري، تقدم الترجمة على البسملة، ويكون ذكر الترجمة بمثابة ذكر اسم السورة في القرآن قبل البسملة، ولكل وجه.

كتاب الاعتكاف:

الكتاب: مضى تعريفه مرارًا.

والاعتكاف: اللزوم، لزوم الشيء وحبس النفس عليه، خيرًا كان أو شرًّا، فمن لزم شيئًا وحبس نفسه عليه اعتكف، كما قال -جل وعلا-: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [(187) سورة البقرة] وقال -جل وعلا-: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [(138) سورة الأعراف] هذا اعتكاف، فلزوم الشيء وحبس النفس عليه اعتكاف، يعني طول المكث والبقاء في مكان لأمر من الأمور اعتكاف؛ ولذا الذين يمضون الساعات أمام القنوات والآلات هم يعتكفون عليها، يعكفون عليها، ويتداول الطلاب أيام الامتحانات هذه اللفظة، إذا أداموا النظر ولزموا الأماكن لمطالعة دروسهم يقال: فلان عاكف على دروسه؛ لأنه يطيل المكث والملازمة، ملازمة المكان للإفادة من دروسه.

فرق بين: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [(187) سورة البقرة] السنة النبوية، وبين {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [(138) سورة الأعراف] وبينهما أمور، يعني هذا من أفضل الأعمال، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- الشرك والكفر، فعلى الإنسان أن يلزم طاعة الله -جل وعلا-، ولا يصرف هذا المسمى -وإن كان لغويًّا- لكن حقيقته الشرعية لزوم المسجد، والمسجد كما جاء في بعض الأخبار بيت كل تقي.

وخير مقام قمت فيه وحلية

 

تحليتها ذكر الإله بمسجدِ

والرباط: انتظار الصلاة بعد الصلاة، والملائكة تصلي على المصلي ما دام في مصلاه: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه" هكذا ينبغي أن تنفق الأوقات، أما أن تنفق على القيل والقال، أو على الآلات المحرمة، أو على ما يقرب منها من استعمال بعض الأمور من ورقة وغيرها، يمضون عليها الساعات الطوال، ويحدث معها من الألفاظ البذيئة، وتأثر القلوب، وقد يحصل معها الجعل المحرم كالقمار، المقصود أن الإنسان عليه أن يحفظ وقته.

وعرف الاعتكاف شرعًا: بأنه لزوم المسجد لطاعة الله -جل وعلا-، يعني للعبادات الخاصة اللازمة من صلاة وتلاوة وذكر، حتى ما كان نفعه عامًّا يعطل أثناء الاعتكاف، وأما ما يستروح إليه بعض أهل العلم أن الاعتكاف يصح بأدنى شيء، وأن كل من دخل المسجد ينوي سنة الاعتكاف، هذا ليس بشيء، ليس باعتكاف لا لغوي ولا شرعي؛ ولذا يوجد في بعض المساجد في الاسطوانة التي تقابل الداخل إلى المساجد تذكير بنية الاعتكاف، نويت سنة الاعتكاف، مكتوب عليه هكذا لكل داخل، ينوي سنة الاعتكاف، يعني أقل ما قيل في الاعتكاف، قال بعضهم: ولو لحظة، لكن هذا لعب بالنصوص، الحنفية عندهم أن أقل ما ينطبق عليه الاعتكاف ساعة، مكث ساعة.

قولهم: نويت سنة الاعتكاف، على أنها لفظ مخالف لحقيقة الاعتكاف أيضًا هي تذكير بأمر مبتدع، وهو النطق بالنية، استحضار النية، ولو لم ينطق بها الإنسان على هذه الكيفية بأن يقول: نويت سنة الاعتكاف ولو في نفسه هذا لم يرد به دليل، إنما يعمل به بعض متأخري الفقهاء، ولا يوجد في خبر صحيح ولا ضعيف عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا عن صحابته أن المتعبد يقول: نويت كذا، نويت أن أعتكف، نويت أن أصلي صلاة كذا، ولو في نفسه، إنما مجرد قصده لهذا الأمر هو النية، مجرد ما يذهب إلى المسجد، ويمثل في الصف بين يدي الله -جل وعلا- هذه هي النية. يقول المؤلف:

باب ذكر الاعتكاف:

"حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن" الذي في البخاري عن عروة وعمرة عن عائشة؛ لأن عروة يرويه عن عائشة بدون واسطة، يقول الحافظ ابن حجر: ذكر عمرة في رواية مالك من المزيد في متصل الأسانيد، نعم الإمام مالك يروي الخبر من طريقين، من طريق عروة ومن طريق عمرة كلاهما عن عائشة -رضي الله عنها-، وليس على هذه الصورة التي جاءت في رواية يحيى.

"عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله"، "يدني" يقرب إلي رأسه "فأرجله" يعني أمشط شعره وأسرحه وأنظفه "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" دل على أن إخراج جزء من البدن من المسجد لا يخل بالاعتكاف، إذا أخرج رأسه أو يده أو رجله دون بقية بدنه هذا لا يخل بالاعتكاف، وليس معنى هذا أن المعتكف يفرش فراش عند باب المسجد ويخرج رأسه لينظر إلى الغادي والرائح هذا لحاجة هذا، من أجل التسريح والترجيل، بعض الناس عنده محبة للاستطلاع، يحب الاستطلاع ومع ذلك يجعل الفراش عند باب المسجد، ويخرج رأسه، ويقول: النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يخرج رأسه، وإلا ليس هذا هو المقصود، هذا ينافي مقتضى الاعتكاف، وبعض الناس يتوسع في أمر الاعتكاف حتى لا يوجد فرق بين كونه معتكفًا أو كونه في بيته، أو في محل مع زملائه من استراحة أو غيرها، يتوسع في أموره، تجد عنده الأجهزة التي كان يستعملها في بيته، عنده التليفون الثابت، وعنده الجوال، وعنده إن كان آلات إنترنت أو غيره، ويزاول جميع ما كان يعمله قبل الاعتكاف، بل مع الأسف أنه وجد من تنقل إليه الصحف والمجلات، هل هذا اعتكاف؟ أو يخل ببعض العبادات، تجده ينام حتى يفوته بعض الصلوات، هذا ينافي مقتضى الاعتكاف، الاعتكاف للازدياد من القرب من الله -جل وعلا-، والخلوة به، ومعالجة القلب من آثار الران الذي يكسبه طول العام.

فعلى الإنسان أن يتخفف من أمور الدنيا كلها إلا ما لا بد منه؛ ولذا كان -عليه الصلاة والسلام- لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، فسرها الزهري بالبول والغائط، واتفق العلماء على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، أما إذا أمكن إدخال الأكل والشرب إلى المسجد فلا يجوز له أن يخرج من أجلهما، وأما إذا منع من إدخال الأكل والشرب في المسجد صار حكمه -حكم الأكل والشرب- حكم الحاجة، يلحق أيضًا بما ذكر الزهري ما هو في معناهما كالقيء مثلًا، احتاج إلى أن يقيء يخرج من المسجد وهكذا، نعم؟

طالب:......

الرباط؟

طالب:......

على كل حال الرباط لزوم المسجد، لكن أحكامه قد تختلف عن أحكام الاعتكاف؛ لأن أحكام الاعتكاف أو الاعتكاف ينبغي أن يخصص للعبادات الخاصة، والرباط قد يكون للتعلم والتعليم، نعم؟

طالب:......

سيأتي الكلام عن المجاورة.

"وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي" مع أن عيادة المريض سنة، إتباع الجنازة من حق المسلم على المسلم، ومع ذلك تعطل هذه الأمور، ونص المالكية أنه لو كان المريض أو الميت أحد الأبوين ما يعرج عليه، إلا يسأل عنه وأنت ماشٍ، مثلما تفعل عائشة، لا تقف؛ لأن الوقوف بمعنى العيادة ولا تجوز العيادة كحضور الجنازة، يعني ومن باب أولى طلب دين واستيفاؤه وما أشبه ذلك، والمالكية يشددون في أمر الاعتكاف جدًّا.

"قال مالك: لا يأتي المعتكف حاجته، ولا يخرج لها من المسجد" حاجته غير حاجة الإنسان التي لا بد منها، أموره الحاجية الأخرى "لا يأتي المعتكف حاجته، ولا يخرج لها من المسجد، ولا يعين أحدًا" شخص عند باب المسجد يريد من يرفع معه متاعه إلى دابته أو سيارته يقول: لا يعينه "لا يخرج من المسجد، ولا يعين أحدًا إلا أن يخرج لحاجة الإنسان" التي تقدمت "ولو كان خارجًا لحاجة أحد لكان أحق ما يخرج إليه عيادة المريض" وأحق وعيادة بالوجهين، بالنصب والرفع، أحدهما اسم كان، والثاني الخبر، إما مقدم أو مؤخر، يعني نظير ما جاء: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ)) والرواية الأخرى: ((يوشك أن يكونَ خير مالِ المسلم غنمًا)) يجوز هذا وهذا.

طالب:......

كيف؟

طالب:......

ما يخرج إليه، يعني عموم المعتكفين، أو ما يخرج إليه المعتكف، المعنى ما يختلف.

"عيادة المريض، والصلاة على الجنائز واتباعها" لأن هذه الأمور من حقوق المسلم على أخيه، واتباعها مع أنه لا يخرج لذلك، فمن باب أولى أن لا يخرج لغيرهما، بعض الناس يستثني، وسيأتي ما في الاستثناء في الاعتكاف، بعضهم يستثني الدوام، يخرج للدوام، ويرجع بعد الدوام يكمل اعتكافه.

"قال مالك: لا يكون المعتكف معتكفًا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف من عيادة المريض ولو أبويه، والصلاة على الجنائز، ودخول البيت إلا لحاجة الإنسان" يعني ما استثني إلا هذا، فدل على أن المعتكف يلزم المسجد.

"وحدثني عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن الرجل يعتكف هل يدخل لحاجته تحت سقف؟ فقال: نعم لا بأس بذلك" وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة، وقال جماعة: إن دخل تحته –تحت السقف- بطل، ما السبب؟ هو في الأصل في المسجد تحت سقف، هل يدخل لحاجته تحت سقف؟ يعني يأوي إلى بيت أو إلى مسكن، أو يخرج يتبرز مثلما كانت العرب تفعله ويرجع؛ لأن دخوله تحت سقف في الغالب أن يكون في هذا المكان أناس ينشغل بهم، وأما إذا خرج لمكان قضاء الحاجة الذي لا يظله سقف ليس فيه أحد ينشغل به، لكن لا بأس بذلك، وهو قول جماهير أهل العلم.

"قال مالك: الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه" يعني تصلى فيه الجمعة "ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه" لأنه يضطر أن يخرج إلى صلاة الجمعة، أو يضطر إلى تركها، وكلاهما لا يجوز، لا يجوز الخروج إلى صلاة الجمعة، ولا يجوز أن يترك الجمعة، هذا عند الإمام مالك -رحمه الله-.

"ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة وجوبًا أو يدعها" فيحرم عليه ترك الجمعة "فإن كان مسجدًا لا يجمع فيه الجمعة، ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه" لا يجب عليه إتيان الجمعة لكونه مسافرًا مثلًا، مسافر لا جمعة عليه، أو امرأة لا جمعة عليها، أو كانت مدة الاعتكاف بحيث لا يتخللها جمعة، يعتكف خمسة أيام من السبت أو من الأحد إلى الخميس، مثل هذا لا بأس أن يعتكف في مسجد غير جامع.

"ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه، فإني لا أرى بأسًا من اعتكافه فيه؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [(187) سورة البقرة] فعمم الله المساجد كلها" فيدخل في ذلك مساجد الفروض، ويدخل فيها الجوامع، يدخل فيها المساجد الثلاثة، ويدخل فيها ما سواها؛ لأن الله -جل وعلا- عم المساجد كلها "ولم يخص شيئًا منها" لعدم الاحتياج إلى الخروج.

اشتراط المسجد قول عامة أهل العلم أنه لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد، لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد، قيل عن محمد بن عمر بن لبابة أنه أجازه في كل مكان، وأجازه الحنفية للمرأة في مسجد بيتها دون الرجل، وعلى كل حال لا اعتكاف إلا في مسجد.

"قال مالك: فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد" لكن لو قدر أن شخصًا لو اعتكف في المسجد تأذى الناس بوجوده، نعم وأفتي من باب المصلحة أن يعتكف في جهة من الجهات التي لا يتأذى الناس بوجودهم فيها، ولو كانت خارج المسجد قريبًا منه، هذا ليس عليه ما يدل عليه من النصوص، والمصالح والمفاسد مقدرة باعتبار أن هذه سنة وليست بواجب، ويترتب عليها مفسدة كبيرة، وقد حصل بعض الشيء بعض العلماء أفتى من يتأذى الناس بوجوده إما لكثرة الاحتياط عليه، أو كثرة الأتباع.

"قال مالك: فمن هنالك جاز له أن يعتكف" هذا من النظر في المصالح، لكن عمومًا المصالح إذا خالفت الأدلة لا ينظر إليها، وحينئذٍ تكون الفتوى باطلة، لكن من ناحية أخرى هذه سنة، إن حصل له أجرها فبها ونعمت، وإلا حصل له أجر القصد، بخلاف من أفتى من وجبت عليه الكفارة، أفتاه بالصيام قبل العتق، يقول... -على ما مضى شرحه- من علماء الأندلس من أفتى في كفارة الوطء في نهار رمضان، قال: تصوم شهرين متتابعين، يعني يجب عليه أن يعتق، فإن لم يجد يصوم شهرين متتابعين، قال: لو قلنا له: يعتق، كان يطأ كل يوم، العتق سهل بالنسبة له، لكن كيف يصوم شهرين متتابعين وهو أمير؟ فالنظر في المصالح إذا لم تعارض النصوص، نعم؟

طالب: إذا كان مسجدًا؟

هو مسجد على كل حال، لكن المسجد الذي تعطلت منافعه بحيث لا يصلى فيه البتة ليس بمسجد هذا.

"قال مالك: فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد التي لا يجمع فيها الجمعة" يعني لعدم احتياجه إلى الخروج، إما لعدم وجوبها، أو لعدم مرور يوم الجمعة أثناء مدة إقامته في معتكفه "إذا كان لا يجب عليه أن يخرج منه إلى المسجد الذي تجمع فيه الجمعة" لانقضاء ما نواه من اعتكاف قبل مجيئها، فعند مالك كون المسجد جامعًا إذا احتاج إلى الخروج، الجمعة شرط؛ لأنه مجرد الخروج لغير حاجة الإنسان يبطل الاعتكاف عنده، فيشترط أن يكون المسجد جامعًا، وأما غيره فيستحب أن يكون جامعًا لئلا يخرج، لكن إن خرج إلى الجمعة اعتكف في مسجد لا يجمع فيه وخرج لصلاة الجمعة فهذا مستثنى، مستثنى شرعًا، كما استثني حاجة الإنسان وهذه الحاجة، يعني الحاجة الشرعية لا تقل عن الحاجة العادية، وخصه حذيفة -رضي الله تعالى عنه- خص الاعتكاف في المساجد الثلاثة، لكن رد عليه ابن مسعود، فالجمهور على أن الاعتكاف يصح في جميع المساجد؛ لعموم قوله: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [(187) سورة البقرة].

"قال مالك: ولا يبيت المعتكف إلا في المسجد الذي اعتكف فيه إلا أن يكون خباؤه" يعني خيمته التي ضربها للاعتكاف في رحبة من رحاب المسجد، أي في صحن المسجد، يعني المسجد يقسم في الغالب إلى قسمين: قسم مسقوف، وقسم مكشوف، المكشوف يسمونه رحبة المسجد، هذه يصح الاعتكاف فيها؛ لأنها داخلة في سور المسجد.

طالب:......

الساحات، أي ساحات؟

طالب:......

ساحات المسجد النبوي ليست تبع المسجد، الذي خارجة عن السور ليست تبع المسجد، الشبك الذي داخله الدورات وما الدورات؟

طالب:......

ولا ساحاته، الذي خارج الأسوار ليس من المسجد.

"ولم أسمع أن المعتكف يضرب بناء يبيت فيه إلا في المسجد، أو في رحبة من رحاب المسجد، ومما يدل على أنه -يعني المعتكف- لا يبيت إلا في المسجد قول عائشة -رضي الله عنها-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" يعني لا يدخل البيت لا للأكل ولا للشرب، ولا للنوم، لا يدخل بيته إلا لهذا، فحصر الدخول بالحاجة الضرورية التي سبق ذكرها.

"ولا يعتكف فوق ظهر المسجد" لأنه ليس منه، هذا على رأي الإمام مالك "ولا في المنارة" المنار يعني التي وضعت علامة على المسجد كالصومعة هذه لا يعتكف فيها، غيره يقول: ظهر المسجد وسطح المسجد حكمه حكم المسجد؛ لأن الهواء له حكم القرار، والمنارة يقولون: إن كانت تفتح إلى المسجد فهي منه، وإن كانت تفتح إلى خارج المسجد فليست منه، والإمام مالك يشدد في هذا.

"وقال مالك: يدخل المعتكف المكان الذي يريد أن يعتكف فيه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها؛ لأجل أن يستقبل باعتكافه أول الليلة التي يريد أن يعتكف فيها" متى يدخل المعتكف؟ من أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان؟ على قول مالك وهو قول الجمهور أنه يدخل المعتكف قبل غروب الشمس من يوم عشرين، يعني يوم عشرين ليس من العشر، العشر تبدأ من ليلة واحد وعشرين، وليلة واحد وعشرين إنما تبدأ بغروب الشمس، فيدخل المعتكف من غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين، ويخرج منه بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وهذا سيأتي.

في الحديث الصحيح في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا صلى الصبح دخل معتكفه، صلى الصبح دخل المعتكف، وهنا يقول أهل العلم: النبي -عليه الصلاة والسلام- يعتكف العشر الأواخر، هذا الذي استقر عليه أمره -عليه الصلاة والسلام-، صلى الصبح ثم دخل المعتكف، يعني صبح عشرين وإلا صبح واحد وعشرين؟ إن كان واحدًا وعشرين يكون ما اعتكف ليلة إحدى وعشرين، وليلة إحدى وعشرين في سنة من السنوات هي ليلة القدر كما سيأتي، أنه يرى أنه يسجد صبيحتها في ماء وطين، فهل يدخل صبيحة عشرين أو صبيحة واحد وعشرين؟ عشرين ليست من العشر، نعم؟

طالب:......

نعم هذا ما قاله الشراح، يقولون: دخل المسجد للاعتكاف في العشر قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين، ثم لما صلى الصبح دخل المكان المخصص للاعتكاف الخباء، أو الحجيرة التي تحجرها النبي -عليه الصلاة والسلام- في المسجد.

طالب:......

معتكف في المسجد؛ لأن مكان الاعتكاف في المسجد، لكنه خلا بعد ذلك بعد صلاة الصبح.

"والمعتكف مشتغل باعتكافه، لا يعرض لغيره مما يشتغل به من التجارات أو غيرها" يعني من أمور الدنيا، ولا بأس..، إذا كان السلف يعطلون العلم وتعليمه، ويتفرغون للعبادات الخاصة من صلاة وتلاوة وذكر فكيف بأمور الدنيا؟! "ولا بأس أن يأمر المعتكف ببعض حاجته بضيعته" احتيج في المزرعة إلى أمر تلف، ويتوقف أمر المزرعة عليه لا مانع من أن يأمر يقول: اذهب إلى فلان، واشتر منه كذا وإلا قل لفلان: يصنع كذا، شيء خفيف جدًّا "ولا بأس بأن يأمر المعتكف ببعض حاجته بضيعته ومصلحة أهله" لا مانع أن يقول: يا فلان -من أولاده-: وصل أهلك، أو وصل إخوانك أو كذا، شيء يسير.

"وأن يأمر ببيع ماله" عنده سيارة زائدة، وإلا يبغي يشتري غيرها، وإلا يبدلها استعدادًا للسفر بعد الاعتكاف يقول له: بعها، بع السيارة، ما نحتاجها، واشتر مكانها كذا، يأمر ببعض ما يحتاج إليه، بقدر الحاجة "أو بشيء لا يشغله في نفسه" لا يشغل باله بهذه الأمور "فلا بأس بذلك إذا كان خفيفًا" طيب هذا معتكف، ويحتاج إلى زكاة الفطر، لا مانع أن يقول: يا فلان هذه عشرة اشترِ لنا صاع زكاة الفطر، نعم، هذا شيء خفيف "فلا بأس بذلك إذا كان خفيفًا يأمر بذلك من يكفيه إياه" إذ المدار على عدم اشتغاله عما هو فيه، والأمر بما خف لا يشغله.

"قال مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطًا" يعني لا يشترط في اعتكافه، يعني إذا أراد أن يدخل المعتكف أو نوى الاعتكاف يقول...، يشترط إن احتاج إلى الخروج، أو اشترط الخروج للصلاة على الأموات، أو يشترط الخروج إلى الدوام، أو يشترط إيصال الأولاد إلى المدارس ويرجع، كل هذا يقول الإمام مالك -رحمه الله-: "لم أسمع أحدًا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطًا" يخرجه عن هذه السنة، كمن شرط الخروج متى أراد مثلًا "وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال" المتصلة، يتصل أولها بآخرها "مثل الصلاة والصيام والحج"؛ لأنه عند مالك -رحمه الله- إذا شرع في الشيء المندوب وجب ولزم من ذلك الاعتكاف، من ذلك الصلاة، من ذلك الصيام، من ذلك النسك، يجب "مثل الصلاة والصيام والحج وما أشبه ذلك من الأعمال كالعمرة والطواف، ما كان من ذلك فريضة أو نافلة" لا فرق بينهما "فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل بما مضى من السنة، وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه المسلمون" ليس له أن يحدث، المسلمون ما اشترطوا إذًا أنت لا تشترط "لا من شرط يشترطه ولا يبتدعه".

طالب:......

الاشتراط يشترط في الحج، يشترط، لا سيما عند الحاجة، إذا رأى علامات ما يحتاج إليه في الاشتراط يشترط ((حجي واشترطي)) حديث ضباعة بنت الزبير "لا من شرط يشترطه ولا يبتدعه" يحدثه بعد الدخول، "وقد اعتكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعرف المسلمون سنة الاعتكاف" عنه ولم ينقل أحد الاشتراط في الاعتكاف.

وقال الشافعي -رحمه الله تعالى-: إن شرط في ابتداء اعتكافه إن عرض له أمر خرج جاز، وهو رواية عن الإمام أحمد، وفرق بعضهم بين الواجب والتطوع، يعني في الواجب لا يشترط، وفي التطوع يشترط.

"قال مالك: والاعتكاف والجوار سواء، والاعتكاف للقروي والبدوي سواء" يعني لا يفرق، لا فرق سواء العاكف فيه والباد، البادي الأعرابي الذي يأتي لمدة يسيرة مثله العاكف المقيم الملازم للمسجد، والجوار يطلق ويراد به الاعتكاف فيلزم فيه ما يلزم في الاعتكاف، ويطلق على ما يفعله من يقصد مكة في آخر عمره، وهذا معروف كثير في تراجم أهل العلم أنه جاور، أو في أثناء عمره يجاور، بمعنى أنه يلزم المسجد الحرام بالنهار، وينقلب بالليل إلى مكان إقامته، هذا معروف كثير من أهل العلم يوجد في ترجمته أنه جاور، ويذكر في ترجمة الزمخشري أنه سمي جار الله؛ لأنه جاور، وغيره من العلماء، لكن الجوار من أجل أي شيء؟ لكسب الحسنات، والبعد عن السيئات، واستصلاح القلب في هذا المكان المعظم.

ذكروا عن الفارابي أنه جاور في آخر عمره، ولزم المسجد الحرام، ولزم الصيام، كان يصوم الدهر، الصيام والقيام، لكن هل هذا على الجادة؟ معروف الرجل بانحرافه، ومع ذلكم في مجاورته ذكروا أنه كان يفطر على ماذا؟ الخمر المعتق، وأفئدة الحملان، -نسأل الله السلامة والعافية-.

على كل حال هو معروف الرجل وضعه، ما هو محمود السيرة، المقصود أن الإنسان لا يتعبد إلا بما شرعه الله -جل وعلا-.

أحمد أمين يقول: إنه افتقد شيخًا من شيوخه الذين درس عليهم في مدرسة القضاء الشرعي، وكان يثني عليه، ويمدحه بالعلم والخلق والعبادة، يقول: افتقده عشر سنوات، يبحث عنه ما وجده، فقدر أن رآه في..، حصل له سفرة إلى تركيا، قال: فوجدته فيها، قد انقطع عن الناس، ولزم الصيام والقيام، لكن هل هو على الجادة؟ مثل الأول -نسأل الله السلامة والعافية-، يصوم من بعد طلوع الشمس يعني بساعة أو كذا، قريب منها، إلى غروب الشمس، صوم ليس بشرعي، ويعلل ذلك أنه في الشقة التي تحته عائلة، والله ما أدري قال: نصرانية أو يهودية، إذا أراد أن يقوم يستيقظ من أجل السحور يمكن يشوش عليهم وإلا..، -نسأل الله السلامة والعافية-.

أمور ما تدري، الأمور يجر بعضها بعضًا، وإلا في بداية الأمر شخص يسمع هذا الكلام يقول: يستحيل، يستحيل أن يصنع مثل هذا، لكن هي أمور تراكمات يجر بعضها بعضًا، والحسنة تقول: أختي، أختي، والسيئة كذلك، فإذا تراكمت هذه الأمور، والضلال ما له نهاية، الضلال لا نهاية له، يعني...، إذا وجد من يقول:

ألا بذكر الله تزداد الذنوبُ

 

وتنطمس البصائر والقلوبُ

مشكلة؛ لأن الضلال ما له نهاية، لكن على الإنسان أن يعتصم بالكتاب والسنة، والله المستعان.

سم.

أحسن الله إليك.

باب ما لا يجوز الاعتكاف إلا به:

حدثني يحيى عن مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد ونافعًا مولى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قالا: "لا اعتكاف إلا بصيام، بقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [(187) سورة البقرة] فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام.

قال مالك -رحمه الله-: وعلى ذلك الأمر عندنا أنه لا اعتكاف إلا بصيام.

اشتراط الصيام لصحة الاعتكاف مسألة خلافية بين أهل العلم، منهم من يشترط، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يثبت عنه أنه اعتكف إلا وهو صائم، وجاء في خبر عائشة: ((ولا اعتكاف إلا بصيام)) لكنه مضعف، واستدلال مالك وانتزاعه الدليل من الآية يقول: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [(187) سورة البقرة].

أولًا: الخبر يرويه الإمام قال: "حدثني يحيى عن مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد" بن أبي بكر أحد الفقهاء، "ونافعًا مولى ابن عمر" وهو من شيوخ مالك، كأنه لم يسمعه منه فرواه بلاغًا "ونافعًا مولى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قالا: "لا اعتكاف إلا بصيام" هذا رأيهم، بسبب قول الله تبارك وتعالى (الباء) هذه سببية، "في كتابه: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [(187) سورة البقرة] فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام".

فيشترط لصحة الاعتكاف الصيام.

"قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا أنه لا اعتكاف إلا بصيام" وقال غيره: أن الاعتكاف يصح من غير صيام، يصح بدون الصيام، عمر -رضي الله تعالى عنه- نذر أن يعتكف ليلة، وقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((أوفِ بنذرك)) على أنه جاء في بعض الروايات: يومًا، ورواية: الليلة وجهت أنها بيومها، لكن استدلال الإمام مالك بالآية يُسلم وإلا ما يسلم؟ نعم؟ ما يسلم، أولًا: المسألة عطف، ولا تباشروهن، المسألة مستقلة، الواو يحتمل أن تكون استئنافية.

الأمر الثاني: أنه لو اشترطنا الصيام لصحة الاعتكاف لا بد أن نشترط الاعتكاف لصحة الصيام، ولا قائل به، إذا قلنا بالتلازم كيف نقول: إنه يلزم الصيام للاعتكاف ولا يلزم الاعتكاف للصيام؟ يصح الصيام بدون اعتكاف وإلا ما يصح؟ إجماعًا، إجماعًا يصح، إذن يصح العكس، وهذا يضعف استدلال الإمام بالآية، وعلى كل حال لا شك أن الاعتكاف مع الصيام أكمل، نعم؟

طالب:......

أصل دلالة الاقتران عند أهل العلم ضعيفة، دلالة الاقتران عند جماهير أهل العلم في غاية الضعف، نعم؟

طالب:......

شوال يوم العيد لا يتصور، نعم، لا يتصور أنه اعتكفه، لماذا؟ لأنه مشغول بالصلاة وغيرها من أعمال يوم العيد، اعتكف بعد يوم العيد يصوم وما المانع؟ ما فيه ما يمنع، يعني على قول مالك ما ينخرم، نعم.

أحسن الله إليك.

باب خروج المعتكف للعيد:

حدثني يحيى عن زياد بن عبد الرحمن قال: حدثنا مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، أن أبا بكر بن عبد الرحمن اعتكف فكان يذهب لحاجته تحت سقيفة في حجرة مغلقة في دار خالد بن الوليد، ثم لا يرجع حتى يشهد العيد مع المسلمين.

حدثني زياد عن مالك أنه رأى بعض أهل العلم إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان لا يرجعون إلى أهاليهم حتى يشهدوا الفطر مع الناس.

قال زياد: قال مالك -رحمه الله-: وبلغني ذلك عن أهل الفضل الذين مضوا، وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك.

هذا الباب من أبواب الاعتكاف إلى آخر باب الاعتكاف مما فات يحيى سماعه من الإمام مالك فرواه عنه بواسطة.

في المقدمة إذا كان معكم طبعة فؤاد عبد الباقي، يقول: ارتحل يحيى إلى المدينة فسمع الموطأ من مالك بلا واسطة إلا ثلاثة أبواب من كتاب الاعتكاف، باب: خروج المعتكف إلى العيد، وباب: قضاء الاعتكاف، وباب: النكاح في الاعتكاف، يعني من هذا الباب إلى آخر كتاب الاعتكاف، من هنا إلى آخر كتاب الاعتكاف لم يسمعه يحيى من مالك أو شك في سماعه كما قال بعضهم، فرواه عن زياد بن عبد الرحمن الأندلسي القرطبي المعروف بشبطون، وهو ثقة، وهو أول من أدخل الموطأ –على ما يقول أهل العلم – الأندلس.

باب خروج المعتكف للعيد:

"حدثني يحيى عن زياد بن عبد الرحمن قال: حدثنا مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا بكر بن عبد الرحمن" بن الحارث أحد الفقهاء "اعتكف فكان يذهب لحاجته تحت سقيفة في حجرة مغلقة" أي مقفلة، وفي رواية: معلقة، أي: عالية مرتفعة "في دار خالد بن الوليد، ثم لا يرجع حتى يشهد العيد مع المسلمين" عملًا بالمستحب.

"حدثني زياد عن مالك: أنه رأى بعض أهل العلم إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان لا يرجعون إلى أهاليهم حتى يشهدوا الفطر مع الناس، قال زياد: قال مالك: وبلغني ذلك عن أهل الفضل الذين مضوا، وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك" نعم، يقول: "حدثني زياد عن مالك: أنه رأى بعض أهل العلم إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان لا يرجعون إلى أهاليهم حتى يشهدوا الفطر مع الناس" تحصيلًا للمستحب، ليصل اعتكاف بصلاة العيد، هذا على جهة الاستحباب وإلا فمن أراد أن يعتكف العشر، العشر تنتهي بغروب الشمس ليلة العيد، لكن إذا أراد أن يصل عملًا مستحبًّا بعمل آخر يستحبها أيضًا الحنابلة وغيرهم، يستحبون أن لا يخرج إلا إلى صلاة العيد بثياب الاعتكاف أيضًا، وكأنهم يستروحون إلى أن يبقى ليلة العيد في المسجد، ويحيي تلك الليلة عملًا بالحديث الضعيف ((من أحيا ليليتي العيدين لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)) لكنه ضعيف لا يعمل به، وعلى هذا الاعتكاف ينتهي بغروب الشمس.

"قال زياد: قال مالك: وبلغني ذلك عن أهل الفضل الذين مضوا" وقال النخعي: وكانوا يستحبون ذلك، يقول: "وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك" يدل على أنه سمع غير هذا القول، وقال الشافعي وأبو حنيفة: يخرج إذا غربت الشمس من آخر أيامه، واستحب الحنابلة البقاء إلى صلاة العيد، نعم.

أحسن الله إليك.

باب قضاء الاعتكاف:

حدثني زياد عن مالك عن ابن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه وجد أخبية، خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، فلما رآها سأل عنها، فقيل له: هذا خباء عائشة وحفصة وزينب فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((آلبر تقولون بهن؟)) ثم انصرف فلم يعتكف حتى اعتكف عشرًا من شوال.

وسئل مالك عن رجل دخل المسجد لعكوف في العشر الأواخر من رمضان، فأقام يومًا أو يومين، ثم مرض فخرج من المسجد، أيجب عليه أن يعتكف ما بقي من العشر إذا صح أم لا يجب ذلك عليه؟ وفي أي شهر يعتكف إن وجب عليه ذلك؟ فقال مالك -رحمه الله-: يقضي ما وجب عليه من عكوف إذا صح في رمضان أو غيره، وقد بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد العكوف في رمضان ثم رجع فلم يعتكف، حتى إذا ذهب رمضان اعتكف عشرًا من شوال، والمتطوع في الاعتكاف في رمضان، والذي عليه الاعتكاف أمرهما واحد فيما يحل لهما ويحرم عليهما، ولم يبلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان اعتكافه إلا تطوعًا.

قال مالك -رحمه الله- في المرأة: إنها إذا اعتكفت ثم حاضت في اعتكافها إنها ترجع إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت إلى المسجد أية ساعة طهرت، ثم تبني على ما مضى من اعتكافها، ومثل ذلك المرأة يجب عليها صيام شهرين متتابعين، فتحيض ثم تطهر فتبني على ما مضى من صيامها، ولا تؤخر ذلك.

وحدثني زياد عن مالك عن ابن شهاب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يذهب لحاجة الإنسان في البيوت.

قال مالك -رحمه الله-: لا يخرج المعتكف مع جنازة أبويه ولا مع غيرها.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب قضاء الاعتكاف:

الإمام مالك -رحمه الله- يرى أنه إذا شرع في العبادة لزمه إتمامها، وحرم عليه قطعها، والخروج منها إلا لعذر من مرض أو حيض أو نحوهما، فالعبادة تلزم عنده في الشروع، ويستوي في ذلك الصلاة والصيام والنسك والاعتكاف وغيرها.

"حدثني زياد عن مالك عن ابن شهاب" يقول ابن عبد البر: هذا خطأ، ولا يعرف الحديث عن ابن شهاب، وإنما هو عن يحيى بن سعيد كما في البخاري وغيره، وتردد ابن عبد البر في منشأ الخطأ، هل هو من يحيى أو من زياد؟ لأن مالك يرويه على الصواب في البخاري، مالك عن يحيى بن سعيد.

"عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه" المكان الذي خصص لاعتكافه "وجد أخبية" الخباء مثل الخيمة، "خباء عائشة، وخباء حفصة" عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر "وخباء زينب بنت جحش" أمهات المؤمنين "فلما رآها سأل عنها فقيل له: هذا خباء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((آلبر تقولون بهن؟))" بهمزة ممدودة، تقولون، تظنون، والقول يطلق على الظن ((آلبر تظنون بهن)) يعني بهؤلاء النسوة اللاتي اتخذن أخبية من أجل الاعتكاف، مفهومه أن المفسدة راجحة، فلا بِرّ في مثل هذا؛ لظرف معين؛ لأنهن تتابعن على ضرب الأخبية اقتداءً من بعضهن ببعض، وبعض الشراح يقول: هذا من باب الغيرة بين النساء، اتخذت عائشة خباء، فتبتعها حفصة، ثم تبعتها زينب، هذا من باب الغيرة، والغيرة في مثل هذا مذمومة، ولا يطلب بواسطتها البر؛ ولذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ((آلبر تقولون بهن؟)) ثم انصرف فلم يعتكف، حتى اعتكف عشرًا من شوال.

يعني يظن به إذا انصرف عن الاعتكاف يبقى هؤلاء النسوة؟ ينصرفن معه، فاعتكف عشرًا من شوال، ففيه قضاء الاعتكاف الذي ترجم به المؤلف، نعم؟

طالب:......

نع، لكن هو يستدل بالقضاء، حتى اعتكف عشرًا من شوال.

طالب:......

لا يجب إتمامه عند مالك، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- قطعه لمصلحة راجحة، وأولئك لم يردن البر؛ لأن ضرب الأقبية تنافس.

طالب:......

عمل يتطوع به، ويتبرر به، ويقصد ثوابه، وحكم النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه لا بر فيه، ماذا يصير له؟

طالب:......

لا، هو نزع منزعًا آخر، أن هذا ما هو باعتكاف شرعي، ما دام الغيرة ليس باعتكاف شرعي، نعم، واستدل بقضاء النبي -عليه الصلاة والسلام- على أنه يلزمه القضاء.

وفيه صحة اعتكاف النساء، وكرهه الشافعي لهن في المسجد التي تصلى فيه الجماعة، واشترط الحنفية لصحة اعتكافها أن تكون في مسجد بيتها، في رواية لهم أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها، يعني ليحفظها ويحوطها، نعم، على كل حال إذا أمنت الفتنة فللمرأة أن تعتكف في المسجد، وفعله أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- بعده، أما ما حصل في هذا الحديث فلما سمعنا، نعم؟

طالب:......

ما قضين الاعتكاف؛ لأن هذا ليس باعتكاف شرعي، حملهن على ذلك الغيرة، قد يقول قائل مثلًا: الذي حمل الثانية والثالثة، لكن ما الذي حمل الأولى؟ المقصود أن في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((آلبر تقولون بهن؟)) يعني تظنون بهن البر، وهو أعرف بحالهن لأنهن بشر.

"وسئل مالك عن رجل دخل المسجد لعكوف في العشر الأواخر من رمضان، فأقام يومًا أو يومين ثم مرض مرضًا يشق عليه معه البقاء في المسجد، فخرج من المسجد أيجب عليه أن يعتكف ما بقي من العشر إذا صح أم لا يجب عليه ذلك؟ وفي أي شهر يعتكف إن وجب عليه ذلك؟"

مالك يرى أنه يجب عليه، فقال: "يقضي ما وجب عليه من عكوف" سواءً كان بنذر أو بمجرد الدخول فيه، إذا صح في رمضان أو غيره، "وقد بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد العكوف في رمضان ثم رجع فلم يعتكف، حتى إذا ذهب رمضان اعتكف عشرًا من شوال" يعني كما في الحديث السابق المسند، "والمتطوع في الاعتكاف في رمضان، والذي عليه الاعتكاف أمرهما واحد" المتطوع في الاعتكاف المتبرر به، المقتدي بالنبي -عليه الصلاة والسلام- ولو لم يجب عليه، ومن وجب عليه الاعتكاف بنذر أو شروع أمرهما واحد "فيما يحل لهما ويحرم عليهما" ما يقول: والله هذا اعتكاف نذر، أريد أن أتوسع، وأزاول ما كنت..، وبركة يجلس في المسجد، يعني ما يلزمه إلا إذا كان واجبًا، والواجب على العين والرأس، نبغي يجتنب ما يجتنبه المعتكف، لكن المتطوع أمير نفسه، لماذا أمنع مما كنت أزاوله من الوناسة مع الإخوان، والسمر مع الأحباب؟ لكن يكفيه أنه في المسجد.

طالب:......

لا، ما دام هذه العبادة شرعت لحكمة لا بد من تحقق الهدف منها.

"ولم يبلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان اعتكافه إلا تطوعًا" يعني ما عرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان ينذر بحيث نذر الاعتكاف فلزمه الوفاء به، إنما جميع اعتكافاته -عليه الصلاة والسلام- إنما هي تطوع "وقد قضاه لما قطعه لعذر" فيفيد وجوب قضاء الاعتكاف في التطوع، لكن الذي يقول بعدم وجوب القضاء يقول: النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا عمل عملًا أثبته فقضاؤه لهذا الاعتكاف لم يكن من باب الوجوب ولا اللزوم، وإنما هو من باب إثبات العمل.

"قال مالك في المرأة إذا اعتكفت ثم حاضت في اعتكافها: إنها ترجع إلى بيتها" وجوبًا؛ لأنه لا يجوز لها أن تمكث في المسجد، في حديث أم عطية: "وليعتزل الحيض المصلى" فلا يجوز لها أن تمكث في المسجد كالجنب "ترجع إلى بيتها فإذا طهرت رجعت إلى المسجد أية ساعة طهرت، ثم تبني على ما مضى من اعتكافها" تحسب المدة التي قبل الحيض "ومثل ذلك المرأة يجب عليها صيام شهرين متتابعين، لكفارة، فتحيض ثم تطهر فتبني على ما مضى من صيامها ولا تؤخر ذلك" يعني لو أخرت استأنفت، يعني تفطر بقدر ما يطلبه العذر، جاءتها العادة سبعة أيام لا يجوز أن تزيد ثامنًا، يعني لو تأخرت ثامنًا وتاسعًا استأنفت من جديد.

"وحدثني زياد عن مالك عن ابن شهاب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يذهب لحاجة الإنسان في البيوت" كما أسنده في أول الاعتكاف، وأنه كان يخرج لحاجة الإنسان.

"قال مالك: لا يخرج المعتكف مع جنازة أبويه -إذا ماتا- ولا مع غيرها من باب أولى، فإن خرج بطل اعتكافه" عند مالك -رحمه الله-، نعم.

أحسن الله إليك.

باب النكاح في الاعتكاف:

قال مالك: لا بأس بنكاح المعتكف نكاح الملك ما لم يكن المسيس، والمرأة المعتكفة أيضًا تنكح نكاح الخطبة ما لم يكن المسيس، ويحرم على المعتكف من أهله بالليل ما يحرم عليه منهن بالنهار.

قال يحيى: قال زياد: قال مالك: ولا يحل لرجل أن يمس امرأته وهو معتكف لا يتلذذ منها بقبلة ولا غيرها، ولم أسمع أحدًا يكره للمعتكف ولا للمعتكفة أن ينكحا في اعتكافها ما لم يكن المسيس فيكره، ولا يكره للصائم أن ينكح في صيامه، وفرق بين نكاح المعتكف ونكاح المحرم أن المحرم يأكل ويشرب، ويعود المريض، ويشهد الجنائز، ولا يتطيب، والمعتكف والمعتكفة يدهنان ويتطيبان، ويأخذ كل واحد منهما من شعره، ولا يشهدان الجنائز، ولا يصليان عليها، ولا يعودان المريض، فأمرهما في النكاح مختلف، وذلك الماضي من السنة في نكاح المحرم والمعتكف والصائم.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب النكاح في الاعتكاف:

النكاح في الاعتكاف، النكاح يطلق ويراد به الوطء، كما أنه يطلق ويراد به العقد، وهو حقيقة فيهما، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يرى أن النكاح المأمور به لا يتحقق إلا باجتماعهما، النكاح المأمور به لا يطلق على العقد وحده، ولا على الوطء وحده حتى يجتمعا، ففي مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)) لو قال شاب: أنا امتثلت الأمر عقدت وطلقت، نقول: لا، ما امتثلت الأمر حتى تعقد وتطأ، ومن باب أولى أن يطأ من غير عقد، هذا النكاح المأمور به لا يتحقق إلا باجتماع الأمرين، وأما النكاح المنهي عنه فيتحقق بأحدهما، يثبت النهي على أحدهما {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم} [(22) سورة النساء] يعني هل لشخص أن يقول: أنا أعقد مجرد عقد ولا أطأ؟ فضلًا عن أن يقول: أريد أن أطأ ولا أعقد، لا، يتجه إلى كل واحد منها، هذا ما حققه شيخ الإسلام، وهو في غاية التحقيق.

"قال مالك: لا بأس بنكاح المعتكف نكاح الملك" يعني مجرد عقد لا وطأ؛ لقوله -جل وعلا-: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [(187) سورة البقرة] "ما لم يكن المسيس" الذي هو الوطء فيحرم، "والمرأة المعتكفة...، بل يبطل الاعتكاف بالوطء "والمرأة المعتكفة أيضًا تنكح نكاح الخطبة" تخطب، تقدم الخاطب إلى وليها ويعقد له عليها وهي معتكفة؛ لكن لا يطأها مدة اعتكافها "ما لم يكن المسيس، ويحرم على المعتكف من أهله بالليل ما يحرم عليه منهن بالنهار" يعني ما هو مثل الصيام {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} [(187) سورة البقرة] فيحرم عليه بالنهار ولا يحرم بالليل، في الاعتكاف يحرم عليه بالليل والنهار؛ لأن الوطء مبطل للاعتكاف.

"قال يحيى: قال زياد: قال مالك: ولا يحل لرجل أن يمس امرأته وهو معتكف" مس التذاذ لا لغيره، كترجيل الشعر ونحوه، مثل هذا لا يضر، "لا يتلذذ منها بقبلة ولا غيرها، فإن فعل بطل الاعتكاف" وعند الشافعي لا يبطل إلا بالجماع "ولم أسمع أحدًا يكره للمعتكف الذَّكر ولا للمعتكفة الأنثى أن ينكحا –يعقدا- في اعتكافهما ما لم يكن المسيس" الذي هو الجماع "فيكره" والمراد بالكراهة هنا التحريم؛ لأنه يبطل الاعتكاف "ولا يكره للصائم أن ينكح" يعقد لا في الليل ولا في النهار، وهو صائم، في صيامه، وإن لم يكن معتكفًا "وفرق بين نكاح.." قد يقول قائل: المحرم لا يجوز له أن يعقد فضلًا عن أن يطأ، ولا يخطب ((لا ينكح المحرم ولا ينكح)) نعم وهو ممنوع من النكاح، والمعتكف ممنوع من النكاح، إذًا لماذا لا يمنع المعتكف من العقد كالمحرم؟ أراد الإمام -رحمة الله تعالى عليه- أن يبين أن هناك فروق كثيرة بين الاعتكاف وبين الإحرام بالحج أو العمرة.

"وفرق بين نكاح المعتكف ونكاح المحرم بحج أو عمرة أن المحرم يأكل ويشرب، ويعود المريض، ويشهد الجنائز" هذا مما يفرق به بين الاعتكاف والإحرام "ولا يتطيب" المحرم يأكل ويشرب، أيضًا المعتكف يأكل ويشرب في غير النهار؛ لأنه يشترط الصيام له، ويعود المريض والمعتكف لا يعيد المريض، ويشهد الجنائز والمعتكف لا يشهد الجنائز، ولا يتطيب المحرم لا يتطيب والمعتكف يتطيب، "والمعتكف والمعتكفة يدهنان ويتطيبان، ويأخذ كل واحد منهما من شعره حلقًا أو تقصيرًا" هذا المعتكف لكن يحرم على المحرم، "ولا يشهدان الجنائز، ولا يصليان عليها، ولا يعودان المريض، فأمرهما في النكاح مختلف" يعني كما اختلفا في بقية الأحكام يختلفان في أمر النكاح، فيجوز نكاح المعتكف دون المحرم؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا ينكح المحرم ولا يُنكِح)) "وذلك الماضي من السنة في نكاح المحرم والمعتكف والصائم بلا اعتكاف"، نعم.

أحسن الله إليك.

باب ما جاء في ليلة القدر:

حدثني زياد عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الوسط من رمضان، فاعتكف عامًا حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحها من اعتكافه قال: ((من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد من صبحها في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر)) قال أبو سعيد: فأمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبح ليلة إحدى وعشرين".

وحدثني زياد عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)).

وحدثني زياد عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر)).

وحدثني زياد عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن عبد الله بن أنيس الجهني -رضي الله عنه- قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله إني رجل شاسع الدار، فمرني ليلة أنزل لها؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((انزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان)).

وحدثني زياد عن مالك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان فقال: ((إني أريت هذه الليلة في رمضان حتى تلاحى رجلان فرفعت، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة)).

وحدثني زياد عن مالك عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجالًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إني أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)).

وحدثني زياد عن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر.

وحدثني زياد عن مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يقول: من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب ما جاء في ليلة القدر:

ليلة القدر، والقدر: المقدار العظيم، فهي ذات قدر عظيم؛ لنزول القرآن فيها، ولكونها خيرًا من ألف شهر؛ ولتنزل الملائكة فيها، أو لعظم قدر من أحياها، أو لما يقدر فيها من أحكام السنة، كما في قوله -جل وعلا-: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [(4) سورة الدخان] هذه الليلة ليلة عظيمة، جاءت فيها السورة الشهيرة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [(1-2) سورة القدر] هذا تعظيم، تعظيم من شأنها، وجاء فيها الحديث الصحيح: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ومن حرم فضل هذه الليلة فقد حرم، حرم الثواب المرتب على قيامها فهو المحروم، ليلة واحدة تعادل في ثوابها وأجرها أكثر من ثمانين سنة، ليس فيها ليلة من ليالي القدر، المقصود أنه جاء الحث عليها بالنصوص القطعية، وبعض الناس لا يرفع بها رأسًا، هذا هو المحروم حقيقة.

هذه الليلة جاءت في النصوص الكثيرة التي قد يقول قائل: إنها بالنسبة للتحديد فيها اضطراب كبير، نصوص صحيحة لكنها ليست صريحة التحديد، فجاء نص صحيح يدل على أنها ليلة إحدى وعشرين، وجاءت نصوص تدل على أنها في العشر، وجاء ما يدل على أنها في الأوتار، وجاء ما يدل على أنها في السبع الأواخر؛ ولذا يختلف أهل العلم في تحديدها على ما يقرب من خمسين قولًا، وأرجح هذه الأقوال أنها تنتقل في العشر الأواخر، وإن كانت الأوتار آكد، لكن الأشفاع لها نصيبها من النصوص الصحيحة ((التمسوها في سابعة تبقى)) سابعة تبقى هذه على اعتبار أن الشهر ناقص هي ليلة ثلاث وعشرين، وعلى اعتبار أن الشهر كامل هي ليلة أربعة وعشرين؛ ولذا يختار بعض أهل البلدان ليلة بعينها، فأهل البصرة عندهم ليلة القدر ليلة أربعة وعشرين، هذا معروف، أنس بن مالك والحسن البصري وجمع من عباد البصرة وعلمائها، وعند أهل مكة ليلة، وعند غيرهم ليلة، وعند أهل المدينة ليلة ثلاثة وعشرين، المقصود أنها على ضوء ما يفهم من مجموع ما ورد في الباب أنها تنتقل، وتحديدها بدقة في ليلة معينة ليس هدفًا شرعيًّا، وإنما الهدف إخفاؤها ليكثر الناس من التعبد، والقرب من الله -جل وعلا-، إذ لو حددت بليلة معينة كما أن ساعة الجمعة جاءت كذلك، لو حددت بساعة دعا الناس في هذه الساعة، ولو حددت هذه لقام الناس في هذه الليلة ولم يقوموا غيرها؛ لأن كثير من الناس مجبول على الكسل؛ ولذا تجدون الفرق واضح في المساجد بين ليالي الأوتار، وليالي الأشفاع، مع أنها تسع ليال ما هن شيء، ما فائت من أمر الدين ولا الدنيا شيء، إذا اعتني بهذه الليلة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- إذا دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، فلا أقل من أن يجتهد الإنسان في هذه العشر، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يخلط العشرين الأولى من رمضان بقيام ونوم، لكنه في العشر الأواخر لا ينام، يحيي ليله.

"حدثني زياد عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الوُسُط" أو الوسْط جمع وسطى "من رمضان، فاعتكف عامًا حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحها" يعني الصبح الذي قبلها؛ لأن ليلة إحدى وعشرين ليست من العشر الوسط، وإنما هي من العشر الأواخر "من اعتكافه، قال: ((من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر))" يعني بدءًا من ليلة إحدى وعشرين، فدل على أنه يخرج من صبيحة يوم واحد وعشرين، انتهت العشر الوسط، ((من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة)) وفي رواية: ((أريت هذه الليلة)) هذه الليلة ليلة القدر ((ثم أنسيتها)) بعد أن علمتها ((وقد رأيتني)) يعني رأى ما يدل عليها ((رأيتني أسجد)) يعني رأيت نفسي أسجد ((من صبحها في ماء وطين)) جعلت له علامة يستدل بها ((فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر)) العشر الأواخر من رمضان، وفي كل وتر منه، وأولها ليلة الحادي والعشرين، وآخرها ليلة التاسع والعشرين.

"قال أبو سعيد: فأمطرت السماء تلك الليلة" ليلة إحدى وعشرين "وكان المسجد على عريش" من جريد النخل، "فوكف المسجد" يعني سال منه الماء، وتنازلت منه قطرات "قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف وعلى جبهته، وفي وراية: جبينه، وأنفه أثر الماء والطين، من صبح ليلة إحدى وعشرين".

فليلة القدر في تلك السنة هي ليلة إحدى وعشرين، ولا يمنع أن تكون غير هذه الليلة في غيرها من السنوات كما دل على ذلك النصوص؛ لأنه جاء: ((التمسوها في السبع الأواخر)) وليس منها ليلة إحدى وعشرين التي دل عليها هذا الحديث الصحيح الصريح.

"وحدثني زياد عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه" مرسلًا ووصله البخاري عن عائشة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تحروا))" اجتهدوا، اطلبوا ((ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)).

((في العشر الأواخر)) وأحيانًا يقول: ((في السبع الأواخر)) أحيانًا يقول: ((سابعة تبقى، خامسة تبقى)) وأحيانًا..، ودل الدليل على أنها ليلة إحدى وعشرين، كل هذا من باب التعمية، في هذا الزمن المحدود في العشر، وليس تحديدها بليلة بعينها من المقاصد الشرعية؛ ولذا يخطئ في حق الأمة من يحددها بليلة معينة، وينشر ذلك في وسائل الاتصال من الجوالات وغيرها، هذا يحرم الناس من خير عظيم، ولو كان من مقاصد الشرع أن تحدد بليلة معينة لحددها من لا ينطق عن الهوى، المؤيد بالوحي، لكن الهدف الشرعي أن تكثر العبادات من قبل المسلم، وأن يري المسلمون من أنفسهم، يروا الله -جل وعلا- من أنفسهم خيرًا.

"وحدثني زياد عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تحروا))" يعني اجتهدوا في طلب ((ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان)).

"وحدثني زياد عن مالك عن أبي النضر" سالم بن أبي أمية مولى عمر بن عبيد الله القرشي التيمي "أن عبد الله بن أنيس" الجهني أبا يحيى المدني "قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله إني رجل شاسع الدار" بعيد الدار "فمرني ليلة أنزل لها؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((انزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان))" هذا الخبر منقطع؛ لأن أبا النضر لم يلق عبد الله بن أنيس، ولا رآه.

قال أبو عمر: يقال: ليلة الجهني -عبد الله بن أنيس- معروفة بالمدينة ليلة ثلاث وعشرين، وحديثه هذا مشهور عند عامتهم وخاصتهم، والحديث وصله الإمام مسلم في صحيحه.

ليلة ثلاثة وعشرين، وهو يدل على أن ليلة القدر ثلاثة وعشرين، وكثير من أهل العلم يرون أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، ومنهم من استنبط يعني من الصحابة ومن غيرهم؛ لكن أهل العلم من استنبط التحديد بسبع وعشرين أنها هي بالنسبة لكلمات السورة تأتي رقم سبع وعشرين، سلام هي، هذه الكلمة (هي) رقم سبع وعشرين، يقول ابن عطية في تفسيره: هذا من ملح العلم لا من متينه، ولا تثبت الليلة بمثل هذا، لكن عندنا نصوص صحيحة في هذا الباب، وعرفنا أن السبب في إخفائها وتعميتها بهذه النصوص التي يحتار الإنسان في التوفيق بينها؛ ليجتهد جميع هذه الليالي.

قال: "وحدثني زياد عن مالك عن حميد الطويل -الخزاعي- عن أنس بن مالك أنه قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان ليخبرنا بليلة القدر فقال: ((إني أريت هذه الليلة في رمضان))" أريت، أو رأيت علمية أو بصرية؟ ((حتى تلاحى)) تنازع وتخاصم ((رجلان)) لم يذكرا، وإن زعم بعضهم أنهما ابن أبي حدرد وكعب بن مالك لما تقاضيا الدَّين، لكن ما في طرق الحديث ما يدل على هذا ((تلاحى رجلان)) يعني تخاصما وتنازعا ((فرفعت)) رفعت يعني رفع تحديدها، لا رفع وجودها كما زعم بعضهم، إنما رفع تحديدها؛ للتلاحي والتنازع، وفيه خير -ولله الحمد- للأمة ((رفعت فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)) السابعة من البقايا أو من المواضيع، يحتمل هذا وهذا، أنها سابعة تبقى، تاسعة تبقى، خامسة تبقى، أو تمضي.

"وحدثني زياد عن مالك عن نافع عن ابن عمر -أن رجلًا لم يسم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أن رجالًا، أن رجالًا لم يسم أحد منهم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر" قال ابن حجر: يعني رأوا من يقول لهم: إنها في السبع الأواخر، ويحتمل أنهم رأوا ما يدل عليها "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إني أرى))" أو أُرى، أجزم أو أظن ظنًّا جازمًا، والظن يأتي بمعنى العلم ((أرى رؤياكم قد تواطأت)) يعني توافقت ((في السبع الأواخر، فمن كان متحريها)) أي: طالبها ((فليتحرها في السبع الأواخر)) من رمضان.

"وحدثني زياد عن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أري أعمار الناس قبله" أراه الله -جل وعلا- أعمار الناس من الأمم السابقة "أو ما شاء الله من ذلك" رأى بعضهم، من يعيش خمسمائة سنة، ستمائة سنة، سبعمائة سنة، ألف سنة، أكثر، أقل "فكأنه -عليه الصلاة والسلام- تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الصالح" لأن طول المدة يمكن الإنسان من كثرة العمل، لكنه ليس بخير على كل حال؛ لأن الإنسان قد يعيش عشرين، ثلاثين سنة، ويعمل فيها من الأعمال الصالحة ما لا يبلغه من عاش مائة سنة، وقد يعيش الإنسان مائة سنة ويؤخر لمعاصي وفتن وغير ذلك، فلا يكون من مصلحته أن يؤخر، فالعمر لا شك أنه مع استغلاله بالأعمال الصالحة إذا طال فهو أفضل وأحسن، ((خيركم من طال عمره وحسن عمله)) بخلاف من طال عمره وساء عمله "فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل -يعني الصالح- مثلما بلغ غيرهم من طول العمر لقصر أعمارهم؛ إذا أعمار هذه الأمة من الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر" خير من ألف شهر يعني ثلاثة وثمانين سنة وأربعة أشهر، أو ستة أشهر، في ليلة واحدة فضل الله -جل وعلا- لا يحد.

قال ابن عبد البر: هذا أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد في غير الموطأ لا مسندة ولا مرسلة، وابن عبد البر وصل جميع المقطوعات في الموطأ إلا هذه الأحاديث الأربعة، هذا الحديث: أري أعمار الناس قبله، وحديث: ((إني لأنسى، أو أنسى لأسن)) والثالث: ((إذا أنشأت بحرية)) تقدم هذا، والرابع قوله لمعاذ: ((حسن خلقك للناس)) قال: وليس منها حديث منكر، ولا ما يدفعه أصل.

"وحدثني زياد عن مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يقول: من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها" أخذ بنصيبه من ليلة القدر، إذا صلى العشاء مع الجماعة، يعني إذا حضرها مع الجماعة أخذ بنصيبه من ليلة القدر؛ لأنه صح أنه صلى في ليلة القدر، ((ومن صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل)) فأخذ نصيبه منها، منها يعني من ثوابها المنوه به في القرآن والسنة.

قال ابن عبد البر: قول ابن المسيب هذا لا يكون رأيًا، يعني لا يمكن أن يقوله ابن المسيب من رأيه، اللهم إلا إذا كان استند إلى حديث: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل)) ومراسيله أصح المراسيل عند أهل العلم، يعني إذا كان لا يقال من جهة الرأي فهو له حكم الرفع، لكن سعيد تابعي، نقول: هذا مرسل إذا قلنا: إنه لا يقال من جهة الرأي، هو مرسل كما لو صرح بنسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، مراسيل سعيد من أصح المراسيل.

 

يقول الباجي: وهو بمعنى الحديث: ((من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل)) وأما الصبح فلا يدخل، لماذا؟ ((من صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله)) لأن الصبح ليست من ليلة القدر، إذا طلع الصبح انتهت ليلة القدر، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"