التعليق على تفسير القرطبي - سورة النمل (01)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي- رحمه الله تعالى-:

سورة النمل، مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ ثَلَاثٌ وتسعون آية. وقيل: أربع وتسعون آية."

هذا الخلاف في اعتبار البسملة آية أو ليست بآية، فمن اعتبرها قال: أربع وتسعون، ومن لم يعتبرها فهي ثلاث وتسعون.

" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: {طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [سورة النمل:1-6].

قَوْلُهُ تَعَالَى: {طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ} [سورة النمل:1] مَضَى الْكَلَامُ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي (الْبَقَرَةِ) وَغَيْرِهَا. وَ" تِلْكَ" بِمَعْنَى هَذِهِ، أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ آيَاتُ الْقُرْآنِ وآيات كتاب مبين. وذكر القرآن بلفظ الْمَعْرِفَةِ، وَقَالَ: {وَكِتابٍ مُبِينٍ} بِلَفْظِ النَّكِرَةِ وَهُمَا فِي مَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ رَجُلٌ عَاقِلٌ، وَفُلَانٌ الرَّجُلُ الْعَاقِلُ. وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ: بِأَنَّهُ قُرْآنٌ وَأَنَّهُ كِتَابٌ؛ لِأَنَّهُ مَا يَظْهَرُ بِالْكِتَابَةِ، وَيَظْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ. وقد مضى اشْتِقَاقُهُمَا فِي (الْبَقَرَةِ). وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} فَأَخْرَجَ الْكِتَابَ بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْقُرْآنَ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ،.."

يعني عكس ما هنا، عكس ما هنا قوله: {تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ} [سورة النمل:1] لا يخص هذه السورة بعينها كما قال المؤلف، بل القرآن كله هدى وبشرى للمؤمنين، التعبير عنه بهذه الإشارة التي هي في الأصل للبعيد، فلبُعد مكانته وعلوها، كما في قوله- جلَّ وعلا-: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [سورة البقرة:2]، "ذلك" الأصل من الإشارة به للبعيد، ولبُعده بُعد مكانة وعلو وارتفاع شأن، والإشارة تعود إلى القرآن كاملًا؛ لأنَّه كله هدى وبشرى للمؤمنين.

" وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَ اسْمَانِ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُجْعَلَ مَعْرِفَةً، وَأَنْ يُجْعَلَ صِفَةً."

بل "أل" هذه لا تزيده تعريفًا، بل هو معرفة بدونها، بل هو معرفة بدونها كما تقول: حسن، والحسن هو معرفة علم لا يزداد بـ "أل" ولا ينقص، لا تعريفًا ولا تنكيرًا، فـ قرآن، والقرآن واحد، كتاب، والكتاب واحد.

" وَوَصَفَهُ بِالْمُبِينِ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَحَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة النمل:2]، {هُدىً} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ، أَيْ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ هَادِيَةٌ وَمُبَشِّرَةٌ. وَيَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ هُوَ هُدًى. وَإِنْ شِئْتَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الصِّفَةِ، أَيْ فِيهِ هُدًى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ {لِلْمُؤْمِنِينَ} ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [سورة النمل:3]، وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ (الْبَقَرَةِ) بَيَانُ هَذَا."

نعم، وقوله- جلَّ وعلا-: {هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة النمل:2] بدون (فيه) يرجح الوقف على (فيه) في سورة (البقرة)، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة:2] يعني القرآن كله هدى، لكن إذا قيل: فِيهِ هُدًى، وقفت على {لَا رَيْبَ} والوقف عندهم جائز على هذا، قلت: {فِيهِ هُدًى} لا شك أنَّ هذا تكون الهداية فيه أقل مما لو كان كله هدى، فالقرآن كله هدى، ويترجح حينئذٍ الوقف على (فيه) {لَا رَيْبَ فِيهِ} تقف، {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} الذي هو القرآن كله هُدًى لِلْمُتَّقِينَ كما هنا {هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة النمل:2]، بدون (فيه).

طالب:..........

{لَا رَيْبَ} استأنفت، {فِيهِ هُدًى} صارت الهداية فيه أقل مما لو كان كله هدى، {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} القرآن هُدًى لِلْمُتَّقِينَ كما هنا {هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة النمل:2] بدون (فيه).

" قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [سورة النمل:4] أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ. {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ} [سورة النمل:4] قِيلَ: أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ حَتَّى رَأَوْهَا حَسَنَةً. وَقِيلَ: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ الْحَسَنَةَ فَلَمْ يَعْمَلُوهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلْنَا جَزَاءَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ أَنْ زَيَّنَّا لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ."

كما قال- جلَّ وعلا-: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [سورة فاطر:8] إنسان لا يرتكب أمرًا إلا وهو حسن في نظره، ولو لم يكن حسنًا، لو كان قبيحًا لما أقدم عليه.

" {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [سورة النمل:4] أَيْ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ، وَفِي ضَلَالَتِهِمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وقال أَبُو الْعَالِيَةِ: يَتَمَادَوْنَ. وقال قَتَادَةُ: يَلْعَبُونَ. وقال الْحَسَنُ: يَتَحَيَّرُونَ، قَالَ الرَّاجِزُ:

ومهمهٍ أطرافه في مهمهِ

أعمى الْهُدَى بِالْحَائِرِينَ الْعُمَّهِ

الحائرين جمع، بِالْحَائِرِينَ الْعُمَّهِ، هنا جمع، عُمَّه جمع عامه، اسم الفاعل، ومهمه هذه مجزومة أو مجرورة بـ ربَّ محذوفة؛ لأنَّ (الواو) هذه(واو) ربَّ. 

ومهمه أطرافه في مهمه

أعمى الْهُدَى بِالْحَائِرِينَ الْعُمَّهِ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ} [سورة النمل:5] وَهُوَ جَهَنَّمُ. {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}، {فِي الْآخِرَةِ} تَبْيِينٌ وَلَيْسَ بِمُتَعَلَّقٍ بِالْأَخْسَرِينَ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَرَبِحَ الْآخِرَةَ، وَهَؤُلَاءِ خَسِرُوا الْآخِرَةَ بِكُفْرِهِمْ فَهُمْ أَخْسَرُ كُلِّ خَاسِرٍ."

لأنَّ خسران الدنيا ممكن تعويضه، خسران الدنيا مهما بلغت الخسارة مع المحافظة على الدين الذي هو رأس المال يُمكن تعويضه، وهو ليس بخسران حقيقي، إنَّما الخسران الحقيقي خسران الآخرة، خسران الدين {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الزمر:15] خسارة الدنيا تعوض.

وكل كسر فإنَّ الدين يجبره

وما لكسر قناة الدين جبران

الدين الذي لا يعوض، أمَّا الدنيا فأمرها سهل.

" قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} [سورة النمل:6] أَيْ يُلْقَى عَلَيْكَ فَتُلَقَّاهُ وَتَعْلَمُهُ وَتَأْخُذُهُ. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}، {لَدُنْ} بِمَعْنَى عِنْدَ إِلَّا أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ غَيْرُ مُعْرَبَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ،.."

يعني فيها المتمكن أمكن هذا المعرب، والمتمكن غير أمكن، وهذا الممنوع من الصرف، وغير المتمكن وهو المبني، وهنا يقول: {لَدُنْ} مبنية غير معربة؛ لأنَّها لا تتمكن.

" وَفِيهَا لُغَاتٌ ذُكِرَتْ فِي (الْكَهْفِ). وَهَذِهِ الْآيَةُ بِسَاطٌ وَتَمْهِيدٌ لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَسُوقَ مِنَ الْأَقَاصِيصِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ لطائف حكمته، ودقائق علمه.

قوله تعالى: {إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ} [سورة النمل:7]، (إِذْ) مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ وَهُوَ اذْكُرْ، كَأَنَّهُ قَالَ عَلَى أَثَرِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [سورة النمل:6]: خُذْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ آثَارِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ قِصَّةَ مُوسَى إِذْ قَالَ لِأَهْلِهِ. {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [سورة النمل:7] أَيْ أَبْصَرْتُهَا مِنْ بُعْدٍ. قَالَ الْحَرِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:

آنَسَتْ نَبْأَةً وأفزعها القناص

عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ

{سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [سورة النمل:7] قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {بِشِهابٍ قَبَسٍ} بِتَنْوِينِ {شِهَابٍ}، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، أَيْ بِشُعْلَةِ نَارٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ فِي تَرْكِ التَّنْوِينِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ، وَمَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَصَلَاةُ الْأُولَى، يُضَافُ الشَّيْءُ إِلَى نَفْسِهِ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُ."

يعني إذا اختلفت ألفاظه مع اختلاف اللفظ تجوز الإضافة، وإلا فالأصل أنَّ الأول والثاني شيء واحد، المضاف والمضاف إليه شيء واحد، من إضافة الشيء إلى نفسه. وأمَّا على القطع {بِشِهابٍ قَبَسٍ} فيكون الثاني بيانًا للأول.

" قَالَ النَّحَّاسُ: إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي اللُّغَةِ ضَمُّ شيء إلى شيء.."  

وعلى هذا فلابد من التقدير، تقدير مضاف إليه، مسجد الجامع، مسجد المكان الجامع، صلاة الأولى صلاة .... ذكر صلاة الأولى هنا؟ صلاة الأولى، لابد من التقدير، مسجد الجامع، مسجد المكان الجامع مثلًا، وصلاة الأولى ماذا كان يقدر؟ ما قدَّرها المؤلف هنا؟ قدروها في كتب النحو، على كل حال لا بد من التقدير.

طالب:.......

صلاة ......... لا ما تجيء، لا، الأول يصير، صلاة الوقت الأول، صلاة الساعة الأولى ممكن، صلاة الساعة الأولى، والساعة يُراد بها الوقت.

" قَالَ النَّحَّاسُ: إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي اللُّغَةِ ضَمُّ شيء إلى شيء، فَمُحَالٌ أَنْ يُضَمَّ الشَّيْءُ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ الشَّيْءُ إِلَى الشَّيْءِ؛ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوِ النَّوْعِ، فَمُحَالٌ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَالِكُ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ نَوْعِهَا. وَ{شِهَابِ قَبَسٍ} إِضَافَةُ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا ثَوْبُ خَزٍّ، وَخَاتَمُ حَدِيدٍ.."

وحينئذٍ تقدر (من) "شهاب من قبس"، أو ثوب من خز، خاتم من حديد.

" وَخَاتَمُ حَدِيدٍ وَشَبَهُهُ. وَالشِّهَابُ كُلُّ ذِي نُورٍ، نَحْوَ الْكَوْكَبِ وَالْعُودِ الْمُوقَدِ. وَالْقَبَسُ اسْمٌ لِمَا يُقْتَبَسُ مِنْ جَمْرٍ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَالْمَعْنَى بِشِهَابٍ مِنْ قَبَسٍ. يُقَالُ. أَقْبَسْتُ قَبْسًا، وَالِاسْمُ قَبَسٌ. كَمَا تَقُولُ: قَبَضْتُ قَبْضًا. وَالِاسْمُ الْقَبْضُ. وَمَنْ قَرَأَ {بِشِهابٍ قَبَسٍ} جَعَلَهُ بَدَلًا مِنْهُ. قال الْمَهْدَوِيُّ: أَوْ صِفَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَبَسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا غَيْرَ صِفَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، فَأَمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ صِفَةٍ؛ فَلِأَنَّهُمْ قَالُوا قَبَسْتُهُ أَقْبَسُهُ قَبْسًا وَالْقَبَسُ الْمَقْبُوسُ، وَإِن كَانَ صِفَةً فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا. وَالْإِضَافَةُ فِيهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ صِفَةٍ أَحْسَنُ. وَهِيَ إِضَافَةُ النَّوْعِ إِلَى.."

على كل حال مادام اللفظ نكرة فحاجته إلى الوصف أكثر من حاجته إلى بيان الحال، إذا كان نكرة، مادام {شهاب} نكرة فهو محتاج إلى وصف.

" وَهِيَ إِضَافَةُ النَّوْعِ إِلَى جِنْسِهِ كَخَاتَمِ فِضَّةٍ وَشَبَهِهِ. وَلَوْ قُرِئَ بِنَصْبِ قَبَسٍ عَلَى الْبَيَانِ أَوْ الْحَالِ كَانَ أَحْسَنَ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ بِشِهَابٍ قَبَسًا؛ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَوْ بَيَانٌ أَوْ حَالٌ. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [سورة النمل:7] أَصْلُ الطَّاءِ تَاءٌ فَأُبْدِلَ مِنْهَا هُنَا طَاءً؛ لِأَنَّ الطَّاءَ مُطْبَقَةٌ.."

إذا قيل، يقول: بِشِهَابٍ قَبَسًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، مصدر من غير اللفظ أو بيان، معروف إنَّ العطف- عطف البيان- يتبع ما قبله في الإعراب.

 يتبع في الإعراب الأسماء الأول        نعت وتوكيد وعطف وبدل

 فيتبعه في إعرابه إذًا يُجر، كيف يُنصب على البيان؟ منهم من يُسمِّي التمييز بيانًا، منصوب على التمييز، وهذا كثير في أساليب المتقدمين حتى في تفسير الطبري وكتاب سيبويه ماشيين على هذا يسمونه بيانًا، أو تفسيرًا قد يسمونه تفسيرًا أيضًا، وأمَّا إذا قلنا: إنَّه منصوب على البيان، والبيان عطف البيان تابع لما قبله إذًا يكون مجرورًا، اللهم إلا إذا أرادوا نصبه على المحل، بيان للمحل لا بيان للفظ، الأصل أنَّ الشهاب والقبس مأتيٌّ به فمحله النصب، وجر بهذا الحرف الذي هو (الباء)، وعطف عليه عطف بيان بناءً على محله لا على لفظه؛ لأنَّ محله النصب فهو في الأصل مفعول به.

"لِأَنَّ الطَّاءَ مُطْبَقَةٌ وَالصَّادَ مُطْبَقَةٌ، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَسَنًا، وَمَعْنَاهُ يَسْتَدْفِئُونَ مِنَ الْبَرْدِ. يُقَالُ: اصْطَلَى يَصْطَلِي إِذَا اسْتَدْفَأَ. قَالَ الشَّاعِرُ:

النَّارُ فَاكِهَةُ الشِّتَاءِ فَمَنْ يُرِدْ

أَكْلَ الْفَوَاكِهِ شَاتِيًا فَلْيَصْطَلِ

قال الزَّجَّاجُ: كُلُّ أَبْيَضَ ذِي نُورٍ فَهُوَ شِهَابٌ. قال أَبُو عُبَيْدَةَ: الشِّهَابُ النَّارُ. وقَالَ أَبُو النَّجْمِ:

كَأَنَّمَا كَانَ شِهَابًا وَاقِدَا

أَضَاءَ ضَوْءًا ثُمَّ صَارَ خَامِدَا

قال أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: أَصْلُ الشِّهَابِ عُودٌ.."

ثعلب، المعروف بثعلب، إمام من أئمة اللغة الثقات.

" أَصْلُ الشِّهَابِ عُودٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ جَمْرَةٌ، وَالْآخَرُ لَا نَارَ فِيهِ، وَقَوْلُ النَّحَّاسِ فِيهِ حَسَنٌ: وَالشِّهَابُ الشُّعَاعُ المضيء، وَمِنْهُ الْكَوْكَبُ الَّذِي يَمُدُّ ضَوْءَهُ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فِي كَفِّهِ صَعْدَةٌ مُثَقَّفَةٌ

فِيهَا سِنَانٌ كَشُعْلَةِ الْقَبَسِ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جاءَها} [سورة النمل:8} أَيْ فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَارٌ وَهِيَ نُورٌ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. فَلَمَّا رَأَى مُوسَى النَّارَ وَقَفَ قَرِيبًا مِنْهَا، فَرَآهَا تَخْرُجُ مِنْ فَرْعِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ شَدِيدَةِ الْخُضْرَةِ يُقَالُ لَهَا: الْعُلَّيْقُ، لَا تَزْدَادُ النَّارُ إلا عظمًا وتضرمًا، ولا تزداد الشجرة إِلَّا خُضْرَةً وَحُسْنًا، فَعَجِبَ مِنْهَا وَأَهْوَى إِلَيْهَا بِضِغْثٍ فِي يَدِهِ لِيَقْتَبِسَ مِنْهَا، فَمَالَتْ إِلَيْهِ، فَخَافَهَا فَتَأَخَّرَ عَنْهَا، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تُطَمِّعُهُ وَيَطْمَعُ فِيهَا إِلَى أَنْ وَضَحَ أَمْرُهَا عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ لَا يَدْرِي مَنْ أَمَرَهَا، إِلَى أَنْ {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها} [سورة النمل:8]، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي (طه).

{نُودِيَ} أَيْ نَادَاهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ: {وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [سورة مريم:52]. {أَنْ بُورِكَ} قَالَ الزَّجَّاجُ: (أن) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ بِأَنَّهُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ جَعَلَهَا اسْمَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ "أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا". قَالَ النَّحَّاسُ: وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ عَلَى التَّفْسِيرِ، فَتَكُونُ الْبَرَكَةُ رَاجِعَةً إِلَى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا الْمَلَائِكَة وَمُوسَى. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكَ. قال الثَّعْلَبِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَبَارَكَ لَكَ، أَرْبَعُ لُغَاتٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَبُورِكْتَ مَوْلُودًا وَبُورِكْتَ نَاشِئًا

وَبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيْبِ إِذْ أَنْتَ أَشْيَبُ

قال الطَّبَرِيُّ: قَالَ: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة النمل:8] وَلَمْ يَقُلْ بُورِكَ فِي مَنْ فِي".

{مَنْ فِي النَّارِ}، {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} وَلَمْ يَقُلْ بُورِكَ "فِي"؛ لأنَّه عُدي بنفسه ولم يُعد بالحرف (في)، وإن كان يجوز الوجهان على ما تقدم "بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكَ" فعُدِّي بنفسه، ولم يُعدَّ بالفاء، بـ (في).

" قَالَ: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة النمل:8]، وَلَمْ يَقُلْ بُورِكَ فِي مَنْ فِي النَّارِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: بَارَكَكَ اللَّهُ. وَيُقَالُ: بَارَكَهُ اللَّهُ، وَبَارَكَ لَهُ، وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَبَارَكَ فِيهِ بِمَعْنًى، أَيْ بُورِكَ عَلَى مَنْ فِي النَّارِ وَهُوَ مُوسَى، أَوْ عَلَى مَنْ فِي قُرْبِ النَّارِ، لَا أَنَّهُ كَانَ فِي وَسَطِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ فِي النَّارِ مَلَائِكَةٌ، فَالتَّبْرِيكُ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى وَالْمَلَائِكَةِ، أَيْ بُورِكَ فِيكَ يَا مُوسَى وَفِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَهَا. وَهَذَا تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَتَكْرِمَةٌ لَهُ، كَمَا حَيَّا إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ حِينَ دخلوا عليه، قال: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [سورة هود:73].

وَقَوْلٌ ثَالِثٌ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُدِّسَ مَنْ فِي النَّارِ وَهُوَ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، عَنَي بِهِ نَفْسَهُ تَقَدَّسَ وَتَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: النَّارُ نُورُ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، نَادَى اللَّهُ مُوسَى وَهُوَ فِي النُّورِ، وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَأَى نُورًا عَظِيمًا فَظَنَّهُ نَارًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ظَهَرَ لِمُوسَى بِآيَاتِهِ وَكَلَامِهِ مِنَ النَّارِ لَا أَنَّهُ يَتَحَيَّزُ فِي جِهَةٍ {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ} [سورة الزخرف:84] لَا أَنَّهُ يَتَحَيَّزُ فِيهِمَا، وَلَكِنْ.."

يعني هو إله من في السماء وإله من في الأرض، يعني هو مألوه في السماء كما أنَّه مألوه في الأرض، يعني يُعبد في السماء ويُعبد في الأرض، فلا إشكال في هذا، ولا يقتضي مثل هذا الحلول. أمَّا الرأي الأخير الذي نسبه لابن عباس ومحمد بن كعب النار نور الله، نادى.. إلى آخره، قال: قُدِّس من في النار، وهو الله- سبحانه وتعالى- هذا يدل عليه الحديث الصحيح: «حجابه النور»، وفي رواية «النار» فهي حجابه- جلَّ وعلا-، فهذا لمَّا موسى- عليه السلام- رأى النار أو النور، النار وهي في حقيقتها نور أتى إليها، الذي في النار والذي في النور هو الله- جلَّ وعلا-؛ لأنَّه حجابه. وما فيه ما يمنع من مثل هذا، وإن كان كثير من المفسرين يتعاظم مثل هذا ويلجأ إلى تأويله.

"لَا أَنَّهُ يَتَحَيَّزُ فِيهِمَا، وَلَكِنْ يَظْهَرُ فِي كُلِّ فِعْلٍ فَيُعْلَمُ بِهِ وُجُودُ الْفَاعِلِ. وَقِيلَ عَلَى هَذَا: أَيْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ سُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ. وَقِيلَ: أَيْ بُورِكَ مَا فِي النَّارِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي جَعَلَهُ عَلَامَةً.

قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ ويرفعه، حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ»، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [سورة النمل:8] أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا.

وَلَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ»، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ «النَّارُ لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ السُّبُحَاتُ إِنَّهَا جَلَالُ وَجْهِهِ، وَمِنْهَا قِيلَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمٌ لَهُ وَتَنْزِيهٌ.

وَقَوْلُهُ: «لَوْ كَشَفَهَا» يَعْنِي لَوْ رَفَعَ الْحِجَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ وَلَمْ يُثَبِّتْهُمْ لِرُؤْيَتِهِ لَاحْتَرَقُوا وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: النَّارُ حِجَابٌ مِنَ الْحُجُبِ وَهِيَ سَبْعَةُ حُجُبٍ، حِجَابُ الْعِزَّةِ، وَحِجَابُ الْمُلْكِ، وَحِجَابُ السُّلْطَانِ، وَحِجَابُ النَّارِ، وَحِجَابُ النُّورِ، وَحِجَابُ الْغَمَامِ، وَحِجَابُ الْمَاءِ. وَبِالْحَقِيقَةِ فَالْمَخْلُوقُ الْمَحْجُوبُ، وَاللَّهُ لَا يحجبه شيء، فَكَانَتِ النَّارُ نُورًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ النَّارِ؛ لِأَنَّ مُوسَى حَسِبَهُ نَارًا، وَالْعَرَبُ تَضَعُ أَحَدَهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ النَّارُ بِعَيْنِهَا فَأَسْمَعَهُ تَعَالَى كَلَامَهُ مِنْ نَاحِيَتِهَا، وَأَظْهَرَ لَهُ رُبُوبِيَّتَهُ مِنْ جِهَتِهَا. وَهُوَ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: «جَاءَ اللَّهُ من سيناء وأشرف مِنْ سَاعِيرَ وَاسْتَعْلَى مِنْ جِبَالِ فَارَانَ». فَمَجِيئُهُ مِنْ سَيْنَاءَ بَعْثُهُ مُوسَى مِنْهَا، وَإِشْرَافُهُ مِنْ سَاعِيرَ بَعْثُهُ الْمَسِيحَ مِنْهَا، وَاسْتِعْلَاؤُهُ مِنْ فَارَانَ بَعْثُهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَفَارَانُ مَكَّةُ. وَسَيَأْتِي فِي (الْقَصَصِ) بِإِسْمَاعِهِ سُبْحَانَهُ كَلَامَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} تَنْزِيهًا وَتَقْدِيسًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غير موضع، والمعنى: أي ويقول حَوْلَهَا {وَسُبْحانَ اللَّهِ} فَحُذِفَ. وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَهُ حِينَ فَرَغَ مِنْ سَمَاعِ النِّدَاءِ، اسْتِعَانَةً بِاللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهًا لَهُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلة اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَاهُ: وَبُورِكَ فِيمَنْ سَبَّحَ اللَّهَ تَعَالَى رَبَّ الْعَالَمِينَ، حَكَاهُ ابْنُ شَجَرَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا مُوسى}.."

طالب:......

إمَّا من قوله تعالى، أو من قول الله تعالى، إمَّا من قول الله أو من قوله تعالى بدون لفظ الجلالة.

قوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة النمل:9] الْهَاءُ عِمَادٌ وَلَيْسَتْ بِكِنَايَة ٍفِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ..."

وليست بضمير يعود إلى شيء، ليست بضمير وإنَّما هي عماد؛ لأنَّه لا يُمكن أن يُنصب الضمير المنفصل ب(إنَّ)؛ لأنَّ {أنَّا} من ضمائر الرفع، فكيف يدخل عليه الناصب إلا بالعماد، الذي يتوصل به إليه. الأصل " إنَّ أنا" لكن ما تجيء؛ لأنَّ (إنَّ) ناصبة، و{أنَّا} ضمير رفع فلابد أن يُتوصل إلى دخول الناصب إلى ضمير الرفع بالعماد الذي هو (الهاء) هذه، وليست هي الضمير.

"وَالصَّحِيحُ أنها كناية عن الأمر والشأن".

على هذا تكون ضمير الشأن، ضمير الشأن.

"{أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ} الْغَالِبُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء، {الْحَكِيمُ} فِي أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ. وَقِيلَ: قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ مَنِ الَّذِي نَادَني؟ فَقَالَ لَهُ: {إِنَّهُ} أَيْ إِنِّي أَنَا الْمُنَادِي لَكَ {أَنَا اللَّهُ}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَلْقِ عَصاكَ} [سورة النمل:10] قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ظَنَّ مُوسَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَرْفُضَهَا فَرَفَضَهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ مُوسَى أَنَّ الْمُكَلِّمَ لَهُ هُوَ الله، وأنَّ موسى رسوله، وكل نبي لابد لَهُ مِنْ آيَةٍ فِي نَفْسِهِ يَعْلَمُ بِهَا نُبُوَّتَهُ. وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ: أَيْ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، فَصَارَتْ حَيَّةً تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ، وَهِيَ الْحَيَّةُ الْخَفِيفَةُ الصَّغِيرَةُ الْجِسْمِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً. وَقِيلَ: إِنَّهَا قُلِبَتْ لَهُ أَوَّلًا حَيَّةً صَغِيرَةً فَلَمَّا أَنِسَ مِنْهَا قُلِبَتْ حَيَّةً كَبِيرَةً. وَقِيلَ: انْقَلَبَتْ مَرَّةً حَيَّةً صَغِيرَةً، وَمَرَّةً حَيَّةً تَسْعَى، وَهِيَ الْأُنْثَى، وَمَرَّةً ثُعْبَانًا، وَهُوَ الذَّكَرُ الْكَبِيرُ مِنَ الْحَيَّاتِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ لَهَا عِظَمُ الثُّعْبَانِ وَخِفَّةُ الْجَانِّ وَاهْتِزَازُهُ، وَهِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. وَجَمْعُ الْجَانِّ جِنَّانٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «نَهَى عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ». {وَلَّى مُدْبِراً} خَائِفًا عَلَى عَادَةِ الْبَشَرِ {وَلَمْ يُعَقِّبْ}.."

طالب:.......

الحديث عن حيّات البيوت وجنَّانها وهل تقتل أو لا تقتل بعد الإنذار أو غيره فيه كلام طويل للمؤلف في سورة (النساء).

طالب:.......

لا، جنَّان.

" {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ لَمْ يَرْجِعْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَلْتَفِتْ. {يَا مُوسى لَا تَخَفْ} أَيْ مِنَ الْحَيَّةِ وَضَرَرِهَا. {إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [سورة النمل:10]، وَتَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَقَالَ: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ}. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، وَإِنَّمَا يَخَافُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ ظَلَمَ {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} [سورة النمل:10] فَإِنَّهُ لا يخاف، قاله الفراء.

قال النحاس: استثناء من محذوف محال؛ لأنه استثناء من شيء لَمْ يُذْكَرْ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ إِنِّي لأضرب الْقَوْمَ إِلَّا زَيْدًا بِمَعْنَى إِنِّي لَا أَضْرِبُ الْقَوْمَ، وَإِنَّمَا أَضْرِبُ غَيْرَهُمْ إِلَّا زَيْدًا، وَهَذَا ضِدُّ الْبَيَانِ، وَالْمَجِيءُ بِمَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: أَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ يَجْعَلُ إِلَّا بِمَعْنَى (الْوَاوِ) أَيْ وَلَا مَنْ ظَلَمَ، قَالَ:

وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ

لَعَمْرِ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ

قَالَ النَّحَّاسُ: وَكَوْنُ (إِلَّا) بِمَعْنَى (الْوَاوِ) لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا يَجُوزُ فِي شيء مِنَ الْكَلَامِ، وَمَعْنَى (إِلَّا) خِلَافُ (الْوَاوِ)؛ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي إِخْوَتُكَ إِلَّا زَيْدًا أَخْرَجْتَ زَيْدًا مِمَّا دَخَلَ فِيهِ الْإِخْوَةُ فَلَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَقَارُبَ. وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَالْمَعْنَى إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ بِإِتْيَانِ الصَّغَائِرِ الَّتِي لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، سِوَى مَا رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [سورة الفتح:2] ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ مَنْ عَصَى مِنْهُمْ يُسِرُّ الْخِيفَةَ".

يُسِرُّ الْخِيفَةَ يعني يخاف.

"يُسِرُّ الْخِيفَةَ فَاسْتَثْنَاهُ فَقَالَ: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} [سورة النمل:11] فَإِنَّهُ يَخَافُ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ غَفَرْتُ لَهُ. قال الضَّحَّاكُ: يَعْنِي آدَمَ وَدَاوُدَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: كَالَّذِي فَرَطَ مِنْ آدَمَ وَيُونُسَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَإِخْوَةِ يُوسُفَ، وَمِنْ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِوَكْزِهِ الْقِبْطِيَّ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى الْخَوْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ؟ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ سَبِيلُ الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْ مَعَاصِيهِمْ وَجِلِينَ، وَهُمْ أَيْضًا لَا يَأْمَنُونَ أَنْ يَكُونَ قد بقي من أشراط التوبة شيء لَمْ يَأْتُوا بِهِ، فَهُمْ يَخَافُونَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: إِنِّي أَخَفْتُكَ لِقَتْلِكَ النَّفْسَ. قَالَ الْحَسَنُ: وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تُذْنِبُ فَتُعَاقَبُ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ: فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا صَحِيحٌ، أَيْ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ فِيمَا فَعَلَ مِنْ صَغِيرَةٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَكَانَ مُوسَى خَافَ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ وَتَابَ مِنْهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي (الْبَقَرَةِ).

قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِتَنَصُّلِهِمْ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقِيَامَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، وَإِذَا أَحْدَثَ الْمُقَرَّبُ حَدَثًا فَهُوَ وَإِنْ غُفِرَ لَهُ ذَلِكَ الْحَدَثُ فَأَثَرُ ذَلِكَ الْحَدَثِ بَاقٍ، وَمَا دَامَ الْأَثَرُ وَالتُّهْمَةُ قَائِمَةً فَالْخَوْفُ كَائِنٌ لَا خَوْفَ الْعُقُوبَةِ وَلَكِنْ خَوْفَ الْعَظَمَةِ، وَالْمُتَّهَمُ عِنْدَ السُّلْطَانِ يَجِدُ لِلتُّهْمَةِ حَزَازَةً تُؤَدِّبه"

تُؤَدِّيهِ.

"تُؤَدِّيهِ إِلَى أَنْ يُكَدِّرَ عَلَيْهِ صَفَاءَ الثِّقَةِ. وَمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدْ كَانَ مِنْهُ الْحَدَثُ فِي ذَلِكَ الْفِرْعَوْنِيِّ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَأَقَرَّ بِالظُّلْمِ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ غُفِرَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ: {رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [سورة القصص:17]، ثُمَّ ابْتُلِيَ مِنَ الْغَدِ بِالْفِرْعَوْنِيِّ الْآخَرِ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ، فَصَارَ حَدَثًا آخَرَ بِهَذِهِ الْإِرَادَةِ. وَإِنَّمَا ابْتُلِيَ مِنَ الْغَدِ؛ لِقَوْلِهِ: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}، وَتِلْكَ كَلِمَةُ اقْتِدَارٍ مِنْ قَوْلِهِ لَنْ أَفْعَلَ،.."

يعني ما علَّق هذا الأمر بمشيئة الله- جلَّ وعلا- وإنَّما وكله إلى نفسه فعوقب بالابتلاء الثاني. مسألة عصمة الأنبياء مسألة معروفة عند أهل العلم. أمَّا عصمتهم فيما يتعلق بالتبليغ فهذا محل إجماع بين أهل العلم، محل إجماع، وعصمتهم من الكبائر أيضًا بعد النبوة محل اتفاق، والخلاف في عصمتهم من الصغائر معروف عند أهل العلم، وأمَّا خلاف الأولى فيقع منهم ويُنبَّهون عليه، وأمَّا قبل النبوة فقد وقع منهم ما وقع ووفقوا للتوبة منه، وقع لموسى- عليه السلام-، ووقع من آدم، ومن يونس، وقع منهم ما وقع لكنهم يوفقوا للتوبة منه. ومن أهل العلم من يُبالغ في هذا الأمر ويقول: إنَّهم معصومون من كل شيء من ولادتهم إلى وفاتهم، لكن دلائل الكتاب والسُّنَّة تدل على خلاف هذا، وأنَّه وقع منهم؛ موسى وقع منه القتل، ويونس وقع منه ما وقع من تركه قومه، وآدم أكل من الشجرة. المقصود أنَّ هذا ما كان قبل النبوة فأمره سهل، أمَّا بعد البعثة فلا.

" فَعُوقِبَ بِالْإِرَادَةِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَسُلِّطَ عَلَيْهِ الْإِسْرَائِيلِيُّ حَتَّى أَفْشَى سِرَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ لَمَّا رَآهُ تَشَمَّرَ لِلْبَطْشِ ظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُهُ، فَأَفْشَى عَلَيْهِ فَ {قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} [سورة النمل:19] فَهَرَبَ الْفِرْعَوْنِيُّ وَأَخْبَرَ فِرْعَوْنَ بِمَا أَفْشَى الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى مُوسَى، وَكَانَ الْقَتِيلُ بِالْأَمْسِ مَكْتُومًا أَمْرُهُ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ فِرْعَوْنُ بِذَلِكَ، وَجَّهَ فِي طَلَبِ مُوسَى؛ لِيَقْتُلَهُ، وَاشْتَدَّ الطَّلَبُ وَأَخَذُوا مَجَامِعَ الطُّرُقِ، جَاءَ رَجُلٌ يَسْعَى فَـ {قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [سورة القصص:20].. الْآيَةَ. فَخَرَجَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ. فَخَوْفُ مُوسَى إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدَثِ، فَهُوَ وَإِنْ قَرَّبَهُ رَبُّهُ وَأَكْرَمَهُ وَاصْطَفَاهُ بِالْكَلَامِ فَالتُّهْمَةُ الْبَاقِيَةُ وَلَّتْ بِهِ وَلَمْ يُعَقِّبْ."

الذنب له أثره وإن وجد الصفح، فلا شك أنَّ الخجل من الذنب باقٍ، والخوف من تبعته باقٍ وإن تمت التوبة والصفح ومحو أثر الذنب.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [سورة النمل:12] تَقَدَّمَ فِي (طه) الْقَوْلُ فِيهِ. {فِي تِسْعِ آياتٍ} قَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَاخِلَةٌ فِي تِسْعِ آيَاتٍ. قال الْمَهْدَوِيُّ: الْمَعْنَى {أَلْقِ عَصاكَ}، {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فَهُمَا آيَتَانِ مِنْ تِسْعِ آيَاتٍ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ مَعْنَاهُ: كَمَا تَقُولُ: خَرَجْتُ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ وَأَنْتَ أَحَدُهُمْ. أَيْ خَرَجْتُ عَاشِرَ عَشَرَةٍ. فَـ {فِي} بِمَعْنَى (مِنْ)؛ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، كَمَا تَقُولُ: خُذْ لِي عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ فِيهَا فَحْلَانِ أَيْ مِنْهَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَهَلْ يَنْعَمَنَّ مَنْ كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ

ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ

 (فِي) بِمَعْنَى (مِنْ). وَقِيلَ: (فِي) بِمَعْنَى (مَعَ)، فَالْآيَاتُ عَشَرَةٌ مِنْهَا الْيَدُ، وَالتِّسْعُ: الْفَلْقُ وَالْعَصَا وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالطُّوفَانُ وَالدَّمُ وَالضَّفَادِعُ وَالسِّنِينَ وَالطَّمْسُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ جَمِيعِهِ. {إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [سورة النمل:12] قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، أَيْ إِنَّكَ مَبْعُوثٌ أَوْ مُرْسَلٌ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} [سورة النمل:12] أَيْ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً} [سورة النمل:13] أَيْ وَاضِحَةً بَيِّنَةً. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ مَبْصَرَةٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ كَمَا يُقَالُ: الْوَلَدُ مَجْبَنَةٌ. {قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سورة النمل:13] جَرَوْا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ فَلِهَذَا قَالَ: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} [سورة النمل:14] أَيْ تَيَقَّنُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ سِحْرًا، وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهَا وَتَكَبَّرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُوسَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُعَانِدِينَ. وَ{ظُلْماً} وَ {عُلُوًّا} مَنْصُوبَانِ عَلَى نَعْتِ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَجَحَدُوا بِهَا جُحُودًا ظُلْمًا وَعُلُوًّا. وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ وَجَحَدُوهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. {فَانْظُرْ} يَا مُحَمَّدُ {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [سورة النمل:14] أَيْ آخِرُ أَمْرِ الْكَافِرِينَ الطَّاغِينَ، انْظُرْ ذَلِكَ بِعَيْنِ قَلْبِكَ وَتَدَبَّرْ فِيهِ. الْخِطَابُ له والمراد غيره."

يعني الجحد هنا مع اعتراف القلب جحد لسان، أنكروا بألسنتهم مع اعترافهم بقلوبهم بهذه الآيات، وأنَّها من عند الله- جلَّ وعلا- الذي لا يقدر عليها إلا هو، كثير من الناس يصر ويُعاند وينكر ويتجبر ويتكبر، وفي قرارة نفسه اعتراف وإذعان، لكن مثل هذا لا ينفع، وإن كان من غلاة المتصوفة من يرى أنَّ مجرد هذه المعرفة بالقلب تكفي، وأنَّها هي الإيمان، وأنَّ فرعون مؤمن عندهم؛ لأنَّه يعرف بقلبه وإن جحد بلسانه واستكبر وادعى الربوبية- نسأل الله العافية-، فهذا قول في غاية الضلال؛ لأنَّ ما على وجه الأرض من مخلوق إلا هو معترف ومذعن حتى إبليس أقسم بعزة الله؛ إذًا هو مؤمن عندهم- نسأل الله العافية-.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً} [سورة النمل:15] أَيْ فَهْمًا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: عِلْمًا بِالدِّينِ وَالْحُكْمِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا قَالَ: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [سورة الأنبياء:80]. وَقِيلَ: صَنْعَةَ الْكِيمْيَاءِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَإِنَّمَا الَّذِي آتَاهُمَا اللَّهُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلَافَةَ فِي الْأَرْضِ وَالزَّبُورَ."

الكيمياء عند المتقدمين درب من السحر، الكيمياء عندهم درب من السحر؛ ولذلك يحرمون تعلمها وتعليمها، فهي تقلب المواد والخواص، خصائص الأشياء تقلبها، فتجعل الحجارة ذهبًا والعكس، هي درب من السحر غير الكيمياء الموجودة الآن المبنية على التجارب الثابتة وإن كان بعضها نظريات، لكن أكثرها تجارب علمية ثابتة، وأقرها الواقع. أمَّا ما يزعمونه من كيمياء عند المتقدمين فأهل العلم يحرمونها، يجزمون بتحريمها؛ لأنَّها درب من السحر.

" {وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النمل:15] وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَإِنَافَةِ مَحَلِّهِ وَتَقَدُّمِ حَمَلَتِهِ وَأَهْلِهِ".

إنافة يعني رفعة محله ومحل أهله.

"وَأَنَّ نِعْمَةَ الْعِلْمِ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَجْزَلِ الْقِسَمِ، وَأَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ فَقَدْ أُوتِيَ فَضْلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ} [سورة المجادلة:11]، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة النمل:16] قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ لِدَاوُدَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا فَوَرِثَ سُلَيْمَانُ مِنْ بَيْنِهِمْ نُبُوَّتَهُ وَمُلْكَهُ، وَلَوْ كَانَ وِرَاثَةَ مَالٍ لَكَانَ جَمِيعُ أَوْلَادِهِ فِيهِ سَوَاءً، وقاله ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: فَلَوْ كَانَتْ وِرَاثَةُ مَالٍ لَانْقَسَمَتْ عَلَى الْعَدَدِ، فَخَصَّ اللَّهُ سُلَيْمَانَ بِمَا كَانَ لِدَاوُدَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَاوُدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مَلِكًا وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ مُلْكَهُ وَمَنْزِلَتَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، بِمَعْنَى صَارَ إِلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أبيه فسمى ميراثا تجوزًا، وهذا نحو قوله: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ»، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ- عَلَيْهِ السَّلَامَ-: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَسِيرَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ وُرِثَ مَالُهُ كَزَكَرِيَّا عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: إِنَّا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا شَغَلَتْنَا الْعِبَادَةُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْأَكْثَرِ. وَمِنْهُ مَا حَكَى سِيبَوَيْهِ: إِنَّا مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ".

يعني وإن كان فيهم من يتصف بالبخل، لكن الغالب هكذا، والمرجح عند أهل العلم أنَّ الأنبياء لا يورثون، إنَّما يتركونه صدقة، ولا يورثون، تقدم في قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} [سورة مريم:6] المراد يرث العلم كما ورث العلماء الإرث من النبي- عليه الصلاة والسلام- بقدر ما حفظوه منه وعلموه من سُنَّته- عليه الصلاة والسلام-.

"قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي (مَرْيَمَ)، وَأَنَّ الصَّحِيحَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ لِقَوْلِه- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» فَهذا عَامٌّ، وَلَا يخرج منه شيء إِلَّا بِدَلِيلٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ سُلَيْمَانُ أَعْظَمَ مُلْكًا مِنْ دَاوُدَ وَأَقْضَى مِنْهُ، وَكَانَ دَاوُدُ أَشَدَّ تَعَبُّدًا مِنْ سُلَيْمَانَ. قَالَ غَيْرُهُ: وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا بَلَغَ مُلْكُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سَخَّرَ لَهُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالطَّيْرَ وَالْوَحْشَ، وَآتَاهُ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَوَرِثَ أَبَواهُ فِي الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، وَقَامَ بَعْدَهُ بِشَرِيعَتِهِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ بعد مُوسَى مِمَّنْ بُعِثَ أَوْ لَمْ يُبْعَثْ فَإِنَّمَا كَانَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى، إِلَى أَنْ بُعِثَ الْمَسِيحُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَنَسَخَهَا. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهِجْرَةِ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالْيَهُودُ تَقُولُ: أَلْف وَثَلَاثُمِائَة وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّ بَيْنَ مَوْتِهِ وَبَيْنَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ- نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ. وَالْيَهُودُ تُنْقِصُ مِنْهَا ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعَاشَ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [سورة النمل:16] أَيْ قَالَ سُلَيْمَانُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى جِهَةِ الشُّكْرِ لِنِعَمِ اللَّهِ: {عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [سورة النمل:16] أَيْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْنَا عَلَى مَا وَرِثْنَا مِنْ دَاوُدَ مِنَ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ فِي أَنْ فَهَّمَنَا مِنْ أَصْوَاتِ الطَّيْرِ الْمَعَانِيَ الَّتِي فِي نُفُوسِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ فِي الْآيَةِ: كَانَ سُلَيْمَانُ جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ مَرَّ بِهِ طَائِرٌ يَطُوفُ، فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ هَذَا الطَّائِرُ؟ إِنَّهَا قَالَتْ لِي: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ وَالنَّبِيُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ! أَعْطَاكَ اللَّهُ الْكَرَامَةَ، وَأَظْهَرَكَ عَلَى عَدُوِّكَ، إِنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى أَفْرَاخِي ثُمَّ أَمُرُّ بِكَ الثَّانِيَةَ، وَإِنَّهُ سَيَرْجِعُ إِلَيْنَا الثَّانِيَةَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لِي كَيْمَا أَكْتَسِبَ عَلَى أَفْرَاخِي حَتَّى يَشِبُّوا ثُمَّ آتِيَكَ فَافْعَلْ بِي مَا شِئْتَ. فَأَخْبَرَهُمْ سُلَيْمَانُ بِمَا قَالَ، وَأَذِنَ لَهُ فَانْطَلَقَ. وَقَالَ فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ: مَرَّ سُلَيْمَانُ عَلَى بُلْبُلٍ فَوْقَ شَجَرَةٍ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ، وَيُمِيلُ ذَنَبَهُ،.."

الخبر السابق من أخبار بني إسرائيل، من أخبار بني إسرائيل التي لم يدل عليها شيء مما عندنا يعني لا تصدق ولا تكذب.

"فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ هَذَا الْبُلْبُلُ؟ قَالُوا: لَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: أَكَلْتُ نِصْفَ ثَمَرَةٍ فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ. وَمَرَّ بِهُدْهُدٍ فَوْقَ شَجَرَةٍ وَقَدْ نَصَبَ لَهُ صَبِيٌّ فَخًّا فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: احْذَرْ يَا هُدْهُدَ! فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! هَذَا صَبِيٌّ لَا عَقْلَ لَهُ، فَأَنَا أَسْخَرُ بِهِ. ثُمَّ رَجَعَ سُلَيْمَانُ فَوَجَدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي حِبَالَةِ الصَّبِيِّ وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: هُدْهُدُ مَا هَذَا؟ قَالَ: مَا رَأَيْتُهَا حَتَّى وَقَعْتُ فِيهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: وَيْحَكَ! فَأَنْتَ تَرَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ، أَمَا تَرَى الْفَخَّ! قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ عَمِيَ الْبَصَرُ. وَقَالَ كَعْبٌ. صَاحَ وَرَشَانُ عِنْدَ سليمان بن دَاوُدَ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ. وَصَاحَتْ فَاخِتَةٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا تَقُولُ؟ قَالُوا: لَا."

لدوا أمر من الولادة، لدوا أمر من الولادة، يعني أكثروا من الأولاد، وما استكثرتم فهو للموت، وابنوا وأكثروا من البنيان وارفعوا وأنتم تعدونه للخراب.

طالب:........

نعم.

" فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا تَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ: لَيْتَ هَذَا الْخَلْقَ لم يخلقوا، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خُلِقُوا. وَصَاحَ عِنْدَهُ طَاوُسٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ. وَصَاحَ عِنْدَهُ هُدْهُدٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ. وَصَاحَ صُرَدٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ يَا مُذْنِبِينَ، فَمِنْ ثَمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الصُّرَدَ هُوَ الَّذِي دَلَّ آدَمَ عَلَى مَكَانِ الْبَيْتِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَامَ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلصُّرَدِ: الصَّوَّامُ، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَصَاحَتْ عِنْدَهُ طِيطَوَى فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا تَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ: كُلُّ حَيٍّ مَيِّتٌ وَكُلُّ جَدِيدٍ بَالٍ. وَصَاحَتْ خُطَّافَةٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا تَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ: قَدِّمُوا خَيْرًا تَجِدُوهُ، فَمِنْ ثَمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ آدَمَ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ فَاشْتَكَى إِلَى اللَّهِ الْوَحْشَةَ، فَآنَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْخُطَّافِ وَأَلْزَمَهَا الْبُيُوتَ، فَهِيَ لَا تُفَارِقُ بَنِي آدَمَ أُنْسًا لَهُمْ. قَالَ: وَمَعَهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ} [سورة الحشر:21].. إِلَى آخِرِهَا وَتَمُدُّ صَوْتَهَا بِقَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة الحشر:24]. وَهَدَرَتْ حَمَامَةٌ عِنْدَ سُلَيْمَانَ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا تَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى عَدَدَ مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ. وَصَاحَ قُمْرِيُّ عِنْدَ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ الْمُهَيْمِنِ. وَقَالَ كَعْبٌ: وَحَدَّثَهُمْ سُلَيْمَانُ، فَقَالَ الْغُرَابُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنِ الْعَشَّارَ، وَالْحِدَأَةُ تَقُولُ: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [سورة القصص:88]. وَالْقَطَاةُ تَقُولُ: مَنْ سَكَتَ سَلِمَ. وَالْبَبَّغَاءُ تَقُولُ: وَيْلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ. وَالضُّفْدَعُ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْقُدُّوسِ. وَالْبَازِيُ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ. وَالسَّرَطَانُ يَقُولُ: سُبْحَانَ الْمَذْكُورِ بِكُلِّ لِسَانٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

وَقَالَ مَكْحُولٌ: صَاحَ دُرَّاجٌ عِنْدَ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} [سورة طه:5]. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الدِّيكُ إِذَا صَاحَ قَالَ اذْكُرُوا اللَّهَ يَا غَافِلِينَ». وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «النَّسْرُ إِذَا صَاحَ قَالَ يَا بْنَ آدَمَ عِشْ مَا شِئْتَ فَآخِرُكَ الْمَوْتُ، وَإِذَا صَاحَ الْعُقَابُ قَالَ فِي الْبُعْدِ مِنَ النَّاسِ الرَّاحَةُ وَإِذَا صَاحَ الْقُنْبَرُ قَالَ: إِلَهِي الْعَنْ مُبْغِضِي آلَ مُحَمَّدٍ وَإِذَا صَاحَ الْخُطَّافُ قَرَأَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} إِلَى آخِرِهَا فَيَقُولُ: {وَلَا الضَّالِّينَ} وَيَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ كَمَا يَمُدُّ الْقَارِئُ». قَالَ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّمَا هَذَا الْأَمْرُ فِي الطَّيْرِ خَاصَّةً؛ لِقَوْلِهِ: {عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}".

كل ما ذُكر داخل في هذه الآية {عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}، لكن أفراده وأنَّ هذا يقول كذا، أو يقول كذا يحتاج إلى نقل صحيح، أمَّا كونه يفهم ما ينطق به الطير فهذا منطوق القرآن.

" وَالنَّمْلَةُ طَائِرٌ إِذْ قَدْ يُوجَدُ لَهُ أَجْنِحَةٌ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَكَذَلِكَ.."

ولذلك فهم كلامها، النملة طائر، قد يقول قائل: الله- جلَّ وعلا- يقول: {عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} فهم كلام النملة، هذه من الطير؟ نعم هي من الطير.

" قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَكَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ النَّمْلَةُ ذَاتَ جَنَاحَيْنِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كَانَ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّيْرَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جُنْدًا مِنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ يَحْتَاجُهُ فِي التَّظْلِيلِ عَنِ الشَّمْسِ وَفِي الْبَعْثِ فِي الْأُمُورِ فَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ مُدَاخَلَتِهِ؛ وَلِأَنَّ أَمْرَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ نَادِرٌ وَغَيْرُ مُتَرَدِّدٍ تَرْدَادَ أَمْرِ الطَّيْرِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَالْمَنْطِقُ قَدْ يَقَعُ لما يفهم بغير كلام، والله- عز وجل- أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ."

نعم، قد يُفهم وإن لم يكن بلسان المقال، وإنَّما يُفهم بلسان الحال، يعني وضع الطير مثلًا بلسان حاله إنَّه يقول كذا، وليس بلسان مقاله فينطق كما ينطق الإنسان، لكن سليمان- عليه السلام- يفهم الطائر له صوت، وصوته له دلالة فهمناها أو لم نفهمها، وكان سليمان ممن فُهم هذا. 

" قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ إِلَّا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فَنُقْصَانٌ عَظِيمٌ، وَقَدِ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْهَمُ كَلَامَ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ، وَيُخْلَقُ لَهُ فِيهِ الْقَوْلُ مِنَ النَّبَاتِ، فَكَانَ كُلَّ نَبْتٍ يَقُولُ لَهُ: أَنَا شَجَرُ كَذَا، أَنْفَعُ مِنْ كَذَا وَأَضُرُّ مِنْ كَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بالحيوان؟

قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [سورة النمل:17] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ}، {حُشِرَ} جُمِعَ، وَالْحَشْرُ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً:47} [سورة الكهف:]، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مِقْدَارِ جُنْدِ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَيُقَالُ: كَانَ مُعَسْكَرُهُ مِائَةَ فَرْسَخٍ فِي مِائَةٍ: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْجِنِّ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْإِنْسِ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلطَّيْرِ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْوَحْشِ. وَكَانَ لَهُ أَلْفُ بَيْتٍ مِنْ قَوَارِيرَ عَلَى الْخَشَبِ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ مَنْكُوحَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ. ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتُلِفَ فِي مُعَسْكَرِهِ وَمِقْدَارِ جُنْدِهِ اخْتِلَافًا شَدِيدًا غَيْرَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ مُلْكَهُ كَانَ عَظِيمًا مَلَأَ الْأَرْضَ، وَانْقَادَتْ لَهُ الْمَعْمُورَةُ كُلُّهَا.

{فَهُمْ يُوزَعُونَ} [سورة النمل:17] مَعْنَاهُ يُرَدُّ أَوَّلُهُمْ إِلَى آخِرِهِمْ وَيُكَفُّونَ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ لِكُلِّ صِنْفٍ وَزَعَةٌ فِي رُتْبَتِهِمْ وَمَوَاضِعِهِمْ مِنَ الْكُرْسِيِّ وَمِنَ الْأَرْضِ إِذَا مَشَوْا فِيهَا. يُقَالُ: وَزِعْتُهُ أَوْزَعُهُ وَزَعًا أَيْ كَفَفْتُهُ. وَالْوَازِعُ فِي الْحَرْبِ الْمُوَكَّلُ بِالصُّفُوفِ يَزَعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ. رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذِي طَوَى- تَعْنِي يَوْمَ الْفَتْحِ- قَالَ أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ يَوْمَئِذٍ لِابْنَتِهِ: اظْهَرِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ. قَالَتْ: فَأَشْرَفْتُ بِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا. قَالَ: تِلْكَ الْخَيْلُ. قَالَتْ: وَأَرَى رَجُلًا مِنَ السَّوَادِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا. قَالَ: ذَلِكَ الْوَازِعُ يَمْنَعُهَا أَنْ تَنْتَشِرَ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرَ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ» قِيلَ: وَمَا رَأَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ»، خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّابِغَةِ:

عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا

وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ

وازع يكفه عن غيه أيام شبابه، لا شك أنَّ الشيب يردع.

 

" وقال آخَرُ:

وَلَمَّا تَلَاقَيْنَا جَرَتْ مِنْ جُفُونِنَا

دُمُوعٌ وَزَعْنَا غَرْبَهَا بِالْأَصَابِعِ

وقال آخَرُ:

وَلَا يَزَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنِ الْهَوَى

مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَافِرُ الْعَقْلِ كَامِلُهُ

وَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّوْزِيعِ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ. وَالْقَوْمُ أَوْزَاعٌ أَيْ طَوَائِفٌ. وَفِي الْقِصَّةِ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ نَسَجَتْ له بساطًا فرسخًا فِي فَرْسَخٍ ذَهَبًا فِي إِبْرَيْسِمَ، وَكَانَ يُوضَعُ لَهُ كُرْسِيٌّ مِنْ ذَهَبٍ وَحَوْلَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَيَقْعُدُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى كَرَاسِيِّ الذَّهَبِ، وَالْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاسِيِّ الْفِضَّةِ."

نعم؛ لأنَّه قد يوجد الأنبياء العدد منهم في وقت واحد، وجاء في بعض الأخبار أنَّ اليهود كانوا يقتلون الأنبياء العدد الكبير، قتلوا في يوم واحد أكثر من سبعين نبيًّا- نسأل الله السلامة والعافية-، فيجلس حوله الأنبياء على كراسي من ذهب، كل هذا من أخبار بني إسرائيل التي لا تُصدَّق ولا تُكذَّب، لكن ملكه عظيم، {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [سورة ص:35].

" الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْإِمَامِ وَالْحُكَّامِ وَزَعَةً يَكُفُّونَ النَّاسَ وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَطَاوُلِ بَعْضِهِمْ على بعض، إذ لا يمكن الحكام ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ."

نعم، لا بد لهم من أعوان، وهذه وظيفة الحكام، وظيفة الإمام في الشريعة أنَّه يزع الناس، ويمنع تعدي بعضهم على بعض بشرع الله- جلَّ وعلا-.

" وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ لَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُ النَّاسُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا يُصْلِحُ هَؤُلَاءِ النَّاسَ إِلَّا وَزَعَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: لابد لِلنَّاسِ مِنْ وَازِعٍ، أَيْ مِنْ سُلْطَانٍ يَكُفُّهُمْ."

وجاء عن عمر وعثمان: إنَّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، يعني يكف الناس بالسلطان.

"وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: لابد لِلنَّاسِ مِنْ وَازِعٍ، أَيْ مِنْ سُلْطَانٍ يَكُفُّهُمْ، وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانٍ كَانَ يَقُولُ: مَا يَزَعُ الْإِمَامُ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ الْقُرْآنُ، أَيْ مِنَ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: مَا يَزَعُ؟ قَالَ: يَكُفُّ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بن الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ جَهِلَ قَوْمٌ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قُدْرَةَ السُّلْطَانِ تردع النَّاسَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْدَعُهُمْ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَهَذَا جَهْلٌ بِاللَّهِ وَحِكْمَتِهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ مَا وَضَعَ الْحُدُودَ إِلَّا مَصْلَحَةً عَامَّةً كَافَّةً قَائِمَةً لِقِوَامِ الْخَلْقِ، لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا، وَلَا نُقْصَانَ مَعَهَا، وَلَا يَصْلُحُ سِوَاهَا، وَلَكِنَّ الظَّلَمَةَ خَاسُوا بِهَا، وَقَصَّرُوا عَنْهَا، وَأَتَوْا مَا أَتَوْا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَمْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَا، فَلَمْ يَرْتَدِعِ الْخَلْقُ بِهَا، وَلَوْ حَكَمُوا بِالْعَدْلِ، وَأَخْلَصُوا النِّيَّةَ، لَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ، وَصَلُحَ الْجُمْهُورُ.

معلوم أنَّ القرآن لا يقوم بنفسه، لابد له ممن يقوم به وينفذ حدوده وأحكامه، ولو كان القرآن وحده كافيًا لما كان لاختيار الخليفة وتنصيب الخليفة في الشرع معنًى عظيم، لكن الذي يُنفذ الأحكام هو السلطان، والقرآن يهدي ويدل على الحق والذي يُنفذ هو الخليفة.

"قوله تعالى: {حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} [سورة النمل:18-19].

فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ} [سورة النمل:18] قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ وَادٍ بِأَرْضِ الشَّامِ. وَقَالَ كَعْبٌ: هُوَ بِالطَّائِفِ. {قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ} [سورة النمل:18] قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ لِلنَّمْلَةِ جَنَاحَانِ فَصَارَتْ مِنَ الطَّيْرِ؛ فَلِذَلِكَ عَلِمَ مَنْطِقَهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَلِمَهُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا وَيَأْتِي. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِمَكَّةَ:" نَمُلَةٌ" وَ" النَّمُلُ" بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْمِيمِ. وَعَنْهُ أَيْضًا ضَمُّهُمَا جَمِيعًا."

من سَمُر وسَمْر.

" وَسُمِّيَتِ النَّمْلَةُ نَمْلَةً لِتَنَمُّلِهَا، وَهُوَ كَثْرَةُ حَرَكَتِهَا وَقِلَّةُ قَرَارِهَا. قَالَ كَعْبٌ: مَرَّ سُلَيْمَانُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِوَادِي السَّدِيرِ مِنْ أَوْدِيَةِ الطَّائِفِ، فَأَتَى عَلَى وَادِي النَّمْلِ، فَقَامَتْ نَمْلَةٌ تَمْشِي وَهِيَ عَرْجَاءُ تَتَكَاوَسُ مِثْلَ الذِّئْبِ فِي الْعِظَمِ، فَنَادَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ}.. الْآيَةَ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: سَمِعَ سُلَيْمَانُ كَلَامَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَكَانَتْ تَمْشِي وَهِيَ عَرْجَاءُ تَتَكَاوَسُ، وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهَا طَاخِيةُ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: ذَكَرُوا اسْمَ النَّمْلَةِ الْمُكَلِّمَةِ لِسُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَالُوا اسْمَهَا حَرْمِيَا، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ يُتَصَوَّرُ لِلنَّمْلَةِ اسْمٌ عَلَمٌ وَالنَّمْلُ لَا يُسَمِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا الْآدَمِيُّونَ يُمْكِنُهُمْ تَسْمِيَةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ بِاسْمِ عَلَمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لِلْآدَمِيِّينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ..."

نعم، ما الذي يفيدهم من تسمية النملة؟ يعني هل لتعرف بهذا الاسم؟ تروح ويجيء غيرها ما تدري هي، فالتسمية هنا وتعيين المبهم هنا لا قيمة له، والسهيلي له كتاب في مبهمات القرآن، فليس من المصلحة تسمية هذه النملة، أو تسمية الكلب، أو تسمية حمار عزير أو ما أشبه ذلك، لا قيمة له.

"لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لِلْآدَمِيِّينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَا هُمْ أَيْضًا وَاقِعُونَ تَحْتَ مِلْكَةِ بَنِي آدَمَ كَالْخَيْلِ وَالْكِلَابِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ الْعَلَمِيَّةَ فِيمَا كَانَ كَذَلِكَ مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ الْعَلَمِيَّةَ مَوْجُودَةٌ في الأجناس كثعالة وأسامة وَجَعَارٍ وَقَثَامٍ فِي الضَّبْعِ وَنَحْوَ هَذَا كَثِيرٌ،.."

ثعالة اسم للثعلب، وأسامة من أسماء الأسد.

" فَلَيْسَ اسْمُ النَّمْلَةِ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِنَمْلَةٍ وَاحِدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ بَيْنٍ سَائِرِ النَّمْلِ".

لكن لو سُمِّي النمل كله باسم واحد ما ضر.

" وَثُعَالَةُ وَنَحْوُهُ لَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ رَأَيْتَهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَهُوَ ثُعَالَةُ، وَكَذَلِكَ أُسَامَةُ وَابْنُ آوَى وَابْنُ عِرْسٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِنْ صَحَّ مَا قَالُوهُ فَلَهُ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ النَّمْلَةُ النَّاطِقَةُ قَدْ سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ فِي الزَّبُورِ أَوْ فِي بَعْضِ الصُّحُفِ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الِاسْمِ، وَعَرَّفَهَا بِهِ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَ سُلَيْمَانَ أَوْ بَعْضَهُمْ. وَخُصَّتْ بِالتَّسْمِيَةِ لِنُطْقِهَا وَإِيمَانِهَا فَهَذَا وَجْهٌ."

لأنَّها تصير متميزة؛ لأنَّه صار معها حدث وواقعة تتميز بها عن غيرها فيمكن حينئذٍ تسميتها وإلا فالأصل أنَّها واحدة من النمل لا يُمكن تمييزها لا بالاسم، ولا بالوصف، ولا بالكنية، ولا بشيء مما يتميز به، مما يمكن تمييزه كالإنسان والحيوان وأشباه ذلك.

" وَمَعْنَى قَوْلِنَا: بِإِيمَانِهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّمْلِ: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل:18] فَقَوْلُهَا: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} الْتِفَاتَةُ مُؤْمِنٍ. أَيْ مِنْ عَدْلِ سُلَيْمَانَ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ جُنُودِهِ لَا يَحْطِمُونَ نَمْلَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِأَلَّا يَشْعُرُوا."

يعني لا يحطمونها عنوة ويقصدونها بالأذى، فهذا ليس من شأن سليمان وشأن من آمن بالله- عزَّ وجلَّ-.

" وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تَبَسُّمَ سُلَيْمَانَ سُرُورٌ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ التَّبَسُّمَ بِقَوْلِهِ: {ضاحِكاً} إِذْ قَدْ يَكُونُ التَّبَسُّمُ مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ وَلَا رِضًا، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْغَضْبَانِ، وَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَتَبَسُّمُ الضَّحِكِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ سُرُورٍ، وَلَا يُسَرُّ نَبِيٌّ بِأَمْرِ دُنْيَا، وَإِنَّمَا سُرَّ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالدِّينِ. وَقَوْلُهَا: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} إِشَارَةٌ إِلَى الدِّينِ وَالْعَدْلِ وَالرَّأْفَةِ. وَنَظِيرُ قَوْلِ النَّمْلَةِ فِي جُنْدِ سُلَيْمَانَ {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي جُنْدِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الفتح:25] الْتِفَاتًا إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ هَدْرَ مُؤْمِنٍ، إِلَّا أَنَّ الْمُثْنِيَ عَلَى جُنْدِ سُلَيْمَانَ هِيَ النَّمْلَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُثْنِيَ عَلَى جُنْدِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- بِنَفْسِهِ؛ لِمَا لِجُنُودِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْفَضْلِ عَلَى جُنْدِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا لِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضْلٌ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ-.

 وَقَرَأَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: "مَسْكَنَكُمْ" بِسُكُونِ السِّينِ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: " مَسَاكِنَكُنَّ لَا يَحْطِمَنْكُمْ". وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: " مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنْكُنَّ" ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ،.."

النون الخفيفة، نون التوكيد الخفيفة، "لَا يَحْطِمَنْكُنَّ".

{مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنْكُنَّ} ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ، أَيْ لَا يَكْسِرُنَّكُمْ بِوَطْئِهِمْ عَلَيْكُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بكم قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَأَفْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّمْلَةَ هَذَا؛ لِتَكُونَ مُعْجِزَةً لِسُلَيْمَانَ. وَقَالَ وَهْبٌ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّيحَ أَلَّا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ إِلَّا طَرَحَتْهُ فِي سَمْعِ سُلَيْمَانَ، بِسَبَبِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَرَادَتْ كَيْدَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْوَادِيَ كَانَ بِبِلَادِ الْيَمَنِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ نَمْلَةً صَغِيرَةً مِثْلَ النَّمْلِ الْمُعْتَادِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ نَوْفٌ الشَّامِيُّ وَشَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ: كَانَ نَمْلُ ذَلِكَ الْوَادِي كَهَيْئَةِ الذباب فِي الْعِظَمِ."

الذِّئَابِ في العِظَم.

" كَانَ نَمْلُ ذَلِكَ الْوَادِي كَهَيْئَةِ الذِّئَابِ فِي الْعِظَمِ. وَقَالَ بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ: كَهَيْئَةِ النِّعَاجِ."

مثل هذا لا يستقيم، مع قوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل:18]؛ لأنَّ حطم مثل هؤلاء يُشعر به ويُعرف إذا كان بهذا الحجم، أمَّا إذا كانت من النمل المعتاد الصغار، فإنَّه يُمكن أن تُحطم وتوطأ بالأقدام ولا يُشعر به. أمَّا لو كانت أمثال الذئاب وأمثال النعاج فهذه لابد أن يُشعر بها من يطأها.

طالب:........

نعم.

" قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: فَإِنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ.."

الحكيم، الحكيم صاحب النوادر والأصول، هو عنده شيء من التخريف.

"فَإِنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الْخِلْقَةِ فَلَهَا صَوْتٌ، وَإِنَّمَا افْتُقِدَ صَوْتُ النَّمْلِ؛ لِصِغَرِ خَلْقِهَا، وَإِلَّا فَالْأَصْوَاتُ فِي الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ كَائِنَةٌ، وَذَلِكَ مَنْطِقُهُمْ، وَفِي تِلْكَ الْمَنَاطِقِ مَعَانِي التَّسْبِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء:44].

قُلْتُ: وَقَوْلُهُ: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْكَلْبِيِّ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَهَيْئَةِ الذِّئَابِ والنعاج لما حطمت بالوطيء، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ: {ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ} [سورة النمل:18] فَجَاءَ عَلَى خِطَابِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّ النَّمْلَ هَاهُنَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْآدَمِيِّينَ حِينَ نَطَقَ كَمَا يَنْطِقُ الْآدَمِيُّونَ.

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ: وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ لَهَا: لِمَ حَذَّرْتِ النَّمْلَ؟ أَخِفْتِ ظُلْمِي؟ أَمَا عَلِمْتِ أَنِّي نَبِيٌّ عَدْلٌ؟ فَلِمَ قُلْتِ: {يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ} [سورة النمل:18]؟ فَقَالَتِ النَّمْلَةُ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلِي: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} مَعَ أَنِّي لَمْ أُرِدْ حَطْمَ النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ حَطْمَ الْقُلُوبِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَمَنَّيْنَ مِثْلَ مَا أُعْطِيْتَ، أَوْ يُفْتَتَنَّ بِالدُّنْيَا، وَيُشْتغَلْنَ بِالنَّظَرِ إِلَى مُلْكِكَ عَنِ التَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ. فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ: عِظِينِي. فَقَالَتِ النَّمْلَةَ: أَمَا عَلِمْتَ لِمَ سُمِّيَ أَبُوكَ دَاوُدُ؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: لِأَنَّهُ دَاوَى جِرَاحَةَ فُؤَادِهِ، هَلْ عَلِمْتَ لِمَ سُمِّيتَ سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: لِأَنَّكَ سَلِيمُ النَّاحِيَةِ عَلَى مَا أُوتِيتَهُ بِسَلَامَةِ صَدْرِكَ، وَإِنَّ لَكَ أَنْ تَلْحَقَ بِأَبِيكَ. ثُمَّ قَالَتْ: أَتَدْرِي لِمَ سَخَّرَ اللَّهُ لَكَ الرِّيحَ؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: أَخْبَرَكَ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا رِيحٌ. {فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها} [سورة النمل:18] مُتَعَجِّبًا ثُمَّ مَضَتْ مُسْرِعَةً إِلَى قَوْمِهَا، فقالت: هل عندكم من شيء نهديه إلى نَبِيِّ اللَّهِ؟ قَالُوا: وَمَا قَدْرُ مَا نُهْدِي لَهُ! وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا إِلَّا نَبْقَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَتْ: حَسَنَةٌ، ايتُونِي بِهَا. فَأَتَوْهَا بِهَا فَحَمَلَتْهَا بِفِيهَا فَانْطَلَقَتْ تَجُرُّهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الرِّيحَ فَحَمَلَتْهَا، وَأَقْبَلَتْ تَشُقُّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالْعُلَمَاءَ وَالْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْبِسَاطِ، حَتَّى وَقَعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَتْ تِلْكَ النَّبْقَةَ مِنْ فِيهَا فِي كَفِّهِ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:"

النبقة واحدة النبق وهو السدر، النبق السدر.

طالب:.......

سبحان الله، عجائب لا تنتهي، لكن هذه تحتاج إلى سند صحيح.

طالب:.......

نعم.

طالب:.......

قصدك أنَّها تأتي بمثل هذا؟

طالب:........

لكن النعجة ما تحطم من غير أن يشعر بها من يحطمها، يمكن يطأ نعجة ما يشعر بها؟

طالب:.......

حجم سليمان معروف مثل غيره.

طالب:......

وجنوده من أمثاله، من حجمه علمًا بأنَّ هذا ما يدل عليه دليل لا من الكتاب ولا من السُّنَّة، يعني متلقاة من بني إسرائيل يريدون تعظيمها؛ لعظم فعلها، يعظمون حجمها مع أنَّهم ما علموا أنَّ العِظم إنَّما يكون في الصغر، العِظم والاعتبار والادكار ومثل هذا إنَّما يكون مع صغر حجمها؛ ولذلك جاءت القصة مع نملة، ابن القيم- رحمه الله تعالى- ذكر في مفتاح دار السعادة من عجائب النمل ما ذكر، يعني لو ذُكرت هذه العجائب عن نعجة ما استُغرب؛ لأنَّها كبيرة تحتمل هذه الأمور، فالعِظم إنَّما يكون مع صغر الحجم، يعني عِظم التصرف مع صغر الحجم هذا محل الإعجاب.

طالب:........

على كل حال إذا آذت تُقتل، المؤذي يُقتل، كل ما يؤذي يُتعرض، الذي ما يؤذي لا يُتعرض له، الذي لا يؤذي لا يُتعرض له، لكن الذي يؤذي وجاء في الخبر أنَّ نملة لدغت قيل لداود أو سليمان، فأمر بإحراق قرية النمل فقيل له: هلا نملة واحدة، يعني الذي آذتك فقط، سيجيء هذا، نعم، قراهم.

طالب:........

نعم. 

" ثُمَّ وَضَعَتْ تِلْكَ النَّبْقَةَ مِنْ فِيهَا فِي كَفِّهِ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:

أَلَمْ تَرَنَا نُهْدِي إِلَى اللَّهِ مَالَهُ

وَإِنْ كَانَ عَنْهُ ذَا غِنًى فَهُوَ قَابِلُهْ

وَلَوْ كَانَ يُهْدَى لِلْجَلِيلِ بِقَدْرِهِ

لَقَصَّرَ عَنْهُ الْبَحْرُ يَوْمًا وَسَاحِلُهْ

وَلَكِنَّنَا نُهْدِي إِلَى مَنْ نُحِبُّهُ

فَيَرْضَى بِهِ عَنَّا وَيُشْكَرُ فَاعِلُهْ

وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ كَرِيمِ فِعَالِهِ

وَإِلَّا فَمَا فِي مُلْكِنَا مَا يُشَاكِلُهْ

نعم، ملك النمل كله ما يُعادل شيئًا بالنسبة لملك سليمان، ولو كانت الهدية على قدر المُهدى إليه، ما أهدى الملوك كما يُهدى فضلًا عن الأنبياء- والله المستعان-، وجاء في الحديث الصحيح: «لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» ما تحقر الهدية ولو كانت وضيعة.  

"فَقَالَ لَهَا: بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، فَهُمْ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ أَشْكَرُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَكْثَرُ خَلْقِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَهَى النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: الْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ وَالنَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ. خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ".

استدل أهل العلم على أنَّ الهدهد لا يؤكل بالنهي عن قتله، بالنهي عن قتله.

" وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْأَعْرَافِ). فَالنَّمْلَةُ أَثْنَتْ عَلَى سُلَيْمَانَ وَأَخْبَرَتْ بِأَحْسَنِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ إِنْ حَطَمُوكُمْ، وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ مِنْهُمْ، فَنَفَتْ عَنْهُمُ الْجَوْرَ؛ وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهَا، وَعَنْ قَتْلِ الْهُدْهُدِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ دَلِيلَ سُلَيْمَانَ عَلَى الْمَاءِ وَرَسُولَهُ إِلَى بِلْقِيسَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا صَرَفَ اللَّهُ شَرَّ سُلَيْمَانَ عَنِ الْهُدْهُدِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ. وَالصُّرَدُ يُقَالُ لَهُ الصَّوَّامُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَامَ الصُّرَدُ. وَلَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الشَّامِ إِلَى الْحَرَمِ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ كَانَتِ السَّكِينَةُ مَعَهُ وَالصُّرَدُ، فَكَانَ الصُّرَدُ دَلِيلَهُ عَلَى الْمَوْضِعِ وَالسَّكِينَةُ مِقْدَارَهُ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْبُقْعَةِ وَقَعَتِ السَّكِينَةُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَنَادَتْ وَقَالَتْ: ابْنِ يَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى مِقْدَارِ ظِلِّي. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْأَعْرَافِ) سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ، وَفِي (النَّحْلِ) النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النَّحْلِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: {لَا يَحَطِّمَنَّكُمْ}، وَعَنْهُ أَيْضًا: {لَا يِحَطِّمَنَّكُمْ}، وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ: {لَا يُحَطِّمَنَّكُمْ} وَالْحَطْمُ الْكَسْرُ. وحَطَمْتُهُ حَطْمًا أَيْ كَسَرْتُهُ وَتَحَطَّمَ، وَالتَّحْطِيمُ التَّكْسِيرُ، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ سُلَيْمَانَ، وَجُنُودِهِ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ {يَحْطِمَنَّكُمْ}. أَوْ حَالًا مِنَ النَّمْلَةِ وَالْعَامِلُ {قالَتْ}. أَيْ قَالَتْ ذَلِكَ فِي حَالِ غَفْلَةِ الْجُنُودِ، كَقَوْلِكَ: قُمْتُ وَالنَّاسُ غَافِلُونَ. أَوْ حَالًا مِنَ النَّمْلِ أَيْضًا وَالْعَامِلُ {قالَتْ} [سورة النمل:18] عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَالنَّمْلُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ سُلَيْمَانَ يَفْهَمُ مَقَالَتَهَا. وَفِيهِ بُعْدٌ وَسَيَأْتِي".

وهذا يأباه السياق، وإنَّما الذي نُفي عنهم الشعور والعلم بهذه النمل من يُحطم، فيكون حطمهم هذا اعتذارًا منها لسليمان وقومه، وهذا أحسن حالًا ممن يأوِّل ويكشف عن النوايا ويقول: إنَّ هذا قاصد حينما أراد كذا والله أعلم بما في قلبه ونيته، قد يفعل المرء الفعل، أو يقول القول من غير قصد ثم يُقال: لا، هذا يريد كذا، هذا مقصده ماذا، حال هذه النملة أفضل بكثير من حال هؤلاء.

طالب:........

العلة النقيق هو تسبيح، فعند الجمهور الكراهة.

طالب:.......

كيف؟

طالب:.....

كيف الدواء؟

طالب:.........

هو لو كانت الدواء لقلنا: يُقتل من أجل أن يُتداوى به.

طالب:.........

لا؛ لأنَّ نقيقه تسبيح.

" الثَّالِثَةُ: رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أن نَمْلَةً قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ»، وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ: «فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً». قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُقَالُ إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ هُوَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَبَّ تُعَذِّبُ أَهْلَ قَرْيَةٍ بِمَعَاصِيهِمْ وَفِيهِمُ الطَّائِعُ. فَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُرِيَهُ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْحَرَّ حَتَّى الْتَجَأَ إِلَى شَجَرَةٍ مُسْتَرْوِحًا إِلَى ظِلِّهَا، وَعِنْدَهَا قَرْيَةُ النَّمْلِ، فَغَلَبَهُ النَّوْمُ، فَلَمَّا وَجَدَ لَذَّةَ النَّوْمِ لَدَغَتْهُ النَّمْلَةُ فَأَضْجَرَتْهُ، فَدَلَكَهُنَّ بِقَدَمِهِ فَأَهْلَكَهُنَّ، وَأَحْرَقَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ الَّتِي عِنْدَهَا مَسَاكِنُهُمْ، فَأَرَاهُ اللَّهُ الْعِبْرَةَ فِي ذَلِكَ آيَةً: لَمَّا لَدَغَتْكَ نَمْلَةٌ فَكَيْفَ أَصَبْتَ الْبَاقِينَ بِعُقُوبَتِهَا! يُرِيدُ أَنْ يُنَبِّهَهُ أَنَّ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَعُمُّ فَتَصِيرُ رَحْمَةً عَلَى الْمُطِيعِ وَطَهَارَةً وَبَرَكَةً، وَشَرًّا وَنِقْمَةً عَلَى الْعَاصِي. وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةٍ وَلَا حَظْرٍ فِي قَتْلِ النَّمْلِ، فَإِنَّ مَنْ آذَاكَ حَلَّ لَكَ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَلَا أَحَدَ مِنْ خَلْقِهِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ أُبِيحَ لَكَ دَفْعُهُ عَنْكَ بِقَتْلٍ وَضَرْبٍ عَلَى الْمِقْدَارِ، فَكَيْفَ بِالْهَوَامِّ وَالدَّوَابِّ الَّتِي قَدْ سُخِّرَتْ لَكَ وَسُلِّطْتَ عَلَيْهَا..."

يعني إذا صال عليك الإنسان فشرع لك دفعه الأسفل فالأسفل، وإن لم يندفع إلا بالقتل قُتل، فكيف بمن دونه من الهوام والدواب والحشرات وغير ذلك؟

طالب:.........

يعني هلا قتلت نملة واحدة.

طالب:........

ألا نملة واحدة نفسه.

طالب:........

قيل: هذا لا يدل على الجواز، لا يدل على الجواز إلا أنَّ الله- جلَّ وعلا- أعلم وأحكم ولا يُسأل عما يفعل كونه يُهلك لمصلحة، لمصلحة من أنكر، كونه يُهلك ليُبعث على ما مات عليه، ومصلحة أيضًا الباقين بالنسبة لمن عصى. المقصود أنَّ الله- جلَّ وعلا- لحكمته البالغة لا يُسأل عما يفعل ويُهلك المسيء وغير المسيء إذا نزلت العقوبة عمَّت؛ لأنَّ بإهلاك النمل ما لحقوه، ليس بمكافأته على ذلك الجنة، يعني من قُتل بغير حق من النمل ما هو مثل من مات بالمصيبة وبالكارثة العامة ممن آمن بالله- جلَّ وعلا- وعمل بما جاء عنه، يختلف هذا عن هذا.

طالب:........

ماذا؟

طالب:........

مادام نُهي عن قتله فيُمنع أكله، مثل الهدهد، مثل ما استدل أهل العلم بتحريم أكل الهدهد بمنع قتله.

" فَكَيْفَ بِالْهَوَامِّ وَالدَّوَابِّ الَّتِي قَدْ سُخِّرَتْ لَكَ وَسُلِّطْتَ عَلَيْهَا، فَإِذَا آذَاكَ أُبِيحَ لَكَ قَتْلُهُ. وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: مَا آذَاكَ مِنْ النَّمْلِ فَاقْتُلْهُ. وَقَوْلُهُ: «أَلَا نَمْلَةٌ وَاحِدَةٌ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي يُؤْذَى وَيُقْتَلُ، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَتْلُ لِنَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَأَطْلَقَ لَهُ نَمْلَةً وَلَمْ يَخُصَّ تِلْكَ النَّمْلَةَ الَّتِي لَدَغَتْ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَقَالَ أَلَا نَمْلَتُكَ الَّتِي لَدَغَتْكَ، وَلَكِنْ قَالَ: أَلَا نَمْلَةٌ مَكَانَ نَمْلَةٍ، فعم البريء وَالْجَانِيَ بِذَلِكَ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَهُ لِمَسْأَلَتِهِ في رَبَّهُ فِي عَذَابِ أَهْلِ القَرْيَةٍ وَفِيهِمُ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ كَانَتِ الْعُقُوبَةُ لِلْحَيَوَانِ بِالتَّحْرِيقِ جَائِزَةً فِي شَرْعِهِ؛ فَلِذَلِكَ إِنَّمَا عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِحْرَاقِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّمْلِ لَا فِي أَصْلِ الْإِحْرَاقِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: «فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً» أَيْ هَلَّا حَرَّقْتَ نَمْلَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا بِخِلَافِ شَرْعِنَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ نَهَى عَنْ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ. وَقَالَ: «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ». وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَ قَتْلُ النَّمْلِ مُبَاحًا فِي شَرِيعَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْتِبْهُ عَلَى أَصْلِ قَتْلِ النَّمْلِ. وَأَمَّا شَرْعُنَا فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ قَتْلَ النَّمْلِ إِلَّا أَنْ يَضُرَّ وَلَا يُقْدَرُ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِالْقَتْلِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ إِنَّمَا عَاتَبَهُ اللَّهُ حَيْثُ انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ بِإِهْلَاكِ جَمْعٍ آذَاهُ وَاحِدٌ، وَكَانَ الْأَوْلَى الصَّبْرَ وَالصَّفْحَ، لَكِنْ وَقَعَ لِلنَّبِيِّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُؤْذٍ لِبَنِي آدَمَ، وَحُرْمَةُ بَنِي آدَمَ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ النَّاطِقِ، فَلَوِ انْفَرَدَ لَهُ هَذَا النَّظَرُ وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ التَّشَفِّي الطَّبْعِيُّ لَمْ يُعَاتَبْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَكِنْ لَمَّا انْضَافَ إِلَيْهِ التَّشَفِّي الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ عُوتِبَ عَلَيْهِ."

يعني يدخل في مثل هذا غير النمل، قتل الحشرات الأخرى التي لا تؤذي أو قتل المؤذي بعامة، من آذى منهم وما لم يؤذِ، أمَّا ما جنسه مؤذٍ الفواسق وغيرها فهذا يُقتل بعامة وبخاصة، وغير المؤذي فهذا لا يُقتل إلا إذا آذى شيء بعينه يُقتل بعينه، وماذا عن الهر إذا وجد في البيت هل يُطرد، هل يُقتل، هل يُرمى في مكان بعيد أو لا؟ ولا شك أنَّ فيه نفعًا وفيه ضررًا.

طالب:..........

طيب.

طالب:..........

الأصل نملة واحدة، الأصل أنَّها نملة واحدة، اللهم إلا إذا كان سبب الورود- سبب ورود الحديث- إعلام النبي- عليه السلام- الذي قال لربه- جلَّ وعلا-: هلا واحد ممن عصى، أو هلا اقتصرت العقوبة على من عصى، ثم أراد أن يُخبر بالحكمة من ذلك، إذا قصرنا الحديث على سبب وروده قلنا بها، وإذا قلنا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قلنا: لا يُقتل إلا ما آذاه.

طالب:..........

والله مع أمن الأذى، مع كونه يؤذي، يلسع، أو يلدع يؤذي لا سيما الأطفال الصغار هذا يؤذيهم أذى شديدًا مثل هذا يُتجوز فيه؛ لأنَّ مصلحة الآدمي أولى من مصلحة غيره، المحافظة على مصلحة الآدمي أولى من المحافظة على مصلحة غيره.

طالب:........

يعني كالجنان، جنان البيوت. أمَّا بالنسبة للقطط وما أشبهها فهذه يفيد بها التحريج؛ لأنَّ كثيرًا منها تأتي وهي من الجن، على هيئة هر وما أشبه ذلك، ويحصل من تصرفاتها بعض التصرفات التي تُنسب إلى العقلاء، تصرفات بعض القطط لا سيما إذا طالت أعمارها أو عُرفت منذ أمد بعيد في هذا البيت يحصل من تصرفاتها ما يُحاكي تصرفات العقلاء، مثل هذه إذا خيف منها تُحرَّج، وتخرج، وتجر مع هذه، وعموم القطط إن كانت تؤذي أو تنجس الأماكن ولا مصلحة فيها، لا يوجد فئران تقضي عليها أو ما أشبه ذلك مثل هذه لو أُبعدت لا بأس، لكن قتلها لا يجوز إلا إذا آذت أذى بينًّا تُجازى به، لو أن عنده مثلًا عددًا كبيرًا من الحمام أو من الطيور أو من الدجاج أو ما أشبه ذلك، فجاء البيت، فإذا به قد قتلتها كلها، مثل هذه لو قُتلت يعني الأمر في مقابل آذاها، الأمر فيه سعة.

طالب:.........

لا ما هو بنار؛ لأنَّ النار معروفة ذات اللهب وذات الصورة الواضحة، أمَّا الصعق فلا يعني مثل ما يوضع في المساجد للقضاء على بعض الحشرات الصغيرة كالبعوض وما أشبه ذلك، ما يظهر لي أنَّ هذه نار، لا، إنَّما النار ذات الإحراق كما لو وضعت الدفايات في قبلة المصلين هذه ليست نارًا حقيقية، ليست ذات لهب.

طالب:........

على كل حال هي تختلف عن النار التي جاء النهي عنها، ليس بإحراق النار، إنَّما هي خامدة ليست بنار.

" الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: «أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ» مُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ تَسْبِيحٌ بِمَقَالٍ وَنُطْقٍ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ النَّمْلِ أَنَّ لَهَا مَنْطِقًا وَفَهِمَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهَذَا مُعْجِزَةٌ لَهُ- وَتَبَسَّمَ مِنْ قَوْلِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً أَنَّ لِلنَّمْلِ نُطْقًا وَقَوْلًا، لَكِنْ لَا يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، بَلْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ خَرَقَ لَهُ الْعَادَةَ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ. وَلَا نُنْكِرُ هَذَا مِنْ حَيْثُ أَنَّا لَا نَسْمَعُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ عَدَمُ الْمُدْرَكِ فِي نَفْسِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ قَوْلًا وَكَلَامًا وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ إِلَّا إِذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ. وَقَدْ خَرَقَ اللَّهُ الْعَادَةَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْمَعَهُ كَلَامَ النَّفْسِ مِنْ قَوْمٍ تَحَدَّثُوا مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ، كَمَا قد نُقل منه الكثير من أَئِمَّتُنَا فِي كُتُبِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِمَّنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مِثْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا قَضِيَّةٍ. وَإِيَّاهُ عَنيَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: «إِنَّ فِي أُمَّتِي مُحَدَّثِينَ، وَإِنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ ». وَقَدْ مَضَى هَذَا المعنى في تسبيح الجماد في (سبحان)، وَأَنَّهُ تَسْبِيحُ لِسَانٍ وَمَقَالٍ لَا تَسْبِيحَ دَلَالَةِ حَالٍ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ."

لأنَّ الأصل في الكلام حقيقته لا مجازه، الأصل في الكلام حقيقته، وأصل التسبيح إنَّما يكون باللسان، هذا الأصل فيه، لكن إذا امتنعت الحقيقة نُظر في الاستعمال الآخر، ولا مانع منها؛ لأنَّ القدرة الإلهية فوق ذلك.

" الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها} [سورة النمل:19] وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ: "ضَحِكًا" بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ، كَأَنَّهُ قَالَ: ضَحِكَ ضَحِكًا، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَهُوَ عِنْدَ غَيْرِ سيبويه منصوب بنفس {فَتَبَسَّمَ}؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى ضَحِكَ. وَمَنْ قَرَأَ: {ضَاحِكاً} فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي {تَبَسَّمَ}. وَالْمَعْنَى تَبَسَّمَ مِقْدَارَ الضَّحِكِ؛ لِأَنَّ الضَّحِكَ يَسْتَغْرِقُ التَّبَسُّمَ، وَالتَّبَسُّمُ دُونَ الضَّحِكِ وَهُوَ أَوَّلُهُ."

ولذا الضحك مبطل للصلاة عند عامة أهل العلم دون التبسم، اللهم إلا أهل الظاهر يقول ابن حزم: إنَّ التبسم يُبطل الصلاة كالضحك بدليل الآية {فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً} دل على أنَّه يطلق التبسم ويُراد به الضحك، هو مُبطل للصلاة.

" يُقَالُ: بَسَمَ (بِالْفَتْحِ) يَبْسِمُ بَسْمًا فَهُوَ بَاسِمٌ وَابْتَسَمَ وَتَبَسَّمَ، وَالْمَبْسِمُ الثَّغْرُ مِثْلُ الْمَجْلِسِ مِنْ جَلَسَ يَجْلِسُ وَرَجُلٌ مِبْسَامٌ وَبَسَّامٌ كَثِيرُ التَّبَسُّمِ، فَالتَّبَسُّمُ ابْتِدَاءُ الضَّحِكِ، وَالضَّحِكُ عِبَارَةٌ عَنْ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، إِلَّا أَنَّ الضَّحِكَ يَقْتَضِي مَزِيدًا عَلَى التَّبَسُّمِ، فَإِن زَادَ وَلَمْ يَضْبِطِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ قِيلَ قَهْقَهَ. وَالتَّبَسُّمُ ضَحِكُ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي غَالِبِ أَمْرِهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَقِيلَ لَهُ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: نِعْمَ كَثِيرًا، كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ- أَوِ الْغَدَاةَ- حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ وَيَأْخُذُونَ فِي أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم. وَفِيهِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّيِّ» قَالَ: فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ. فَكَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ يَتَبَسَّمُ."

هذا فيه جواز مثل الضحك إذا حصلت مصيبة أو كارثة بكافر مؤذٍ أو كفار قد آذوا المسلمين، ولا يعتبر هذا من الشماتة، النبي- عليه الصلاة والسلام- قد ضحك على هذا الذي أوغل في المسلمين قتلًا لمَّا انكشفت عورته، وليس هذا من الشماتة التي يمنعها بعضهم، وحتى الشماتة بالنسبة للكفار الذين أثخنوا في المسلمين وآذواهم وأهانوهم هذا لا شيء في ذلك، بل هذا مما يفرح به المؤمنون {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة:14] هذا يدل عليه، ولا إشكال في هذا أبدًا خلافًا لمن منع ذلك.

"فَكَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ يَتَبَسَّمُ. وَكَانَ أَيْضًا يَضْحَكُ فِي أَحْوَالٍ أُخَرَ ضَحِكًا أَعْلَى مِنَ التَّبَسُّمِ وَأَقَلَّ مِنْ الِاسْتِغْرَاقِ الَّذِي تَبْدُو فِيهِ اللَّهَوَاتُ. وَكَانَ فِي النَّادِرِ عِنْدَ إِفْرَاطِ تَعَجُّبِهِ رُبَّمَا ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. وَقَدْ كَرِهَ الْعُلَمَاءُ مِنْهُ الْكَثْرَةَ، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ. وَقَدْ رُوي مرفوعًا من حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ. وَضَحِكَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ حِينَ رمى سعدًا الرَّجُلَ فَأَصَابَهُ، إِنَّمَا كَانَ سُرُورًا بِإِصَابَتِهِ لَا بِانْكِشَافِ عَوْرَتِهِ، فَإِنَّهُ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-."

طالب:..........

سعد، إذًا هو الفاعل، حين رمي سعد نحن عندنا منصوب، لكن هو فاعل.

" السَّادِسَةُ: لَا اخْتِلَافَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَيَوَانَاتَ كُلَّهَا لَهَا أَفْهَامٌ وَعُقُولٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَمَامُ أَعْقَلُ الطَّيْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:.."

ليس لها عقول؛ لأنَّ العقل مناط التكليف، إذ لو كان لها عقول لكانت مُكلَّفة، لكن لها قوة مدركة، تميز بهذه القوى ما ينفعها وما يضرها، فتجد الحيوان يذهب إلى ما ينفعه، ويفر عما يضره، يبحث عن الطعام؛ لأنَّه ينتفع به، ويهرب من السبع؛ لأنَّه يضره، فهذا بقوة مدركة دون العقل، أمَّا لو كانت عاقلة لكلفت مثل العقلاء.

"وقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالنَّمْلُ حَيَوَانٌ فَطِنٌ قَوِيٌّ شَمَّامٌ جِدًّا يَدَّخِرُ، وَيَتَّخِذُ الْقُرَى، وَيَشُقُّ الْحَبَّ بِقِطْعَتَيْنِ؛ لِئَلَّا يَنْبُتَ،.."

مثل هذا من ينتبه له؟! كثير من بني آدم لا ينتبه له، إذا أدخل الحبة في جحره قسمها نصفين؛ لئلا تنبت. ابن القيم ذكر من هذا أشياء عجيبة جدًّا في مفتاح دار السعادة.

طالب:........

هذا هو الكلام، ذكره.

" وَيَشُقُّ الْكُزْبَرَةَ بِأَرْبَعِ قِطَعٍ؛ لِأَنَّهَا تنبت إذا قسمت شقين، وَيَأْكُلُ فِي عَامِهِ نِصْفَ مَا جَمَعَ وَيَسْتَبْقِي سَائِرَهُ عِدَّةً."

لئلا يبحث عن شيء فلا يجده، فيخزن نصف ما جمع، ويأكل النصف، يدخره للأيام التي قد لا يجد فيها شيئًا.

" قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ خَوَاصُّ الْعُلُومِ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَدْرَكَتْهَا النَّمْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمُظَفَّرِ شَاهْنُورِ الإسفرايني: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُدْرِكَ الْبَهَائِمُ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَحُدُوثَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَحْدَانِيَّةَ الْإِلَهِ، وَلَكِنَّنَا لَا نَفْهَمُ عَنْهَا وَلَا تَفْهَمُ عَنَّا، أَمَّا أَنَّا نَطْلُبُهَا وَهِيَ تَفِرُّ مِنَّا فَبِحُكْمِ الْجِنْسِيَّةِ."

يعني اختلاف الجنس؛ لأنَّ الإنسان يألف جنسه، النملة تطلب نملة تقف لها، كما أنَّ الإنسان إذا طلب إنسانًا وقف له، لكن لو طلبك شيء من غير جنسك ولو كان في الأصل أليفًا قد تجد في نفسك خيفة منه، إذا طلبك وتبعك، لو أنَّ كبشًا تبعك، دخلت الغرفة تبعك، رحت المجلس تبعك، لابد أن تجد خيفة منه ولو كان في الأصل ما يضرك، بهذا يقول كونه يفر منك فبحسب الجنس أو بحكم الجنس.

" قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ} [سورة النمل:19] فـَ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ. وَ{أَوْزِعْنِي} أَيْ أَلْهِمْنِي ذَلِكَ. وَأَصْلُهُ مِنْ وَزَعَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُفَّنِي عَمَّا يُسْخِطُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمَانَ هِيَ امْرَأَةُ أُورْيَا الَّتِي امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا دَاوُدَ، أَوْ أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا تَزَوَّجَهَا دَاوُدُ فَوَلَدَتْ لَهُ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ (ص) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ} [سورة النمل:19] أَيْ مَعَ عِبَادِكَ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى في جملة عبادك الصالحين.

اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد.

"