شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1427 هـ) - 13

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسَلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى لقاءٍ جديد في شرح كتاب ((الصوم)) من كتاب ((التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)).

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نُرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله بشرح أحاديث هذا الكتاب، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المُستمعين.

المقدم: لازال الحديث مستمرًّا في الخلاف حول قوله: «يطعمني ربِّي ويسقين»، لعلنا نستكمل ما تبقى من هذا الموضوع، أحسن الله إليكم.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فكان من آخر ما ذُكِر في الحلقة السابقة توجيه ابن القيم للطعام والشراب المذكورين في الحديث، ففي ((زاد المعاد)) يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-: اختلف الناس في هذا الطعام والشراب المذكورين على قولين:

أحدهما: أنه طعامٌ وشرابٌ حسي للفم، قالوا: وهذه حقيقة اللفظ، ولا موجب للعدول عنها.

القول الثاني: أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه، وما يُفيض على قلبه من لذة مناجاته، وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه، والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب، ونعيم الأرواح، وقرة العين، وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، يقول: وقد يقوى هذا الغذاء حتى يُغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان.

ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قرَّت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه، والرضى عنه، وألطاف محبوبه وهداياه، وتحفه تصل إليه كل وقتٍ، ومحبوبه حفيٌ به، معتنٍ بأمره، مُكرمٌ له غاية الإكرام مع المحبة التامة له، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المُحب؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجلّ منه، ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل، ولا أعظم إحسانًا إذا امتلأ قلب المُحب بحبه، وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكن حبه منه أعظم تمكن، وهذا حاله مع حبيبه، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهارًا؟ ولهذا قال: «إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني».

ولو كان ذلك طعامًا وشرابًا للفم لما كان صائمًا فضلاً عن كونه مواصلاً، وأيضًا فلو كان ذلك في الليل لم يكن مواصلاً، ولقال لأصحابه- إذ قالوا له: إنك تواصل-: " لست أواصل ".

يعني لما قالوا: إنك تواصل، لو كان حقيقيًّا لقال: لست أواصل.

ولم يقل: «لست كهيئتكم»، بل أقرهم على نسبة الوصال إليه، وقَطَع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك بما بيَّنه من الفارق، انتهى كلام ابن القيم.

وعلى كل حال، نعود إلى ما قررناه سابقًا من أن الحقائق الثلاث لا تنطبق على الحديث، لا تنطبق على ما جاء، لا الحقيقة اللغوية ولا الشرعية ولا العُرفية. اللهمَّ إلا إذا قلنا: إن اللفظ له حقيقتان شرعيتان، غذاء حسي حقيقة شرعية، وتتفق مع اللغوية والعُرفية، وأيضًا غذاء معنوي للقلب والروح، يقوم مقام الغذاء الحسي وهي أيضًا حقيقة شرعية بدليل هذا الحديث. يعني لو نظرنا بما ذكرناه سابقًا من قوله- عليه الصلاة والسلام-: «أتدرون من المُفلس؟» فهذه حقيقة شرعية، ولا يلزم أن نقول: مجاز ولا استعارة ولا شيء من هذا، بل هي حقيقة؛ لأنها جاءت على لسان الشرع.

المقدم: ابن القيم يُرجِّح أن الغذاء غير حقيقي؟

نعم، يُرجِّح أنه غذاء روحي.

المقدم: روحي، وهذا الحقيقة يستقيم مع ألفاظ الحديث، يا شيخ، استقامة ظاهرة.

نعم؛ لأنه لو قيل: حسي، كما هو الأصل في إطلاق اللفظ، لو قيل: حسي، لما صار مواصلاً.

المقدم: ولما قال «لست كهيئتكم» ولما افترق عنهم- عليه الصلاة والسلام- ولما كان فيه من زيادة مزية.

لكن هل هذا الغذاء الروحي خاص بالليل؛ لقوله «أبيت» وهو محل الوصال المسؤول عنه؟ أو أنه يتغذى بالغذاء الروحي طول ليله ونهاره؟

المقدم: إذا قررنا أن «أبيت» على الإطلاق.

هنا قررنا «أظل» على الإطلاق.

يعني إذا قلنا إنه غذاء روحي، ما عندنا إشكال في «أظل» ولا «أبيت»، فهو صائم ومواصل أيضًا. لكن الإشكال في كلامٍ للقرطبي، يقول في ((المُفْهِم)): قيل في معنى الحديث: إن الله تعالى يخلق فيه من الشِبَعِ والري مثل ما يخلقه فيمن أكل وشَرِب، وهذا القول يُبعده أيضًا النظر إلى حاله- صلى الله عليه وسلم-، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع. لكن يبقى أن الطعام والشراب الذي هو طعامٌ معنوي، هل يُنافي الجوع الحسي؟ يعني إلى قدرٍ مُعين من الجوع؟ المواصلة مع عدم الطعام والشراب المعنوي، لا شك أنها تُفضي في الأخير إلى- يعني إذا طالت المواصلة، عدم الأكل مع عدم هذا الغذاء المعنوي- الهَلاَك.

فالنبي- عليه الصلاة والسلام- ثبت أنه كان يجوع أكثر مما يشبع، وكان يربط على بطنه الحجر من الجوع. فهل نقول: إن هذا الغذاء المعنوي دون مرحلة الجوع؟ يعني قد يحصل معها جوع، وإلا فمعنى أنه كان- عليه الصلاة والسلام- يجوع ويربط على بطنه الحجارة والله- جلَّ وعلا- يُغذيه بأنواع المعارف لما يتقرب به إليه ومن حبه وتعظيمه وإجلاله ومناجاته، هل يتخلَّف هذا في وقت دون وقت؟ أو أنه خاص بالليل دون النهار؟ لقوله «أبيت».

انظر كلام القرطبي: وهذا القول يُبعده أيضًا النظر إلى حاله- صلى الله عليه وسلم-، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع، ويربط على بطنه الحجارة من الجوع، وكان يقول: «الجوع حرفتي».

على كل حال، حاله وعيشه وتقشفه وتقلله من الدنيا وزهده فيها، معروف في شمائله- عليه الصلاة والسلام- ومن قرأ في سيرته عرف ذلك. وكان يقول: «الجوع حرفتي» الحديث هذا قال فيه مُحققو ((المُفْهِم)): في إشارة المؤلف ما يدلُّ على ضعفه؛ لأنه قال: وكان يقول «الجوع حرفتي» على ما روي عنه. في إشارة المؤلف ما يدلُّ على ضعفه، ولم نجده. يعني أنا بحثت عنه بحثًا مستعجلًا، فما وجدته.

وهم أيضًا قالوا: لم نجده. ويرده الحديث الحسن الذي رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ولفظه: «اللهمَّ إني أعوذ بك من الجوع». فكيف يقول: «الجوع حرفتي»، وقد استعاذ منه؟

المقدم: يعني الجوع المُهلِك يا شيخ، الذي يدفع الإنسان إلى أن..

لا، كونه حرفته يعني هذا مدح، فكونه يستعيذ منه ذم.

ويُبعده أيضًا النظر إلى المعنى، وذلك أنه لو خُلِقَ فيه الشِبَع والري، لما وجد لعبادة الصوم روحها. يعني لو كان دائمًا شبعان، ما وجد روح العبادة الذي هو الجوع والمشقة، وحينئذٍ كان يكون ترك الوصال أولى.

وقيل: معنى ذلك أن الله تعالى يحفظ عليه قوَّته من غير طعامٍ ولا شرابٍ كما يحفظها بالطعام والشراب، فكأنه قال: إن الله تعالى يحفظ عليَّ قوَّتي بقدرته، كما يحفظها بالطعام والشراب، والله تعالى أعلم.

ويرجع هذا الكلام كله إلى ما تقدَّم من أنه إما معنوي أو حسي.

يقول أبو حاتم بن حبان في صحيحه: هذا الخبر- «إني أبيت عند ربِّي يُطعمني ويسقين»- هذا الخبر دليلٌ على أن الأخبار التي فيها ذكر وضع النبي- صلى الله عليه وسلم- الحجر على بطنه هي كلها أباطيل، وإنما معناها الحُجَز، لا الحجر. والحُجَزُ: طَرَف الإزار، إذ الله -جلَّ وعلا- كان يُطعم رسوله- صلى الله عليه وسلم- ويسقيه.

المقدم: مَن هو الذي يقول: أباطيل، يا شيخ؟

ابن حبان في صحيحه، هذا بحروفه، في الجزء الثامن صفحة 345 من الترتيب، الإحسان.

هذا الخبر دليلٌ على أن الأخبار التي فيها ذكر وضع النبي- صلى الله عليه وسلم- الحجر على بطنه هي كلها أباطيل، وإنما معناها الحُجَز، لا الحجر. والحُجَزُ: طَرَف الإزار، إذ الله -جلَّ وعلا- كان يُطعِّم رسوله- صلى الله عليه وسلم- ويسقيه.

إذا واصل، فكيف يتركه جائعًا مع عدم الوصال حتى يحتاج إلى شد حجرٍ على بطنه وما يُغني الحجر عن الجوع؟

قال ابن حجر: وقد أكثر الناس من الرد عليه.

المقدم: على ابن حبان؟

نعم، وقد أكثر الناس من الرد عليه- يعني ابن حبان- في جميع ذلك، وأبلغ ما يُرَد به عليه: أنه أخرج في صحيحه من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: خرج النبي- صلى الله عليه وسلم- بالهاجرة، فرأى أبا بكرٍ وعُمَر- رضي الله عنهما- فقال: «ما أخرجكما؟»، قالا: ما أخرجنا إلا الجوع، فقال: «أنا، والذي نفسي بيده، ما أخرجني إلا الجوع» الحديث. فهذا الحديث يرد ما تمسك به.

وأما قوله: وما يُغني الحجر من الجوع؟، فجوابه: أنه يُقيم الصُلب؛ لأن البطن إذا امتلأ اعتدل الصُلب، وإذا فرغ ما فيه انحنى. فالحجر يُقيم الصُلب؛ لأن البطن إذا خلا ربما ضَعُفَ صاحبه عن القيام؛ لانثناء بطنه عليه، فإذا ربط عليه الحجر، اشتد وقوي صاحبه على القيام. حتى قال بعض من وقع له ذلك: كنت أظن الرِجْلين تحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرِجْلين؛ لأنه سبب في استقامة الظهر.

فلما أبوا أن ينتهوا، يعني رفضوا أن ينتهوا، نهاهم عن الوصال ما امتثلوا. لما أبوا أن ينتهوا، واصل بهم النبي- عليه الصلاة والسلام- يومين، ثمَّ رؤي الهلال؛ لينكِّل بهم.

يقول الكرماني: فإن قلت: كيف جاز للصحابة مخالفة حكم الرسول- صلى الله عليه وسلم-؟ الدافع لذلك هو الحرص على الخير والاقتداء به- عليه الصلاة والسلام- حتى في الوصال.

المقدم: ولربما فهموا منها أن منعه لهم من باب الشفقة.

فهموا هذا وفهموا أنه للتنزيه، المقصود أن هذا من حرصهم على الخير. لكن كم مُريدٍ للخير لا يُصيبه؟ لما أمرهم بحلق رؤوسهم في الحديبية، امتنعوا وترددوا إلى أن حلق رأسه- عليه الصلاة والسلام – شافوا أن المسألة ليس فيها كلام بعد، انتهت.

فإن قلت: كيف جاز للصحابة مخالفة حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ أجيب بأنهم فهموا من النبي- عليه الصلاة والسلام- أنه للتنزيه لا للتحريم. وأيضًا هذا معروف أنه من حرصهم على الخير؛ ليقتدوا به في كل شيء، حتى فيما يشق عليهم كالوصال.

واصل بهم يومًا ثمَّ يومًا ثمَّ رأوا الهلال، ظاهره: أن قدر المواصلة بهم كانت يومين، وقد صرَّح بذلك في رواية مَعْمَر.

فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لو تأخر» يعني الهلال، «لزدتكم» أي: في الوصال إلى أن تعجزوا عنه وتُضطروا.

يقول: «لزدتكم» أي: في الوصال إلى أن عجزتم عنه واضطررتم؛ إرادةً للتعذيب. التنكيل هو التعذيب.

فإن قلت: كيف جوَّز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوصال؟ واصل بهم، بعد أن نهاهم عنه، واصل بهم. فإن قلت: كيف جوَّز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم الوصال؟ يعني بعد أن نهاهم عنه. قلت: احتمل ذلك للمصلحة؛ تأكيدًا لزجرهم وبيانًا للمفسدة المُترتبة على الوصال، وهي الملل من العبادة والتعرُّض للتقصير في سائر الوظائف، قاله الكرماني.

لا شك أنه يُرتكب أخف الضررين؛ في سبيل اجتناب أعظم الضررين وتُحصَّل المصلحة الكبرى وتُهْدَر المصلحة الدنيا. فإذا باشروا ذلك وعجزوا عنه وانقطعوا، عرفوا ذلك بأنفسهم، وأن هذا من رحمة الله بهم، يعني أنه منعهم من الوصال.

وقال ابن حجر: استُدِل به على جواز قول: لو- في قوله «لو تأخر، لزدتكم»- استُدِل به على جواز قول: لو، وحُمِلَ النهي الوارد في ذلك على ما لا يتعلق بالأمور الشرعية، كما سيأتي بيانه في كتاب ((التمني)) في أواخر الكتاب- إن شاء الله تعالى- وسوف نزيد هذه المسألة إيضاحًا وبيانًا في موضعها من كتاب ((التمني)) الذي نسوقه في أطراف الحديث. يعني لا في كتاب ((التمني)) الذي يأتي بعد مُدد متطاولة، بعد أكثر من ألف حديث. إنما في الأطراف، إن شاء الله تعالى.

والمُراد بقوله: «لو تأخر، لزدتكم» أي: في الوصال إلى أن تعجزوا عنه، فتسألوا التخفيف عنكم بتركه. وهذا كما أشار عليهم أن يرجعوا من حصار الطائف، فلم يُعجبهم، فأمرهم بمباكرة القتال من الغد، فأصابتهم جراحٌ وشدة وأحبوا الرجوع، فأصبح راجعًا بهم، فأعجبهم ذلك، وسيأتي ذكره موضحًا من كتاب ((المغازي))، إن شاء الله تعالى.

كالتنكيل لهم، المتن، يعني كالمُعاقبة لهم. وقال القسطلاني وقبله ابن حجر في رواية مَعْمَر: كالمُنكِّل لهم، ووقع فيها- يعني في رواية مَعْمَر- عند المُستملي: كالمُنكر لهم، بالراء وسكون النون. يعني مثل ما تقدَّم في قول الزركشي، في الترجمة: باب التنكيل، قال: في روايةٍ: التنكير، الزركشي. والصواب: التنكيل.

وهنا وقع في رواية مَعْمَر: كالمُنكِل لهم، وقع فيها عند المُستملي: كالمُنكِر لهم، بالراء وسكون النون من الإنكار. وللحموي: كالمُنكي، بتحتيةٍ ساكنةٍ قبلها كافٌ مكسورةٌ خفيفة، من الإنكاء.

ابن حجر يقول: من النكاية، والقسطلاني يقول: من الإنكاء، وكأنه استدرك تعقُّب العيني على ابن حجر؛ لأن شرح القسطلاني عبارة عن اختصار للشرحين، عبارة عن اختصار لـ((فتح الباري)) و((عمدة القاري))، يجمع بين الكتابين وينظر الأحسن من كلام الشارحين.

قال: من الإنكاء، والأول هو الذي تضافرت به الروايات خارج هذا الكتاب، كالمُنكِّل لهم. هذا هو الذي تضافرت به الروايات خارج هذا الكتاب.

المقصود أنه روي بروايات: كالمُنكِّل لهم، كالمُنكِر، كالمُنكي. المُنكي من النكاية، وهي الإبلاغ في العقوبة. في كتاب الحافظ ابن عبد الهادي ((الصارم المُنكي)).

في شرح العيني: قال بعضهم: المُنكي من النكاية، ويقصد بذلك ابن حجر، وهي كذا عند ابن حجر من النكاية. قلت- العيني-: ليس كذلك، بل من الإنكاء. القسطلاني تحاشى هذا الاستدراك فجاء به من الإنكاء.

بل من الإنكاء؛ لأنه من باب المزيد ولا يذوق مثل هذا إلا من له يدٌ في التصريف.

ابن حجر ما أجاب في ((الانتقاض)) عن هذا ولا صاحب ((المُبتكرات)) أجاب عن هذا. مُنكي اسم فاعل، من الثلاثي أم الرباعي؟ من الرباعي.

المُنكي: اسم فاعل من الرباعي أنكى، ومصدره: إنكاء. فالأصل في المشتقات المصدر، فالمُنكي مأخوذٌ من الإنكاء لا من النكاية.

مُحققا ((الانتقاض)) قالا: لا يقصد الحافظ الاشتقاق، بل المادة. يعني كثير من مُعرفي الحقائق، سواءً كانت لغوية أو شرعية، يقولون: مأخوذ من كذا، ويأتون بفعل. البيع مأخوذ من باع مثلاً، أو من الباع؛ لأن كل واحد من المتبايعين يمدُّ باعه.

المقصود أنهم يقولون: من كذا، ويذكرون فعلاً. والأصل في المُشتقات المصادر، كما هو المُقرر عند البصريين وهو المُرجَّح، وكونه أصلاً لهذين انتُخِب. يعني للفعل وسائر المُشتقات، يعني المصدر. وكونه أصلاً لهذين انتُخِب.

لكنهم حينما يأتون بفعل أو بغير المصدر، إنما يقصدون بذلك الاشتقاق.

يعني الآن كتب اللغة مبنية على أفعال أو على مصادر؟ مبنية على أفعال؛ لأن كلها رُتبت على الأفعال. ثمَّ بعد ذلك ينطلقون من هذه الأفعال، مادة (ضرب) مثلاً ومادة كذا. و(ضرب) مأخوذ من الضرب، يعني هم يدورون على الأفعال باعتبار أنها تنطلق منها المُشتقات.

وإن كان الأصل في الاشتقاق العام إنما هو من المصدر.

قال مُحققا ((الانتقاض)): ولا يقصد الحافظ الاشتقاق بل المادة.

قلت: مُنكي اسم فاعل من الرباعي، أنكى يُنكي إنكاءً، المصدر: إنكاءً. لا من الثلاثي: نكى ينكي نكيًا ونكايةً. وفي القاموس: نكى العدو وفيه نكاية، قُتِلَ وجُرِحَ والقرحة نكأها ولا تُنكى، أي: لا نُكيت ولا جُعِلت منكيًا. المقصود أن النكاية هي المُبالغة في ضرر العدو، والنبي- عليه الصلاة والسلام- أراد أن يبلَغ بهم الضرر بسبب الوصال، ما يجعلهم يتركونه بأنفسهم.

حين أبوا أن ينتهوا، أي: حين امتنعوا أن ينتهوا، أي: عن الانتهاء عن الوصال.

 في شرح ابن بطَّال، قال المُهلَّب: لما نهاهم- عليه الصلاة والسلام- عن الوصال، فلم ينتهوا، بيَّن لهم أنه مخصوص بقوله: «إني لست كهيئتكم»؛ لأن الله يُطعمه ويسقيه، فأرادوا تحمُّل المشقة في الاستنان به والاقتداء به، فواصل بهم كالمُنكِّل لهم على تركهم ما أمرهم به من الرخصة، فبان بهذا أن الوصال ليس بحرام؛ لأنه لو كان حرامًا ما واصل بهم ولا أتى معهم الحرام الذي نهاهم عنه. وتقدَّم ما في هذا الكلام لمن يرى تحريمه؛ لأن الأصل في قوله: «لا تواصلوا» نهى عن الوصال والتنكيل أيضًا، يدلُّ على أنه مُحرَّم وإلا لما ارتُكِب ما نُهي عنه بسبب أمرٍ مكروه أو مُباح.

في روايةٍ قال لهم، في روايةٍ عنه، يعني عن أبي هريرة، قال لهم النبي- عليه الصلاة والسلام-: «فاكلفوا من العمل ما تُطيقون».

«اكْلُفوا» قال الحافظ: بسكون الكاف وضم اللام، اكلُفوا، أي: احملوا من المشقة في ذلك. يُقال: كلفت بكذا، إذا ولعت به.

وحكى عياض أن بعضهم قاله بهمزة قطعٍ وكسر اللام، قال: ولا يصحُّ لغةً.

المقدم: همزة قطع فأكلِفوا.

نعم، ولا يصحُّ لغةً.

بما تُطيقون.

المقدم: لكن الذي عندنا يا شيخ في المطبوع بفتح اللام، وهذا خطأ يكون؟

فاكلَفوا، لكن هذا ضبط الحافظ، بسكون الكاف وضم اللام، هذا كلامه في ((الفتح)): بسكون الكاف وضم اللام، أي: احملوا المشقة في ذلك، يُقال: كلفت بكذا، إلى آخره.

في ((مُختار الصحاح)) في تعليق على ((الفتح))، يقول في ((مختار الصحاح)): كلفت بكذا إذا أولع به، كَلِفَ في كذا أي: أولِعَ به وبابه: طَرِبَ، كَلِفَ يكْلَفُ، طَرِبَ يطْرَبُ.

«بما تطيقون» في رواية أحمد: بما لكم به طاقة، وكذا لمسلم من طريق أبي الزناد عن الأعرج. وتقدَّم في كتاب ((الإيمان)): «عليكم من العمل بما تُطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا».

المقدم: نعم، أحسن الله إليكم، بقي معنا الأطراف، يا شيخ؟

نعم، فيه أطراف.

المقدم: إذًا نُرجيء الأطراف- بإذن الله- إلى حلقةٍ قادمة وأنتم على خير.

بهذا أيها الإخوة والأخوات، نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة.

أشكر لكم طيب المتابعة، نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير وأن يُعيننا وإياكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.

شكرًا لطيب المتابعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.