شرح كتاب الأربعين النووية (12) - من حديث 17 إلى حديث 23

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الأربعين النووية (12)

شرح الأحاديث من (17- 23)

الشيخ: عبد الكريم الخضير

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

الحديث السابع عشر: ((إن الله -عز وجل- كتب الإحسان على كل شيء))

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

عن أبي يعلى شداد بن أوس -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته)) رواه مسلم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث السابع عشر:

"عن أبي يعلى شداد بن أوس -رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- كتب الإحسان على كل شيء)) " (كتب) قدر وفرض وأوجب. فمن الإحسان ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، فالله -جل وعلا- قدره وشرعه وأوجبه على كل شيء، يعني في جميع الأمور، في معاملة الإنسان مع نفسه، في معاملته مع خالقه، في معاملته مع المخلوقين، مع الزوجة، مع الأولاد، مع الوالدين، مع الجيران، مع الأقارب، مع الناس كلهم، لا بد أن يكون الإنسان محسناً في جميع ذلك.

((كتب الإحسان)) في معاملة الخالق بالمراقبة ، كما جاء في حديث جبريل فيما تقدم سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإحسان، فقال: ((أن تعبد الله كأنك تراه)) ((أن تعبد الله كأنك تراه)) فهذا الإحسان في العبادة, ومعناه إذا لم تتصور أنك ماثل بين يدي ربك في صلاتك وأنك تخاطبه وتناجيه مباشرة فلا أقل من أن تتصور أنه يراك؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، الذي يعلم السر وأخفى.

أما في معاملتك لنفسك فتوسط في أمورك، لا تشق عليها مشقة لا تحتملها، ولا تفرط فيما ينفعك في دينك ودنياك، فدين الله وسط بين الغالي والجافي، الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فعليك أن ترفق بنفسك كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اكلفوا من العمل ما تطيقون)) فلا تكلف نفسك ما لا تطيق، نعم قد تأخذ بالعزيمة، وقد تأخذ بعصف النفس على عدم التساهل والتراخي؛ لأن التساهل يجر إلى ما وراءه، على كل حال: اكلف من العمل ما تطيق.

لما جاء النفر الذين تقالّوا عمل النبي -عليه الصلاة والسلام- وقالوا: "إنه غفر له ما تقدم من ذنبه"، فقال أحدهم: "إنه يصلي ولا ينام الليل"، وقال أحدهم: "إنه يصوم ولا يفطر"، وقال الثالث: "إنه لا يأكل اللحم" وهكذا، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)). لكن هناك أوقات وهناك مواسم تستغل، ولو تعب فيها الإنسان، النبي -عليه الصلاة والسلام- قام في جوف الليل حتى تفطرت قدماه، وكان -عليه الصلاة والسلام- إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان شد المئزر، وأيقظ أهله، وسهر في عبادة الله -جل وعلا- من الصلاة والذكر والتلاوة، فهذه المواسم تستغل، لكن بقية العمر يؤخذ منه بقدر ما يبلغ الإنسان، بقدر ما جاء به الشرع. وعلى كل حال هناك حث على المزيد من العمل، لكن لا يصل إلى حد المشقة على النفس الذي يؤول بالإنسان إلى الترك.

أيضاً على الإنسان ألا يفرط فيما جاء الحث عليه, لا سيما فيما أوجب الله عليه، لا يجوز له أن يفرط بحال، وهذا من الإحسان إلى النفس، أن تحملها وتلزمها بما أوجب الله عليك، وبترك ما نهاك الله عنه.

أيضاً الإحسان إلى الوالدين، والإحسان إلى الأهل، والإحسان إلى الأولاد، والإحسان إلى الجيران، والإحسان إلى بعيد الناس وقريبهم، ومحبة الخير للناس، وبذل المعروف لهم، كل هذا مطلوب، هذا مما كتبه الله -جل وعلا- على الإنسان في كل شيء.

((فإذا قتلتم)) هذا مثال ((إذا قتلتم)) يعني من يستحق القتل في الجهاد مثلاً كافر حينما يراد قتله، والسبع الضارة والأفاعي التي تقتل، وكل ما يجوز قتله.

((فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)) يعني هيئة القتل، الفِعلة بالكسر الهيئة، الفَعلة بالفتح المرة. أحسنوا هيئة القتل، يعني إذا كان الإنسان مستحقاً للقتل، سواءً كان مرتداً أو كافراً أصلياً غير معاهد ولا ذميا، يعني كان حربيا، أو قاتل، فإنه لا بد من إحسان القتلة، فلا يعذب أثناء القتل. يحقق الغرض من القتل، ويحسن إليه في هذه الحالة، وأي دين أعظم من هذا؟ إذا كان عدوك تحسن إليه في قتله، قد يقول قائل: إنه ما وراء القتل شيء، ماذا أعظم من القتل؟ فما الإحسان؟ الإحسان في القتل والإحسان في هذه الحالة له ولغيره؛ لأن قتله يردع غيره، والإحسان إليه في قتله يرفع عنه التعذيب، اللهم إلا إذا ارتكب في جريمته شيئاً من التعذيب كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- بالعرنيين، وهذه مماثلة في القتل، وأما المثلى فلا تجوز، ونهى عنها النبي -عليه الصلاة والسلام-.

((وإذا ذبحتم)) ما يحتاج إلى ذبحه من مأكول ((فأحسنوا الذبحة)) الجملة الأولى فيما يراد قتله ممن يجوز أو مما يجوز قتله من إنسان سواءً كان حربياً أو مرتداً أو قاتلاً أو حيوان مما لا يجوز أكله كصائل أو مما يخشى ضرره مما أذن بقتله.

((وإذا ذبحتم)) النسيكة، أو الحيوان لمأكول، ولا يجوز ذبح الحيوان لغير مأكلة، فلا يذبح إلا للأكل، إذا احتيج إليه ((فأحسنوا الذبحة)) يعني أحسنوا إليه ولا تعذبوه، وأمروا عليه الآلة مروراً سريعاً لا يتعذب في أثناء ذبحه.

 ((وليحد أحدكم شفرته)) المراد بالشفرة السكين، الآلة التي يذبح بها، وكل ما أنهر الدم يجوز الذبح به سواءً كان من حديد أو من خشب أو من حصى أو من غير ذلك إذا كان ينهر الدم، ، ويقضي على المذبوح بسرعة. وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((ليس السن أو الظفر)) يعني ما عدا السن والظفر. أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة، والعظم معلوم أنه لا يجوز أن يلوث بالنجاسة؛ لأن العظام زاد إخوانكم من الجن. قد يقول قائل: هل سن الإنسان الذي يستخدمه بعض الناس في ذبح الطيور الصغيرة، وقد جاء النهي عنه من هذ القبيل؟ السن الذي لا يجوز الذبح به، ليس سن الإنسان لكنه عظم وهذه هي العلة، والعظم لا يجوز تلويثه؛ لأنه جاء أنه لا يجوز الاستنجاء به، أو بروث، كل هذا لا يجوز؛ لأنه زاد إخواننا من الجن. وطلبوا من النبي -عليه الصلاة والسلام- وأجابهم، فيعود هذا العظم أوفر ما كان.

 قد يقول قائل: إن السن الذي جاء فيه النص ليست فيه هذه العلة، يعني هل إذا سقط سن من إنسان ورمي أو دفن يعود أوفر ما كان عليه من لحم الفك وما أشبه ذلك ليأكله إخواننا الجن، التعليل بكونه عظم هذا منصوص، أما السن فعظم، يعني بغض النظر عن كونه زاداً أو غير ذلك، هذه علة منصوصة شرعية يدور معها الحكم، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة، أي سكاكين الحبشة، والحبشة في وقته -عليه الصلاة والسلام- كفار ما دخل عندهم الإسلام، ولا يجوز التشبه بهم، ويلزم من كونه مدية أن يطال الظفر فيقتل به وهو خلاف الفطرة. فعلى كل حال كونه مدى الحبشة يقتضي المنع؛ لأن فيه مشابهة للكفار.

قد يقول قائل: أنا أستعمل الظفر في غير الذبح فيما تستعمل فيه المدية السكين، فإذا اشتريت سواكاً، وأردت أن تزيل اللحى الذي عليه تزيله بسكين، هذا ظاهر، إزالته بالظفر وهو في الأصل يزال بالسكين كالذبح، هل نقول: إنك لا تزيل هذا اللحى بالظفر لأنها مدى الحبشة؟ مقتضى عموم العلة ألا تزيله بظفرك، فهل يدخل مثل هذا إذا أردت أن تقطع شيئاً يقطع بالسكين، أي شيء كان غير الذبح؟ الذبح واضح النص فيه ظاهر، والعلة منصوصة يدور معها الحكم وجوداً وعدماً، لكن في غير المنصوص هل نقول: إن عموم العلة يمنع جميع الاستعمالات للظفر فيما تستعمل فيه المدية؛ لأنها مدى الحبشة؟

فإذا اشتريت سواكاً خاماً فيه لحاه، وأردت أن تزيل هذا اللحى وهو طري، يمكن أن يزال بالظفر، فهل نقول: إن هذا ممنوع لا تزيله بظفرك لأنه مدى الحبشة؟ أو نقول مثل ما قلنا في السن؟ العلماء حينما بنوا على العلة المنصوصة "أما السن فعظم"، قالوا: جميع العظام لا يجوز الذبح بها؛ لأنها زاد إخواننا من الجن، طيب الأصل في المسألة السن وليس بزاد للجن. هل يمكن أن يقال: سن الإنسان زاد للجن، يعود أوفر ما كان عليه لحماً ليأكله الجن؟ ما يمكن، هذا لا يمكن، يعني هل العلة في الفرع موجودة كوجودها في الأصل أو لا؟ لأن هذا نوع من التعليل غريب لا يجري على قواعد الفقهاء؛ لأنهم يرون أن العلة في الفرع يلزم أن تكون مماثلة للعلة في الأصل، والآن أيهما الأصل السن الذي وردت فيه العلة منصوصة أو العظم الذي جاء النهي عن تلويثه والاستنجاء به؟ هنا أيهما الأصل؟ وأيهما الفرع؟

العظم هو الأصل؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أحال إليه، وعلل به، وثبت النهي عن تلويثه، والدم المسفوح نجس، فلا يجوز تلويث العظم بالنجاسة، بالدم ولا بغيره، لا باستنجاء ولا بغيره، لكن العلة التي موجودة في الفرع في سائر العظام المقيسة على السن المنصوص عليه في الحديث أظهر منها في الأصل. في الأصل علل بكونها عظم، وعلة منع تلويث العظم لا توجد في الأصل. وقل مثل هذا في الظفر مدى الحبشة، الظفر منصوص عليه في الذبح، والعلة كونه -كون الظفر- مدى الحبشة، مدى الحبشة سكاكين الحبشة، مقتضى كون الظفر مدى الحبشة ألا يستعمل فيما تستعمل فيه المدية؛ لأننا نشابههم في استعمال الظفر فيما تستعمل فيه السكين والمدية، فماذا نصنع إذا اشترينا سواك؟ هل نقول: نصلحه بالسن أو بالظفر؟ ما عندك إلا سن وظفر، اختر أحدهما.

الرسول -عليه الصلاة والسلام- أحالنا على شيء يستعمل في استعمالات كثيرة، ومقتضى عموم العلة أن نمنع الظفر في كل ما تستعمل فيه السكين، يعني كوننا نصلحه بالسن هل تتحقق فيه العلة الأولى؟ ليس فيه تلويث، فلا مانع من أن يصلح السواك بالسن، لكن هل يصلح بالظفر؟ هذا محل الإشكال.

ومقتضى عموم العلة ألا يستعمل الظفر فيما تستعمل في السكين؛ لأن المشابهة حاصلة استعملها مدية، استعملنا سكين في الذبح وفي غير الذبح.

لكن كون الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعطانا علة منصوصة، ليست اجتهادية، هل نقول بعمومها، أو نقول: هي مقصورة على ما وردت فيه؟

على كل حال المسألة تحتاج إلى دقة في النظر، قد لا تجري على قواعد الفقهاء في العلة والتعليل.

قال: ((وليحد أحدكم شفرته)) يعني يجعلها ماضية, نافذة بسرعة غير كليلة؛ ليكون أريح لما يراد قتله، أو ذبحه ((وليرح ذبيحته)) لا يعذب الذبيحة أثناء الذبح ولا يبادر بتقطيع أوصالها قبل أن تنتهي حياتها، قبل أن تبرد وتسكن.

ذكر بعضهم من الإحسان أن يقلم أظافره إذا أراد حلب الدابة؛ لئلا يسيء إليها بأظافره، ولا شك أن هذا مطلوب إذا غلب على الظن أنها تتأذى بهذه الأظافر، مع أن الأظافر مطلوب تقليمها فطرة.

 

الحديث الثامن عشر: ((اتق الله حيثما كنت)).

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثامن عشر:

"عن أبي ذر جندب بن جنادة" الصحابي الشهير الزاهد المعروف "وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل" أعلم الصحابة بالحلال والحرام "-رضي الله تعالى عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتق الله حيثما كنت))" التقوى امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وهي وصية الله للأولين والآخرين، اجتنب ما نهاك الله عنه، وامتثل ما أمرك به حيثما كنت، أينما وجدت، في كل مكان، فوق كل أرض، وتحت كل سماء، في الخلوة والجلوة، في الغيبة والحضور والشهود، يكون مستوى التقوى عندك واحد، سواءً كنت عند الناس أو في خلوتك؛ لأن من الناس من يكون بين الناس ممتثلاً مستقيماً ثم إذا خلا بمحارم الله انتهكها، وقد جاء فيه الوعيد الشديد، وقد يكون على حال في بلد، ثم إذا انتقل إلى بلد آخر كان على حال تختلف عن هذه الحال، وهذا لوحظ على كثير ممن يسافرون إلى البلدان سواءً كانت بلاد كفر، أو بلاد أهلها مسلمون وتكثر فيها المعاصي والمنكرات. تجد بعض من يسافر إلى هذه البلدان يتخفف من كثير من الأمور التي كان يلتزم بها في بلده، هذا خالف هذا الأمر: ((اتق الله حيثما كنت)) لماذا؟ لأن المنظور إليه أولاً وآخراً في الفعل والترك هو الله -جل وعلا-، ونظره إليك في بلدك وبين أهلك وعشيرتك كنظره إليك في أقصى البلدان؛ لأن بعض من يسافر حتى من بعض من ينتسب إلى العلم وطلبه إذا سافروا إلى بلدان أخرى يلاحظ عليهم بعض الأشياء من إخلال ببعض المأمورات، أو تساهل في بعض المحرمات.

((اتق الله حيثما كنت)) أينما وجدت في كل مكان عليك أن تتقي الله -جل وعلا-، فالله المعبود واحد في هذه البلاد وفي غيرها. وبعض الناس يضبط عليه فعل بعض الفواحش التي يرتب عليها حدود فيفعلها في البلدان الإباحية، فإذا ثبتت عليه بالبينة الشرعية يقام عليه الحد، هناك لم يقام عليه الحد، لكن إذا جاء وشهد عليه أربعة بأنه ارتكب فاحشة يقام عليه الحد؛ لأن الشرع واحد والمعبود واحد في كل مكان وفي كل زمان، ولا يعفيه كونه ارتكب هذه الفاحشة في بلد لا تقام فيه الحدود، فهو مطالب بالتقوى، مطالب بفعل الأوامر، مطالب باجتناب النواهي حيثما كان، فإذا ثبت بالبينة الشرعية أنه فعل كذا، فعل ما يوجب الحد فإنه يحد.

((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) أتبع السيئة الحسنة إذا فعلت سيئة -والإنسان معلوم أنه ليس بمعصوم- أتبعها حسنة. استغفر وتب إلى الله -جل وعلا-، وأتبعها حسنة تمحها. والحسنة تمحو السيئة إذا كانت بقدرها ولو لم يصحبها توبة؛ لأن مفاد الخبر أتبع السيئة الحسنة تمحها، فعلت سيئة أتبعتها حسنة تمحها، لكن لا تكون هذه السيئة من الكبائر من الفواحش التي لا بد من التوبة فيها، فلا يكفي فعل الحسنات حينئذ، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر)) أو ((ما لم تغش كبيرة)) فالكبائر لا يكفرها إلا التوبة، أو يتجاوز الله عنها جميعاً تحت المشيئة، لكن المراد بالسيئات التي تمحوها الحسنات هي هذه الصغائر؛ ولذا لما جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- الصحابي الذي قال له: إنه أصاب من امرأة كل شيء إلا الزنا، فقال: ((هل صليت معنا الصبح؟ قال: نعم، قال: إن الحسنات يذهبن السيئات)).

وليس في هذا فتح باب لارتكاب هذه الذنوب وهذه المعاصي ولو كانت صغائر؛ لأن بعض الناس يعتمد على مثل هذا الوعد، الحسنات يذهبن السيئات فيرتكب ما يرتكب، يأكل الربا، ويقول: أصلي تمحها، يرتكب الفواحش ويقول: أصلي تمحها، أتبع السيئة الحسنة تمحها. نقول: لا، الكبائر والفواحش هذه لا بد فيها من التوبة. والمراد بالسيئات التي تمحوها الحسنات هي الصغائر، وإلا لا فائدة من شرعية الحدود، يزني ويصلي وينتهي الإشكال، والإشكال أنه يوجد في بعض المجتمعات من يفهم هذا الفهم، ويتساهل في مثل هذه الأمور، ويقول: إذا صليت الحمد لله، هذا موجود في بعض المجتمعات، لكن مع ذلك الكبائر لا بد فيها من توبة عند أهل العلم، ما رتب عليه الحدود لا تمحوها الحسنات التي أمر بها الإنسان يعني الصلاة ما تمسح جريمة الزنا ولا جريمة الربا، نعم إذا أديت على الوجه الشرعي الكامل هي في الأصل تنهى عن الفحشاء والمنكر، لكن افترض أن الإنسان كما هو غالب حال الناس أنه يصلي صلاة مجزئة صحيحة مسقطة للطلب، لكن لا تترتب عليها آثارها، نقول: هذه الصلاة إذا كفرت نفسها يكفي كما قال شيخ الإسلام.

((وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان، وأقرب الناس مجلساً من النبي -عليه الصلاة والسلام- أحسنهم خلقاً، ((البر حسن الخلق)) ((وخالق الناس بخلق حسن)) من أجل أن تعيش مع الناس محبوباً, مقدراً, محترماً, متقرباً بذلك وقبل كل شيء إلى الله -جل وعلا-. 

"رواه الترمذي، وقال: حديث حسن" والحسن عند الترمذي: ما سلم من الشذوذ، وروي من غير وجه، ولم يتفرد به راويه.

قال الترمذي ما سلم
 

 

من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم
 

يعني لم يكن راويه متهماً بكذب.

ولم يكن فرداً ورد
 

 

...........................
 

يعني يروى من غير وجه، هذا الحسن.

 "وفي بعض النسخ: حسن صحيح" وهذا التعبير مشكل عند أهل العلم، وقد بلغت أقوالهم في مراد الترمذي بقوله: "حسن صحيح" خمسة عشر قولاً، لكن من أشهرها: أنه إذا كان قد روي الحديث من أكثر من طريق فيكون حسناً من طريق صحيحاً من طريق آخر، وإذا كان طريقه واحدًا فهو على سبيل التردد، هل بلغ إلى مرتبة الصحة أو قصر دونها إلى مرتبة الحسن، إلى غير ذلك مما قاله أهل العلم.

 

الحديث التاسع عشر: ((احفظ الله يحفظك)). 

قال الإمام النووي -عليه رحمة الله-:

عن أبي العباس عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف على الله في الرخاء يعرفْك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)).

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث التاسع عشر:

"عن أبي العباس عبد الله بن عباس" حبر الأمة وترجمان القرآن -رضي الله تعالى عنهما- يعني عنه وعن أبيه.

 "قال: كنت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً"، إما رديفاً له في دابة، أو يمشي وراءه في يوم من الأيام فهو غير محدد.

 "فقال: ((يا غلام))" ابن عباس غلام صبي، لم يبلغ الحلم، مات النبي -عليه الصلاة والسلام- وابن عباس قد ناهز الاحتلام، يعني في الثالثة عشر من عمره. ((يا غلام)) يعني من باب المداعبة والملاطفة للصغير لينتبه ويعي، ويحفظ ما يقال له، ((يا غلام إني أعلمك كلمات)) وليس المراد ابن عباس فقط بهذه الكلمات، لكنه خوطب بها والمراد بذلك جميع من يبلغه الخبر؛ لأن ابن عباس أدى هذه السنة وحملت عنه، فهي لازمة للجميع ((إني أعلمك كلمات)) كلمات يعني جمل، جمع كلمة، والكلمة تطلق ويراد بها الجملة، ككلمة الإخلاص، كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وأصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد وهي شطر بيت.

قال ابن مالك:

..................................

 

وكلمة بها كلام قد يؤم
 

يعني قد تطلق الكلمة ويراد بها الجملة وهنا جمل، هذه الكلمات جمل.

((احفظ الله يحفظك)) احفظ الله يعني احفظ حدود الله، لا تقرب ما نهاك عنه، ولا تتعدى ما أمرك الله به، قف عند حدوده، إذا أمرك فأتمر، إذا نهاك فانته.

 ((احفظ الله يحفظك)) يحفظك جواب الطلب، أو جواب شرط مقدر عند بعضهم، معناه إن تحفظ الله يحفظك، والأول أيسر، إذا قلنا: جواب الطلب ما احتجنا إلى تقدير. ((احفظ الله يحفظك)) يحفظك في دينك، يحفظك في عقلك، يحفظك في بدنك، يحفظك في أهلك ومالك، في جميع ما تحتاج إليه من حفظ.

((احفظ الله تجده تجاهك)) يعني كل ما تطلب منه قريب، فهو قريب منك -جل وعلا-، قال الله -تعالى-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [(16) سورة ق]. ((احفظ الله تجده تجاهك)) يعني أمامك فإذا حفظت الله -جل وعلا-، وتصورت أنه أمامك سهل عليك كل مطلوب.

((إذا سألت فاسأل الله)) إذا سألت أي حاجة من الحوائج من أمور دينك أو دنياك فاتجه إلى الله -جل وعلا-؛ لأنه هو الذي بيده أزمة الأمور كلها، وإذا كان المسؤول عنه لا يقدر عليه إلا الله فسؤال غير الله شرك، وإذا كان المسؤول عنه يقدر عليه المخلوق فلا مانع من أن يُسأل، لكن السؤال أولاً وآخراً والاتجاه إلى الله -جل وعلا-؛ لأنه هو الذي يسخر هذا المسؤول أن يعطي، فالله -جل وعلا- هو المعطي, قال -تعالى-: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ} [(33) سورة النــور], المال لله، ليس للخلق، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إنما أنا قاسم، والله المعطي)) حتى فيما يملكه الإنسان لا يستطيع أن يعطي ولا يمنع من تلقاء نفسه، وإنما هو سبب في العطاء والمنع، والمعطي والمانع هو الله -جل وعلا-.

((وإذا استعنت فاستعن بالله)) إذا استعنت فاستعن بالله وحده؛ لأنه هو الذي يعينك, قال -تعالى-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] يعني لا نستعين بغيرك؛ لأن تقديم المعمول يقتضي الحصر، قد تكون الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، أما إذا استعنت بمخلوق فيما لا يقدر عليه فهذا الشرك، وإذا استعنت بمخلوق فيما يقدر عليه, كمن يقول لصاحبه: "يا فلان ناولني كذا"، أو "أعطني كذا"، أو "أحضر لي كذا"، فهذا لا بأس به، لكن لتعلم أن هذا المستعان به لا يستطيع أن ينفعك، ولا يستطيع أن يعينك إلا بتقدير الله -جل وعلا-، وهو سبب.

((واعلم أن الأمة لو اجتمعت)) والأمة أعم من أن تكون أمة إجابة أو أمة دعوة أو أمة إنس أو أمة جن، كل المخلوقات، جنس الأمة، فيشمل جميع الأمم، جميع المخلوقات.

((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)) لو أصيب الإنسان بمرض عادي الذي يصاب به كثير من الناس ويشفون، وهذا الذي أصيب بهذا المرض من أعظم ملوك الدنيا، أصيب بهذا المرض الذي شفي منه طبقات الناس الفقراء والمساكين والأغنياء والكبار والصغار، هذا الملك من حرصه على الشفاء أحضر جميع الأطباء على وجه الأرض، كل من عنده شيء من علم الطب أحضره، هل يستطيع أن يضمن أن يشفى من هذا المرض؟

أولاً: المرض ليس بمعضل، المرض عادي وشفي منه كثير من الناس، والآن أحضر الأطباء قاطبة، المهرة وغير المهرة، كل من له يد في الطب أحضرهم هذا الملك، هل يستطيعون أن يشفوه؟ لا والله لا يستطيعون، إذا كان الله كتب له الموت بسببه ولو كان في البروج المشيدة، فإن الموت سوف ينزل إليه.

إذا علمنا أن الموت قد ينزل بلا سبب، ينزل فجأة، وهو ينزل في مثل هذه الصورة، ولو اجتمعت أطباء الدنيا كلها ما استطاعوا أن ينفعوه، ولا أن يدفعوا عنه، ولا أن يزيدوا فيما كتب له من حياة ولا لحظة, قال الله -تعالى-: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [(49) سورة يونس] لا يستطيع أن يقدم ولا يؤخر لنفسه شيئًا، ولا يستطيع أحد من المخلوقين أن يقدم له شيئا في هذه الحالة.

((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)) تجدون بعض الناس يصاب بما يسميه الأطباء بالموت الدماغي، ويقررون أنه ميت، ويقررون قطع الأجهزة عنه، وقد يفاوضون على التبرع بأعضائه، ثم إن كان الله قد كتب له شيئًا من الحياة فإنه يشفى مع ذلك كله، وهنا وقائع حصلت قرر ثلاثة من الأطباء أن الإنسان انتهى أمره، مات دماغياً ولا أمل في حياته، ثم بعد ذلك يفيق، وبعضهم يقررون له عكس ذلك، كم من واحد كتب له أمر بالخروج معافى من مرضه، ويموت قبل أن يخرج من المستشفى، والشواهد موجودة، يعني هذا ليس بضرب من الخيال.

يحدثنا أحد الإخوان يعمل في مستشفى تخصصي، قال: إن الأطباء اجتمعوا حول مريض، وقرروا أنه ميت دماغياً، فاستدعوا إخوانه؛ لأن والده ميت، إخوانه أربعة، فقالوا: ما دام الأمر كذلك، وعندنا مرضى واحد يحتاج إلى كلية، وواحد يحتاج إلى عين، وواحد يحتاج إلى كذا، فما رأيكم وهو ما يضيره الآن هو ميت، ثلاثة من الإخوة وافقوا، والرابع رفض، قال: والله ما نملك أن نتصرف فيه، علماً بأن مسألة التبرع بالأعضاء هذه لا يملكها أحد لا المريض ولا غير المريض نفسه ليس بملكاً له، وإن أفتى من أفتى بجواز ذلك.

على كل حال المسألة معروفة، لكن هذا الحاصل، ثلاثة وافقوا وواحد رفض، هذا المريض الذي يفاوض عليه يسمع الكلام، لكنه لا يستطيع أن يحرك شعرة، أراد الله -جل وعلا- له أن يفيق، والله إن المسألة حقيقية يا إخوان، واحد وقف عليها وهو ثقة من الثقات، ويحدثني مباشرة، ولما أفاق وعوفي وشفي صارت العداوة بينه وبين إخوته الثلاثة، وصار الرابع أقرب الناس إليه؛ لأنه كان يسمع الكلام -سبحان الله-، هؤلاء الأطباء ما استطاعوا أن يضروه، لماذا؟ لأن الله لم يكتب عليه هذا الضرر، وإلا كم من واحد تصرف فيه، بل كتب الله عليه الضرر فتضرر، والله المستعان.

((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)) ما يستطيعون، جميع الأسباب متوافرة للنفع، والله -جل وعلا- لم يرد له الانتفاع لا يمكن أن ينتفع.

((وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) اجتمعت الأمم من الجن والإنس من ناطق وأعجم كلهم اجتمعوا على أن يضروا فلاناً وأن يقتلوه، أو يسيئوا إليه، والله -جل وعلا- لم يكتب عليه هذا الضرر لا يمكن أن يصلوا إليه.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة النساء عند قوله -جل وعلا-: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [(78) سورة النساء] ذكر قصة لشخص من الأمم السابقة كان عبداً عند أسرة مملوك، وكانت المرأة في الأيام الأخيرة من حمل، فرأى هذا العبد رؤيا، فقال: "إن هذه المرأة سوف تلد بنتاً، وسوف تزني هذه البنت مائة زنية، وتكون في النهاية هي زوجته". فولدت بنتاً، فقيل له: أحضر السكين من أجل قطع السرة، فأحضر السكين وبقر بها بطن البنت، لماذا؟ لأنه قيل له: إنك تتزوج هذه البنت وسوف تزني مائة زنية، أراد أن يتخلص منها، بقر بطنها وهرب إلى بلد اشتغل فيه بالتجارة، فصار من الأثرياء، وبعد عشرين سنة عاد إلى بلده، وأراد أن يتزوج من بلده، وعلى يقين أن تلك البنت قد ماتت، فأوصى امرأة أن تخطب له أجمل بنت في البلد، وكان من تمام الرؤيا أنها ستموت بسبب العنكبوت، الحشرة الضعيفة هذه، ألفى على امرأة عجوز قال لها: أريد أجمل بنت في البلد، فخطبت هذه البنت. عولجت البنت خيط بطنها وشفيت وعوفيت، فخطبت له هذه البنت، ودفع ما دفع، ودخل بها فرأى أثر شق البطن، عرف أنها هي. ما كان يظن أو يتوقع ولا واحدا بالألف أن تلك البنت موجودة في الأحياء، ولما رأى أثر شق البطن تذكر الرؤيا، ثم سألها هل حصل منها شيئًا؟ هل قارفت شيئًا؟ قالت: نعم، إنه حصل منها شيء، قال: مرة أو مرتين؟ قالت: الله أعلم كثير، قال: مائة، قالت: الله أعلم، لكن ليست ببعيد، الرجل لما رأى هذه البنت وأعجبته وأشرب قلبه حبها ما استطاع المفارقة؛ لأن هذه المشكلة أن الإنسان قد يفتن ببنت لجمالها، ثم لا يستطيع مفارقتها، وقد تؤثر عليه في دينه، وقد يغمض عن عينيه أشياء مخلة لدينه، وقد تكون مخلة بعرضه، إذا فتن بها.

عمران بن حطان كان من خيار الناس، فخطب امرأة من الخوارج جميلة، وقال: نكتسب أجر الدعوة ندعوها إلى مذهب أهل السنة، والحاصل العكس ما زالت به حتى صار من رؤوس الخوارج، -نسأل الله السلامة والعافية-. وكثير من الإخوان يقول: نطلب الجمال والدين يأتي بالدعوة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)).

 أقدم على الزواج بهذه البنت، مع أنه تيقن أنها هي التي في الرؤيا، فشيد لها قصراً منيفاً جزم أن العنكبوت لا تدخله، جزم أن العنكبوت من أي جهة تجئ؟! فإذا به في يوم من الأيام جالس مع زوجته، فإذا بالعنكبوت تنزل من السقف، تذكر الرؤيا قال لها: أنت تموتين بسبب هذه الحشرة، قالت: هذه حشرة أموت بسببها؟ فقامت ففركتها بعرقوبها في الأرض بعقبها فأصيبت بالعقب بالأكلة، هذه نوع من الجذام، صار هذا العقب يتآكل شيئاً فشيئاً إلى أن ماتت بسببه.

هذه القصة لم يرد بها حديث صحيح ولا خبر عن الصادق، لكنها لها دلالات، ويؤتى بها في تفسير الآية للمناسبة؛ لأنه وضع القصر المشيد المنيف، ومع ذلك نزلت بها المنية مع هذه الاحتياطات.

((رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) المقادير كتبت قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ((رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) فكل ميسر لما خلق له، إذا أردت تغير مما كتب الله لك فهذا لا يمكن، إلا ما يقال في البر والصلة, فقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام-: ((من أراد أن ينسأ له أثره، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)) على الخلاف بين أهل العلم في الزيادة الحاصلة عن الصلة، فمنهم من يقول: "زيادة حقيقية"، ومنهم من يقول: "زيادة معنوية، بركة في الوقت، وليست زيادة حقيقية في عدد السنين". الخلاف في هذه المسألة معروف، والأمر فيها ثابت.

((رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) لم يعد الله في كتابة, فرغ من الكتابة قبل خلق الخلق بخمسين ألف سنة.

"رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية غير الترمذي" يعني رواية الإمام أحمد في المسند: ((احفظ الله تجده أمامك)) بمعنى تجاهك.

((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) المشركون الذين نزل القرآن على النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو بين ظهرانيهم كانوا يشركون في الرخاء، ويوحدون في الشدة، يدعون غير الله في الرخاء، ويدعونه ويخلصون في الشدة، لكن هل هذا ينفع أو لا ينفع؟ لا ينفع.

 ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) والإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في القواعد الأربع قال: "إن مشركي زماننا أعظم شركاً من الأولين؛ لأن الأولين يشركون في الرخاء ويوحدون في الشدة، ومشركي زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة" تجده يوطأ ويدهس بالأقدام في مواضع الزحام، ويقول: يا علي، يا حسين، يا بدوي، يا عبد القادر، يا فلان، الشرك الأكبر -نسأل الله السلامة والعافية-.

((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) كثير من الناس إذا جاء وقت الحاجة والوقت الذي يستغله، يريد استغلاله في الخير للمضاعفات العظيمة، والمواسم يقول: نستغل هذه المواسم، ليلة القدر نحييها، أو نحيي العشر الأواخر كلها، لا نضيع منها شيئًا، ولا نفرط بشيء، ونترك القيل والقال, وإذا جاورنا في المسجد الحرام أو في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- نستغل كل لحظة، لكن أين أنت في الرخاء؟ أين موقعك من هذه العبادات وموقعها منك في أيام الرخاء؟ ماذا تفعل في طول وقتك؟ في طول عمرك؟ في أيام الرخاء؟ هل عودت نفسك على الحزم؟ عودت نفسك على التلاوة؟ على الصلاة؟ على الذكر؟ إن كنت عودت نفسك في طول العام فأبشر. والواقع يشهد بذلك، يأتي بعض الناس ويجاور في أقدس البقاع، يقول: المسألة عشر ليالي، وترجى فيها ليلة القدر أستغلها، وأترك القيل والقال، وأنكب على المصحف، والسلف يختمون في كل ليلة، أنا أختم كل ليلة، هل يستطيع وهو ما عود نفسه في أيام الرخاء؟ لا يستطيع، ولا يعان على ذلك. ورأينا منهم أعدادًا كبيرة من طلاب العلم يقضون أوقاتهم في القيل والقال، يعتكفون في المساجد، لكن لا يصبرون عما كانوا يزاولونه قبل ذلك في حال الرخاء، تجد الكلام المباح موجود بكثرة، وقد يتعدونه إلى شيء مما فيه ما فيه، وقد لا يصبرون عن شيء كانوا يزاولونه، منهم من يأتي بالصحف والمجلات؛ لأنه اعتادها، ومنهم من يحضر الآلات، ومنهم من يستعمل الجوال ليلا ونهارا كل وقته، ونصيب القرآن منه كنصيبه في وقت الرخاء. رأينا من يجلس من بعد صلاة العصر في المسجد الحرام يريد أن يقرأ إلى الفطور، يعني في الصيف يستطيع أن يقرأ عشرة أجزاء، ثم تجده يفتح المصحف يقرأ خمس دقائق وهو لم يتعود، ثم يغلق المصحف ويتلفت يمينًا وشمالاً غاديًا ورايحًا ما وجد أحدا، ثم يعود إلى المصحف خمس دقائق إن جاء أحد، وإلا قام هو يبحث عن الناس؛ لأن هذه حاله في حال الرخاء. وإذا آوى إلى مضجعه أسف وندم على أن ضيع اليوم، وتوعد نفسه في الغد، ثم نفس ما كان تعوده في حال الرخاء ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).

((واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)) ما أخطأك يعني ما حصل لك من خير أو شر ما يمكن أن يخطئك؛ لأن الله كتبه عليه، وهو حاصل لك لا محالة.

 يعني بعض الناس يأتي إلى شخص أو مجموعة من الناس وقد تأخر عنهم، فيراهم أن جدارا سقط عليهم أو دهستهم سيارة، ولو تقدم دقيقة واحدة كان معهم، فيقول: "جزى الله فلانًا خيراً الذي حبسني هذه الدقيقة".

لو أنت بينهم ولم يكتب عليك ما حصل لهم لم يكن ليصيبك ما أصابهم، ((وما أصابك لم يكن ليخطئك)) ولو تأخرت، أو تقدمت لا فائدة. لا تنفع (لو)، هذا مكتوب عليك لا بد أن يحصل.

 ومما يذكر أن شخصاً حجز على رحلة في سفر، فنعس في المطار وفاتته الطائرة، يعني مهتم وجاء وحضر قبل الموعد، لكن نعس في المطار، ففاتته الطائرة فرجع إلى بيته مهموماً مغموماً ودخل يدعو بالويل والثبور فاتته الطائرة، فذهب إلى فراشه، ما لبثوا أن أعلنوا عن الطائرة أنها حصل فيها خلل واحترقت، فجاءت أمه لتبشره بالخبر، فرحت أمه فرحاً شديداً أن ولدها وفلذة كبدها لم يكن معهم، فلما أيقظته لتخبره الخبر فإذا هو ميت. لا تقول: والله ما رحت معهم وجلست دونهم، وأنت في فراشك ومت. فما هي إلا أنفاس معدودة، دقائق محدودة لا تتقدم ولا تتأخر.

((واعلم أن النصر مع الصبر)) بعض الناس يستعجل في أموره الخاصة، وفي أمور الأمة، ويرجو النصر من قرب، لا، لا بد من الصبر والمصابرة, قال -تعالى-: {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ} [(200) سورة آل عمران] ثم بعد ذلك يأتي الترجي {لَعَلَّكُمْ} [(200) سورة آل عمران]. يقول: كيف ينصر كفار على مسلمين؟ المسلمون يحتاجون إلى صبر، يحتاجون إلى جهاد، يحتاجون إلى تضحية، يحتاجون إلى إخلاص، يحتاجون إلى إعادة نظر في واقعهم, قال -تعالى-: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [(40) سورة الحـج].

((وأن الفرج مع الكرب)) إذا ازداد الكرب فاعلم أن الفرج قريب, إذا وجد العسر فإن معه اليسر، إذا وجدت الشدة وجد الفرج، وإذا وجد العسر والضيق وجد اليسر والسعة، ولن يغلب عسر يسرين. قال الله -تعالى-: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [(6) سورة الشرح] أعيد العسر معرفة، والمعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى، نفس الأولى، فالعسر الأول هو العسر الثاني، والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت غيرها، فاليسر الأول غير اليسر الثاني، ولذا جاء في الخبر: ((لن يغلب عسر يسرين)).

 

الحديث العشرون: ((إذا لم تستحِي فاصنع ما شئت)). 

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي مسعود عقبةَ بن عمروٍ الأنصاري البدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِي فاصنع ما شئت)) رواه البخاري.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث العشرين:

"عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري-رضي الله عنه-" نسبة إلى بدر، وهل هذه النسبة إلى الوقعة: غزوة بدر أو المكان المسمى بهذا الاسم؟ الأكثر على أنه لم يشهد بدراً، وإنما نزلها فنسب إليها، وإن كان الإمام البخاري يثبته فيمن شهد بدرا، لكن الأكثر على أنه لم يشهد بدرًا، وإنما نزلها فنسب إليها.

 " قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن مما أدرك الناس))" (إن) تأكيد، (مما) يعني بعض ما أدركه الناس من كلام النبوة الأولى، يعني ليس جميع ما أدركه الناس من كلام النبوة الأولى، إنما هذا شيء مما أدركه الناس من كلام النبوة الأولى، من كلام الأنبياء في الأمم السابقة، هذا مما أثر عنهم، وثبت عنهم.

قال الله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [(14-15) سورة الأعلى] إلى أن قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [(18-19) سورة الأعلى] يعني هذا أيضاً مما وجد في النبوة الأولى وفي الكتب السابقة.

((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِي فاصنع ما شئت)) رواه البخاري.

لأننا قد نقرأ أنه أوحي إلى موسى، أوحي إلى عيسى، أوحي إلى داود، أوحي إلى غيرهم من الأنبياء، وما يؤثر عن الأمم السابقة إما أن يوجد في شرعنا ما يدل عليه فهذا حق ومقبول، وإن وجد في شرعنا ما يمنعه ويخالفه فهو مرفوض، وإن كان ليس في شرعنا ما يدل عليه ولا ما يمنعه، فهذا هو الكلام المباح الذي يحدث به بلا حرج؛ لأنه لا يعارضنا في شرعنا، ولا يوجد في شرعنا ما يدل عليه. جاء في الحديث: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) وفي رواية: ((فإن فيهم الأعاجيب)) شريطة ألا يكون في شرعنا ما يرده ويرفضه.

((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِي)) فيه ياء وإلا كسرة؟

(لم) حرف نفي وجزم وقلب، كيف يجزم مثل هذا الفعل؟ بحذف حرف العلة، وإذا أثبتت الياء هل يكون حرف العلة محذوفا أو موجودا؟ يعني تكون "لم" عملت أو لم تعمل؟

في صحيح البخاري في الأصل الترجمة: "باب إذا لم تستح" بدون ياء "فاصنع ما شئت" وفي الحديث الذي ذكره تحت هذه الترجمة ((إذا لم تستحي)) بالياء، لماذا؟ لأن هذا الفعل يختلف عند قريش عن تميم، فهو عند قريش بياءين, كما في الآية: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي} [(26) سورة البقرة] بياءين، وعند تميم بياء واحدة {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ} وعلى هذا إذا دخل عليه الجازم فعلى لغة تميم تكون كسرة "إذا لم تستحِ" بدون ياء، وعلى لغة قريش يكون بياء واحدة، وتكون الياء الثانية هي التي حذفت للجازم.

 ولذلك قد يقول قائل وهو يقرأ في الصحيح: لماذا الترجمة حذفت الياء وفي الحديث أثبتت الياء؟ البخاري -رحمه الله- حينما ترجم استعمل لغة تميم، وفي الحديث استعمل لغة قريش؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- منهم.

على كل حال: ((إذا لم تستحي)) الرواية جاءت بالياء على لغة قريش، فالصواب أن تثبت الياء، ترجمة البخاري كونه على لغة تميم هذا لا يضر؛ لأنه يوردها من كلامه -رحمه الله-.

"((إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) رواه البخاري" وهذا الأسلوب يحتمل معنيين: إما أن يكون قوله: ((فاصنع ما شئت)) تهديدا، يعني إذا رُفع عنك هذا الخلق العظيم الذي هو شعبة من شعب الإيمان اصنع ما شئت، كقوله -جل وعلا-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [(40) سورة فصلت] تهديد. ويحتمل أن يكون إباحة، "اصنع ما شئت" إذا كان هذا العمل مما لا يُستحيا منه فاصنعه، إباحة، إذا كان الإنسان سوياً على الفطرة، ورأى أن هذا العمل لا يستحيا منه؛ لأن الناس يتفاوتون في هذه الصفة وهذه الخلة، يتفاوتون تفاوتاً عظيماً، والمراد بذلك أوساط الناس الذين هم باقون على الفطرة ليس عندهم غلو في هذا الباب وشطط، وليس عندهم تساهل.

إذا كنت من هذا النوع، ورأيت أن هذا العمل مما لا يستحيا منه فاصنعه. والاختيار الأول وهو أن هذا تهديد، وأنه لا بد أن تستحيي، والحياء شعبة من الإيمان، فإذا نزع عنك هذا الخلق العظيم فأنت لم تتقيد بأوامر ولا بنواهي، ولا تستحي لا من الله ولا من خلقه، الآن اصنع ما شئت، والله بالمرصاد.

 

الحديث الحادي والعشرون: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)).

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي عمرو، وقيل: أبي عمرة سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) رواه مسلم.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الحادي والعشرين:

"عن أبي عمرو، وقيل: أبي عمرة-رضي الله تعالى عنه- " خلاف في كنيته "سفيان بن عبد الله" يعني اشتهر باسمه، فاختلف في كنيته، -رضي الله عنه- هذه العادة أن من يشتهر بالكنية يضيع الاسم، ومن يشتهر بالاسم تضيع الكنية.

"قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك" يعني قولا, واضحا, شاملا لا أحتاج أن أسأل معه أحدا. هذا سؤال عظيم، طلب عظيم، وجوابه عظيم؛ لأن الإنسان قد يسأل ثم يبقى في نفسه شيء من السؤال فيسأل غير المسؤول الأول ليوضح له، لكن إذا كان المجيب من أعطي جوامع الكلم، أفصح الخلق، وأنصح الخلق، هل يحتاج أن يسأل بعده؟ لا.

"قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم))"، ((قل: آمنت بالله)) يعني انطق بإيمانك، واعتقد بقلبك، واعمل بجوارحك، واستمر على ذلك، كما قال -تعالى-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [(99) سورة الحجر], وقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [(13) سورة الأحقاف]. فمطلوب الإيمان والاستقامة من غير اعوجاج، الاعتدال على هذا الصراط المستقيم، وهذه هي العبارة الشرعية التي يعبر بها ويوصف بها الإنسان الملازم للصراط المستقيم، فيقال: "مستقيم"، والناس يقولون: "ملتزم"، نعم هي تؤدي المعنى، لكن إذا كانت العبارة شرعية جاءت بها النصوص فهي أولى من غيرها. إذا قيل: "فلان ملتزم"، معناه أنه مستقيم، ملتزم بلأوامر، ملتزم بترك النواهي، فهو مستقيم، لكن العبارة الشرعية التي جاءت بها النصوص أولى من غيرها، ولو أدت معناها.

((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) على هذا الإيمان، وقد أُمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالاستقامة في سورة هود, فقال الله -تعالى-: {كَمَا أُمِرْتَ} [(112) سورة هود] أُمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالاستقامة، وهو أعظم مستقيم، إنما أمر بها من أجل أن يهتم بها من يقتدي به بهذا الأمر، وأن يلزم الاستقامة، ويستمر عليها، فالمسلمون قاطبة في كل ركعة يقولون: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [(6) سورة الفاتحة], وقال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} [(136) سورة النساء] يعني الزموا هذا الإيمان، واستمروا عليه، لا يمنع أن يؤمر المستقيم بالاستقامة، ويؤمر المؤمن بالإيمان، والمراد بذلك الاستمرار على هذه الاستقامة، والاستمرار على هذا الإيمان.

 

الحديث الثاني والعشرون: ((الاقتصار على الفرائض يدخل الجنة)).

قال الإمام النووي -عليه رحمة الله-:

عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنه- أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: ((نعم)). رواه مسلم.

ومعنى حرمت الحرام: اجتنبته.

ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقداً حله، والله أعلم.

نعم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثاني والعشرين:

"عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما-" يعني عن جابر وعن أبيه عبد الله بن حرام الشهيد "-رضي الله عنهما- أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت" يعني أخبرني يا رسول الله "إذا صليت المكتوبات" يعني: اقتصرت على الفرائض ولم أزد عليها، لا سنن قبلية ولا بعدية، كما جاء في حديث الأعرابي بعد أن ذكر -عليه الصلاة والسلام- الصلوات الخمس، قال: هل علي غيرها؟ قال -عليه الصلاة والسلام- : ((لا إلا أن تطوع)). هذا أراد أن يقتصر على المكتوبات ولا يزيد نوافل لا قبلية ولا بعدية.

 "وصمت رمضان" الفرض فقط، ما يصوم الست ولا عرفة ولا عاشوراء ولا أي يوم، ولا اثنين ولا خميس ولا أيام بيض.

"وأحللت الحلال" يعني فعلته معتقداً حِله "وحرمت الحرام" تركت الحرام، يعني تركت جنس الحرام، أحللت جنس الحلال، يعني جميع ما أحله الله أستحله معتقداً حله، أفعله معتقداً حله، وحرمت الحرام، يعني اجتنبته معتقداً حرمته. "ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: ((نعم))" لأن مقتضى التقوى فعل المأمورات وترك المحظورات، وهذا هو المعروف في النصوص بالمقتصد، المقتصد الذي لا يزيد على ما أوجب الله عليه، ولا يترك سوى ما حرم الله عليه، لا يفعل نوافل ومستحبات، ولا يترك المكروهات والمباحات، هذا مقتصد، هذا مثل الذي صرفه بقدر دخله، لا يزيد ولا ينقص، أفضل منه السابق بالخيرات، وهو الذي يزيد على الفرائض النوافل، ويزيد على ترك المحظورات ترك المكروهات، هذا سابق بالخيرات. ودون المقتصد الظالم لنفسه، عنده أصل الدين، عنده التوحيد، لكنه قد يخل ببعض الواجبات، وقد يرتكب بعض المحظورات، فهذا ظالم لنفسه، هذا خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. فهذه الأقسام الثلاثة كلها مآلها إلى الجنة كما جاء في سورة فاطر، فهم الثلاثة كلهم إلى الجنة، أما بالنسبة للسابق هذا معروف من أول وهلة، وكذلك المقتصد، وأما الظالم لنفسه فإنه إما أن يدخل برحمة أرحم الراحمين من أول وهلة، تكفر عنه هذه الذنوب الناشئة عن ترك الواجبات وفعل المحظورات أو يطهر، فيعذب بقدرها، ثم يكون مآله إلى الجنة.

"أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام" ولم يقل: "وزكيت، أخرجت الزكاة المفروضة"، ولعل النبي -عليه الصلاة والسلام- يعرف من حاله أنه ليس عنده ما يزكي، علماً بأن ما ترك يدخل في: حرمت الحرام؛ لأن منع الزكاة حرام، منع الزكاة من عظائم الأمور، فهو داخل في قوله: "حرمت الحرام". أما بالنسبة للحج فالذي يغلب على الظن أنه لم يكن فرضًا؛ لأنه ما فرض إلا في السنة التاسعة، وإذا كان قد فرض فإنه كالزكاة يدخل في حرمت الحرام.

قد يقول قائل: لماذا ما أصنع هذا الشيء إذا كان هذا يكفي لدخول الجنة؟ لماذا أتعب نفسي بقيام ليل؟ وأتعب نفسي بطلب علم؟ وأتعب نفسي بصيام هواجر وقيام ليالي الشتاء وغير ذلك؟ لماذا أخرج قدرًا زائدًا على ما أوجب الله من مالي؟ ألا تريد أن تكون سابقاً بالخيرات؟! أتضمن أن هذه الفرائض التي تؤديها تؤديها على الوجه المطلوب؟ ألا تريد أن تكمل هذه الفرائض من هذه النوافل إذا وجد الخلل؟ يعني لا وجه لقول من يقول: أنا أقتصر على هذه وكفى، من يضمن أنك تؤديها على الوجه الشرعي المطلوب، لا يكون فيها خلل، فالخلل في الفرائض يكمل من النوافل، فمن نعم الله -جل وعلا- أن شرع لعباده هذه النوافل.

 

الحديث الثالث والعشرون: ((الإسراع في الخير)). 

قال المؤلف -عليه رحمة الله-:

عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم.

يقول المؤلف -رحمة الله عليه- في الحديث الثالث والعشرين من هذه الأربعين المباركة: "عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الطُّهور شطر الإيمان))" والمراد به التطهر، والطَّهور هو الماء الذي يتطهر به، لكن المراد به فعل التطهر، ويراد به طهارة الظاهر وطهارة الباطن، طهارة الجوارح، وطهارة القلب.

((شطر الإيمان)) يعني نصف الإيمان. الذي لا يتطهر لا ظاهراً ولا باطناً، لا شك أن الطهور شرط لصحة الصلاة، وهذا شأنه عظيم، الذي يصلي بلا طهارة صلاته باطلة. ((شطر الإيمان)) لكن هل يكفي الشطر الثاني دون الشطر الأول؟ يكفي نصف الإيمان؟ لا يكفي؛ لأن الصلاة مردودة بدون الطهور, قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ)),  وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)).

((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان)) الحمد لله هذه الكلمة وصف الرب -جل وعلا- بصفات كماله ونعوت جلاله مع حبه وتعظيمه، هي تملأ الميزان. وكثير من أهل العلم يُعَرِّف الحمد بأنه الثناء، وهذا رده ابن القيم؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- غاير بين الحمد والثناء، في حديث: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي)) فالثناء غير الحمد، واختار ابن القيم أن الحمد هو وصف الرب -جل وعلا- بصفات الكمال ونعوت الجلال مع الحب والتعظيم له.

((الحمد لله تملأ الميزان)) كلمة ليس لها وزن يعني حسيا، الكلام معنوي ليس له وزن حسي، ولا يمنع في قدرة الله -جل وعلا- أن تجسد هذه المعاني، وتوضع في كفة الميزان، كما جاء في البقرة وآل عمران، ((كأنهما غمامتان أو غيايتان تحاجّان عن صاحبهما)), والسموات والأرض قالتا: أتينا طائعين، القدرة الإلهية لا يقف دونها شيء، فتجسيد المعاني أمر سهل أمام هذه القدرة العظيمة.

((والحمد لله تملأ الميزان)) والميزان الذي له كفتان ولسان، هذا معتقد أهل السنة، وأنه حقيقة توزن به الأعمال، وإن كان المعتزلة ينكرون الميزان، ويرون أنه أمر معنوي، هو عبارة عن العدل. ((تملأ الميزان)) إذا كانت كلمة هذه كلمة الحمد لله، يعني هي كلمة يسيرة جداً لا تكلف شيئًا، وأنت على وضعك تقول: "الحمد لله" تملأ الميزان، لكن كم من محروم ممن يعرف هذا الكلام ويسمع هذا الكلام، ويحرم النطق بهذه الكلمة وبغيرها من الباقيات الصالحات التي هي غراس الجنة.

((والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن)) هاتان الجملتان: ((تملآن، أو تملأ)) يعني شك من الراوي ((ما بين السماء والأرض)) يعني كم بين السماء والأرض؟ مسيرة خمسمائة عام، تصور الأرض ما هي بأرضك أنت التي توجد فيها، جميع الأرض المبسوطة هذه وما بينها وبين السماء سبحان الله والحمد لله تملآنه.

تملآن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام كلمة أو كلمتين فضل الله لا يحد، وجوده لا يقدر قدره.

((والصلاة نور)) وهذا النور ملاحظ على وجوه المصلين، وظاهر عليها وبين، وجاء في الخبر مما لا تصح نسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار)) والشاهد الواقع، الواقع يشهد بذلك، وإن لم تصح نسبته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-.

((والصدقة برهان)) دليل قطعي على صدق صاحبه، على صدق إيمانه؛ لأن النفوس جبلت على حب المال، فكون الإنسان يخرج هذا المال طيبة به نفسه، لا شك أن هذا دليل قاطع، برهان ساطع على صدق إيمانه.

((والصبر ضياء)) الصبر على الطاعة، الصبر عن المعصية، الصبر على الأقدار المؤلمة لا شك أنه ضياء ينير الطريق لصاحبه، لكن فيه نوع مشقة؛ لأن الله -جل وعلا- وصف الشمس بأنها ضياء، والقمر نور، فضياء الشمس معه شيء من الإحراق بخلاف نور القمر، ((الصلاة نور)) ليس فيها مشقة، لكن الصبر في كثير من أحواله فيه مشقة، ولذا وصف بما وصفت به الشمس، فهو مع كونه ينير البصيرة وينير الطريق إلا أنه فيه شيء من الشدة.

((والقرآن حجة لك أو عليك)) القرآن كلام الله المنزل على نبيه -عليه الصلاة والسلام- بواسطة جبريل، المحفوظ بين الدفتين، الذي من قام يقرأه كأنما خاطب الرحمن بالكلم، هذا أنت تقرأ. ولا يخلو إما أن يكون حجة لك، إذا كنت مؤمناً به مصدقاً بجميع ما فيه، عاملا بأوامره، مجتنبا لنواهيه، هذا حجة لك يوم القيامة، أو حجة عليك، إذا أخذته وحفظته ونمت عنه، ونمت عن الصلاة، أو فعلت ما يخالف من أوامره ونواهيه، فإنه يكون حينئذٍ حجة عليك.

((كل الناس يغدو)) ليس هناك أحد لا يغدو، إذا أصبح الناس انتشروا في الأرض لطلب الرزق، لكن بعض الناس غدوه لمصلحته، وبعض الناس غدوه وبال عليه. ((فبائع نفسه)) وكلهم يبيعون النفس، فإما أن تبيعها إلى الله -جل وعلا-، فتعتقها من ناره، أو تبيعها إلى الشيطان بفعل المعاصي والجرائم والمنكرات فتوبقها في النار -نسأل الله السلامة والعافية-.

((كل الناس يغدو)) كل الناس يتعبون, قال الله -تعالى-:  {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ} [(104) سورة النساء], وقال -تعالى-: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [(140) سورة آل عمران] كل الناس يتعب، لكن الذي تعبه يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه هذا الذي يعتق نفسه، أما الذي تعبه يعود وبالاً عليه فهذا يوبقها في النار، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. 

هذا يقول: أرجو التكرم والإجابة على سؤالين مع أني عرضتهما أكثر من مرة ولم تجبني.

على كل حال قد لا يسعف الوقت للإجابة عن كل شيء، وقد يرى بعض الأسئلة غير مناسب أن يعلن جوابه للجميع؛ لأنه خاص، إما لضيق الوقت لا يجاب عليه، أو لأن الحاجة حاجة الحاضرين وهم أولى بالمراعاة ممن هو خارج عن المسجد ويستمع من خلال آلة، الأولى بالعناية والمراعاة من جاء ليحضر الدرس.
على كل حال يقول سؤاله: من نذر على ألا يترك قيام الليل وفي حالة تركه لو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم عشرين مسكيناً.
هذا إذا عجز، أما إذا كان قادراً ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) لا بد أن يفي بنذره.
هل هذا النذر مكروه أم هو النذر الذي أثنى الله تعالى على أهله؟
النذر يقرر أهل العلم أنه باب من أبواب العلم غريب، باب غريب من أبواب العلم، الوسيلة مكروهة، والغاية واجبة، النذر مكروه عند أهل العلم، وجاء النهي عنه، وإنما يستخرج به من البخيل، لكن إذا نذر يجب عليه الوفاء "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وهذا منه؛ لأنك إذا نذرت أن تقوم الليل، الشرع جاء بالحث على قيام الليل، لكن قد يعتري هذا الناذر في وقت من الأوقات ما يعوقه عن تحقيق هذا النذر، ولو لم يكن اضطراراً؛ أما المضطر من ترك الشيء عاجزاً عنه هذا لا إشكال فيه، لكن قد يتركه؛ لأنه يشق عليه مشقة شديدة، وإن كان يستطيع مع اقتحام هذه المشقة أن يفي، فهذا النذر لا شك أنه تأكيد لما حث الشرع عليه، فعليك أن تفي بنذرك، أما إذا عجزت عن الوفاء بالنذر فإنك تكفر.

هل ما يأخذ الإمام من المكافأة جائزة؟

الإمام إن كان المراد به الإمام الأعظم فأبو بكر -رضي الله عنه- فرض له الصحابة في مقابل تفرغه لمصالح المسلمين العامة فرضوا له نصف شاة يومياً؛ لأنه صاحب تجارة، ترك التجارة، يتفرغ لأمور المسلمين، فما يأخذه في مقابل عمله لا شيء، هذا بالنسبة للإمام الأعظم. أما من دونه كإمام المسجد مثلاً، إمام الصلاة فهذا أذا أعطي من بيت المال جُعلاً لا على سبيل المشارطة فلا مانع من ذلك -إن شاء الله تعالى-.
يقول: وإذا كانت جائزة فما تعليقكم على كلام ابن القيم في إعلام الموقعين عندما ذكر أنواع العمل لغير الله، وذكر النوع الثالث أن يبتدئ العمل مريداً به الله والناس، فيريد قضاء فرضه والأجر من الناس؟
أما بالنسبة للحج فهذا فيه النص لا مانع من أن يحج الفريضة ويبتغي من فضل الله، هذا لا إشكال فيه، هذا فيه النص، كمن يصلي بالأجرة إذا كان القصد أصل الصلاة، مأموم يقول: لا أصلي إلا بكذا، هذا صلاته باطلة، إمام حبس نفسه على الإمامة أو مؤذن حبس نفسه على المأذنة، وانقطع من أسباب الرزق، وفرض له من بيت المال هذا لا إشكال فيه، أما أن يقول: لا أصلي بكم إلا بكذا فهذا كما قال الإمام أحمد: رجل سوء من يصلي وراءه؟!
قال: وذكر النوع الثالث أن يبتدئ العمل مريداً به الله والناس فيريد قضاء فرضه والأجر من الناس وهذا كمن يصلي بالأجرة، فلو لم يعط الأجرة صلى ولكنه يصلي لله وللأجرة فهذا لا يقبل منه العمل.
إذا كان الناهز له والباعث له على هذا العمل إنما هو الأجرة فلا شك أنه لا يقبل منه العمل، لكن إذا كان الناهز له الصلاة أولاً وآخراً هو مصلًّ مصلًّ، والمقصود بذلك الإمامة لا أنه يشترط على الناس ألا يصلي الفريضة إلا بكذا، نعم قد تجعل الحوافز سواءً كانت عامة أو خاصة، فالأب يجعل لمن يصلي من أولاده مبلغًا من المال ليحثه على ذلك، ويحفزه عليه، وقد يحرمه من بعض الأمور، هذه من وسائل التربية، والتعويد على الطاعة لا سيما إذا كان الولد غير مكلف، هذا شأن طيب على ألا يتعلق بهذه الدنيا، يبين له أن هذه عبادة، توصله إلى مرضاة الله، وإلى جنته ونعيمه، يربى على هذا، لكن لا يمنع أن يوضع المحفزات التي تجعل بين الإخوة والأخوات منافسة ومسابقة ومسارعة إلى الخيرات.

هذا يقول: ما حكم إدخال الكاميرات وآلات التصوير إلى المساجد في المحاضرات وهل يجوز حضورها؟

هذه الآلات وهذه الكاميرات هذه كل يفتي بما يدين الله به، ومن يرى الجواز لا إشكال عنده في هذا، وهذا قول لكثير من المعاصرين الآن، لكن الذي ما زلت عليه أن التصوير وإن كان بالآلات، وإن كان بالفيديو كله داخل في النصوص ومحرم، وحينئذٍ لا يجوز إدخال الكاميرات سواءً كانت مخصصة للتصوير، أو للتصوير ولغيره، الجوالات مثلاً هي يسرت التصوير بأيدي الناس، واستمروه وصاروا لا يرون فيه شيئاً، وهونت من شأنه، كل هذا داخل في حيز المنع، فلا يجوز إدخال هذه الآلات إلى المساجد، ولا تصوير المحاضرات ولا غيرها، وإذا وجد التصوير فالذي يرى تحريمه لا يجوز له الحضور.

هذا يقول: هل تأخذ ساحة المسجد حكم المسجد في التحية وغيرها يعني والاعتكاف ومكث الجنب والحائض وغير ذلك من أحكام المسجد؟

إذا كانت مسورة بسوره فحكمها حكمه ولو كانت مكشوفة، أما إذا كان سور المسجد لا يشملها فإنه ليس لها حكم المسجد.

يقول: بعض الطلاب يتابعون مباريات الكرة التي تذاع عبر التلفاز، نرجو توجيه نصيحة لهم، وبيان الحكم الشرعي لهذا الفعل؟

أولاً: مسألة الكرة وتضييع الأوقات فيها، وما يترتب عليها من كلام بذيء، ومن إيجاد للبغضاء، وما فيها من صد عن ذكر الله وعن الصلاة هذه هي العلل التي من أجلها حرم الخمر والميسر، فإذا اشتملت على هذه الأمور صارت محرمة، وإذا كانت محرمة إضافة إلى ما يعتري ذلك من كشف للعورات إذا اجتمعت هذه الأمور حرمت مشاهدتها، إذا اجتمعت هذه الأمور وعلى كل حال هذا الغالب أنها تجتمع؛ لأنها مبنية على هذه المنافسة التي فيها إيغار للصدور، وفيها ألفاظ شنيعة، وفيها أيضاً شحناء وبغضاء، وفيها موالاة ومعاداة، كل هذه تجتمع؛ ولذا يفتي جمع من أهل العلم بتحريمها، وإذا قلنا بتحريمها فإنه لا تجوز مشاهدتها.

هذا يقول: أمر أزعجني جداً من بعض الطلاب، طلاب صغار ويتكلمون في بعض المشايخ الكبار.

على كل حال تحدثنا مراراً عن حكم الغيبة، وأن غيبة أهل العلم أشد، وأعراض المسلمين عموماً كما يقول ابن دقيق العيد: حفرة من حفر النار، يقول: وقف على شفيرها العلماء والحكام؛ لأن العلماء والحكام أكثر من يتكلم فيهم الناس، فهم يدفعون في هذه الحفرة من يتكلم فيهم، أو لأنهم أكثر من يحتاج إلى الكلام في الناس فقد يَزِلُّون، فيقعون في هذه الحفرة، على كل حال المعنى محتمل، فيتقي الإنسان ربه في هؤلاء العلماء لا سيما الذين عرفوا بالعلم والعمل والبذل، لا شك أن هذا أمره عظيم، -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن في هذا تزهيداً فيهم وفي علمهم وفي الأخذ عنهم، فيكون هذا من الصد عن العلم الشرعي.

يقول: أنا شخص كثير الغضب خاصة إذا ثار عندي القولون، فهل يشرع لي أن أستخدم الحبوب المهدئة للقولون؟

لا مانع من استخدامها إذا لم تكن مركبة من مواد محرمة، أو فيها ضرر من جهات أخرى، فإذا انتفى تحريم تركيبها، أو الإضرار بها من جهات أخرى؛ لأن بعض العلاج ينفع لبعض الأمراض، لكنه يثير أمراضاً أخرى، ويزيد أمراض أخرى، الله المستعان، إذا انتفى هذا الأمر لا بأس.

يقول: جمعت شرحاً للأربعين النووية ملخص أو ملخصاً من خمسة عشر شرحاً، فهل أكون مؤهلاً لتدريس هذا المتن؟

على كل حال التدريس فن، قد يتقن الإنسان التأليف ولا يحسن التدريس، وقد يحسن التعليم ولا يحسن التأليف، فإذا كنت قد فهمت هذه الأحاديث وجمعت ما قاله أهل العلم فيها، وأنت لديك القدرة على التعليم فأقدِم.

يقول: في اليمن مسلم قتل يهودياً ويراد قتل المسلم، فما الحكم؟

الأصل أنه لا يقتل مسلم بكافر هذا الأصل، لكن إذا رأى ولي الأمر أن هناك اعتداءات من قبل بعض من لا يمتثلون أوامر الشرع؛ لأن المعاهد، من قتل ذمياً، من قتل معاهداً جاءت فيه النصوص والوعيد الشديد، فإذا كان الإنسان لا يمتثل، ورأى ولي الأمر أن قتله تعزيراً يكف مثل هذه الاعتداءات فالأمر إليه، لكن الأصل في المسألة أن المسلم لا يقتل باليهودي.

هذا يقول: هل يجوز لي أن أشتري اشتراك سنتين من التأمينات الاجتماعية اختيارياً؛ لأني انقطعت عن دفع سنتين لسبب حصولي على عمل خارج بلدي.

السؤال ما هو بواضح، لكن إن كان قصده دفع سنتين من أجل أن يتوفر له إضافةً إلى خدمته وعمله زيادة سنتين فيزداد تقاعده فيما بعد فهذا شراء دراهم بدراهم لا يجوز، وهذا معروض ومطروح وموجود، يعني يتعامل به، لكنه عين الربا، يعني يبقى من مدته المقررة للتقاعد سنوات، فيشتريها، فيدفع مقابل هذه السنوات ما يؤخذ عنه للتقاعد، ثم تكمَّل له المدة هذا هو الربا، لكن إن اشتراها بما تباع به نسيئة فلا مانع حينئذٍ، لو قال: أنا أعطيكم سيارة أوسيارتين في مقابل هذه المدة، فالسيارات مع الدراهم لا يجري فيها الربا.

يقول: استظهر بعض الشراح أن قوله: ((المفارق للجماعة)) وصف عام يدخل فيه كل من خرج عن جماعة المسلمين، وإن لم يكن مرتداً كالخوارج وأهل البدع فهل هذا الاستظهار وجيه؟ ومن جعله وصفاً لتارك الدين هل يلزمه عدم مقاتلة الخوارج؟

أما مقاتلة الخوارج والبغاة فتؤخذ من أدلة أخرى، ومن فهمها من هذا الحديث لا حجر عليه، أما الأدلة على مقاتلتهم بعد مناقشتهم حتى يكفوا هذه الأدلة متظاهرة عليها، وعمل السلف على ذلك.
يقول: للتوضيح لا أسأل عن حكم قتله فمعروف أن الصغير لا يقتل، لكن أسأل عن إطلاق اسم المرتد عليه هل له وجه؟
كأنه توضيح لسؤال سابق ولم يصلنا هذا السؤال إلا إذا كان القصد الذي بعده.
التوضيح سبق السؤال؛ لأن السؤال الذي يليه يقول:
هل يسمى مرتداً من غيّر دينه وهو صغير، بمعنى أن والده مسلم لكنه غيّر دينه قبل البلوغ؟
قبل البلوغ القلم مرفوع عنه، لا يؤاخذ، وكونه يسمى أو لا يسمى هذا لفظي يعني ما يترتب عليه حكم.

هذا يقول: كيف أتدرج في قراءة شروح المتون عامة، وفي شروح الأربعين النووية خاصة؟

التدرج في قراءة الشروح أن تبدأ بالأسهل، ثم تترقى إلى ما هو أمتن منه وأشد، وقل مثل هذا في المتون قبل الشروح، فتبدأ في شرح الأربعين للمؤلف للنووي نفسه، كتاب مختصر وواضح، وصاحب الدار أعرف بما في الدار، ثم بعد ذلك تقرأ من الشروح حتى تصل إلى جامع العلوم والحكم الذي هو أنفس الشروح على الإطلاق، وأجمع الشروح، وهو شرح بنفس السلف.