كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 08

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف –رحمه الله تعالى-: "وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ -رضي الله عنهما- أَن رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مِن الْكَبَائِر شتم الرجل وَالِديهِ» قَالُوا: يَا رَسُول الله! وَهل يشْتم الرجل وَالِديهِ؟ قَالَ: «نعم. يسب أَبَا الرجل، فيسب الرجل أَبَاهُ، ويسب أمه فيسب أمه»".

هذا الحديث المتفق عليه عند البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه من الكبائر أن يشتم أو يسب أو يلعن -كما جاءت بذلك الروايات المختلفة- والديه، استغرب الصحابة –رضوان الله عليهم-، يعني هل يُتصوَّر أن يُوجَد من العقلاء من يشتم أو يسب والديه أو يلعن والديه؟ قال –عليه الصلاة والسلام-: «نعم» كيف يا رسول الله؟ كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أَبَا الرجل، فيسب الرجل أَبَاهُ» يكون سببًا في سب والديه، ومعلومٌ أن الأفعال والتصرفات منها ما يُلحَق حكمه بالمتسبب، ومنها ما يُلحَق حكمه بالمباشر، وهو الأصل.

المباشرة عند أهل العلم تقضي على أثر التصرف، هنا تسبّب في لعن والديه لم يُباشر لعن والديه، ولا شك أن المباشِر أشد من المتسبب، فإذا وُجِدت المباشرة والتسبب قضت المباشرة على أثر التسبب، لكن المباشرة نادرة جدًّا قد لا تُوجد في المسلمين، وإن كان في العصور المتأخرة وُجِد من يسب الإله ممن يقول: لا إله إلا الله، فلا يُستبعَد من هذا أن يلعن ويشتم والديه.

على كل حال الحديث كما قال أهل العلم أصلٌ في سد الذرائع، كما أن قوله –جلَّ وعلا-: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] الأصل في الأصنام وما عُبِد من دون الله أن يُسَب، لكن إذا خُشي من سبه أن يُسَب الله –جلَّ وعلا- فلا يجوز حينئذٍ، فسد الذرائع أصلٌ مقررٌ في الشرع.

«يسب أَبَا الرجل، فيسب الرجل أَبَاهُ»، وهذا حكمٌ أغلبي، والأحكام إنما تُجرى على غلبة الظن؛ لأنه قد يسب أبا الرجل، فيكون الرجل أورع منه فلا يسب أباه، لكن الغالب أنه إذا سب أباه سب أباه، وإذا سب أمه سب الرجل أمه، وهذا من الكبائر، مما يدل على أن في الذنوب كبائر، ويُفهَم من ذلك أن منها صغائر، وهذا أمرٌ معروف ومقرر، والكبائر لها ضابط عند أهل العلم ما تُوعِّد عليه بلعنٍ أو غضبٍ أو نار أو بعدم دخول الجنة، أو رُتِّب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، أو نُفي عنه الإيمان، هذا ضابط الكبيرة عند أهل العلم، وما عدا ذلك يكون من الصغائر {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] يعني الصغائر؛ لأنها هي التي تُقابل الكبائر.

فمن الكبائر أن يلعن الرجل والديه، إن لعنهما مباشرةً وباشر اللعن فالأمر عظيم -نسأل الله السلامة والعافية- ومن أعظم العقوق، وإن تسبب في ذلك بأن لعن أبا رجلٍ، فلعن الرجل أباه، فهو المتسبب، ومثل ما قلنا: إن الأصل في العقوبات في الدنيا والآخرة لمن باشر، لكن إذا كانت المباشرة متعلقة ومرتبطة بغير مكلَّف مثلًا بآلة أو بطفل أو بحيوان أو بشيء غير مكلَّف فإن المتسبب يتحمل إثم المباشر وعقوبة المباشر.

لو أن شخصًا قتل آخر بآلة، وادعى أن الآلة هي التي قتلته، قال: أنا ما باشرت الآلة هي التي قتلته، نقول: الآلة ليست مناطًا للتكليف، فينتقل إلى المتسبب إذا قلنا: إنه متسبب، لكن في هذه الصورة هو مباشر.

شخص رمى آخر من شاهق، رماه من الدور الثالث، الرابع، الخامس، فتلقاه آخر بالسيف فقتله، الذي رماه هذ متسبب، والذي أبان رأسه بالسيف هو المباشر، فالحكم يلحق المباشر.

لو أن مجنونًا ألقى شخصًا من شاهق أو عاقلًا ألقى شخصًا من شاهق وتلقاه مجنون بسيف، نقول: التبعة على العاقل، وكذا إذا دهسته دابة أو سيارة الذي يقود الدابة والسيارة هو الذي عليه التبعة.

فهذا يقول: أنا ما شتمت والديَّ، نقول: إنه ما شتم والديه، شتم شخصًا آخر، لكنه تسبب في شتم والديه؛ ولذا قالوا: "يَا رَسُول الله! وَهل يشْتم الرجل وَالِديهِ؟" وهذا في صدر الإسلام، يعني يُستغرَب ما يمكن أن يشتم الرجل والديه، وكذا في القرون المفضَّلة، والظروف والأحوال التي يغلب فيها الصلاح على الناس يُستغرَب مثل هذا، لكنه في وقتنا هذا ما أعظم من سب الإله يُسَب! والرسول –عليه الصلاة والسلام- يُسَب، والصحابة خيار الأمة يُسبُّون ويُشتَمون ويُلعَنون على رؤوس الأشهاد، فما يُستغرَب من مثل هؤلاء أن يسبوا والديه ما يُستغرَب.

«يسب أَبَا الرجل، فيسب الرجل أَبَاهُ، ويسب أمه فيسب أمه»، وقرر أهل العلم أن هذا الحديث أصلٌ في سد الذرائع، وهذا أصلٌ مقررٌ عند أهل العلم، ورتَّبوا عليه أحكامًا، فحرَّموا بيع العنب ممن يتخذه خمرًا، حرَّموا بيع السلاح في الفتنة، وحرَّموا بيع الغلام على من يُخشى أن يرتكب معه الفاحشة.

قد يقول قائل: التمر ماله يبيعه ممن شاء، السلاح ماله يبيعه ممن شاء، العبد هذا المملوك ماله يبيعه ممن شاء، لا، إذا اتُّخِذ وسيلة إلى محرَّم فإنه حينئذٍ يحرم؛ سدًّا للذريعة، ما يؤدي إلى الفواحش محرَّم في الشرع؛ ولذا حرَّم النظرة، وحرَّم الخلوة، وحرَّم سفر المرأة بغير محرم، كل هذا يؤدي، وحُرِّم الاختلاط من أجل ذلك، كل هذا سدًّا للذرائع الموصلة للفواحش، الشارع سد الذرائع الموصلة إلى الشرك؛ حمايةً لجناب التوحيد، فجميع الذرائع المفضية إلى محرَّم محرمات، وهذا أمر معروف -ومع الأسف الشديد- أن يُطالب في بعض القنوات التي يمتلكها مسلمون، وبعض الصحف التي تُنشَر في بلاد المسلمين أن يُطَالب بفتح الذرائع بهذا اللفظ، وسُمِع من ينتسب إلى العلم وهو يقول: نحن ضيَّقنا على أنفسنا بسد الذرائع، وإلا فالأصل أن الله خلق لنا ما في الأرض جميعًا.

لماذا منع النبي –عليه الصلاة والسلام- في أول الأمر من الانتباذ في الأوعية القوية الصلبة الحنتم والنقير والمقيَّر والدباء منع من الانتباذ فيها؟ لأنه قد يتغير النبيذ ويُسكِر فلا يُشعَر به؛ سدًّا لذريعة شُرب المُسكِر في بداية الأمر لما استقر في نفوس الناس تحريم الخمر، وكرهوها تبعًا لما جاء عن الله وعن رسوله –عليه الصلاة والسلام-، ونفرت منها طِباعهم بعد أن كانت من أعز الأشياء إلى قلوبهم أذن لهم أن ينتبذوا في كل وعاء، خلاص عندهم من الرادع، عندهم ما يحميهم من شربها، احتيج إلى سد الذريعة في وقت فمُنِع من هذه الذريعة، وأُمِن من ذريعة الوصول إلى المُحرَّم؛ فأُذِن فيه.

فالذرائع ليست محرَّمة لذاتها، وإنما هي محرَّمةٌ لمآلاتها لما تؤول إليه.

عندك تمر يأتي شخص تظهر عليه العلامات علامات الفسق، وأنه سوف يتخذه خمرًا -أو عنبًا- لا يجوز أن تبيع عليه، أو عندك سلاح تبيعه على شخص يُريد أن يقتل به شخصًا أو يغلب على ظنك ذلك لا يجوز أن تبيعه عليه.        

{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، الذي سبَّ أبا الرجل، وتسبب في سب والديه، وشتم والده، ولعن والده هذا عرفنا حكمه أن هذا من الكبائر، لكن المقابل الطرف الثاني الذي سُبَّ أبوه فسبَّ أبا الساب هل يبرأ من العهدة؟ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] سب أباه سب أباه، لكن الذي سُبَّ ليس هو الذي سبّ، زيد بن عمرو سب والد خالد بن بكر، فجاء خالد فسبَّ عمروًا والد زيد، عمرو ما ذنبه أن يُسَب؟ هل تسبب في شيءٍ من ذلك؟ لا، فلا يبرأ من العهدة بكون الطرف الثاني أثاره وأثار حفيظته وسبَّ أباه، يبقى أن كل إنسان له ما يخصه من خطاب الشرع، هذا فعل كبيرة؛ لأنه تسبب في سب والده أو في سب أمه، وذاك لا يبرأ من العهدة باعتبار أنه سب من لا يستحق السب.

«نعم. يسب أَبَا الرجل، فيسب الرجل أَبَاهُ، ويسب أمه فيسب أمه»، هذا من الكبائر، فماذا عن الذي يُباشر سب والده أو سب أمه؟ ومع الأسف أن هذا موجود في أوساط المسلمين مباشرة، وأما التسبب فحدِّث ولا حرج، لكن مباشرة السب للوالدين هذا وُجِد وبكثرة كما وُجِد من المنكرات والفواحش والمحرمات التي ما كانت موجودة قبل كلما بعد العهد كثر الشر، وكثر الخبث، وإذا كثر الخبث -نسأل الله السلامة والعافية- حلَّت العقوبة، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»، ووُجِد اللعن، والسب للإله علانيةً، وفي بعض المجتمعات يجري مع النَّفَس عادي يتخاطبون به، مثل ما كان يُقال: ثكلتك أمك –نسأل الله السلامة والعافية- فما النتيجة؟ النتيجة حلَّت الكوارث والقوارع والمثولات؛ لإرجاع أمثال هؤلاء إلى دينهم، ولا يعني أن هذا أننا نؤيد ما حصل لهم لا، لكن كل شيء له سبب، هذه سُنن إلهية لا تتغير ولا تتبدل {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، هذه سُنن إلهية {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].

استُثني من هذه السُّنَّة الإلهية قوم يونس؛ لأمرٍ ذكره أهل العلم، يتعلق بهم وبنبيهم –عليه السلام-، المقصود أن مثل يُرجَع فيه إلى كُتب التفسير، فيُعرَف السبب وإلا فالأصل الذي يشملنا ويشمل غيرنا من الأمم أننا إذا تولينا استُبدِلنا بغيرنا، وما حصل في الأقطار الإسلامية بسبب إعراضهم وصدودهم عن دين الله يحصل لغيرهم ممن يُشابههم في الوصف، نسأل الله السلامة والعافية.

أبو ذر –رضي الله عنه- كما في الحديث الصحيح عيَّر رجلًا بأمه قال له: يا ابن السوداء، فقال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «عَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»، يعني فيك وصف من أوصاف الجاهلية، وجاء في بعض الروايات "أن من سبَّ الرجل سب أباه وأمه"، جاء على لسان أبي ذر –رضي الله عنه وأرضاه-، وهذه ليست في الصحيح، إنما الثابت في الصحيح أنه سب وعيَّر رجلًا بأمه، فقال له النبي –عليه الصلاة والسلام-: «إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ».

ترجم البخاري بأن المحرمات من أمور الجاهلية، السب محرَّم، والتعيير محرَّم، وهو من أفعال الجاهلية، ومعروفٌ عندهم في أشعارهم الهجاء، وفيها الفخر والمدح وغير ذلك من الأغراض الشعرية المتداولة في الجاهلية، فيكثر فيها الهجاء، وهذا هو السب، فالسب من أمور الجاهلية، ولا يعني أن من فيه جاهلية أنه جاهلي، حاشا أن يكون أبو ذر، وهو من أصدق الناس لهجة، وأطيب الناس قلبًا أن يكون جاهليًّا، إنما فيه هذه الخصلة من خصال الجاهلية، كما تقدم في خصال المنافق، الكذب خصلة من خصال النفاق، ولا يُقال: إنه منافق، إنما يُقال: فيه نفاق، ولا يُقال: إنه منافق.

فالذي عاقب السَّاب وهو أبو ذر بمثل ما ذُكِر؛ لأنه سبه وساب أباه وأمه، فقال: أتقول ذلك يا ابن السوداء؟ يعني معاقبة بالمثل، ومع ذلك ما برئ المعاقِب من العهد؛ لأنه عاقبه بمحرَّم لو عاقبه بمباح لا بأس، لكن العقوبة بالمحرَّم حرام.

وأهل العلم لاسيما المفسرين يذكرون في تفسير قوله –جلَّ وعلا-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] يذكر بعضهم أن من عاقب بمحرَّم أنه يُعاقب بنظيره من المباح، ولا يُعاقب بمحرَّم، وتسميته سيئة من باب المشاكلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، هو ليس بسيئة؛ لأن عقوبة الجاني وردع الجاني حسنة، وليس بسيئة، وأُطلِق عليه لفظ السيئة من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير؛ لأنه يسوء المعاقبة.

ثم بعد هذا قال –رحمه الله-:  "وَعَن الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ»".

«مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ» سواءً كانت من المثقَّل أو المُحدد بسكين أو سيف أو بمثقَّلٍ رضخ بها رأسه أو شيئًا من ذلك، فحديدته يأتي بها يوم القيامة.

«يَتَوَجَّأُ بِهَا» يطعن بها «فِي بَطْنِهِ»، كما صنع في الدنيا، والجزاء من جنس العمل.

{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].

وهذا الرجل الذي تعجَّل على نفسه مثل الذي اتكأ على السيف؛ لِما أصابه من جراح، وأراد أن يتخلص، اتكأ على السيف، ونفذ السيف في صدره فمات، «بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ»، كما جاء في الحديث القدسي، وتعجَّل بنفسه إلى النار، نسأل الله العافية.

يقول: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ»، النفس ليست ملكًا للإنسان يتصرف فيها كيف يشاء ليست ملكًا له، ولا يجوز له أن يتصرف في شيءٍ من بدنه بما يضره. 

«فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا» يعني يطعن بها «فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»، نسأل الله العافية، فالقاتل سواءٌ قتل نفسه أو قتل غيره عمدًا هذا «فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا».

وتقدم في الدرس الماضي كلام ابن عباس في توبة القاتل، وأنه لا توبة له؛ استنادًا إلى آية النساء {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، وأنه ليست له توبة، وأن آية النساء متأخرة عن آية الفرقان كأنه يرى أن آية الفرقان منسوخة التي فيها {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] يدل على قبول توبة القاتل، هذا دليل الجمهور على أن القاتل له توبة، وهذه هي القاعدة المطردة عند أهل السُّنَّة أن من تاب من الذنب صار كمن لا ذنب له، والتوبة بشروطها مقبولة ما لم يُغرغر، أو تطلع الشمس من مغربها.

وذكرنا في الدرس الماضي أن مما يُستدل به على توبة القاتل ما جاء في الحديث الصحيح في الذي قتل تسعةً وتسعين وكمَّل المائة بالذي أفتاه بأنه لا توبة له، المقصود أنه في النهاية تلقته ملائكة الرحمة؛ لصحة توبته.

ويُحمَل الخلود في آية النساء، وفي هذا الحديث وما جاء في معناه على طول المُكث أو يُقال: هذا من أحاديث الوعيد من نصوص الوعيد التي تُمَر كما جاءت؛ لأنه أبلغ في الزجر.

«وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا» وقد تُفتَح السين «سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»، شرب سُمًّا فمات «فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا» مثل ما قلنا سابقًا: الجزاء من جنس العمل.

«خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» مثل ما تقدم، وأن هذا يعني طول المُكث إن عُوقِب وإلا فهو تحت المشيئة، كما قرر ذلك أهل العلم استدلالًا بقوله –جلَّ وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فيُحمَل على طول المكث إن عُوقِب؛ لأن ذنبه عظيم.

وهذه من صور الانتحار الذي كثر في هذه الأزمان، وكان وجوده في الكفار، ثم سرى إلى المسلمين، والعجب أن هذا يكثر مع الترف، وزيادة انفتاح الدنيا، الناس لما كانت الدنيا فيها شُح وفيها قِلة قد لا يُوجد مثل هذا الانتحار؛ لأن الناس مستوياتهم متقاربة، وكلهم يتعبون على المعيشة، وكثيرٌ منهم يجوع يبحث عن الطعام فلا يجد، ما يحصل شيئًا، الإشكال حينما يُوجد هذا الفقير الذي يزعم وتُسوِّل له نفسه أنه تعيس مع أنه لا يدري ما ادخر الله له، قد يكون الفقر أفضل له كما في الحديث: «ومن عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك»، والعكس «من العباد من لا يُصلحه إلى الغنى»، فالإنسان يصبر على ما قدَّر الله له.

وَكُنْ صَابِرًا للْفَقْرِ وَادَّرِعْ الرِّضَا
 

 

بِمَا قَدَّر الرَّحْمَنُ وَاشْكُرْهُ وَاحْمَدِ
 

الآن الناس ما تحمَّل النفوس ما تحمَّل؛ لأنه يرى ناس يتخبطون في أموال الله، وهو يحتاج لقمة العيش، هذا ليس بمبرر لأن يُبادر ويُعجِّل نفسه إلى النار –نسأل الله العافية-، وكلما زاد الترف وزادت صنوف النِّعم وُجِد مثل هذا الوباء؛ ولذلك تجد أكثر صور الانتحار موجودة في الدول الأكثر غَناءً في أوروبا مثلًا في الدول الإسكندنافية وغيرها، أكثر الانتحار عندهم -نسأل الله العافية- مع أنهم يعيشون، يعني ما عليهم قصور في الأكل والشرب، لكن النفوس كلما أُترِفت ضعُفَت، وهل تظنون أن الشخص الذي وُفِّق في عمله ورُزِق من خلال عمله أنه مرتاح، يقول: الحمد لله أنا وظيفتي بالمرتبة العاشرة الحادية عشرة وغيري بالثالثة والرابعة وأنا؟ لا؛ لأنه ينظر إلى من فوقه وهذه المشكلة، وفي الحديث الصحيح: «انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ فَإِنَّهُ أَحرى أَنْ لا تَزْدَرِي نِعْمَةَ الله عليك»، فالإنسان إذا نظر إلى من فوقه شقي وتعس في حياته، وإن كان في رغدٍ من العيش.

يعني حتى عِلية القوم الذين يُخدَمون بأنواع الخدمات، ويأكلون ألوان الأطعمة والمشروبات، ويسكنون القصور الفارهة كلٌّ له نصيبه من هذا الباب، وقد يكون أشد، حِكمة إلهية؛ لئلا ينشغل الناس بالدنيا، وينسوا الآخرة، ينسون دار القرار، فإما أن يُبتلى بأمراض، ويُمنَع من الأكل والشرب بسببها، وإما أن يُبتلى بشُح، وإما أن يُبتلى بمنافسة، لو أن اثنين وكلاء في دائرة من الدوائر بمرتبةٍ واحدة، ويدخلون على المدير أو الرئيس، ويتحدث مع هذا أكثر من هذا، احتمال أن الثاني ما ينام بالليل، هذا الشقاء، والمسألة سهلة، يعني لو تصورنا الحياة على حقيقتها ما فعلنا هذا، ولا أثَّر ذلك في قلوبنا، يعني بدلًا من أن التفت إليه المدير أو الأمير أو الوزير وكلمه وضحك معه وانبسط معه أو كلمه، هل استحضرت «مَنْ ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي»، أين المدير أو الوزير أو الأمير أو حتى الملك من هذا؟ «مَنْ ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي» خلاص انسَ الدنيا كلها وانبسط، «وإنْ ذَكَرَني في ملأٍ، ذكَرتُهُ في ملأٍ خَيْرٍ منْهُم»، كيف يشقى الإنسان ويتعب في أمورٍ تافهة لا تُعادل شيئًا؟ ماذا يُقدِّم لك؟ وماذا يؤخر لك هذا المدير أو هذا الأمير أو الوزير؟ لو بذل المستحيل في نفعك فلن يستطيع أن ينفعك بشيء لم يكتبه الله لك، فارضِ ربك، واجعله نُصب عينيك، وحينئذٍ يرتاح ضميرك، وتبرأ ذمتك، وترتفع درجاتك في الآخرة.

أقول: إن أسباب الانتحار مثل هذا النوع تجتمع ضغوط نفسية على الإنسان بأسبابٍ تافهة لا شيء، طالب يرسب في الامتحان ينتحر؟ من أجل ماذا؟ وهل سُدَّت أبواب الرزق إلا من جهة الدراسة؟ وإذا رسبت في الفصل هذا نجحت في الذي يليه اجتهد فقط، واصبر على ما كتب الله لك، تحصل على الأجر العظيم.

«وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا»، خالد بن الوليد– رضي الله عنه وأرضاه- لما دخل الحيرة قيل له: انتبه ليسُمك الأعاجم، فدعا بالسم فتحسَّاه، وما ضره كرامة من الله –جلَّ وعلا-، لكن هل لأي إنسان أن يفعل مثل هذا؟ السُّم أثَّر بالنبي –عليه الصلاة والسلام- لما سمَّته اليهودية في لحم شاةٍ قُدِّم له –عليه الصلاة والسلام- تأثر ومرض، ومات وهو يُعاني من هذا السُّم، وخالد بن الوليد تحسَّى السُّم فما ضره؛ كرامة من الله –جلَّ وعلا- فهل صنيع خالد يُعارض هذا الحديث أو لا؟ 

فيه شيء يُسميه أهل العلم مضايق الأنظار، من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، هل لكل إنسان أن يُقسِم، ثم يفتضح بين الخلق ما يحصل شيء؟ متى يطمئن الإنسان إلى أنه ينجو من هذه المواقف مثل السُّم؟

كرامات الأولياء معروفة، ومن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، لكن متى يطمئن الإنسان إلى أنه كان من الأولياء من يستحق مثل هذه الكرامة؟ لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- كتاب اسمه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)، ذكر فيه بعض الأمور والقواعد والضوابط التي يُميَّز فيها بين أن هذا ولي من أولياء الرحمن، وذاك من أولياء الشيطان، ذكر الخوارق والكرامات وبين ما يحصل لبعض الناس من باب الفتنة والافتتان لهم والاستدراج، فليُراجَع الكتاب، فإنه نافع.

المقصود أن خالد بن الوليد تحسَّى السَّم ولم يضره؛ كرامة من الله –جلَّ وعلا- لِما أجرى الله على يديه من نصرٍ للإسلام والمسلمين.

يُذكَر عن أحد الدُّعاة الذين نفع الله بهم نفعًا عظيمًا وأسلم على يديه الألوف أنه دخل بلدًا، وقيل له: نحن في قحطٍ وجدب، فادعُ ربك أن يُغيثنا، فإذا حصل أسلمنا، امتحان هذا، تردد طويلًا، فدعا ربه واستسقى، وقال: اللهم لا تحرمهم من الإسلام بسببي، فأُمطِروا وأسلموا، لكن الإنسان الذي يعرف من نفسه أنه يميل يمينًا ويسارًا، وينظر أشياء ما يتورّط في مثل هذه المواقف، فيكون سببًا في صد الناس عن دينهم، مثل المناظرات الآن، المحاورات التي تُجرى بين أهل الحق وأهل الباطل في القنوات أمام الملأ مزلة أقدام، قد ينبري لها شخص غير مؤهَّل، ويُورَد عليه من الشُّبه ما لا يستطيع ردَّه، فما موقف عامة الناس الذين يسمعون هذه الشُّبه ولا يسمعون ردَّها؟

المسألة خطيرة جدًّا، فالذي لا يُؤنس من نفسه القدرة على رد هذه الشُّبه، لا يجوز له الدخول فيها.

«وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ» «تَرَدَّى» يعني قاصدًا التردي ما سقط من غير قصد؛ لأن لفظ «تَرَدَّى» قد يُطلق على من تدهده منه من غير قصد يُقال: تردَّى، والمراد من الحديث القاصد لقتل نفسه كنظائره وسوابقه.

«وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا»، المقصود أن قتل النفس حرام سواءً كان نفس القاتل أو غير القاتل؛ لأنه لا يملك نفسه، والوعيد الشديد على من فعل ذلك بأي صورة أو بأي وسيلة أو بأي آلة، فعل ذلك فهو يأتي بآلته التي ذُكِر منها الأمثلة الثلاثة، والأمثلة لا يمكن حصرها، فهذه مجرد أمثلة يُقاس عليها ما في معناها.

شخص أُصيب بلسعة حيةٍ أو عقرب، وليس عنده علاج، وخشي أن يسري السَّم إلى بدنه، فقطع أصبعه، فهو بين أمرين: إما أن يترك السَّم يسري في بدنه فيموت، وبين أن يقطع أصبعه، واحتمال أن ينزف فيموت بعد، يعني ما عنده شيء يحسُم به يده، وقد يكون الأمر أعظم من ذلك يدًا أو رجلًا.

الآن الاجتهاد في مثل هذا سائغ أم غير سائغ؟ يعني وُجِد قصص من قطع أصبعه وأمسك به إلى أن وصل المستشفى وسلِم، لكن ما كل مرة يسلم، فهل له أن يجتهد ويفعل ما يغلب على ظنه أنه يسلم به وإن مات بعد الاجتهاد؟ الأمر يعني فيه سعة إذا اجتهد، وليس مراده من ذلك قتل نفسه، لكن أحيانًا يجتهد في أمر لا يبذل فيه وسعه من غير نظر؛ لسعته حية فقطع يده ونزف ومات، وبإمكانه أن يقطع ويحسم، وبإمكانه أن يحسم من دون قطع، يربط اليد؛ لئلا يسري السُّم.

المقصود أن مثل هذه الأمور لا يكون الاجتهاد غير مدروس ومن غير روية، يعني بعض الناس يطيش في مثل هذه المواقف ويتصرف تصرفًا يضر به، إنما يفعل ما يغلب على ظنه أنه يُحقق المصلحة.

كم بقي؟

طالب: ...........

عرفنا أن الإنسان ليس له أن يتصرف بكامل نفسه أو بجزءٍ منها، فماذا عن التبرع، يتبرع بجزء من نفسه، يغلب على الظن أنه يسلم ويعيش بدونه ويُنقذ به نفس معصومة كالكُلية مثلًا أو التبرع بالأعضاء بعد الوفاة؛ لإنقاذ حياةٍ معصومة؟ معروف أن الفتوى في المجامع الفقهية على الجواز، وأن المصلحة راجحة، ومن أهل العلم من أهل التحري...