شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 24

 

المقدم:

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله مُحمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم أيها المستمعون الكِرام إلى هذا اللقاء الجديد في برنامجكم التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، حيث يسعدني أن أرحّب في مطلع هذا اللقاء بمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العُلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، فأهلاً ومرحبًا بكم معالي الشيخ.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: وفيكم حفظكم الله.

لا يزال الكلام مستمعينا الكرام في حديث صفية زوج النبي- صلى الله عليه وسلم ورضي عنها-: وفيه عنها أنها جاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم معها- يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: «على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،،

فقد بقي من شرح الحديث الجملة الأخيرة، في قوله: وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا، يقول الخطابي في شرحه أعلام الحديث: بلغني عن الشافعي –رحمه الله- أنه قال في معنى هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خاف عليهما الكفر، لو ظنا به ظن التهمة، فبادر إلى إعلامهما بمكانها، يعني منه، وأنها زوجته، نصيحة لهما في حق الدين، قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما أمرًا يهلكان فيه هذا أو معناه.

وقال ابن الملقن: ظن السوء بالأنبياء كفر بالإجماع، وقال ابن حجر: وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا، كذا في رواية ابن مسافر، وفي رواية معمر: سوءًا أو قال: شيئًا، يعني على الشك، وعند مسلم وأبي داود، وأحمد من حديث معمر: شرًّا بمعجمة وراء بدل سوءًا.

وفي رواية هشيم: «إني خشيت أن يدخل عليكما شيئًا»، والمحصل من هذه الروايات، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءًا، النبي -عليه الصلاة والسلام- بادر من شفقته عليهما، كما هو الرؤوف الرحيم بأمته، الناصح الأمين الذي لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، بادر لئلا يقذف احتمال، «وإني خشيت».

قال ابن حجر: والمحصل من هذه الروايات، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءًا؛ لما تقرر عنده من صدق إيمانهما، ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك؛ لأنهما غير معصومين، فقد يفضي بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر إلى إعلامهما؛ حسمًا للمادة، وتعليمًا لمن بعدهما إذا وقع له مثل ذلك.

يقول ابن حجر: وغفل البزار فطعن في حديث صفية هذا، واستبعد وقوعه، ولم يأتِ بطائل، والله الموفق.

غفل البزار فطعن في حديث صفية لماذا؟ لأنهما صحابيان، وقد وقر الإيمان في قلوبهما، فلا يخشى عليهما مثل هذا، فطعن في الحديث، يعني في متنه، باعتبار أن متنه منكر؛ لأن هذين الصحابيين ممن وقر الإيمان في قلبه، فلا يتوقع أن الشيطان يقذف في قلوبهما شيئًا.

غفل البزار فطعن في حديث صفية هذا، واستبعد وقوعه ولم يأتِ بطائل، يعني ما جاء بعلة مقنعة، العيني تعقّب ابن حجر بقوله: كيف لم يأتِ بطائل؛ لأنه ذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكل من ذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أينكر عليه؟ كلام العيني وجيه أم ليس وجيهًا؟

المقدم: وجيه لو كان إنكار ابن حجر على ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن إنكار ابن حجر على البزار كونه.

يقول إن البزار ذبَّ عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، فكيف يقال لمن ذب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأتِ بطائل.

المقدم: لكنه هو ذب عن صحابة رسول الله، وما ذب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، البزار هنا كأنه وقَّر الصحابة أن يكونوا ممن يقع في قلوبهم مثل هذا.

يقول: كيف لم يأتِ بطائل؛ لأنه ذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكل من ذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيُنكر عليه، يعني البزار لما طعن في الحديث نعم، باعتبار أن النبي -عليه الصلاة والسلام- اتهمهما نعم، لكن هل النبي -عليه الصلاة والسلام- في كلامه ما يدل على اتهامهما؟ أبدًا هذا من تمام النصح، سبقهما لئلا يسبق الشيطان، والشيطان مسلّط على بني آدم، وليسوا بمعصومين.

اسمع ما أقول، العيني يقول: كيف لم يأتِ بطائل -يرد على ابن حجر-، وأنا أتعقب العيني أقول: وكيف ينكر على من ذب عن سنته -صلى الله عليه وسلم-، وحمى جناب الصحيح؟ الآن الحديث مخرج في البخاري، فإذا سلمنا بطعن البزار معناه أننا طعنا في السنة، في صميم السنة التي أصحها وأقواها ما ثبت في صحيح البخاري، يعني فما دونه من باب أولى، ابن حجر يذب عن السنة، والذب عن السنة عن سنة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- ذب عن المصطفى نفسه -عليه الصلاة والسلام-.

أقول: وكيف يُنكر على من ذب عن سنته -صلى الله عليه وسلم-، وحمى جناب الصحيح من أن يطعن في حديث خرجه البخاري، بدون مبرر وبدون طائل؟ ثم قال العيني: وفي التلويح فإن قال قائل: هذه الأخبار قد رواها قوم ثقات، ونقلها أهل العلم بالأخبار.

كل الرواة الذين روى البخاري الحديث من طريقهم أثبات نعم، فكيف يطعن بمجرد وهم سبق إلى ذهن البزار؟

قال: وفي التلويح فإن قال قائل: هذه الأخبار قد رواها قوم ثقات، ونقلها أهل العلم بالأخبار، قيل له: العلة التي بيناها لا خفاء بها، ويجب على كل مسلم القول بها، والذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان الراوون لها ثقات فلا يعرون عن الخطأ والنسيان والغلط.

الآن العيني يبرر الطعن في الخبر؛ لأنه قال: وإن كان الراوون لها ثقات فلا يعرون عن الخطأ والنسيان والغلط، وقال أبو الشيخ عند ذكر هذا الحديث وبوب له قال: إنه غير محفوظ، كل هذا لأنه هجم على أذهانهم أن النبي- عليه الصلاة والسلام- اتهم هذين الرجلين، لكن ما في الحديث ما يدل على ذلك، وإنما فيه ما يؤكد شفقة النبي -عليه الصلاة والسلام- على أمته، خشية من أن يسبق الشيطان إلى قلوبهما فيقذف فيهما شيئًا، وهما غير معصومين.

المقدم: والدليل على ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصريح هنا «إني خشيت»، لو كان غيره ربما قال: وقع في قلبي أنكما اتهمتم أو شيء من هذا.

أقول: الحديث محفوظ، بل من غاية الصحة، وتوجيهه بما تقدم وليس فيه ما يخدش في جنابه الشريف -صلوات الله وسلامه عليه-، بل هذا من شفقته ورأفته بأمته -صلى الله عليه وسلم- من أن يقذف الشيطان في قلوبهم ما يكون سببًا لهلاكهم، والمسألة واضحة، ما تحتاج إلى مثل هذا الاستدراك.

قال ابن بطال: لا خلاف في جواز خروج المعتكف فيما لا غنى به عنه، وإنما اختلفوا في المعتكف يدخل لحاجته تحت سقف، فأجاز ذلك الزهري ومالك وأبو حنيفة والشافعي، ورُوي عن ابن عمر والنخعي وعطاء أنه لا يدخل تحت سقف.

وهو قول إسحاق، وقال الثوري والحسن بن حي: إن دخل بيتًا غير المسجد، بطل اعتكافه إلا أن يكون ممره فيه، يعني محتاج إليه، وكذلك اختلفوا في اشتغاله بالأمور المباحة، فقال مالك في الموطأ: لا يأتي المعتكف حاجة، ولا يخرج لها، ولا يعين أحدًا عليها، ولا يشتغل بتجارة، ولا بأس أن يأمر أهله ببيع ماله وصلاح ضيعته.

لا بأس أن يأمر لكن لا يباشر، ولا بأس أن يأمر أهله ببيع ماله وصلاح ضيعته، مع أنه لو فرَّغ قلبه من هذه الأمور، لكان أقرب إلى تحقيق الهدف من الاعتكاف.

وقال أبو حنيفة والشافعي: له أن يتحدث، والحديث دليله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تحدث معها ساعة، له أن يتحدث ويبيع ويشتري في المسجد، هذا بناء على جواز ذلك بالمسجد، والمسألة خلافية، يعني إذا جاز كان من المباح للمعتكف ولغيره، مادام مباحًا فهو مثل الحديث العادي.

عندهما وله أن يتحدث ويبيع ويشتري في المسجد، ويتشاغل بما لا يأثم فيه وليس عليه صمت، قولهم: له، لا يعني أنه يستحب له ذلك، أو يشرع له ذلك، لكن لو حصل عندهم فلا يؤثر في اعتكافه، مع أن تركه هو الأصل، وهو الأكمل، وبه يتحقق الهدف من اعتكاف واجتماع القلب؛ لأن هذه الأمور تشتت القلب، والمطلوب في هذه الخلوة وفي هذه المجاورة وهذا الاعتكاف أن يجتمع القلب على تحقيق الهدف الذي من أجله شرع الاعتكاف، من أجل الصلاة والذكر والتلاوة.

وقال مالك: لا يشتري إلا ما لا غنى له عنه من طعامه إذا لم يكن له ما يكفيه، يعني مثال: لو اتصل على مطعم يوصل له سحوره نعم، ما فيه إشكال إذا لم يكن له من يكفيه يجوز له ذلك.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بما قلتم معالي الشيخ، نسأل الله تعالى تبارك وتعالى أن ينفعنا جميعًا بما نسمع وبما نقول، إلى هنا نصل إلى ختام هذه الحلقة مستمعينا الكرام، وبها نختم الحديث، نتقدم في ختامه بهذه الحلقة بالشكر الجزيل لمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، شكرًا له لكم أنتم مستمعينا الكرام، ونلقاكم في لقاء مقبل، بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.